|
مقالٌ علميٌّ غيرُ مطوّلٍ: جدليةُ مصيرِ الإنسانِ العربيِّ بين الموروثِ والمكتسبِ في حياتنا: هل هو مسيّرٌ أم مخيّرٌ؟
محمد كشكار
الحوار المتمدن-العدد: 6195 - 2019 / 4 / 8 - 10:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يولد الفرد من والدين اثنين وهو يحمل ستة وأربعين صبغية وراثية (vingt trois paires de chromosomes)، أخذ نصفها من الحيوان المنوي للأب (Spermatozoïde) والنصف الآخر من بويضة الأم (Ovule). يدخل الدنيا وهو مكبّل بتراث بيولوجي وراثي لا مناص له منه قبل أن يُتمِّمَ تكبيلًه تراثٌ حضاريٌّ لا دخل له فيه ولم يشارك البتة في صُنعه.
منذ التحام البويضة " أ " بالحيوان المنوي " ب " صدفة، يتقرر اعتباطا المصير البيولوجي للفرد ويُعرف سلفا لونُه، شكلُه، طولُه، أمراضُه الخَلقيةُ، قابليتُه للإصابة ببعض الأمراض الوراثية المستقبلية وتتحدّدُ نهائيا ملامح وجهه التي سيعرضها يوميا على مجتمعٍ قاسٍ غير متحضرٍ وأنانيٍّ. صحيح أنه كنوع من الحيوان قد شارك تاريخيا في التطور البيولجي والتفاعل الذي تم عبر ملايين السنين بين جيناته أو مورّثاته الثلاثين ألف من جهةٍ والمحيط من جهةٍ أخرى، هذا التفاعل بين ما هو جيني وما هو بيئي أوصل إلينا هذه المورّثات على هذه الحال في منزلة بين المنزلتين، لا هي صفات بشرية كاملة ومتعالية ولا هي صفات حيوانية غريزية بسيطة وأظن حسب رأيي أنها للحيوانية الغريزية أقربُ.
تمعّنْ فيما فعله ويفعله الحكام الغربيون والشرقيون وهم في الظلم متساوين! هل الحيوان يقتل ابن فصيلته؟ هل الحيوان يقتل من أجل الكسب والربح والجشع والتسلط؟ هل الحيوان يقتل بالقنبلة النووية مائة وخمسين ألف من بني فصيلته في يوم واحد (في هيروشيما وناكازاكي في اليابان)؟ أو يقتل خمسة وأربعين ألف في يوم واحد أيضاً (في مدينة سطيف في الجزائر)؟ هل رأيتَ حيواناً يقاتِل أبناء بيئته ويُبِيدُ منهم عبثا مائتي ألف (العشرية السوداء في الجزائر 92-2002)؟ هل الحيوان يَعبُر المحيطات ويذِلّ حيوانات أخرى ويُخصِيهم أنتروبولوجيّاً؟ هل رأيت أسرابا من الطيور تمطر بلدا مليون قنبلة عنقودية؟ إلا إذا كانت معجزة ربّانية كطير أبابيل في القرآن ترمي أبرهة الحبشي وجيشه بحجارة من سجيل.
لكن في المقابل، هل الفرد يتحمل مسؤولية الجدلية التطورية التاريخية التي تمت بين جيناته والبيئة عبر ملايين السنين منذ انبثاق جزيء الحمض النووي (ADN) على وجه الأرض؟ والغريب أن انفصال الإنسان عن ابن عمه القرد في شجرة التطور قد وقع صدفة أيضا والقرد ليس جد الإنسان بيولوجيا كما تُؤوِّل خطأ نظرية التطور الداروينية. نَتَجَ هذا الانفصال البشري من شجرة الحياة عن خطأ حدث في جزيء الحمض النووي، فوجودنا إذن، ومن أساسه، مبنيٌّ على خطأ كيميائي، هذا الخطأ الذي أفرز نقلة نوعية إيجابية في تكويننا (Mutation).
يبدو لي أن المقاربة الحتمية الجينية (Déterminisme génétique ou biologique) تُعظِّم من شأن الحمض النووي وجيناته الثلاثين ألف في تقرير مصير الفرد. تعارضها مقاربة أخرى، "اللاحتمية" (Anti-déterminisme) وتُسمَّى أيضاً "ما بعد أو ما فوق الوراثي" أو التخلّق أي ما بعد الخلق (Épigenèse) التي تنادي بعدم التسليم بالقدر البيولجي المحتوم ومحاولة التصدي له وتغييره بالتعلّم والتمرّن وتغيير العادات والتقاليد والنظام الغذائي، ولهذه النظرية في سِجلّها الجديد نسبيا بعض الانتصارات. هذه المقاربة "اللاحتمية" العلمية الواعدة تواجه عدة عراقيل: منها ما يتعلق بتكلّس الأوساط العلمية المؤمنة بالمقاربة "الحتمية" القديمة المهيمنة والمسماة أيضاً "كل شيء وراثي" (Le tout-génétique)، والتي تُؤلِّه الحمض النووي، وتُوَظِّفُه في تسييس العلم وانحيازه، وذلك عندما تُستغل من قِبل بعض السياسيين للتهرّب من مسئولياتهم، فيصبحوا يُبرِّرون عدم المساواة الاجتماعية اعتماداً على مقاربة "الحتمية الجينية"، كقولهم أن العنفَ وراثيُّ والذكاءَ وراثيُّ، أما هم فأبرياء و غير مسئولين على تردي الوضع الاجتماعي المتفشِّي في الطبقات الفقيرة فقط.
منذ ولادته، يُنسب الفرد لأب وأم لم يخترهما، لم يختر أيضا أخيه ولا أخته ولا عمه ولا خالته ولا لغته ولا دينه ولا جنسيته ولا مكان ولادته ولا حليب أمه أو حليب الصيدلية. جاء وهو مسيّرٌ فاقدُ الإرادة، جاء والحاكم العربي جاثمٌ على صدره وكاتمٌ لنفسه، جاء والحزب العربي الواحد الأحد لا حزب شريك له مهيمنٌ على الدولة والشعب، حزبٌ جبّارٌ على الضعفاء ومذلّ للفقراء، حزبٌ رقيبٌ على الصحفيين ومانع للحرية، حزبٌ مقدّمٌ للزيادة في الأسعار مؤخِّرٌ للزيادة في الرواتب، حزبٌ منتقمٌ من المعارضين ضارٌّ بالناس أجمعين، الأوّلُ في التخلف، الآخرُ في التقدّم، حزبٌ موجودٌ موجودٌ موجودٌ! جاء والنظام الديمقراطي وحرية الصحافة ودولة المؤسسات والقانون وحقوق الإنسان واستقلال القضاء، موعودٌ موعودٌ موعودٌ! جاء وفلسطين محتلةٌ والعرب والمسلمين مَكروهين ومُهانين من قِبل العالَمين، فوَرَثَ قَدَرَهم وكَسَلَهم وفَشَلَهم كما ورث لون بشرته، فهل له دَخْلٌ إذن في كل هذا العبث الذي سيقرر مصيره واتجاهه وطموحه رغم ما قد يفعله من مكارم في المستقبل؟ هل يستطيع أن يعيش بعزة وكرامة في وطنه؟ هل يستطيع أن يعارض السلطة وكرامته مصانة؟ هل يستطيع أن يحافظ ويفعّل الفصل العاشر من قانون الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يحرّم الترشح لأكثر من دورتين في المسئولية النقابية؟ هل يستطيع النقابي القاعدي الحر أن يعارض المركزية النقابية دون التعرض لسيف التجريد المسلط على رقبته من قِبل ديناصورات المكتب التنفيذي للإتحاد العام التونسي للشغل؟ ديناصوراتنا النقابية أطول عمرا من ديناصورات الحقبة الجوراسية، لقد انقرضت الأخيرة وهم لا ينقرضون وعلى رؤوسنا ما زالوا قابعين وللنشاط النقابي قامعين وعلى العمال ببن علي يستقوون.
في عالمنا العربي تَحالفَ الثلاثي المقدس، الموروث البيولوجي والتراث الحضاري المتكلّس والأنظمة السياسية القروسطية، ضيّقوا الخناق على المواطن العربي المسكين وأجبروه على أن يكون مسيّرا مائة بالمائة حتى ولو كان زميله المواطن الإسكندنافي مخيّرا مائة بالمائة في حياته (هو أيضاً مسيّرٌ مائة بالمائة مثلنا في موروثاته ومورّثاته).
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 14 أوت 2010
#محمد_كشكار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقالٌ علميٌّ مطوّلٌ (وسْعوا بالكم): الطب العلمي والطب المواز
...
-
المجازر الفضيعة التي ارتكبتها محاكم التفتيش المسيحية ؟
-
تعريف علوم الإبستمولوجيا؟
-
مقارنة بين السلفيين والستالينيين
-
أيهما أفضل؟ النقد البنّاء أو النقد الهدّام؟
-
في الجزائر، -حكّام الظل- حجبوا الشمس عن الشعب!
-
قائمة غير شاملة في نهايات تصورات معينة حول بعض المفاهيم، فرض
...
-
الأحزابُ اليسارية ترى في المجتمع التونسي ما تريد هي أن ترى،
...
-
كيف أفهم ديني ؟
-
أمريكا ومنذ 1940 وهي تتدخل في انتخابات دول كبرى، تؤثر في الن
...
-
حركات الإسلام السياسي (أو الصحوة الإسلامية بمتطرّفيها ومعتدل
...
-
التربية الصحية بين الممكن والمطلوب ؟
-
حوارٌ بيني وبين صديقِ يساريٍّ ماتَ عامْ سبعينْ !؟
-
التلميذُ أمْ مدرّسُه، مَن مِنهما الفاشلُ الكسولُ الجاهلُ؟
-
فرحات حشاد: -أحِبُّكَ ياشعبْ-. يوسف الشاهد: -أكرَحِبُّكَ يا
...
-
موقف فكري من بث البرامج التلفزية التي تُشَهِّرُ بجرائم الاغت
...
-
أطالبُ بإنشاء مخبر للتفكير السياسي المجرّد في تونس؟
-
الضريرة المستنيرة !
-
مفكرون وفلاسفة تقدّميون أوروبيون غير مسلمين سبقونا وأنصفوا ا
...
-
خِطابٌ أراهُ جيدًا أرُدُّ به على خِطابٍ أراهُ سيئًا؟
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|