|
سُفُنُ الأمان بين الفَلسَفة والعرفان ( الجزء الثالث)
أكرم جلال كريم
(Dr. Akram Jalal)
الحوار المتمدن-العدد: 6163 - 2019 / 3 / 4 - 23:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سُفُنُ الأمان من الفَلسَفة الى العرفان (الجزء الثالث) من هنا تَبدأ مَسيرةُ السالك نَحو المعرفة والإدراك الحقيقية، إنّها الهجرة العظمى والجهاد الأكبر من الحصول إلى الحضور ، إنّها صراعٌ نَحو الكمال والتّكامل بين القَلب والعَقل، بَين شهود العيون وفهم الأذهان. إنّه لَيسَ صراعاً مَيدانياً مكانياً أمام العدو ليكون جهاداً أصغر، إنه جهاد العاشق نحو عالم الشهود، لذا فهو الجهاد الأكبر، لأنه ينطلق بالنفس مِن عتمةِ وضيقِ ومحدوديةِ العقل الى جَمال ومصداقية الشهود والتجلي اللامُتَناهي. لذا فالعَقل واجب لِفهم المَداخل والأوليات حصراً، أمّا السّعي لإدراك حقائق الربوبيّة فلابدّ لها من مُشاهدة ومُكاشفة ببصيرة القَلب لا بدليل العقل، فمعرفة اللّه لا تُدرك بالدّليل العَقلي، كالألوان فإنها لا تُدرَك باللّمس. ولمّا كان العلم الشهودي معتمداً على صفاءِ وبصيرةِ شهود النّفس وحضورها وكمالها واستعدادها للسّير نحو الجمال والكمال المُطلق فإن العناية الالهيّة، والفيوض الرَّحمانية لابُدّ منها قَبل وأثناء وبَعد المَسير، وبخلافه فقد يتراجع السّالك ويَرتَدّ عن مراتب الحضور الى الحصول لِما قَد يُداخِله من شَكٍ أو تَردد أو عُجُب. أن كمال الإدراك والوصول الى مراتب المعرفة الكشفية لابُدّ لها مِن فُيُوض الهيّة وهذه الفُيُوض بِدَورها لا تُدرَك الّا بوَسائط وابواب وهم المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن بَعدِه أئِمّة الهُدى، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ ]التوبة :119[. فعن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البيت ومن لا يعرف الله عز وجل و [ لا ] يعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا1). فَمَعرفة الإمام دَليل السّالك وَمَنهجه وشِعارَه نَحو إدراك أعلى مَراتِبَ المَعرفة القَلبيّة الوِجدانيّة، مَعرِفَتَهُم طاعةٌ وكمال، والجهل بهم تيه وَحَيرة وَضَلال. قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ]يونس: 35 [. وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه2). فالأوصياء هُم أبوابُ اللّه تعالى والأدلّاءَ على معرفَتِهِ وَبِهم يُتَقَرّبُ الى الله، فَمَن أرادَ اللّه فيأته من أبوابه. ولأن اللّه جل جلاله أعلى مِنْ أن يُدركُه كل طالب وينالَ حقيقةَ معرفته كل سالك، فَمقامه أجَل مِن أن يَنظُر إليه كل شاهد، وَلولا وسائطُ الفيض الإلهي لَمَا سارَ في دَرب مَعرفَة اللّه أحد وَلَما أدرَك فيوضاته عارف، وَلَبَقيت الناس تعيش حَيرة الضّلالة وتيه الجَهالة. فَمَن أراد البَدأ بالمَسير والهِجرة نَحو الكَمال المُطلق والانتقال من الحصول إلى الحضور فلا بُد لهذا الدَّربَ من أدلّاء وأعوان في جهاده الأكبر، إنه جهاد العاشق نحو عالَم الشُهود . فالأوصياء هُمُ الأدلّاء وَهُم الأنوار التي تُنير عَتمَة الضّيق والمّحدودية لتَجذِبَه نَحو الجّمال الحقيقي والشهود والتجلي اللامتناهي. فبعد أن يبدأ السالك بطَيّ المنازل والمَراتب والتي عادةً ما تَبدأ بمقام العِلم الذي هو أوّل المَقامات الانسانية والذي من خلاله يتم تَحصيل المجهودات العلمية ليصل السّالك من خلالها الى مقام الإنسانيّة والتي هي الطريق إلى مقام الإنسان الكامل. ولابد للسالك من مرتبة اليقظة والتوبة، فيرجع إلى الذات، حَيث يبدأ بالإنتقال من الغفلة الى التوبة ويبدأ المسير نحو الله تعالى. واليقظةُ نورٌ يُلقيه اللّه تَعالى على قَلبِ السالك فَيَصحوا مَن مِيتَة القُلوب، قال الله تعالى: ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ]الأنعام :122[، وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: (ويل لمن غلبت عليه الغفلة، فنسي الرحلة ولم يستعد3). ونور اليقظة، نعمة ربّانية وجذبة إلهية، تُزيل ظُلمَة الجَّهل وتُنير القُلوب وتُثير الشَّوق نَحو مَنبَع النّور وهذه الجَّذبَة الإلهية لا يَنالها إلا مَن أناب الى الله وأستيقض مُنجَذباً نحو الجّمال المُطلق. والمعرفة هي سَبب اليّقظة، وبالمقابل فأن اليقظةَ هِيَ الطَّريق نَحو التَّكامل في المَعرفة . وللسّالك مَقام أرفع يَطلق عليه أهلُ العرفان بمقامِ الإيمان وهوتَثبيت الحقائق العلمية في النَّفس الإنسانية ولتكون الجَوارج عاملة بمقتضاها. ثُمّ يبدأ مقام الطمأنينة وفيه يَثْبُتُ الإيمان بأكملِ دَرَجاته في القّلب لِيَصِل الى مَرحلةٍ يَطوي فيها العلم البُرهاني فَلا يَحتاج بعدها الى دَليل في رحلته التَّكامليّة، فَيقين السّالك في هذا المَقام قَد تَجاوز العلم الحصولي ليبدأ بتلقي العلم حضوريا. ثم يأتي مقام المشاهدة حيث يَعيش السّالك الحقائق الكَشفية بأعلى تَجلّياتها وأن حضورها يكون بدرجات أعلى من مشاهداته الحسيّة. وَمَقام الرَّضا بعد ذلك يَتَجلّى للعارفِ حينما يَبلُغ الی اعلی مراتب التوبة والورع والإخلاص فتَرتَقي عندها نَفْسه من مرتبة النّفس المُطمئنة الى أعلى مراتبها وهي النّفس المّرضية، وَهو الرّضا بربوبية اللّه وبما قَضى وقَدّر ثم الرّضا برضا اللّه تعالى وهِيَ أعلى مَراتب الرضا. ثم يبدأ مقام التَّسليم ليعيش السالك كمال الطاعة والقبول والتّسليم لما يريده الحق تعالى، والتّسليم للحال التي تسيطر على السالك أثناء سَيره وسلوكه فيقبل بها وإن عَجَزت العقول عن إدراكها، وأنّ الحقيقة هي لله تعالى وحده. ثم المقام الأخير وهو مقام التّوحيد والذي يَصِل فيه العارِف الى مَرتبة إثبات وَحدانية واجِدِ الوجود. وللتوحيد مَراتب لا يَسَع المَقام لذكرها جميعا، ولكن لا بأس بالاشارة الى أنّ اعلى مراتبها لا ينالها الّا خواص الخواص وَهيَ الفَناء المُطلق في الذّات الإلهيّة والتي يَعجَز السّالك فيها عن الأفصاح بأي شيء. يقول الامام الحُسين عليه السلام في دعاء عرفة: (إلهى تَرَددي فى الآثار يُوجبُ بُعْدَ الْمَزار فَاجْمَعْني عَلَيْكَ بخدْمَةٍ تُوصلُني الَيْكَ كَيْفَ يُسْتَدَل عَلَيْكَ بما هُوَ فى وُجُوده مُفْتَقرٌ الَيْكَ أٓيٓكُونُ لغَيْركَ منَ الظهُور ما لَيْسَ لَكَ حَتى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهرَ لَكَ مَتى غبْتَ حَتى تَحْتاجَ إلى دَليلٍ يَدُل عَليْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتى تَكُونَ الآثارُ هي التي تُوصلُ الَيْكَ عَميَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْه رَقيباً وَخَسرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ منْ حُبكَ نَصيبًا4). وَبذلك يَكونُ سَيّد العُرفاء وَمَولی العاشقين الامام الحُسين سَلامُ اللّه عليه قَد جَسّدَ العِرفان بِكُلّ مَقاماتِه وَمَراتبه وتجلياته، فأصبح سَلامُ اللّه عَليه مَنهَلاً للعارفين وطَريقاً للسّالكين.
والحمد لله رب العالمين د. أكرم جلال 20 جمادي الثاني 1440
1. الكافي للشيخ الكليني ج1 /ص 181. 2. الكافي للشيخ الكليني ج1 /ص 193. 3. غرر الحكم: 10088، 9410. 4. إقبال الأعمال ، ص 348 – 349.
#أكرم_جلال_كريم (هاشتاغ)
Dr._Akram_Jalal#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|