منذ سنوات خَلَت، كنتُ غائصاً بالهموم، وما أزال. الأصدقاء والصديقات من حولي يخفَّفون من لظى الأوجاع والهموم، طالباتي وطلابي أنفاسٌ جديدة، يخلخلون روتين حياتي، شيء ما كان يخنقني، حتّى الآن لا أعرف مصدره، ربّما أعيش عمري كلَّه ولا أعرف هذا الشيء الّذي أحسُّ وكأنّه يخنقني. لا يهمُّني إنْ أعرفه أوْ لا أعرفه، ولا أُتْعِبُ نفسي بهكذا أشياء متعبة أصلاً، وفي خضمِّ الدوّامات الّتي كنت أعيشها، فجأةً ودونما أيَّةِ مقدِّمات شعرتُ أنّني اكتشفتُ عدوَّاً لدوداً، غير الدوّامات المغيظة التي كانت تسربلني إلى درجةِ الاختناق بين حينٍ وآخر، بدأ منذ سنوات يفترس جسدي بهدوء مرير، ذُهلتُ واستخفَفْتُ بإرادتي وبداهتي وطاقاتي الكامنة في أعماقي، شعرت أنّني شخص مهزوم أمام عدوٍّ سخيف إلى أبعد درجات السخافة، ومكروه إلى أبعد درجات الكراهية، ومع هذا أراني ملتصقٌ به وغير قادر على الفكاكِ منه، أجامله وأتعامل معه بلطفٍ شديد، لا أستطيع الوقوف في وجهه، عدوٌّ قزم جدّاً، بضعة سنتيمترات، لكنّه يفترسني وأنا لا أحرِّكُ ساكناً. نظرتُ إلى المرآة آلاف المرّات، رأيتُ وجهاً مهزوماً، والغريب بالأمر أنّني كنتُ أطرح نفسي وكأني فضحل عصري، أضحكُ بسخرية من هذا الشعور المضلَّل وأضحكُ على مَنْ يظنُّ أنّني ذلك الرجل الّذي لا يهاب الأعداء، لأنّني أعرف نفسي جيّداً أنني ضعيفٌ أكثر ممّا يظنّون، وغير قادر على مجابهة ولا مواجهة عدو لا يزن بضعة غرامات، قزم في طوله وعرضه. لا أخفي عليكم سرّاً أنني فكّرتُ جدّياً أن أعلن جبني على الملأ وأظهر مدى ضعفي وركاكة إرادتي وهشاشة جبروتي، هذا إذا كان لديّ جبروتاً، علماً أنني لستُ من أنصار الرؤية الجبروتيّة ولا من أنصار القوى الغاشمة ولا من أنصار عداوة الآخرين، ولا أحبّ أن أخوض حروباً مع الأعداء، لأنّني من أنصار مَنْ يرفع لواء الكلمة، لواء الحقّ والعدالة والمساواة والحرية، من أنصار بناء إنسان مسالم بعيد كل البعد عن رفع لواء الحروب والعداوات والأحقاد، لأنني اعتبر أن الحياة قصيرة للغاية لا تكفينا كي نعيش حياتنا بهدوء لنتنعَّمَ بها بأفراحها واتراحها، محاولاً تقديم كل ما هو إنساني وخيّر عبر محطّات عمري وعبر جغرافيات الأمكنة التي تحضنني، ولكن مع هذا دافعٌ قويّ دفعني لأن أرفع فردة الرحى على عدوٍّ لم أستطِعْ أبداً أن أقنع نفسي بالانسحاب من هذه المعركة المصيريّة، فمهما طرح الإنسان نفسه مسالماً وخيِّراً، إلا أنّه يواجه في حياته أعداءً خطيرين، لو تركهم على راحتهم سيخنقوه تماماً، وهكذا ترعرع الحقد في قلبي تجاه هذا العدوّ وبدأتُ أخطِّطُ للجريمة بنوعٍ من الحكمةِ، ماذا قلتُ؟ نوع من الحكمة، ومتى كان التخطيط للجرائم حكمة؟! إلا أنَّ هذا النوع من الجريمة الّتي أخطِّط لها تحمل بين ثناياها حكمة الحياة، ولو لم تحمل بين ثناياها حكمة الأيام والسنين والشهور لما فكَّرت بها أصلاً، لأنّني أولاً وأخيراً لا أحبُّ الاجرام، ولكن هذه الجريمة التي أنوي الإقدام عليها هي جريمة لذيذة تحمل نكهة خاصّة، وفيها إستمتاع غريب وعجيب، فأنا قبل أن أنوي على التخطيط للجريمة قلبت الموضوع من كلّ جوانبه لهذا قرَّرت أن أقدم على هذه الجريمة عن سابق إصرارٍ وتصميم، ضارباً القوانين النافذة في بلاد الشرق والغرب عرض الحائط، طالما أنا مقتنع في الحكمة العميقة من الجريمة التي أنوي بكل شراهةٍ أن أقدمَ عليها، وما أبلغتُ أحداً، لا من أفراد أسرتي ولا أصدقائي ولا صديقاتي، لأنّ هكذا إقدام على جريمة من نوعٍ خاص تتطلّب الحذر والحيطة وإلا سَتُحْبَطُ عملية إعدام العدو. خطّطتُ أن أقتلَ هذا العدو بالإعدام شنقاً حتّى الموت، لأنّه هو الآخر كان قد خطَّط لقتلي منذ أمدٍ بعيد، أحمله في جيبي بحنانٍ كبير وكأنّه من حميميّاتي، لم أُحْسِسْهِ بفتح باب الحرب عليه، أحببتُ أن تكون حيثيات المنازلة ذات فوائد عميقة، تحمل رؤى جديدة غير مطروقة على مستوى جغرافية الكون، وأحببت أن أكون أوّل إنسانٍ يرتكب جريمة إعدامٍ، تحمل حكمةً لا تخطر على بال. نهضتُ من نومي باكراً، تناولت فطوري وقبل أن أذهب إلى دوامي مررتُ على محلّات النجارة..
عندك مسامير فولاذ خاصّة بالإسمنت؟
أيوه عندي استاذ، لأيّ غرضٍ تريد هذا النوع من المسامير؟
همستُ، وهل يريدني أن أبوح له بسرّي والجريمة الّتي أنوي الإقدام عليها ..
ماذا قلت أستاذ؟
لا .. لا فقط أتمتمُ مع نفسي! ...
طيّب ما أجبتني لأي غرض تريد المسامير؟
بالحقيقة يلزمني مسمار واحد فقط يصلح لأن أثبّته في حائطٍ من الإسمنت.
ولأي غرض؟
كي أعلّق عليه أفكاري؟
ضحكَ، وأعتبرَ هذا نوع من الرمز، نقطة حمراء لا يجوز تجاوزها إلى أسئلة أخرى. قدّم لي عدة أحجام من المسامير الفولاذية، اخترت مسماراً بحدود ثماني سنتيمترات، بحدود طول العدو. مررتُ على الدوام شارد الذهن . كم كنتُ متلهِّفاً إلى تنفيذ حكم إعدام العدوِّ. أسرعتُ الخطى. صَدر غرفتي الفسيحة كان ينتظرني. استقبلني والدي. سألني، أراكَ مستعجلاً على غير عادتكَ، وعيناكَ تقدحان شرراً! .. أنا عيناي تقدحان شرراً؟ أيوه هكذا تبدو. لا .. لا أنتَ غلطان، كل ما في الأمر أنا تعبان من الدوام. عبرت غرفتي، كيف قرأ والدي وجهي، هل فعلاً عيناي تقدحان شرراً؟.. فكَّرت أن أذهب إلى المطبخ كي ألقي نظرة على وجهي في المرآة، لكنّي عدّلت عن فكرتي، تفادياً من إفساد مخططي الّذي خططتُ له منذ فترة غير قصيرة وكلّ أدوات الجريمة جاهزة ولم يبقَ سوى حلول ساعة الصفر!
كانت تمطر مطراً ناعماً، اسدلت الستائر، كان جاكوجي الحديدي على الطاولة، ينتظرني بفارغ الصبر، أخرجت المسمار الفولاذي من جيبي، نظرت في صدر غرفتي، صعدتُ على كرسيٍّ صغير، قدَّرتُ منتصف الجدار وبدأتُ بتنفيذ مخططاتي بعيداً عن أعين الناس، أمسكت الجاكوج وبدأتُ أدقُّ المسمار بدقةٍ، نصفه بالحائط الإسمنتي ونصفه الآخر ينتظر الفريسة، لم يرنّ الهاتف، لأنّي ما كنتُ أصلاً أملكُ هاتفاً، كنتُ أتمنّى في تلكَ اللحظة أن أسمع رنين هاتفٍ عندي، حتّى ولو قطع عليّ مخطَّطي، فجأةً أجدني منجرفاً خلف فكرة الهاتف. تساءلتُ: اثنتي عشرة عاماً وأنا أنتظر دوري في حجز خطّ هاتف، تصارعت الفكرتان، فكرة الهاتف من جهة وفكرة مخطّطي في الجريمة الّتي كنت على وشكَ أن أنفِّذها، تغلّب عليّ هاجس أن يكون لديّ هاتفاً في تلكَ اللحظة. يتوه الإنسان في خضمّ الصراعات الصغيرة والكبيرة، لا يعلم كيف يجد له أرضاً صلباً لتنفيذ مخطّطاته ومشاريعه في الحياة، تشتّتَ ذهني لكنّي كنتُ ما أزال أنزع نحو تنفيذ حكم الإعدام بعدوٍّ مخيف وخطير، نحّيت من ذهني الهاتف ورنينه ورميتُ الفكرة في جعبة النسيان، على أن أعود إليها يوماً وأنا في كامل لياقتي الذهنيّة خالٍ من هموم الدنيا وبعيد عن مسامير الفولاذ وأعداء لا تخطر على بال، ثمَّ توجّهتُ إلى جاكيتي أخرجتُ عدوّي من جيبي، ماسكاً إيّاه من ياقته، نظرتُ إليه قائلاً، كم كنتُ مغشوشاً بكَ أيُّها العدو الليّن داعبتكَ طويلاً، كنتُ معكَ حنوناً للغاية، أقبِّلكَ يوميّاً عشرات القبلات، كيف فاتني أنّكَ تخطِّطُ لقتلي؟.. اليوم وبعد مرور سنوات عديدة أتذكَّر ذلكَ اليوم، كان الوقت مساءً، أمسكتُ عنق هذا العدو القزم وخنقته قبل أن يخنقني هو في مستقبل الأيام، ثمَّ ربطتُ دون رحمةٍ رقبته بخيطٍ من (الساطين) إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، شهقت شهيقاً عميقاً.
الآن تخلّصتُ منكِ أيَّتها اللعينة!.. اليوم يوم ميلادي، واليوم يوم ولادة موتكِ أيّتها العدوّة الطريّة، كنتِ تريدي أن تقهرينني وأنا في كامل قواي! نظرتُ إليها بتلذُّذِ المنتصرين، صعدت فوق الكرسي وعلّقت مشنقتها في مسمار الفولاذ المعدّ لها.
كانت صديقتها الأخيرة تنظر إليّ بارتجاف، أمسكتها وأشعلتها ثمّ وضعتها في منفضة عتيقة وتركتها تحترق في جلدها، يتصاعد دخانها دوائر دوائر، ابتسمتُ إبتسامة الظافرين، ثمَّ بهدوء نبرتُ قائلاً: ممسوحة أنتِ من شهيَّتي إلى الأبد!
أتذكَّر هذا اليوم وكأنّه حدث البارحة، مساء ( 25 . 03 . 1987 )، يصادف تماماً يوم غدٍ، وبعد مرور عام على شنقها، وزّعتُ بطاقات دعوة على الأصدقاء والصديقات، أدعوهم لحضور حفل خاص، بالذكرى السنوية، لولادة موت السيجارة، جاءني الأصدقاء. لم يتخلَّ أحد عن تلبية الدعوة، حتّى أن بعض الأصدقاء غير المدعوين عندما سمعوا بالخبر، كانوا غائصين بدراساتهم الجامعيّة، قطعوا دوامهم ووجّهوا أنظارهم إلى الحفل، قاطعين مئات الكيلومترات، يدردشون ويضحكون طوال الطريق، متخيِّلين المشنقة التي نفّذتُ فيها حكم الإعدام كبيرة، ودار حوارات عبر رحلتهم تخللتها نكات طريفة، وفيما كنّا في عزّ السهرة، نشرب، نرقص و نغنّي، سمعتُ أحدهم يقول لمحاوره بنوع من الدعابة، السهرة ممتعة جدّاً وفكرة الإعدام رائعة، لكن صبري بفكرته هذه خرّب بيتنا! فقال له محاوره، كيف خرّب بيتنا؟ فأجابه، يا شيخ انني مخروم على سيجارة ولا أتجرّأ أن أقترب منها لئلا يرفع صبري عليّ فردة (الرحّان! )، ضحكتُ في عبّي، هامساً لصديقٍ على يميني، ألا ترى أن لدي سطوةً محترمة على نعيم إيليا بشحمه ولحمه، بطل الجمهوريّة في الشطرنج، أضرب واطرح، لا يتجرّأ أن يُدخِّن سيجارةً أمامي، فما وجدتُ إلا أن خرج بعد قليل بطلنا إلى البلكون، وهناك أخذ إمتداده يناغي أخطر عدو في تاريخه، هازّاً رأسه قائلاً لصديقه، ما هذه الفكرة الغريبة العجيبة الّتي هبطت فجأة على بال صديقنا، المعروف بشراهته في التدخين، إنّه شخصيّة محيّرة ومبدعة حتّى في أبسط الأمور. السهرة عامرة، وقف أحدهم قائلاً: يا شباب هناك صديق لم يتم توجيه دعوة له، أجبتهم، لا بأس أن تدعَونه حالاً، فما نزال في مستهلِّ السهرة، لكنّه أضاف .. الموضوع وما فيه أنّ هناكَ هدية من الصديق الغائب، أقلامٌ مناسبة لكتابة القصص، رسالة قصيرة، معتبراً أن الفكرة هي براءة إبداع في طريقة الإعدام! عشنا ليلة مطرّزة بالفرح والغناء، كانت السيجارة وما تزال شاهدةً علينا، ترمقُ إلينا صامتة صمتاً أبدياً.. ومنذ ذلكَ اليوم حتّى تاريخه، لم أدخِّن نَفَسَاً واحداً، لأنني لا أتعامل مع الموتى، إنّما احتفظ بهم في تضاعيف الذاكرة، واضعاً في الاعتبار الاحتفال بالذكرى السنوية لولادة موت السيجارة، يومٌ بهيجٌ ومنعطفٌ طيّبٌ في حياتي، أشبه ما يكون يوم ميلادي!
ستوكهولم: ليلة 24 . 03 . 1987
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]