|
في عيد ميلاده الثامن والستين.. محمود درويش.. ربيع التجدُّدِ والقيامةِ والأمل
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
الحوار المتمدن-العدد: 6176 - 2019 / 3 / 18 - 18:55
المحور:
الادب والفن
في عيدِ ميلادِهِ الثامنِ والستين.. محمود درويش.. ربيع التَّجدُّدِ والقيامةِ والأمل أسامة عرابي منذ صحا وعيُ "محمود درويش" (1941- 2008) على الإرهابِ الإسرائيليِّ المُسلَّحِ، وساديةِ المحتلِّ، والرؤيةِ الميتافيزيقيةِ للمشروعِ الصَّهيونيِّ، قرَّ في يقينِهِ بجلاءٍ أنَّ مذبحةَ "كفر قاسم ليست يومًا للذكرى.. وليست مرحلة يغلُبُها النِّسيانُ.. إنَّها تاريخُ كراهيةٍ ممتدٌّ منذ استلَّ هرتسل سيفَهُ من التَّوراةِ، وأشهرَه في وجهِ الشِّرقِ"، ووقفَ ليقولَ لنا بصفاءٍ شعريٍّ نادرٍ : "حين وقفنا على مدخلِ كفرِ قاسم، ذاتَ مساءٍ، أحسسنا بضراوةِ الفرحِ المكبوتِ فينا، وعرَفنا الجريمة التي ننالُ عليها كلَّ هذا العقابِ. وأدركْنا أنَّ الحجارة هي الوقتُ، فجلسنا عليها نُغني للوطن". لذلك سعى محمود درويش صوبَ تجسيدِ إرادةِ الحياة فينا، وتحدي الموتِ المحدقِ بنا من كلِّ جانبٍ، والتَّمسُّكِ بالهُوِيَّةِ والوطن، في وجهِ مُخطِّطِ الاقتلاعِ الكبيرِ الرامي إلى محوِ الذَّاكرة. هاتفًا بملءِ فِيهِ : سجِّلْ أنا عربي.. ثمَّ مُخاطبًا رفاقَهُ : يا داميَ القدميْنِ والعينيْنِ إنَّ الليلَ زائلْ لا غرفةُ التَّوقيفِ باقيةٌ ولا زردُ السَّلاسلْ فحبوبُ سنبلةٍ تجفُّ ستملأُ الوادي.. سنابلْ وعرَفَ طريقَهُ إلى الحزبِ الشِّيوعيِّ "راكاح" عام 1961؛ بحثًا عن البديلِ البرنامجيِّ الذي يُعينُهُ على تلمُّسِ آفاقِ الصِّراعِ وجذورِه، وخوضِهِ بشكلٍ راديكاليٍّ يُتيحُ له تأصيلَ تاريخِنا النِّضالي، وتحليلَ الواقعِ بتناقضاتِهِ، وتأسيسَ جبهةٍ عريضةٍ من الجماهيرِ ترفدُ حركة التَّحرُّرِ الفلسطينيَّةَ بزادِها الوطنيِّ. وعَدَّ نفسَهُ " امتدادًا نحيلًا بملامحَ فلسطينيَّةٍ، لتراثِ شعراءِ الاحتجاجِ والمقاومةِ، ابتداءً من الصَّعاليكِ حتى ناظم حكمت ولوركا وأراجون، الذين هضمْتُ تجارِبَهم في الشِّعرِ والحياة، وأمدّوني بوقودٍ معنويٍّ ضخمٍ". وظلَّ عُرضةً للسّجنِ والاعتقال، ثُمَّ التَّرحيلِ القسريِّ الذي ألقى به في جُبِّ المنافي وتيهِ الشَّتات، دونَ أنْ يتخلَّى عن أصالةِ سؤالِهِ الفلسطينيِّ الحيِّ الذي نقله من برودةِ هذا العالَمِ ووحشيتِهِ وانفلاتِهِ، إلى ربيعِ التَّجدُّدِ والقيامةِ والأمل.. على نحوِ ما لخَّصَه لنا كتابُهُ الصادرُ عن "مركز الأبحاثِ في م.ت.ف"عن تجربتِهِ الإسرائيليَّةِ، في خريفِ عامِ 1974، وحدَّثنا فيه عن "أنَّ شرعيةَ قتلِ العربِ، أو عدمَ الاكتراثِ تُجاهَ قتلِهم، أصبحَ حالةً تلقائيَّةً سائدةً في المجتمعِ الإسرائيليِّ الذي رُبِّيَ على غريزةِ العداءِ لهذه المخلوقاتِ التي تُعكِّرُ صفوَ "النَّقاءِ" اليهوديِّ في فلسطين"، مُذكِّرًا إيانا "بتراثِ الصَّهيونيَّةِ وينبوعِها "الصافي" الذي حلَّلَ العنفَ والجريمةَ.. مُضيفًا:"كان جابوتنسكي واضحًا مع نفسِهِ حينَ قالَ لمستشارِ الطلبةِ اليهودِ في فيينا : "تستطيعُ أنْ تُلغيَ كلَّ شيءٍ: القبعاتِ، والأحزمةِ، والألوانِ، والإفراطِ في الشَّرابِ، والأغاني. أمَّا السَّيفُ فلا يُمكنُ إلغاؤه. عليكم أنْ تحتفظوا بالسَّيفِ؛ لأن الاقتتالَ بالسَّيفِ ليسَ ابتكارًا ألمانيًّا، بل هو ملكٌ لأجدادِنا الأوائل. إن السَّيفَ والتَّوراةَ أنزلا علينا من السَّماء". وبذلك استطاع محمود درويش تحريرَ وجدانِهِ ممَّا يُرادُ له من أسْرَلَةٍ، والانطلاقَ إلى ذُرًى سامقةٍ يستعيدُ عبرَها إنسانيَّتَهُ المُهدرَةَ على مذبحِ حاضرٍ بائسٍ.. لكنَّهُ ظلَّ مشدودًا طَوالَ الوقتِ إلى وطنِهِ وأهلِهِ في فلسطين، يٌخاطبُهم من وراءِ قضبانِ وحدتِهِ وحصارِهِ، من قِبلِ بيروقراطيي منظمةِ التَّحريرِ الفلسطينيَّةِ، كما حدثَ له في مجلةِ "شئون فلسطينيَّة" الذي كان "فتاها الأغرَّ" بتعبيرِ د.أنيس صايغ رئيسِ تحريرِها آنذاك، لكنَّهُ اضطُرَّ اضطرارًا إلى ترْكِها لتتوقَّفَ بعده بفترةٍ قصيرةٍ.. ثُمَّ أجبروه على الاستقالةِ من رئاسةِ "مركزِ الأبحاثِ والدِّراساتِ الفلسطينيَّةِ"؛ لأسبابٍ شرحَها في مذكراتِهِ "أنيس صايغ عن أنيس صايغ"، ذاكرًا أنَّه – أي محمود درويش- (ما كان ليتحمَّلَ ضغوطَ المؤامرةِ التي كان يُدركُ حجمَها، وأنَّها مُوجَّهةٌ ضدَّ المركز، وليستْ ضدَّه شخصيًّا، ولم يرغبْ في أنْ ينهارَ المركزُ وهو في عُهدتِهِ. ففضَّلَ إعادة الأمانةِ إلى قيادةِ المنظمةِ، والتَّخلي عن مسئوليَّاتٍ لو لم يُحرجوه ويستفزوه لكان أهلًا لحملِها بجدارةٍ. وباستقالتِهِ بدأ العَدُّ العكسيُّ في الأيامِ المُتبقيةِ من عمرِ المركزِ كمؤسسةٍ فاعلةٍ وذاتِ أثرٍ، إلى أنْ ضربتْ إسرائيلُ المركزَ برصاصةِ الرَّحمةِ بعدَ سنواتٍ قليلةٍ". وهنا أحسَّ محمود درويش بأنَّهُ "ليس لي منفى لأقولَ لي وطن"، ولم يجدْ بُدًّا من أنْ يُعلنَ: وأنا الغريبُ بكلِّ ما أوتيتُ من لغتي. ولو أخضعتُ عاطفتي بحرفِ الضَّادِ، تُخضعُني بحرفِ الياءِ عاطفتي. وللكلماتِ وهي بعيدةٌ أرضٌ تُجاورُ كوكبًا أعلى. وللكلماتِ وهي قريبةٌ منفى. ولا يكفي الكتابُ لكي أقولَ : وجدتُ نفسي حاضرًا مِلءَ الغياب لكنَّهُ، مع ذلك، لم يدَّخرْ وُسْعًا في الدِّفاعِ عن قضيَّتِهِ على نحوِ ما سردَ لنا طَرَفًا منه شفيق الحوت أحدُ مؤسسي منظمةِ التَّحريرِ الفلسطينيَّةِ في مذكراتِهِ التي حملتِ اسمَ "بين الوطنِ والمنفى"، فكان ثالثَ ثلاثةٍ ضمَّتهم لجنةٌ خاصَّةٌ تألَّفتْ من وليد الخالدي وصلاح الدَّباغ ومنه؛ بهدفِ التَّدقيقِ والتَّعديلِ وإعادةِ صوغِ الخطابِ الذي ألقاه ياسر عرفات في نوفمبر/ تشرين الثَّاني 1974 في أثناءِ انعقادِ الجلسةِ الخاصَّةِ بقضيَّةِ فلسطينَ في الجمعيَّةِ العامَّةِ للأممِ المتَّحدةِ، بعدَ أنْ كتبَ مُسَوَّدَتَهُ د.نبيل شعث". كما كانا "الحوت ودرويش" مُكلَّفيْنِ بحضور جلسةٍ استثنائيَّةٍ لمجلس الأمنِ في يونيةَ / حزيرانَ 1976، بدعوةٍ من السيناتور جيمس أبو رزق لزيارةِ واشنطن؛ لمُحاورةِ بعضِ الأعضاءِ من المجلسيْنِ.. وكذلك شاركا "الحوت ودرويش" مع السَّيِّدةِ نبيلة برير باسمِ المُنظَّمةِ في مؤتمرِ الإسكانِ في "فانكوفر" بكندا في يونيةَ / حزيرانَ 1976، ثُمَّ توجَّها دونها، أي دون السَّيِّدةِ "نبيلة" بعدها إلى نيويورك؛ للمشاركةِ " في جلسةٍ لمجلسِ الأمنِ، والانضمامِ إلى الوفدِ الفلسطينيِّ في "قمَّةِ عدمِ الانحيازِ" في نيودلهي.. أمَّا إسهامُهُ الأكبرُ فقد تمثَّلَ في اضطلاعِهِ بصياغةِ نصِّ "وثيقةِ الاستقلالِ" الذي أقرَّهُ "المجلسُ الوطنيُّ الفلسطينيُّ" بالإجماعِ في 15/ 11/ 1988، وقد رفضها أبو عمَّار لعدمِ تقيُّدِها بحرفيَّةِ النصِّ، على الرَّغمِ من رفعةِ لغتِها، على حدِّ تعبيرِ شفيق الحوت، الذي رأى أنَّ "الوثيقة دعتْ إلى قيامِ دولةِ فلسطينَ وعاصمتُها القدسُ الشَّريفُ"، وحملتْ "تلميحاتٍ واضحةً تتعلَّقُ بتنازلاتٍ تاريخيَّةٍ عن بعضِ حقوقِنا الوطنيَّةِ، وفي مُقدِّمِها تحريرُ كاملِ التُّرابِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ".. كما هاجمتها الفصائلُ الفلسطينيَّةُ الرَّاديكاليةُ، ووجدتْ فيها تفريطًا في مصالحِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ الأساسيَّةِ وحقوقِهِ الوطنيَّةِ. وفي الحقيقةِ، تحتاجُ علاقةُ محمود درويش بياسر عرفات إلى وقفةٍ وتأمُّلٍ، من خلالِ فهمِ كلٍّ منهما لتكوينِ الآخرِ ودورِهِ، قبلَ الحديثِ عن تبايُنٍ في وجهاتِ النَّظرِ غيرِ جِذريٍّ؛ أدَّى إلى استقالةِ محمود درويش من عضويةِ "اللجنةِ التَّنفيذيةِ لـ م.ت.ف" احتجاجًا على اتفاقية أوسلو، وما شابَ قناتَها السِّرِّيَّةَ من التواءٍ وغموض؛ "إذ ستوقظُنا شروطُ السَّلامِ المعلنةُ من حلمٍ جميلٍ يتحوَّلُ كابوسًا. فلا تعِدُنا هذه الشُّروطُ بنهايةِ الاحتلالِ، بل تُطالبُنا بالإعلانِ عن انتهاءِ مطالبِنا الوطنيَّةِ وبإنهاءِ الصِّراعِ من أجلِها، قبل أنْ نتعرَّفَ على خارطةِ بلادِنا الجديدةِ... مُقابلَ حقٍّ غامضٍ في إضفاءِ صفةِ الدَّولةِ على شبهِ دولةٍ محرومةٍ من الاستقلالِ والسِّيادةِ؛ حيثُ تتبوأ الاستعارةُ مكانةَ الجغرافيا؛ وحيثُ ينفصلُ الدَّالُ عَنِ المدلولِ والدَّلالةِ، ولا تعثُرُ الرُّموزُ على أرضِها". لقد تماهيا (عرفات ودرويش) في محطاتٍ سياسيَّةٍ عديدةٍ، ولم يغبْ عن ذهنِ محمود درويش يومًا أن أبا عمَّارٍ "هو مَنِ استطاعَ أنْ يُروِّضَ التَّناقضَ في المنافي، بمزيجٍ من البراغماتيَّةِ والدِّينِ والغيبيَّاتِ"، وأنَّهُ "المُشبَّعُ بثقافةِ صلاحِ الدِّينِ التَّفاوضيَّةِ، وبتسامحِ عُمَرَ".. كما كان عرفاتُ على علمٍ تامٍّ بإمكاناتِ محمود درويش الفكريَّةِ والشَّخصيَّةِ من خلال المهامِّ السِّياسيَّةِ التي أنيطتْ بهِ، وما نهضَ بهِ وهو بعدُ عضوُ متابعةِ مفاوضاتِ واشنطن، وكيف كان مطَّلعًا بشكلٍ عامٍّ على سيرِ مفاوضاتِ أوسلو، وفقَ ما يذهبُ إليهِ محمود عباس "أبو مازن"، الذي ذكرَ أن محمودًا كان يحضُّهُ على المثابرةِ.. وأنَّهُ التقى في روما في 13/ 7/ 1993 وزيرةَ التَّربيةِ الإسرائيليَّةِ "شولاميت أولني".. على الرَّغمِ من أنَّ محمود درويش رفضَ ذاتَ يومٍ ترجمةَ المرحومِ د.هاني الرَّاهب روايةَ "غبار" لـ"يائيل دايان"، وأيِّ عملٍ آخرَ؛ بدعوى خوفِهِ على وعي القارئ العربيِّ من تأثيرِ الثَّقافةِ والفكرِ الصَّهيونييْنِ المُفعميْنِ بالكراهيةِ والسَّاديَّةِ وخداعِ النَّفسِ وخداعِ الآخرين والعنصريَّةِ.. ذلك أنَّ الذي "ينطلقُ من مبدأ طهارةِ الفكرة الصَّهيونيَّةِ مدعوٌّ إلى الالتزامِ بالخطِّ المنطقيِّ للأمورِ الذي يقودُ إلى الاشتراكِ في المسئوليَّةِ عن جرائمِ إسرائيلَ" على حدِّ تعبيرِهِ. كان عرفاتُ يُحبُّ محمود درويش ويثقُ في ذكائهِ.. وكان محمود درويش يُثمِّنُ حُنكةَ عرفاتَ السِّياسيَّةَ، وقدرتَهُ على هندسةِ التَّحالفاتِ. لكنَّ الشَّاعرَ داخلَ محمود درويش يطرحُ سؤالَ الكينونةِ منتصرًا لمتخيَّلِهِ الجماعيِّ، في مواجهةِ براجماتيةِ السِّياسيِّ التي تُفْقِرُ المفاهيمَ والتَّصوُّراتِ العامَّةَ، وتغدو مثلَ "فتاةِ فولتيرَ" التي سألَها يومًا : ماذا ستفعلينَ إذا انتزعَ منكِ مُستبدٌ ظالمٌ حبيبَكِ؟ فأجابته ببرودٍ : سأبحثُ عن آخرَ غيرِهِ. لذا رضخَ عرفاتُ لتهديدِ محمود درويش له بأنَّكَ "إذا كنتَ لا تُريدُ شفيق الحوت، فأنا لن أكونَ في لجنةٍ لا يكونُ هو فيها".. وذلك إثرَ اعتراضِ أبي عمَّارٍ على ترشيحِ عددٍ من الفصائلِ الفلسطينيَّةِ لشفيق الحوت عضوًا باللَّجنةِ التَّنفيذيَّةِ بوصفِهِ شخصيَّةً مستقلَّةً؛ "حرصًا على بقاءِ محمود درويش، لا حبًّا في اشتراكي كما حاولَ أنْ يُقنعَني فيما بعدُ" وفقَ ما سجَّلَهُ شفيق الحوت في مذكراتِهِ.. لكنَّ محمود درويش أدركَ عمقَ المأزِقِ الذي أحدثَهُ نهجُ أبي عمَّارٍ وسلوكُهُ السِّياسيَّانِ في البنيةِ الفلسطينيَّةِ، فقالَ بوضوحٍ لا لبسَ فيهِ : "لكنَّهُ وقدِ اختزلَ الموضوعاتِ كلَّها في شخصِهِ، وصارَ ضروريًّا لحياتِنا إلى درجةِ الخطر.. كربِّ أسرةٍ لا يُريدُ لأولادِهِ أن يكبروا؛ لئلَّا يعتمدوا على أنفسِهم. لذلك أعَدَّنا، أكثرَ من مرَّةٍ، للتعوُّدِ على الخوفِ من فكرةِ اليُتمِ، وعلى الخوفِ من احتضارِ الفكرةِ في حالِ غيابِهِ الجسديِّ، ومن فرطِ ما ناوشَ الموتَ ونجا، امتلأ لاوعيٌ فلسطينيٌّ خرافيٌّ بشعورٍ ما بأنَّ عرفاتَ قدْ لا يموتُ! وهكذا لامستْ أسطورتُهُ حدودَ الميتافيزيقا".. لهذا لم يستطعْ محمود درويش قتلَ الأبِ ، والتَّحرُّرَ من إسارِ صورتِهِ كما أرساها لديهِ، وظلَّ دومًا على تماسٍّ معه؛ بدالةِ أنَّهُ لم يضبطْ نفسَهُ مُتلبِّسًا بالرَّفضِ عندما طلبَ منهُ تدبيجَ خطابٍ له سيُلقيهِ أمامَ اليونسكو عام 1996، على الرَّغمِ من استقالتِهِ من "اللَّجنةِ التَّنفيذيَّةِ" بعدَ سنواتٍ خمسٍ أمضاها عضوًا بها؛ احتجاجًا على طابَعِ المقامرةِ الذي دمغَ طريقةَ عرفاتَ في إدارةِ "اتفاقِ أوسلو"، وما انتهتْ إليهِ من دروبٍ مسدودةٍ؛ ذلك أنَّ"أيَّ تسويةٍ تستندُ إلى وضعِ الشَّرطِ الإسرائيليِّ في مكانِهِ المُقدَّسِ الذي لا مساسَ بهِ، ويُحدِّدُ فيها توازنُ القوى _ وحده – حجمَ الحقوقِ، وتُستبْدَلُ فيها الشَّرعيةُ الدَّوليةُ بتشريعاتِ الكنيستِ الإسرائيليِّ أو الكونغرسِ الأميركيِّ، ستكونُ تسويةً مفروضةً لا يستطيعُ فقهاءُ الواقعيَّةِ وصفَها إلَّا بالقولِ : هذا هو الممكنُ.. وهذا يعني أن السَّلامَ الحقيقيَّ غيرُ ممكنٍ". وهكذا عاشَ محمود درويش حالةَ الخطرِ الكامنةَ تحتَ جلدِهِ.. وهي _في الحقيقة – حالةُ الحصارِ المُزنَّرِ بالموتِ التي تُخيِّمُ على الفلسطينيِّ، وتسلبُهُ الحقَّ في الحياة... بدءًا من الوعي الأسطوريِّ الصَّهيونيِّ الذي يعملُ على تكريسِ نفي الوجودِ الفلسطينيِّ... مرورًا باللَّوحةِ الفلسطينيَّةِ الدَّاخليَّةِ الكابيةِ؛ حيثُ اشتدادُ القبضةِ البوليسيَّةِ، واستشراءُ مافيا الموادِّ الأوليَّةِ والأغذيةِ، وإحياءُ الحمائليَّةِ أو العشائريَّةِ، وتدميرُ المدنِ، والبطالةُ، وانتهاءً بتسويةٍ سياسيَّةٍ هشَّةٍ وجائرةٍ دعاها "هيجل" يومًا بأعطابِ السَّلامِ الرُّومانيِّ pax romana ؛ لذلك هتفَ محمود درويش في ديوانِهِ "أحد عشر كوكبًا" قائلًا : وأنا أنا، حربٌ عليَّ وفيَّ حربٌ.. يا غريب علِّقْ سلاحَكَ فوقَ نخلتِنا لأزرعَ حنطتي في حقلِ كنعانَ المقدَّسِ... خذْ نبيذًا من جراري خذْ صفحةً من سِفرِ آلهتي.. وقسطًا من طعامي لكنَّ محمودًا قارئَ التَّاريخِ اليقظَ، أدركَ استحالةَ وجودِهِ خارجَ دائرةِ الانتماءِ الفكريِّ، والتعيُّنِ الجغرافيِّ لفلسطينيَّتِهِ؛ ومن ثَمَّ من موقعِهِ من خارطةِ الصِّراعِ، كما وعاه من حنا بطاطو وإدوارد سعيد وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد وسواهم. لذا حاورَ إدوارد سعيد، قائلًا له في قصيدةِ "طباق" : والهُوِيَّةُ؟ قلتُ فقالَ : دفاعٌ عن الذَّات.. إن الهُوِيَّةَ بنتُ الولادةِ لكنَّها في النِّهايةِ إبداعُ صاحبِها، لا وراثةُ ماضٍ. أنا المتعدِّدُ.. في داخلي خارجي المتجدِّد.. لكنَّني أنتمي لسؤالِ الضَّحيَّةِ، لو لم أكنْ من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أنْ يُربِّي هناك غزالَ الكناية.. فاحملْ بلادَكَ أنَّى ذهبتَ وكنْ نرجسيًّا إذا لزمَ الأمر بَيْدَ أن محمود درويش ظلَّ وفيًّا طَوالَ الوقتِ لصوتِ الشَّاعرِ داخلَهُ، مُنصتًا إلى دبيبِهِ ورِعشتِهِ، حتى في معمعانِ نشاطِهِ السِّياسيِّ وتنقُّلِهِ بين المحافلِ الدَّوليَّةِ، وكان يؤمنُ بأنَّ "الشِّعرَ هوايةٌ ومهنةٌ معًا.. لذا يجبُ على المهنةِ أنْ تُراقَبَ كهوايةٍ، وعلى الهوايةِ أنْ تخضعَ لشروطِ المهنةِ؛ وبالتَّالي، هناك علاقةٌ جدليَّةٌ بينَ بُعْدِ المهنةِ وبُعْدِ الهوايةِ في الممارسةِ الشِّعريَّةِ". وقد بلغَ من شدَّةِ إخلاصِهِ للشِّعرِ أنْ رفضَ ضمَّ ديوانِهِ الأوَّلِ "عصافير بلا أجنحة" الذي كتبه وهو في الثَّامنة عشرة من عمرِهِ، وصدرَ عامَ 1960، إلى مجموعاتِهِ الشِّعريَّةِ التَّاليةِ له، كما رفضَ إلقاءَ بعضٍ من قصائدِهِ عندما طلبَ عددٌ من الرِّفاقِ الفلسطينيين المُقيمين في لبنانَ استعادةَ أجوائهِ ومُناخاتِهِ في أحدِ اللِّقاءاتِ؛ تعبيرًا عن انحيازِهِ إلى قصيدتِهِ الجديدةِ؛ باقتراحاتِها الجماليَّةِ والتَّعبيريَّةِ والتَّمثيليَّةِ التي تُزاوجُ باقتدارٍ بين الغنائيَّةِ والسَّرديَّةِ والملحميَّةِ.. بين النَّثرِ والشِّعرِ؛ بسببٍ من حرصِهِ على الإيقاعِ والموسيقى القادميْنِ من الفجيعةِ والسؤالِ، من الموتِ والحياةِ، مُسخِّرًا العَروضَ لقيمِ لغتِهِ الخاصَّةِ، ولتجرِبتِهِ الإنسانيَّةِ الكبيرة. وهو ما يُؤمِّنُ له حقيقةً علاقةً جيِّدةً مع المتلقي تقومُ في بُعْدِها الأساسِ على حواريَّةٍ تمزجُ الواقعَ بالحلمِ : لماذا نُحاولُ هذا السَّفرْ وكلُّ البلادِ مرايا وكلُّ المرايا حجرْ لماذا نُحاول هذا السَّفرْ؟ غيرَ أن نظرةَ محمود درويش إلى النَّثرِ تكشف عن التَّحالفِ الثَّقافيِّ الرُّوحيِّ القائمِ بين الأجناسِ الأدبيَّةِ كافَّة، مُفجِّرًا من خلالِه نداءَ الجسدِ إلى روحِ المكانِ، وحريَّةَ الخيالِ في التَّحليقِ دون الوقوع في أسرِ رومانسيَّةٍ باهتةٍ. فهو، أي النَّثر، كما يقول فرناندو بيسوا، في "كتابِ اللاطمأنينة" : (خبايا مرتعشةٌ.. يبثُّ فيها ممثِّلٌ كبيرٌ هو الفعلُ، بجوهرِهِ المُجسدنِ، عبرَ الإيقاعِ، سرَّ الكونِ المتعذِّرَ على الإدراكِ المحسوس).. وهنا تكمُنُ فرادتُهُ، وقدرتُهُ على تشكيلِ طاقاتِهِ الصوتيَّةِ تشكيلًا جماليًّا حاملًا بُعدَهُ التَّاريخيَّ . ألم يقلْ لنا في قصيدتِهِ السَّابقةِ "كأنَّي أحبُّك": آه لا بدَّ من حارسٍ بيننا كأنَّ المياهَ التي تفصلُ الجسديْنْ دمُ الجسديْنْ وكُنَّا هنا ضفتيْنْ ؟ لكنْ من أبرزِ الملامحِ التي تسمُ شعرَ محمود درويش وتُميِّزُهُ في آنٍ؛ إنسانيَّتُهُ العاليةُ التي تتأبَّى على التَّصنيفاتِ الضَّيِّقةِ والجاهزةِ، وتعلو على التَّكويناتِ الاجتماعيَّةِ الرَّخوةِ؛ فتغدو في حالٍ من الاشتباكِ الدَّائمِ مع مفرداتِ الوجودِ الحيَّةِ؛ علَّها تتغلبُ على الموتِ بوصفِهِ حارسًا للعدم، كما تُوجزُهُ لنا أبياتُهُ في قصيدةِ "طباق" التي يقولُ فيها : أقولُ : الحياةُ التي لا تُعْرَفُ إلَّا بضدٍّ هو الموت.. ليستْ حياة! يقولُ : سنحيا، ولو تركتنا الحياةُ إلى شأنِنا. فلنكنْ سادةَ الكلماتِ التي سوفَ تجعلُ قرَّاءها خالدين – على حدِّ تعبيرِ صاحبِكَ الفذِّ ريتسوس.. وفي مقطعٍ آخرَ يقول : نيويورك. إدوارد يصحو على كسلِ الفجرِ. يعزفُ لحنًا لموتسارت يركضُ في ملعبِ التِّنسِ الجامعيِّ يُفكِّرُ في لُعبةِ الفكرِ عبرَ الحدودِ وفوقَ الحواجزِ. يقرأ نيويورك تايمز يكتبُ تعليقَهُ المتوتِّر. يلعنُ مستشرقًا يُرشدُ الجنرالَ إلى نقطةِ الضَّعفِ في قلبِ شرقيَّةٍ. لقد غدرَ الموتُ بشاعرِنا في ساحةٍ خاصرَها التَّاريخُ، ورفدتْها ذاكرةٌ راوحتْ طويلًا بين الأسطوريِّ والواقعيِّ.. غيرَ عابئٍ بندائهِ في قصيدةِ "جداريَّة" : أيُّها الموتُ انتظرني خارجَ الأرضِ انتظرْني في بلادِك ريثما أُنهي حديثًا عابرًا مع ما تبقَّى من حياتي قربَ خيمتِكَ، انتظرْني ريثما أُنهي قراءةَ طرفةَ بنِ العبد.. يُغريني الوجوديون باستنزافِ كلِّ هُنيهةٍ حريَّة، عدالة، ونبيذ آلهة. لم يُعجبِ الموتَ ما قاله محمود درويش يومًا : إنَّ الشُّعراءَ يُولدونَ بطريقتيْنِ : بعضُهم يُولدُ دَفْعَةً واحدةً مثلَ طرفةَ بنِ العبدِ ورامبو، وشعراءُ يُولدونَ "بالتقسيطِ"، وأنا من هؤلاءِ الشُّعراءِ".. واعتقدَ أنَّهُ يُراوغُهُ ويُناورُهُ بتأكيدِهِ أنَّ ولادةَ الفلسطينيِّ تأتي على دُفُعَاتٍ.. على نحوِ ما يكتبُ نصَّهُ الشِّعريَّ مرَّتيْنِ.. وأنَّهُ مازال يتعلَّمُ المشيَ العسيرَ على الطَّريقِ الطَّويلِ إلى قصيدتِهِ التي لم يكتبْها بعدُ. معترِفًا "أمامَ القُضاةِ المُتجهِمين بأنَّني تخلَّيْتُ عن كتابةِ الشِّعرِ السِّياسيِّ المباشِرِ محدودِ الدَّلالاتِ، دونَ أنْ أتخلَّى عن مفهومِ المقاومةِ الجماليَّةِ بالمعنى الواسعِ للكلمة"، مُستطردًا : "لا لأنَّ الظُّروفَ تغيَّرتْ، ولأنَّنا انتقلنا "من المقاومةِ إلى المساومَةِ"، كما يزعُمُ فقهاءُ الحماسةِ، بل لأنَّ على الأسلوبيَّةِ الشِّعريَّةِ أنْ تتغيَّرَ باستمرارٍ، وعلى الشَّاعرِ أنْ لا يتوقَّفَ عن تطويرِ أدواتِهِ الشِّعريَّةِ، وعن توسيعِ أفقِهِ الإنسانيِّ، وأنْ لا يُكرِّرَ ما قاله مئاتِ المرَّاتِ". أدركَ محمود درويش مغزى نكبةِ فلسطينَ واغتصابِها؛ فحملَ سؤالَهُ الجماعيَّ وذهبَ بهِ بعيدًا حتى ملهاةِ الاستسلامِ، رافعًا مقولتَهُ التي غدتْ شعارَهُ الأثيرَ : "ماذا تفعلُ اللُّغةُ أكثرَ من الدِّفاعِ عن ثقافتِها وعن ذاكرةٍ جماعيَّةٍ، ومكانٍ مكسورٍ، وهُوِيَّةٍ.. وعن عنادِ الأملِ المُحاصَرِ بالقنوطِ والتَّشكيكِ.."، عامدًا إلى نسجِ صورةٍ شعريَّةٍ تُساكنُ الأسئلةَ، وترحلُ مع الخيالِ، ويصنعُ هُوِيَّتَها الحلمُ؛ فأدركتِ المرويَّاتُ التَّوراتيَّةُ عجزَها عن إسكاتِ التَّاريخِ الفلسطينيِّ. ماتَ محمود درويش بعدَ أنْ دفعَ حياتَهُ ثمنًا لإيمانِهِ بأنَّ الشِّعرَ هو "حافظ الاسمِ بجنوحِهِ الدَّائمِ إلى تسميةِ العناصرِ والأشياءِ الأولى في لُعبةٍ لا تبدو بريئةً لمنْ يُسيِّجُ وجودَهُ بالاستحواذِ المطلقِ على المكانِ وذاكرتِهِ، على التَّاريخيِّ والغيبيِّ معًا. لم يكنِ الشِّعرُ لُعبةً بريئةً مادامَ يدلُّ على كائنٍ كان ينبغي له ألَّا يكونَ". أجلْ.. ماتَ محمود درويش بعدَ أن علَّمنا أنَّ الحاضرَ "لم يكنْ أكثرَ من زيارةٍ يعودُ الزَّائرُ بَعدَها إلى توازنِهِ الصَّعبِ.. بين منفًى لا بُدَّ منه، وبين وطنٍ لا بُدَّ منه.. فلا يُعْرُفُ هذا بعكسِ ذاك، ولا ذاك بنقيضِ هذا.. ففي كلِّ وطنٍ منفًى، وفي كلِّ منفًى بيتٌ من الشِّعرِ".. وراحَ يُنشدُ بصوتِهِ الآسرِ : وأنا أنا، لا شيءَ آخر واحدٌ من أهلِ هذا الليل أحلمُ بالصعودِ على حِصاني فوق، فوق.. لأتبعَ الينبوعَ خلفَ التَّل. فاصمدْ يا حِصاني لم نعدْ في الرِّيحِ مختلفيْن. لقد أنقذ محمود درويش القضيَّةَ الفلسطينيَّةَ من غوغائيَّةِ السَّاسةِ وسدنةِ اللُّغةِ الرَّسميَّةِ، ومنحَها علاقةً فريدةً ربطتِ المكانَ بالزَّمن.. والجسدَ بالحياة. وظلَّ محمود درويش يملكُ حضورَهُ الدَّائمَ بين شعراءِ الحداثةِ العربيَّةِ، ووشائجَهُ الخاصَّةَ بالقارئ والجمهورِ العامِّ اللذيْنِ رجاهما يومًا أنْ يرحماهُ من حُبِّهما القاسي، وأنْ يُوليا مشروعَهُ الشِّعريَّ والجماليَّ ما يستحقُهُ منَ اهتمامٍ؛ فوضعنا أمامَ حالةٍ فَنِّيَّةٍ أتاحتْ لنا أنْ نتأمَّلَ معنى الفنِّ وعملَ الفنِّ في متعتيْهما الشَّعريتيْنِ، وفي مفارقتيْهما الذِّهنيَّةِ والجماليَّةِ.. إذ إنَّ شعريَّةَ الأثرِ المُتحوِّلِ، وجزئيًّا شعريَّةَ الأثرِ المفتوحِ، كما يقولُ "أمبرتو إيكو"، تُؤسِّسانِ ضربًا منَ العلاقاتِ بين الفنانِ وجمهورِهِ، وتخلقانِ سيرورةً جديدةً للإدراكِ الحسيِّ والجماليِّ، وتُقيمانِ أخيرًا علاقةً غيرَ مسبوقةٍ بين تأمُّلِ الأثرِ الفنِّيِّ واستخدامِهِ. الأمرُ الذي أسبغَ حيويَّةً وأهميَّةً كبيرتيْنِ على هذا الفتى المُتمرِّدِ ووثباتِهِ الجموح؛ بعدَ أنْ هتفَ بعنادٍ فاتنٍ في قصيدةِ "القربان" : سنقولُ : لم تخطئْ ولم نخطئْ. إذا لم يهطلِ المطرُ انتظرناه، وضحيْنا بجسمكَ مرَّةً أخرى؛ فلا قربانَ غيرُكَ، يا حبيبَ اللهِ، يا ابنَ شقائقِ النُّعمانِ، كم من مرَّةٍ ستعودُ حيّا! حقًّا.. لم يكنْ محمود درويش شاعرًا مجيدًا فحسب، بل كان صحفيًّا نشطًا عاشَ همومَ اللَّحظةِ اليوميَّةِ بكلِّ دقائقِها وذبذباتِها، كما عكستْها لنا تجرِبتُهُ مُحرِّرًا في جريدة "الاتحاد"، ورئيسًا لتحريرِ صحيفةِ "الجديد"، ومشاركًا في تحريرِ جريدة "الفجر" الفلسطينيَّةِ.. وصاحبَ دورٍ فكريٍّ وثقافيٍّ وأدبيٍّ طليعيٍّ وتقدميٍّ، على نحوِ ما طالعناه في مجلةِ "الكرمل" التي أصدرَها عام 1981؛ من أجلِ أنْ "نرويَ روايتَنا بلسانِنا، وأنْ نكتُبَ حبكتَنا التَّاريخيَّةَ وعلاقتَنا بالمكانِ، وأنْ نكتُبَ ذاكرَةَ المكانِ ومكانَ الذَّاكرةِ، ونُعبِّرَ عن تجرِبتِنا الإنسانيَّةِ في سياقِها التَّاريخيِّ، وفي جدليَّةِ العلاقةِ بين الجماعةِ والفردِ، وعلاقةِ الذَّاتِ بالآخرِ، الذي نطمحُ إلى أنْ نقرأه ونُساجِلَهُ من منظورٍ ثقافيٍّ مختلفٍ"، لكنَّها توقَّفتْ عام 2006؛ لعسرٍ ماليٍّ شديدِ الوطأةِ، ولرغبةٍ حرَّى في العثورِ على نقطةِ انطلاقٍ جديدةٍ تُتيحُ الفرصةَ أكثرَ للتفاعلِ الإبداعيِّ الخلَّاقِ؛ "فتكون أكثرَ من منبرٍ، وورشةَ عملٍ ثقافيَّةً، نتبادلُ فيها الخبراتِ والحوارَ الدِّيمقراطيَّ، والتَّفكيرَ المشتركَ بحياتِنا ومصيرِنا".. لتبدأَ بعدَها مسيرةً أخرى على يد النَّاقدِ والمترجمِ الفلسطينيِّ المعروفِ "حسن خضر". وبذلك عاشَ محمود درويش على الدَّوامِ قلقَ الشِّعرِ، ونزقَ الشَّاعرِ، مهجوسًا بأسئلةِ الكتابةِ وإشكالياتِها، مُحتجًّا على تسميةِ الغائبِ- الحاضرِ "غسَّان كنفاني" له ولرفاقِهِ الفلسطينيين بشعراءِ مقاومةٍ "دون أنْ نعلمَ أنَّنا شعراءُ مقاومةٍ. كنا نكتبُ حياتَنا كما نعيشُها ونراها. ونُدوِّنُ أحلامَنا بالحريَّةِ، وإصرارَنا على أنْ نكونَ كما نُريدُ. ونكتُبُ قصائدَ حبٍّ للوطنِ ونساء محدَّداتٍ. فليس كلُّ شيءٍ رمزيًّا. وليس كلُّ ساقِ شجرةٍ نحيلٍ خصرَ امرأةٍ أو بالعكس".. مُمتنًّا لشاعريَّةِ "سعدي يوسف" التي "درَّبَتْهُ على التَّنقيبِ عنِ الشِّعريِّ فيما لا يبدو أنَّهُ شعريٌّ، وأغراني بمقاومةِ الإغراء الإيقاعيِّ الصَّاخبِ، وبالاقتصادِ في البلاغةِ"، مُتابعًا : "وكم سُئلتُ عن فتراتِ بياتٍ شتويٍّ مررتُ بها، وكنتُ أقولُ دائمًا : مادامَ سعدي يوسف يكتبُ، فإنَّني أشعُرُ بأنَّهُ يكتُبُ نيابةً عني" على حدِّ تعبيرِهِ. ألم يقلْ لنا في ديوان "لماذا تركتُ الحِصانَ وحيدًا؟" : "أنا ما قالتِ الكلماتُ : كنْ جسدي، فكنتُ لنبرِها جسدا..." أو ما أسَرَّ به لصديقِهِ الجميلِ "إدوارد سعيد" في قصيدتِهِ "طباق": "لا تصفْ ما ترى الكاميرا من جروحِك. واصرخْ لتسمعَ نفسَك، واصرخْ لتعلمَ أنَّكَ مازلتَ حيًّا، وحيًّا، وأنَّ الحياةَ على هذه الأرضِ ممكنةٌ. فاخترعْ أملًا للكلامِ، ابتكرْ جهةً أو سرابًا يُطيلُ الرجاءَ. وغَنِّ، فإن الجماليَّ حريَّة"؟
#أسامة_عرابي (هاشتاغ)
Osama_Shehata_Orabi_Mahmoud#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الغزالة..خصوصية التجربة، وفرادة طريقها في تذوق الحقائق
-
الصقر الفلسطيني -أول أوبرا عربية- لمهدي الحسيني
-
في الذكرى التَّاسعة لأستاذ الفلسفة المرموق د.فؤاد زكريا
-
حبل الوريد.. ولانهائية المرويّ
-
الشَّمندر.. رواية المتعدِّد الإنساني، والمساءلة النَّقدية لح
...
-
جدل الحكاية والمكان
-
على هامش الرحلة، وإصلاح الجامعة المصرية
-
بطل من زماننا
-
الكتابة الإفريقية بالخط العربي-عجمي-، ونمو الهوية الثقافية ا
...
-
مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل.. وفروسية أمل دنقل شاعرًا وإنسان
...
-
دور التمثُّلات الثقافية والتشكيلات الاجتماعية في التمييز الج
...
-
ثقافة الحوار..وحوار الفنون
-
مسرح الجُرن..والتنمية الثقافية المنشودة
-
مصر ورأسمالية المحاسيب
-
في ذكرى مفكِّر جسور
-
فن الكوميكس..وتعميق الوعي بالمصير المشترك
-
المثقف بين الوعي التاريخي ويقين السلطة
-
شخصيات على مسيرتي..وتكوين المثقف الليبرالي
-
رواية-أنا قط-والتعبير عن التجربة الإنسانية ومستوياتها المُرك
...
-
د.علياء رافع ورسالتها في الوحدة الإنسانية
المزيد.....
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|