|
تاجرُ موغادور: الفصل السادس 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6155 - 2019 / 2 / 24 - 21:07
المحور:
الادب والفن
عبقُ أزهار شجيرات البرتقال، كان يشكّل غمامة سكرى فوق صحن الدار، يحملها هوناً النسيمُ الآتي من البحر وصولاً إلى الدور الثاني من الدار، لتتسلل عبرَ قضبان نوافذه، المحبوسة خلفها أنفاسُ ضيوف حفل العشاء. هؤلاء، كانوا قد تحلقوا منذ الساعة العاشرة حول الطاولة العريضة في صالة السفرة. ووفق عادة الفرنسيين، كان من المتوقع أن يبقوا في أمكنتهم حتى قرابة الثانية فجراً. بين لقمة وأخرى من مقدمات الوليمة، راحوا يواصلون مسامراتهم وأحاديثهم. الأطباق الخزفية، كانت تَفْرَغ من أصناف المشهيات، فيهرع الخدم لملأها مجدداً مع إتراع الكؤوس البلورية بالمزيد من الخمور. وكان تاجر السلطان قد اختار مجموعة مناسبة من الأصدقاء، ملائمة لمزاجه أو ربما لإحدى خططه المبيتة. إذ جمع على طرف طاولة الطعام، من جانبيها، كلاً من التاجر الدمشقيّ والرابي. ابن عم هذا الأخير، عيّن له " كره كوز " مكاناً بالقرب من الربّان ثم جلس هوَ بنفسه بينهما. وكانت صاحبة الدعوة تراقبهم أحياناً من مكانها المتميّز، المتصدّر الطرفَ الآخر من طاولة الوليمة؛ هنالك، أين جلسَ رجلها بالقرب منها وراحَ يتبادل الحديث بالإنكليزية مع نائب قنصل بلاده. فجأة، وعلى حين غرّة، انبعثت ألحانٌ محلية من وراء باب الصالة، المفتوح على أختها الكبرى. عند ذلك اندفع إلى الداخل ثلاثة عازفين بملابس البربر، يحمل كلّ منهم آلته الموسيقية البدائية. انتبه " جانكو " إلى أشكال أولئك العازفين، وكان أكبرهم سناً قد بدأ للتو يرفع عقيرته مُنشداً أغنيةً بلغة الشلوح، ليتعرّف فيهم على الحلقة الموسيقية، التي سبقَ أن رأى مرةً أفرادها هؤلاء وهم يشيعون جواً مماثلاً من الطرب في ترّاس مقهى الأرملة الإيطالية. على أثر إنهائه الوصلة الغنائية، همّ كبيرُ العازفين بتسوّل ريالات المدعوين بوساطة يده الممدودة بقبعة الرأس، إلا أنّ سيّدة الدار أشارت له ولزميليه بالانسحاب من الصالة. قال تاجرُ السلطان، وهوَ يومئ بعينيه إلى ناحية مدخل الصالة وكان قد مر منها العازفون الثلاثة: " أولئك البربر، على ما حباهم الرب به من موهبة الفن، إلا أنهم يعيشون حياةً مقترة وبائسة في بؤرهم الجبلية " " إنهم يعبدون المال، تماماً كاليـ....! "، عقّب الربانُ ثم صمتَ باتراً كلمته الأخيرة. أربعة من المحيطين به، كانوا عندئذٍ يركزون أنظارهم على سحنته وكانت قد اصطبغت رويداً باللون الأحمر فبدت مثل حبة طماطم ناضجة حدّ التعفن. إلا أنّ " بوعزة " تكلّفَ ابتسامة بلون آخر، بغية إظهار براءة مقصده أمام أصدقائه اليهود. خاطبه حاميهُ، تاجرُ السلطان، من الجانب الآخر للمنضدة، بنبرة فظة مؤنبة: " تماماً كاليهود؛ أليسَ هذا ما أردتَ قوله؟ ثم تجدُ ذلك أمراً مرحاً، يستدعي ابتسامتك الصفراء! ". ولحظ التاجرُ الدمشقيّ، أنّ زميله في المهنة لم يكن أقل تصنعاً وهوَ يرمي مُسبّبَ الموقف المشين بكلمات التوبيخ. إلى ذلك، كان موقفاً محرجاً بالنسبة إلى " جانكو " نفسه؛ كونه مسلماً، حال الربّان الأخرق. عاد " كره كوز " ليقول، ويبدو أنه نسيَ أيضاً وجودَ المسلم الآخر بقربه: " إنها وإن تكن زلّة لسان، فإنّ من يتحمل مسؤوليتها ليسَ هذا الصيّاد المسكين! بلى، إنه رأي المسلمين بنا. هذا، برغم أننا أول من بشّر بديانة التوحيد على الأرض ". وما لبثَ أن تنحنحَ، ليستدرك قائلاً وكأنما انتبه لنفسه: " وبالطبع، فإن بذرة كراهية اليهود نمت هناك عند القشتاليين الإسبان، وذلك إبّان بداية حملة طردنا مع المسلمين من الأندلس. ثم عاد الأوروبيون لإنماء نبتة الكراهية ضدنا في هذه البلاد، حينَ شرعوا في دسّ أنفهم بشؤونها الداخلية ". سكتَ وتشاغل من ثمّ برفع كأس الشراب إلى فمه، بينما كان يرمق الرابي بنظرة مواربة. إلا أنه ابن العم، مَن بادر للتعليق على ما سمعه. إذ أدار نظرة باردة على الحاضرين، قبل أن يثبتها على صاحب الخطبة المنقضية: " تنحي باللائمة، فيما يتعلق بكراهية اليهود، على الأوروبيين. مع أنهم منذ نهاية القرن المنصرم يحاولون مدَ يدِ العون لطائفتنا في المغرب، وخصوصاً هنا في موغادور. وإليهم يرجع الفضل بحصولنا على الامتيازات في السلطنة العلوية، بل والعديد من مواطنينا صارَ يحمل جنسيتين أيضاً " " المعذرة، فإنك ربما فهمتَ كلامي مقلوباً رأساً على عقب؟ "، استفهمَ تاجرُ السلطان من مجادله ومبتسماً له في شيء من العطف. ولكن المواطن، المزدهي بحمله لجنسيتين، أجاب كاسياً سحنته بذات الهيئة المُصَعَّرة المتعالية: " لا داعي للمعذرة، يا صديقي. لأنني أدرك ما تعانيه ضمنياً كأيّ فرد من جماعتنا، يهتمّ بأمرها حقاً لا قولاً حَسْب ". قال ذلك، فيما نظرته تستقر هذه المرة على ابن عمه الرابي. هذا الأخير، رأى نفسه مدعواً للتعليق على ما سمعه سواءً بصريح العبارة أو باللمز. فقال مستخدماً لهجته الرزينة الهادئة، ناقلاً عينيه بين المتجادلين: " لا أعتقد أنه من الحكمة، التعرّض لموضوع الديانات والأقوام بناءً على زلة لسان من أحدهم. ولنفترض أنها زلّة، يكمن تحت رقّها رأيٌ ثابت عن جماعتنا. فهل نحنُ أكثر براءة، بشأن النظرة إلى مخالفي عقيدتنا؟ بالطبع لا، والتوراة ذاخرة بالدعوات السافرة لإبادة الشعوب المجاورة. برغم ذلك، فإننا نفخر بكوننا من ضحايا التاريخ أكثر من كوننا خطاةً مستعبَدين. عقدة الشتات، جعلتنا في كل مكان حللنا فيه، جماعةً مسالمة تبغي العيش بسلام مع عقيدتها سواءً في حيّ خاص بها أو كأفراد. الإسلام، لعلمك يا ابن عمي، يُشبهنا لناحية النظرة لرعاياه كأمة لا كعناصر اجتماعية لكل منها ثقافته وميوله وتقاليده وأعرافه " قال ابن العم، مقاطعاً: " ولهذا السبب، تحديداً، لم نتمكن من العيش بسلام تحت أي سلطة أجنبية. الأندلس، أعتبرها صديقنا قبل قليل جنةً للتعايش بين معتنقي الأديان المختلفة. فماذا كان مصيرها؟ وهذا سيتكرر هنا أيضاً، حيث نعتبر أنفسنا في فردوسٍ مماثل تحت جناح السلطان العلويّ. فمشاعر الكراهية والحقد، تتنامى ضدنا بين السكان وبالأخص عند العرب منهم. لا يأتي يوم، إلا ونسمع فيه عن مقتل بائع جوّال يهوديّ، أو اختطاف آخر من أبناء ملته. كذلك الأمر في دول أوروبة الأرثوذكسية، وروسيا بشكل أوضح، حيث تشتعل نزعة العداء للسامية! " " إذاً، أنتَ تقول بلسانك أنّ تغيراً يحصل في معاملتنا على مر الزمن. ولكنك تخشى أن نفقد الجنة، مثلما حصل لأبينا آدم. وهذه هيَ عقدة اليهوديّ، الأساسية. إنه يرى الآخرين وكما لو كانوا ما انفكّوا على حالهم منذ زمن التوراة، كنعانيين وفلسطينيين وآشوريين وبابليين، وليسوا أمماً قد تبدلت مفاهيمها على مرّ القرون والأحقاب. المسلمون، كما حال أهل الغرب في القرنين الأخيرين، صاروا يعون إلى اختلافاتهم من الناحية القومية وكف الكثير منهم عن اعتبار الخلافة جامعة لأمة إسلامية واحدة. لقد تسنى لي زيارة المشرق، ثمة حيث تتعايش تلك الأقوام، سواءً المدينة بالإسلام أو النصرانية. فلحظتُ كيفَ يتم قمع تمرد أولئك الرافضين لسلطة الباب العالي، إن كانوا عرباً أو كرداً أو أرمناً أو يونانيين " " وإنها هناك في المشرق جنةُ بني صهيون، الحقيقية؛ فلسطين، أرض الميعاد! نعم، لن يكون لنا مستقرٌ آمن في هذا البحر من الكراهية إلا بالعودة إلى أرض الأسلاف "، قالها لابن عمه في حزم المواطنُ الحامل للجنسيتين.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تاجرُ موغادور: الفصل السادس 3
-
تاجرُ موغادور: مستهل الفصل السادس
-
تاجرُ موغادور: الفصل الخامس 9
-
تاجرُ موغادور: الفصل الخامس 8
-
تاجرُ موغادور: الفصل الخامس 7
-
تاجرُ موغادور: الفصل الخامس 6
-
تاجرُ موغادور: الفصل الخامس 5
-
الرسالة
-
تاجر موغادور: الفصل الخامس 4
-
تاجر موغادور: الفصل الخامس 3
-
تاجر موغادور: مستهل الفصل الخامس
-
تاجر موغادور: بقية الفصل الرابع
-
تاجر موغادور: تتمة الفصل الرابع
-
تاجر موغادور: الفصل الرابع/ 4
-
تاجر موغادور: الفصل الرابع/ 3
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 5
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 4
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 3
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 2
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 1
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|