|
عبقرية الجنون نيتشه
رشيد الحيريش
الحوار المتمدن-العدد: 6210 - 2019 / 4 / 24 - 21:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قد يحتاج هذا الكتاب لأكثر من مقدمة، ومع ذلك يبقى الشك بأن تستطيع مقدمات أن تؤثر بامرئ لم يعش التجربة المسبقة لهذا الكتاب. يبدو أنه مكتوب بلغة رياح حقيقية، كل ما فيه حد مقلق، متناقض، كطقس نيسان، بحيث يعيدنا دوما إلى الشتاء قريب العهد، كما إلى النصر على الشتاء، هذا النصر الآتي الذي ينبغي أن يأتي، والذي ربما كان قد جاء... وهو يطفح بالعرفان بالجميل، كأنما قد تحقق الحدث غير المأمول على الإطلاق، جميل رجل قد شفي لأن الشفاء هو الحدث الميئوس منه، رجل يبشر لذهن قادم بصبر ضغط مرعب وطويل، بصرامة، ببرودة من دون أن يخضع، ولكن أيضا من دون أمل، و فجأة وجد نفسه مفعما بأمل الصحة بنشوة الشتاء، فما الذي يدعوا للعجب لو برز في هذه الحالة الكثير من الجنون و اللامعقول؟ و لو بدد الكثير من العطف الكيفي على إشكالات شائكة لم تصنع للمداعبة أو الإغواء، ذلك أن هذا الكتاب كله ليس إلا عيدا يعقب طول حرمان و طول عجز، ليس إلا ارتعاش للقوى المتجددة و لعودة الإيمان بالغد وما بعده، ليس إلا شعورا فجائيا وهجس بالمستقبل، بمغامرات وشيكة، ببحار أعيد فتحها، بأهداف أعيد السماح بها، وأعيدت لها الجدارة بالإيمان، ما الذي لم يحضه حتى الآن؟ طرف الصحراء هذه، وهذا الإنهاء والجحد والجمود في عز الفتوة، هذه الشيخوخة المبكرة، سطوة الألم، نتجاوزها بسطوة الإيباء الذي يرفض خلاصات الألم و الحال، فالخلاصات تعزيات ـ هذا التوحد الجدري كحصانة يائسة ضد بغض للبشر ذو بصيرة عليلة، الحصر المطلق الذي لا يقبل إلا المر و الحد و الوجه الجارح للمعرفة. كما ينص عليه التقزز النامي شيئا فشيئا إكراما لحمية روحية طائشة، ميوعة حقة للذهن ـ من بإمكانه أن يكابد هذا الجحيم ! غير أن المتمكن سيود بدون شك أن يزيد من غفرانه لي بعض جنون وحيوية. لكن لنترك السيد نيتشه هنا: فماذا يهمنـا في استعادة السيد نيتشه لصحته؟ ... قلما يعرف عالم النفس مسائل مغرية كمسألة العلاقة بين الصحة و الفلسفة، و في حال مرضه بالذات فإنه يعايش مرضه مع كل حشرتيه العلمية في الواقع، لكل شخص فلسفته، المهم أن نكون شخصا، ومع ذلك تمت اختلاف بين هنا، فالبعض تفلسف في عيوبه و البعض الآخر في قوته و عناه، فلسفة الأول ضرورة له، كدعامة و ترياق وخلاص، وترفع و ابتعاد عن الذات، وليست فلسفة الآخر إلا طرف جميل وفي أحسن الأحوال تنعم ، اعتراف بالجميل لمنتصر عليه، لكي يضاف عليه أحرف كونية على جلد المفاهيم، وفي الحالة الأخرى الأكثر شيوعا، عندما يتفلسف البؤس كما عند جميع المفكرين المرضى، وربما كان المفكرون المرضى هم الأكثر شيوعا في تاريخ الفلسفة. و في إطار هذا التمهيد قمنا بتقسيم الفصل الأول المعنون ب " جنون العبقرية " إلى مبحثين أساسين، الأول بعنوان إرادة الاقتدار و الثاني بعنوان إنسان مفرط في إنسانيته (أخلاق مضادة). المبحث الأول : إرادة الاقتدار إن عالم نيتشه هو العالم الذي بلا مركزية و الإنسان هو جزء من الطبيعة، و لا يوجد تمت فارق جوهري بينه وبين كل الكائنات الأخرى، فهو جسد وغرائز مثل البقية، و بما انه جزء من الطبيعة، فلا يمكنه أن يفهمها و يتجاوزها، فالجزء لا يمكنه أن يحيط بالكل، على أن يتجاوزه، لذا لا يمكن أن تنبثق منظومات أخلاقية متجاوزة للمادة، فالإنسان جزء من حركة المادة، إذن هو خاضع لها، فالكون كما يراه نيتشه له مبدأ واحد هو الحياة، و الحياة هي " إرادة القوة " ويكتسب الإنسان قيمته من خلال مقدار القوة التي يستطيع تحصيلها والاستيلاء عليها، لأن الحياة تولد على حساب حياة أخرى، والحياة ليست هي البقاء وإنما هي الرغبة في الاقتناء وهي التغير و الصيرورة بلا تبات. فتمت ترادف أصيل بين الحياة والقوة، فبمقدار شعورنا بالحياة و بالقوة يكون إدراكنا للوجود، وهذا جوهرها، فبإرادة القوة ندرك فلسفة الوجود، كما ذكر نيتشه في كتابه " هذا هو الإنسان ". " إن الفلسفة كما كنت دوما أفهمها و أعيشها هي الحياة طوعا في الجليد وفوق الجبال الشاهقة، البحث عن كل ما هو غريب و إشكالي في الوجود" . إذا كان نيتشه يسند للفلسفة مهمة علاجية فإنه يعول على الفيلسوف في تحقيق هذه المهمة، فخلافا للفكر الحر أو المتفلسف ـ الموظف و أشباه المثقف ـ يدافع نيتشه عن الفيلسوف كعقل حر، عن صاحب المطرقة، ليست فقط مطرقة الهدم ولكن أيضا مطرقة الطبيب التي تعتبر أداة لتشخيص مرض الفرد والمجتمع، بل مرض الثقافة بكل مكوناتها، السياسية، التربوية، والثقافية. إن الحديث عن الفيلسوف الطبيب معناه، التخلص من الفيلسوف التقليدي الذي يظل يتاجر في الما وراء، في المجردات، والمطلقات، أي ذلك الذي يهتم بالأشياء البعيدة، كالروح، والله، وما بعد الموت...، وهذه المهمة تقتضي قلب المعادلة، تغير العادة التي ظلت الفلسفة التقليدية ترهننا داخلها، فبدلا من الحديث عن المثاليات و المطلقات، يصبح التفلسف متعلقا بكل لحظة من اللحظات الحميمية التي تهم الكائن في كينونته، في وجوده وحتى في غرائزه الأكثر عمقا، يقول نيتشه " إن سعادة وجودي وما يحدد طابعه المتفرد مرتبطة بقدر هذا الوجود، وسأعيش طويلا و أعرف الشيخوخة، هذا الأصل المزدوج المرتبط بأعلى درجة في سلم الحياة و أسفل درجة فيه" ، فلا عجب أن نجد نيتشه يدعو إلى الاهتمام بالحياة القريبة كما أكده في قوله قد يسألني سائل لما هذا الكلام عن هذه الأشياء الصغيرة و التافهة حسب الأحكام المعروفة، و سيقال لي أنني أسبب بهذا سوى الإساءة لنفسي خاصة و أنني مؤهل حسب رأيهم للانخراط في مهمات كبرى، جوابي هو: أن هذه الأشياء الصغيرة، من غذاء و أمكنة و استجمام أي مجمل دقائق الولع بالذات، لهي في كل الأحوال أهم من كل ما ظل إلى حد الآن يؤخذ على أنه مهم، من هنا ينبغي إعادة المنهج، هذا التصريح يمثل قلبا واضحا للميتافيزيقا عامة، إنه نقد للفلاسفة الذين لم تكن لهم آذان منصتة للحياة، للفلاسفة المثاليين الذين ينكرون موسيقى الحياة، و الذين ينتقمون إلى الحياة استنادا لهذه النظرة، تصبح للأشياء التي ظلت الإنسانية تعتقد على أنها حقائق، بل أنها مجرد خيالات و أوهام، وبعبارة أوضح تصبح مجرد أكاذيب منبثقة من عمق الغرائز السيئة لطبائع مريضة، فالمفاهيم التي وظفتها الميتافيزيقا لزم عنها تزوير كل مسائل السياسة و النظام الاجتماعي، والتربية، حيث تعلم الناس إبداء الاحتقار تجاه الأشياء الصغيرة، و الجوهرية في الحياة. هكذا تصبح المفاهيم التي قدستها الميتافيزيقا مجرد أوثان وجب تحطيمها و تعريضها لضربات المطرقة، فالفلاسفة المثاليون لم يعملوا سوى على إعادة إنتاج مومياء الأفكار، أفكار محنطة بل إن الحياة ماتت بين أيديهم " فهؤلاء الفلاسفة الذين ادعوا ترجيحهم للعقل وإبعادهم للظاهر، للأشياء البسيطة لم يعملوا سوى على نفي الذات، ذاتهم طبعا، ومن تمت عملوا على نكران الحياة و الانتقام منها. وحسب نيتشه يعتبر الجانب النظري للفلسفة بمختلف أشكالها و أصنافها التقليدية و الحديثة و المعاصرة، هي السبب في نفي ونكران الحياة، بل هي المسؤولة عن تعاسة الإنسان وبؤسه ومعاناته و أمراضه، فغياب فلسفة القرب وعدم التداول في الأمور التي تهم الإنسان بشكل مباشر نتج عنه تدمير الإنسان، هذا ما يوضحه نيتشه بقوله " حتى تلك الإجادة لفن اللمس و الفهم عامة، وذلك الحس المرهف للفوارق الدقيقة، وتلك الخبرة النفسية لفن المداورة، وكل الخصال التي تميزني، هي كلها مما تعلمته آنذاك، وهي الهبة الحقيقية لتلك الفترة الزمنية التي غدا فيها كل شيء لدي أكثر رهافة : المعاينة و كذلك أعضاء المعاينة، النظر إلى المفاهيم و القيم الصحية من زاوية نظر المريض، ثم عكس العملية بالإطلال من منطلق الوعي الذاتي للحياة الثرية على هاوية العمل السري لغرائز الانحطاط، كانت تلك أطول درية لي، و التجربة الجوهرية بالنسبة لي، وإذا ما كانت لدي براعة ما فإنما في هذا المجال، لقد تملكت بالأمر، وغدت لدي اليوم الخبرة التي تمكنني من تحويل زوايا الرؤية، إنه السبب الأول الذي بإمكانه أن يجعلني الوحيد المؤهل لمهمة قلب القيم" . إن الجهل للأمور اليومية التافهة، وعدم امتلاك عينين تبصران جيدا ـ هو ما يجعل من الأرض بالنسبة لكثير من الناس حقلا للتعاسة ـ لا نقول أن السبب هو اللاـ معقولية الإنسانية، فعلى العكس من ذلك هناك ما يفوق الكفاية من العقل، ولكننا نوجهه وجهة خاطئة تتكلف وحدها تحويله إلى أشياء تافهة، حميمية للغاية، فالقساوسة و الأساتذة و استبداد المثاليين الرائع بمن فيهم الفظ و اللطيف، يقنعون الطفل بأن المهم شيء آخر: خلاص الروح، خدمة الدولة، تقدم العلم، والامتياز والثروة، وهي وسائل لخدمة الإنسانية بأسرها. أما حاجات الفرد وهمومه طيلة الأربع وعشرين ساعة فهي محتقرة وغير مهمة، كما أن استبداد الفلسفة النظرية و المجردة من التفكير الإنساني ألزمت الإنسان سحق ذاته وكبح غرائزه، ومن تم قتل كل ما هو جميل في الحياة، والسبب في ذلك بالنسبة للناس هو عدم معرفتهم بما ينفعهم أو يضرهم في تنظيم حياتهم و في تقسيم الأيام، و في معاشرتهم للناس و في اختيار من يعاشرونهم في العمل وأوقات الفراغ وفي الأحاسيس الذي تثيرها الطبيعة و كذلك الفن في الغذاء و النوم و التفكير ...، وإذا كن لا نجادل في أن فضل نيتشه على الفلسفة و على ممارستها راجع لقلبه للمثاليات و المطلقات و هدمه للأوثان بمختلف تلاوينها، فإن ذلك يعود في العمق إلى إبعاده لكل المحددات الميتافيزيقية و استبدالها بما هو عملي في الحياة الإنسانية. إسناد مهمة الطبيب للفيلسوف عند نيتشه و اعتبار المفهوم كخيط ناظم يمنحنا تأويلا وفهما جديدين لعدة قضايا في فلسفة نيتشه ( كإرادة القوة، الوعي الشقي، تجاوز الذات، العود الأبدي، الضغينة، حب القدر... ) ويأسس نيتشه أفكاره الغريبة على كل ما هو خفي وكل ما هو غامض، معقد، وليس على المألوف و البسيط الذي حاول جل الفلاسفة أن يختزلو الحياة في نسق معين أو مسار ضيق، يربون الأمل ويوهمون الناس بالحقيقة، وهي حسب نيتشه أفكار فاسدة تقتل حس الحياة في الفرد و المجتمع. إنها دعوة إلى عالم آخر من القيم و الأخلاق التي تعيد المرئ إلى الصواب، والغوص في أعماق النفس البشرية قصد اكتشاف أسرارها الدفينة، و إيقاظ ذلك الوحش الذي يسكننا و لا نحس بوجوده، لأننا قتلناه فينا بسبب ما تلقيناه من تربية و أخلاق جاهزة، و التي يسميها نيتشه بأخلاق العبيد الضعفاء، التي تتمثل في الشفقة و الرحمة و الخضوع لأصنام توهمنا وجودها، كلنا يسكنه صنم يخضع له، يواسيه في وحدته و عزلته، يستظل به من عناء الحياة وكدر العيش، وأيضا من تقلبات الحياة المتعبة، إنها دعوة للقضاء على الذات البشرية لاستشراف مباهج الحياة. لكن نيتشه يرى الأمور من زوايا أخرى من المكان الذي يخشى الكثير أن يطل منه، إنه أعلى الجبل، حيث تظهر لك الأمور واضحة وصغيرة، لمنظر جميل يجعلك وحدك هناك تصارع انعكاس رياح الجليد وتحمل شدة البرد القارس، تعالج بجرعات الوحدة وبطش الرياح، إنه السم المداوي لجراح الأخطاء المحملة معنا منذ الصغر. ويظهر هذا في كتاب زراديشت "الأول بسرد التحولات الثلاث" "كيف يصبح الروح جملا وكيف يصير الجمل أسدا، وأخيرا كيف يصبح الأسد طفلا: الجمل هو الحيوان الذي يحمل عبئ القيم السائدة، أثقال التربية، الأخلاق و الثقافة، يحملها في الصحراء، ويتحول هناك إلى أسد، يحطم الأسد التماثيل ويدوس الأثقال، ويتولى نقد كل القيم السائدة، أخيرا يمتلك الأسد أن يصبح طفلا أي لعبا وبداية جديدة، خالقا لقيم جديدة ومبادئ جديدة" يرى نيتشه أن هذه التحولاث الثلاثة تعني بين ما تعني لحظات مرت من حياته الاجتماعية والنفسية بالخصوص، إنها من نتاجه، و مراحل أيضا من حياته و صحته لا ريب أن الإنقطاعات نسبية تماما، الأسد حاضر في الجمل، و الطفل موجود في الأسد، وفي الطفل النهاية المأساوية. إذا تمعنا جيدا في أفكار هذا الفيلسوف المعاند، نجد عبقرية خارقة، تغلغل في أعماقه، كأنه ليس إنسانا عاديا، يدعو لإنسان جديد، يسعى إلى القوة و القسوة، إنسان يعيش حياة المغامرة، والحرب و العنف، وتتحد فيه إرادة الحياة مع إرادة القوة، بحيث يصبحان شيئا واحدا، فالحياة هي القوة و القوة هي الحياة، يبدو أن شخصية نيتشه لا تفهم إلا من خلال ردود الأفعال التي انتظمت فكره و سلوكه و شؤونه الحياتية كلها، وردود الأفعال إنما تكون غالبا تفسيرا لسلوك نوعين من الناس، متضادين: الأول: إنسان ضعيف الشخصية، ضحل الإمكانات الذهنية، قليل الثقة بنفسه، فهو حين يحب أن يظهر نفسه ينتظر ليرى الناس يفعلون شيئا ثم يفعله ونقيضه أو ضده ليؤكد ذاته، و ليلفت الأنظار إليه متخدا من المثل القائل، خالف تعرف، حاد الذهن، شديد الذكاء، قوي الثقة بنفسه، مفرط، منهج حياة وقاعدة سلوك، أما النوع الثاني : فعلى النقيض من الأول، الكبر و الغرور، يرفض التقليد والتبعية لأي شيء ولو كان الدين، حاقد على الآخرين، ماقت لكل شيء، ناقم على الحياة و الأحياء، سعادته كلها في مخالفة الآخرين، ورفض آرائهم وتتفيهها، وقد كان نيتشه يمثل النوع الثاني شر تمثيل، ولقد وردت قولة لنيتشه في الكتاب الذي نحن بصدد تحليله، حيث قال "وحيدا أمضي الآن يا مريدي! وأنتم أيضا ستمضون الآن وحيدين ...، إنه لا ينبغي على الإنسان العارف أن يحب أعداءه فحسب، بل عليه كذلك أن يكون قادرا على كره أصدقائه" . هذه الغطرسة والتعالي وتجاوز ما هو سائد لم يسلم منه أحد حتى الدين الذي ينتمي إليه، سفهه و اعتبره كارثة عظمى ضد البشرية و العقل و الحياة، فقد كان نيتشه من أسرة متدينة على صلة وثيقة بالمسيحية و الكنيسة و الوظائف الدينية، حيث كان أبوه قسا و كذلك جده، وقد أعده أهله ليكون قسيسا وخاصة لما لاحظوا فيه من ضعف صحته ورقة احساسه و ميله إلى العزلة، لكن الرجل، اندفع إلى الاتجاه المغاير و المضاد، فلم يكتفي برفض الوظائف الدينية، بل رفض المسيحية نفسها و كفر بها، بل إنه لم يكتفي في ردود أفعاله بهذا و إنما جعل من أهداف حياته، مهاجمة النصرانية ومحاربتها وبيان أباطيلها وكشف مفاسد رجالها، بل إنه حارب الدين كله ولم يفرق بين حق و باطل، كذلك كان نيتشه عليل الصحة، ذا بنية جسمية ضعيفة، ثم مرض مرضا شديدا فزاد ضعفا على ضعف، ولقد خلف له المرض آلامل حادة. و مرة ثانية: نصطدم بردود الأفعال لدى نيتشه، فبدل من أن يسير سيرة فكرية تناسب حالته تلك ـ فإنه يندفع إلى الاتجاه المعاكس. فيعيب الضعف والضعفاء، ويمجد القوة و الأقوياء، لمبدئه الذي يقول فيه " مت في الوقت المناسب " أما في حال عدم استجابة الضعفاء و المرضى لدعوته تلك، فإنه يدعوا الأقوياء إلى أن يقوموا بهذه المهمة نيابة عن الضعفاء، فيقتلونهم، حتى يخلو المجتمع مما يعوق تقدم الإنسان إلى التحقيق المجاوز للحد، فقد كانت حياة الرجل بما فيها من مرض و ضعف و آلام، كانت تلك الحياة من شأنها أن تجعل صاحبها متشائما يائسا قانطا، وخاصة لرجل مثله لا يؤمن بالله، حيث سلك حياة الالحاد لكن جاء رد الفعل عنده فرفض التشاؤم و رفض أيضا المتشائمين وهاجم بعنف النزعة التشاؤمية لشوبنهاور، وعاش يدعو إلى التفاءل و إلى العيش في الدنيا بروح مرحة، ولقد كان من شأن رجل ضعيف مثله، الذي فقد سلامة الصحة و البصر، أن يسلك منحى السلامة ويدعو إلى الحذر من كل ما يوحي بالخطر. ومرة ثالثة: نصطدم بردود الأفعال عند نيتشه فقد اندفع الرجل المريض الضعيف، شبه الأعمى، بتمجيد الخطر، ودعوة الناس، إلى أن يعيشوا حياة الخطر، حيث قال " بقطع النظر عن كوني متدهورا، أنا أيضا نقيض المنحط، لقد أتبث ذلك بكوني أتوصل غريزيا إلى اختيار العلاج المناسب دوما في مواجهة حالاتي الصحية السيئة، بينما لا يلجأ المنحط دوما إلى الوسائل المهلكة، لقد كنت معافى في كليتي، لكنني من وجهة أجزائي، وتفاصيلي، وكحالة خاصة، كنت متدهورا، إن تلك الطاقة التي سمحت لي بالإنعزال والتخلص من كل شروط الحياة المعتادة، وتلك الصرامة مع النفس التي جعلتني أرفض أن أظل مكفولا ومخدوما ومطيعا، كل هذا ينبؤ عن امتلاك آنذاك ليقين غريزي مطلق تجاه ما كان ضروريا لي، لقد أخدت مصيري بيدي، وعالجت نفسي بنفسي، الشرط الأساسي في ذلك أن يكون المرئ معافى في جوهره، إن كائنا من النوع المريض في الأساس، ليس بإمكانه أن يغدوا معافى، و أقل من ذلك أن يكون بإمكانه معالجة نفسه، وبالمقابل فإن الوقوع في المرض سيكون بالنسبة لمن هو معافى يطبعه حافزا حيويا للإقبال على الحياة" . هراء كل الهراء من يقرأ نيتشه ولم يبتسم ويقبل على الحياة بمداها المفتوح إلى حذ اللعنة، إنها جرأة بالغة الخطورة، أن تتصدى لصدمة الولادة، ولصدمة الحياة الغامضة، التي تأبى أن تكشف عن حقيقتها، إنه شق لطريق آخر في تاريخ الفكر البشري، لصنع مستقبل أفضل، هذا الفيلسوف الذي أحدث جرحا عميقا في الفكر الكوني عامة، والفكر المعاصر خاصة، إنها دعوة الناس أن يعشوا حياة الخطر و التميز ب " إرادة القوة " بل أكثر من ذلك فهو ينادي كل من يسعى إلى الحرية بالإفراط في القوة، بأن يبنوا مساكنهم على حافة بركان، وأن يركبوا زوارقهم كي يكتشفوا البحر الذي لم يدخل إليه أحد من قبلهم، وأن يتخدوا جميع المخاطر بروح لا تعرف الخوف، ولكن أليس هناك دوافع نفسية أخرى مكبوثة في أعماقه أدت به إلى انكار كل القيم و عدم الثقة في أي شيء؟ ـ و في سياق هذا السؤال أثارتني قولة لنيتشه تعزز عدم ثقته بأحد " أتعلم من كل شيء و لا أثق في أحد ـ نعم تمت حدثا له دلالة و آثار على تلك النفس المريضة المنحرفة، ذلك أن نيتشه وقع في حب إحدى النساء القريبات منه ولكنها لم تبادله حبا بحب، وفضلت عليه رجلا آخر، ولم تجد محاولاته في إقناعها بحبه، وهذا برز رد الفعل عند نيتشه، حيث اندفع هائما على وجهه بإرسال النقد تلو النقد للنساء جميعهن ـ و هذا النقد هو انعكاس للنقص الذي يعانيه ـ واصفا إياهن بأقدح الصفات، مدعيا أنهن لسن أهلا للحب، وهذا القدح للنساء، أشار إليه في كتابه هذا قائلا " ليس هناك لا تصرفات أنانية و لا تصرفات غيرية.. المفهومان كلاهما محض خلط سيكولوجي وكذلك هو الشأن لمقولات " الإنسان يطمح إلى السعادة " أو السعادة جزاء الفضيلة " أو اللذة و الألم نقيضان " إن الأخلاق " كيركا الساحرة " التي تغوي الإنسانية، قد زوت مجمل ما يتعلق بقضايا النفس البشرية ـ أخلاقيتها، حد إعلان ذلك اللغو الكريه القائل بأن الحب لابد أن يكون شيئا " غير أناني " ... على المرئ أن يكون جالسا على نفسه بثقل، أن يكون واقفا على قدميه بثبات و إلا فلن يمكن له أن يحب، إن النساء في النهاية عارفات أكثر مما ينبغي بهذا الأمر، هن اللاتي لا يدرين إلى أي شيطان يبعثن بأولائك الرجال اللا أنانيين، الرجال الموضوعيين، هل يسمح لي بالمناسبة أن أعبر عن اعتقادي بأنني أعرف النساء؟ لعل ذلك من جملة مكتسباتي الديونيزية. من يدري ؟ لعلني الخبير النفسي بالأنثى الخالدة. كلهن يحبونني ـ وهذه حكاية قديمة ـ باستثناء النساء الشقيات " والمتحررات " من اللواتي تعوزهن القدرة على الإنجاب. ومن حسن حظي أنه لا نية لدي في أن أدع نفسي أتمزق، فالأنثى الحقيقية تكسر و تمزق إذا ما أحبت... أعرفهن جدا أولائك الكائنات اللطيفات، يا لهن من كواسر صغيرة خفية متسللة وخطيرة ولذيذات جدا مع ذلك، إن المرأة تلاحق رغبتها في الإنتقام، ستدهس وتقلب القدر نفسه، في طريقها، فالمرأة أشد خبثا بكثير من الرجل وأكثر حيلة، الطيبة شكل من أشكال الإنحطاط لدى المرأة، أما اللواتي يدعون ب " الأنفس السمحة " فلهن دوما وضع فيزيولوجي غير سعيد يعانين منه، ولن أقول كل شيء و إلا تحولت إلا طبيب بارد الإحساس. إن الصراع من أجل مساواة الحقوق هو في حذ ذاته عرض مرضي، " كل طبيب يعرف ذلك، فالمرأة كلما كانت أنوثة إلا وتصدت بيديها وقدميها لكل أنواع و الحقوق: فالوضع الطبيعي، وضع الحرب الدائمة بين الجنسين، يمكنها من تبوء مرتبة الفوز بتفوق هائل. هل استمع أحد إلى تعريف للحبـ، إنه التعريف الوحيد الذي يليق بفيلسوف. الحب وسيلته الحرب وخلفيته العميقة، الحقد القاتل الذي يكنه كل جنس لآخر" إنها نظرة أخرى للمرأة التي تغوي الرجال و تؤدي بهم إلى الهاوية ، وفي اعتقاد نيتشه أن المرأة محتقرة من كل الجوانب و اعتبرها " لغز كبير " ومفتاحها الوحيد هو الحب. هذه بعض القضايا التي تناولها نيتشه، و التي حاول بها أن يتميز بها عن غيره، سواء على مستوى الأفكار أو المنهج أو الأسلوب و تجدر الإشارة إلى أن القدر الأكبر من مؤلفات نيتشه تصب في منحى تمجيد القوة، والدعوة إليها، وإلى القضاء على كل ما يعارض القوة، ويعرقل مسيرتها، مما يسمى بالقيم و الأخلاق مثل الحب، الرحمة، والعدل...، كل هذه القيم قد عاقت الإنسان إلى أن يتجاوز نفسه و يرتفع عن مستواه الحالي، ليصل إلى الإنسان الأقوى أو ما سماه ب " السوبرمان " ولن تصل الإنسانية إلى هذا الإنسان الأقوى إلا ألقت وراء ظهرها ما يسمى بالقيم، ثم استعملت القوة في الصراع ما بين الضعفاء و الأقوياء، ون ثم القضاء على الضعفاء ولا يبقى إلا الأقوياء، ثم بعدها الصراع بين الأقوياء، وهكذا حتى تصل البشرية إلا المستوى الأعلى دائما، ومن ثم دعي الرجل فيلسوف القوة ودعيت فلسفته، فسلفة القوة. المبحث الثاني : إنسان مفرط في الإنسانية " أخلاق مضادة " " أعرف قدري، ذات يوم سيقترن اسمي بذكرى شيء هائل رهيب، بأزمة لم يعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجة في الوعي...، فأنا لست إنسانا بل عبوة ديناميت، لا أتحدث البثة إلى كثلة الجماهير، وأشد ما يخيفني، هو أن يكرسني الناس ذات يوم كقداسة، بإمكان المرئ أن يخمن السبب الذي يدفعني إلى نشر هذا الكتاب قبل أن يحصل ذلك الأمر، سيكون عليه أن يحميني من أي استعمال شنيع سيء العواقب، لا أريد أن أكون قديسا بل أفضل أن أكون مهرجا... ولعلني بالفعل أضحوكة، ومع ذلك؟ ... فالحقيقة هي التي تنطق من خلالي، لكن حقيقتي فضيعة، ذلك أن الكذب هو الذي ظل يدعي حقيقة حتى الآن" يستطيع المرئ أن يقول وهو يقرأ نيتشه أنه يريد التميز ويسعى إلى التفوق والتعالي، أو يدعو إلى الجنون، وبالخصوص أن جل أعمال نيتشه فيها شيء مشترك، تحوي بحيرات وأحابيل لإصطياد الطيور المتغافلة، وتحريض شبه خفي، لكنه مستمرعلى هدم القيم المعتادة والتقاليد المقدرة، هذا ما يسميه نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الذي يعتبره كتاب للعقول الحرة، وكل ما تطرق إليه هو بمثابة انتصار، أي أنه بواسطته تخلص من كل ما هو غريب عن طبيعته، والغريب عن طبيعته هي المثالية التي تجعل الإنسان يفرط في إنسانيته ويقول في هذا الصدد " حيثما ترون مثلا، أرى أمورا إنسانية، بل لا شيء غير أشياء مفرطة في الإنسانية " ، إنها دعوة للعقل الحر التي لا يمكن أن تفهم إلا بهذا المعنى، اي عقل محرر من جميع الأوهام الذي يستطيع أن يعيد تملكه بذاته، وبهذا المعنى، يبقى هذا الكتاب على لسان نيتشه رجة وعي صارخة للإنسانية، ثاقب الذكاء ورصينا، وفي بعض الأحيان، يجد فيه المرئ شيئا من القسواة والسخرية، والإزدراء، لأن نيتشه يعتقد بفطرته المتعالية المليئة بالغطرسة، أنه مخلص البشرية من العبودية، و أنه أيضا لا أحد قد نظر بشك في عمق شكه، وليس فقط كمحامي الشيطان عند الإقتضاء، بل غالبا ما يبحث عن ملجأ في أي مكان كي يستريح من نفسه، كي ينسى نفسه لحظة من الزمن... ملجأ في الإجلال، في الكراهية، في لعبة علمية في نسق في حماقة، في أي شيء، وبهذا يكون قد لجأ إلى القوة و الحيلة من خلال التزييف حين يكون لزاما عليه أن يعثر على ما يحتاج إليه. إن الطريقة الذي ينظر بها نيتشه إلى العالم ليس لها نظير، تجانس في النظرة، و الرغبة ومساواة فيها، يستشعرها بشكل سحري، هي استراحة في ثقة الصداقة، هي استمتاع بكل ما هو مهم، على السطح، وقريب من كل ما له لون الظاهر، وجلده وميزته، وطالما عوتب نيتشه على عدد من " الحيل " على قدر من التزييف الدقيق، مثلا: على ضرب الذكر صفحا، عمدا و عن علم، عن الإرادة العمياء للأخلاق لدى شوبنهاور في مرحلة كان يفهم فيها الأخلاق جيدا، وكذلك على كونه أخطأ بخصوص الرومانسية الزمنية لدى " فاغنر " زاعما أنها كانت بداية لا نهاية، وكذلك بخصوص الألمان ومستقبلهم، وربما تكون هناك لائحة طويلة، يرد نيتشه على هذه الاتهامات بقوله " ... ولو افترضنا أن كل ذلك صحيح وأن ما يقدم ضدي على حق، فماذا تعرفون أنتم؟ ما عساكم أن تعرفو عن قدر الحيلة ، التي تضعه غريزة البقاء، في مثل توهمات المرئ تلك بشأن ذاته، عن قدر الحكمة و التيقظ الكبير الذي يحويه، و أي قدر من التزييف لا زال يلزمني كي أستمر في السماح لنفسي بأن أكون صادقا مع نفسي؟ ... كفى إني لازلت حيا، و الحياة على الأقل لم تبتكرها الأخلاق، إنما تريد الوهم وبالوهم تحيا... لكن ها أنذا ،أليس كذلك؟ أعود لأفعل ما فعلته دائما بصفتي لا أخلاقيا وصيادا ساديا ـ لأتكلم ضد الأخلاق، خارج الأخلاق " ما وراء الخير و الشر" ، هكذا ابتكر نيتشه مفهوم العقول الحرة، لكي يهديها هذا الكتاب الذي هو كتاب تشجيع، والذي عنوانه إنسان مفرط في إنسانيته ـ ولا يجب أن تأخدنا الغرابة مع نيتشه ـ أنه يعتقد أنه لا توجد هذه " العقول الحرة " التي يناديها ويعتبرها غير موجودة، بل وما وجدت قط، لكنه يزعم كما سلف الذهن أنه في حاجة إلى رفقتها كي يحتفظ بمزاجه اللائق وسط الأمزجة العكرة، ( المرض، العزلة، المنفى، الشظف، البطالة، ...) هؤلاء يعتبرهم نيتشه عرابوا الأشباح الطيبون، الذين يؤنسونه عندما يريد أن يضحك، أو أن يترثر معهم حينما يرغب في الضحك، وإذا ما أزعجوه طردهم تعويضا عن الأصدقاء الذين افتقدهم. اعتقد أيضا نيتشه أنه آخر من يشك في كون هذه العقول الحرة ستوجد يوما، وكل ما يوجد فقط هو كما يصفهم بالمرحين و الجسورين في هيأة بشر تدب فيهم الحياة، وليس فقط كما في حالته هو، بل على شكل أشباح و استهامات تخضع لرغبة إنسان متوحد، كما كتب نيتشه عن نفسه في خواطره، حيث قال " اتخدت غريزتي قرارها القاطع ضد التمادي في الإدعان و المسايرة واشتباهي في هويتي، أي نوع من الحياة، الظروف القاسية والمرض و الفقر، كلها بدت لي أحب من ذلك، التنكر للذات، السلوك الرخيص الذي وقعت فيه عن جهل وطيش شباب، في البداية ثم بقيت حبيسا داخله فيما بعد، بسبب الخمول وبدعوى ما يزعم أنه " احساس بالواجب " هنا هب لنجدتي في الوقت المناسب بالضبط، وبطريقة لن أقدر أبدا على وصفها بالإعجاب التي تستحق، ذلك الميراث الشيء الذي انتقل إلي من أبي ألا وهو التهيؤ لموت مبكر، سحبني المرض ببطء من ذلك المحيط، لقد وفر علي كل خطوة عنيفة وصادمة، لم أخسر في تلك الفترة أي رعاية، بل كسبت المزيد، منحني المرض في الآن ذاته الحق في تغيير كامل لكل عاداتي، كما سمح لي، بل أملى علي النسيان، و من علي بوجوب ملازمة الفراش و بالعطالة وبالإنتظار و الصبر ... غير أن ذلك يعني التفكير ... ! ينطلق نيتشه من عملية التفسير والترتيب بديلا للمعرفة و الاكتشاف، و يكون التفسير هو المحدد للمعاني الجزئية للظاهرة، بينما تكون وظيفة الترتيب، هي تحديد القيم و المعاني الجزئية، ووضعها في نسق تراتبي لتلك المعاني في إطار دون تخفيف أو تسفيه لتلك المعاني، فتلك النظرة بعمق، تعطينا تعبيرا لعلاقة الفكر بالحياة، بحيث تكون صور وأشكال الفكر هي نتيجة صور وأشكال الحياة، وكذلك يكون الفكر منبثا للحياة وصانعا لدربها. فلسفة نيتشه تقوم بما يسمى " فلسفة القوة " أو " النقد الجينيالوجي " بالدعوة إلى الأخلاق المضادة، ففكرة القوة وتأثيرها على الحياة، هي ليست إلا ظهور للقوى عبر دخولها في القوى القديمة. إن الخروج من القيود و القيم أو الأعباء، لا يكمن فقط في " قتل الإله " كما يقول نيتشه، لأننا قد نخلق إنسانا ينهي نفسه بنفسه، ويصنع نظاما جديدا، كما كانت االفلسفة تعتاد في تبرير الإنحطاط والخضوع عن طريق البحث في الأسباب، والأمور الما ورائية، و البعد عن الحياة، الذي يعتقده نيتشه هو أن كل من يرى أو يعتقد أنه لا جدوى من الحياة فهو إنسان عدمي يعني الحياة على هذه الأرض. و اعتبر نيتشه أن عيب كل الفلاسفة المشترك هو كونهم ينطلقون من الإنسان الحالي، ويتخيلون أنهم قد بلغوا الهدف من خلال تحليلهم له، بشكل غامض، يتخيلون الإنسان، دون أن يقصدوا ـ وكأنه حقيقة خالدة، يتخيلونه واقعا تابثا وسط دوامة الكل، ومقياسا ثابتا للأشياء، إن أصل كل ميتافزيقا هو كون الإنسان في الأزمنه الأولى لحضارة لم تزل بدائية قد اعتقد أنه اكتشف في الحلم عالما حقيقيا، لولا الحلم لما وجد الناس، أو الوهم بالأحرى، أدنى سبب لتقسيم العالم إلى قسمين، إن إنفصال الروح والجسد يرتبط كذلك بأقدم تصور للحلم تماما، مثل فرضية صوة جسدية للروح، كما يرتبط به إجمالا أصل كل اعتقاد في الأرواح و ربما أصل الإيمان بالآلهة " إن الميت يظل حيا، لأنه يظهر للأحياء في الحلم" . هذا هو الاستدلال الذي ساعد فيما مضى طيلة ألفيات. و بالتالي فنيتشه عندما تفلسف أو مارس فعل التفلسف، جعل النقد من مرتكزات فلسفته، لذا سمي بفيلسوف المطرقة، مركزا على وظيفتها الطبية و العلاجية، و العلاج هنا يبدأ بهدم و تقويض أصنام الفكر السائد، والعقدي التقليدي المتخلف بطغيانه، إن نيتشه مارس التفلسف العميق المرتبط بالدولة الحديثة، والإنسان الحديث، في المجتمع الحديث و الفاسد أينما وجد... " ما هو القانون الأساسي الذي توصل إليه أحد المفكرين الأكثر جرأة، وبرودة، وهو مؤلف كتاب "عن أصل المشاعر الأخلاقية" أي نيتشه اللا أخلاقي الأول" وذلك بفضل تحليله الصارم والقاطع للسلوكات البشرية، ليس الإنسان الأخلاقي أكثر قربا من عالم المعقولات من الإنسان المادي، إذ أنه ليس هناك من عالم معقولات، هذا المبدأ الذي اكتسب طابعه الصلب والقاطع تحت وقع الضربات المطرقية للمعرفة التاريخية، أي (قلب كل القيم). قد يغدو ذات يوم في زمن مستقبلي ما ـ 1890ـ ؟ الفأس التي تستخدم لإجتاث " الحاجة الميتافيزيقية للبشر من الجذور، إن لخير للإنسانية، أم للعنتها؟ من ترى بمستطاعه أن يجب عن ذلك الألم؟ غير أنه في كل الأحوال مبدأ ستكون له أرقى نتائج، متمر و مرعب في الآن ذاته، يتفحص العالم تلك النظرة المزدوجة التي تمتلكها كل العلوم الكبرى" . إن نيتشه ينتقد كل الأشياء الخفية بما فيها النفس البشرية، و علاقتها بمحيطها، المحشوة بكل أصناف التناقضات والأخطاء، وفي هذه اللحظو يمكننا أن نطرح سؤالا وهو كالتالي، لماذا ظهرت مع نيتشه هذه الفلسفة المنفعلة؟ ولماذا هذا الظهور المفاجئ لأفكار منفعلة وقوية. يجيبنا نيتشه بشكل موجز بأن هذا الأمر المفارق، أنه الفيلسوف الموزع بين زوايا بوصلة الوهم، والذي ضحى بالفلسفة وتراكمات الفكر البشري السابق، و المعرفة الفلسفية ، من أجل تحصين الحياة الأخرى، أو أي فكرة لها علاقة بهدم هذه الحياة التي يعيشها الإنسان كل يوم، إنه الفيلسوف النظري و العدمي المريض بالتفكير " الإستغراقي "ّ في التأمل بصفته فيلسوفا، ومتوحدا بالفطرة، فقد وجد مصلحته في الحياة بعيدا على الهامش، وجدها في الصبر و في التأجيل والتأخير، مثل مفكر مغامر جريء، غالبا ما تراه في متاهات العقل، مثل الوهم، حيث ينظر إلى الوراء حين يحكي عن المستقبل، أول عدمي كامل في أوروبا، ولكنه قد تجاوز العدمية، إنه فيلسوف الطريق الغير معبدة الذي حاول تأسيس المستقب عبر فلسفة الحياة و إرادة القوة، كما ذكر نيتشه في أحد كتبه " الفجر" وهو عبارة عن خواطر حول الأخلاق كفكرة مسبقة، " بهذا الكتاب بدأت حملتي على الأخلاق، غير أنه لا يفوح ولو بشيء قليل من رائحة بارود، بل سيجد المرئ له روائح أخرى أذكى و ألطف، شريطة أن يكون لديه شيء من رهافة في حاسة الشم، ليس بآلة حربية، لا من الطراز الخفيف ولا من الثقيل، ولا إن كان أثره سلبيا فإنه أسلوبه أبعد من أن يكون كذلك، ذلك الأسلوب الذي يأتي التأثير من خلاله في هيئة خلاصة منطقية، لا في هيئة ذوي المدافع، أن ينتهي المرئ من قراءة هذا الكتاب بإحساس من الريبة والحذر تجاه كل ما ظل إلى حد تلك اللحظة تحث عنوان الأخلاق، محاطا بالإحترام و حتى بالإجلال، فإن ذلك لا يتناقص البثة مع كونه لا يحتوي على أية عبارة سلبية ولا أي هجوم أو أية كلمة خبيثة، بل إنه على العكس، يبدو مستلقيا في الشمس ناعما وسعيدا، مثل حيوان مائي، ينعم بالشمس ممددا بين الصخور، قد كنت في حقيقة الأمر، ذلك الحيوان البحري" . هنا يمكن القول أنه لا مناص مع نيتشه من تحقيق التفلسف إلا بتجاوز الفلسفة التقليدية أي تلك الفلسفة التي تدعوا إلى الأخلاق السلبية و التي حاكم بها الفيلسوف النظري المتألم، حياة الإنسان على هذه الأرض، بحثا عن متعة حياة وهمية، التي هي حياة السعادة في الزمن المطلق، بعيدا عن فعل الأحاسيس الطبيعية و النظر التأملي في حياة واقع التاريخ وبالتالي فلا يمكن مواجهة هذا الفيلسوف المنحط و المريض و الذي اغتال الفلسفة و التفلسف بتعمقه اللامحدود، المتورط في أسئلته الخاطئة المفارقة " إلا " بالسخرية و الإزدراء تلك الأهواء التي تنموا في اتجاه المستقبل و في اتجاه سعادة أخروية. من هنا فنيتشه وبعد استنفاده التام لكل السبل التفكيرية و البحثية ضد أسس وأصول الفلسفة المعادية للتفلسف الحي، والإنسان و الحياة ذاتها، بتعريتها والكشف عن مستورها المتعفن، توصل إلى حقيقة فلسفية راهن عليها، مفادها أو لنقل ستكون خاتمتها النظرية هي فلسفة هدم، أي هدم الإنسان الضعيف، و الدعوى إلى إرادة القوة.
#رشيد_الحيريش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسطورة الإطار
المزيد.....
-
المافيا الإيطالية تثير رعبا برسالة رأس حصان مقطوع وبقرة حامل
...
-
مفاوضات -كوب 29- للمناخ في باكو تتواصل وسط احتجاجات لزيادة ت
...
-
إيران ـ -عيادة تجميل اجتماعية- لترهيب الرافضات لقواعد اللباس
...
-
-فص ملح وذاب-.. ازدياد ضحايا الاختفاء المفاجئ في العلاقات
-
موسكو تستنكر تجاهل -اليونيسكو- مقتل الصحفيين الروس والتضييق
...
-
وسائل إعلام أوكرانية: انفجارات في كييف ومقاطعة سومي
-
مباشر: قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في
...
-
كوب 29: اتفاق على تقديم 300 مليار دولار سنويا لتمويل العمل ا
...
-
مئات آلاف الإسرائيليين بالملاجئ والاحتلال ينذر بلدات لبنانية
...
-
انفجارات في كييف وفرنسا تتخذ قرارا يستفز روسيا
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|