محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 6125 - 2019 / 1 / 25 - 09:47
المحور:
الادب والفن
الإنسان ... آلة لا تهدأ , آلة تصنف و تربط و تجدول ثم تفسر و تستنبط أفكار و تأويلات و خيالات ...الإنسان, هذا الكائن الغريب العجيب .. لا يمكنه العيش دون حكاية , يموت حين يخرج من الحكاية , فالحكاية غلاف ذاته في هذا الوجود , تحفظه من البدد و تضمن له خلود وكينونة يتداخل فيها العام و الخاص بطريقة ما يصعب الفصل بينهما , فرغم أن البشر ليسوا متشابهين بل متناقضين أحيانا , تظل الحكاية هي العامل المشترك بينهم سواء كانت عن بطل أم لص يسطو على بيوت الناس في غفلة مهم , السرقة بوصفها انتقام و ثأر و تعويض ,مثل هذه السرقة ينبغي أن لا يعاقب عليها القانون كما يتخيل كاظم عبيد و من قبله سعيد مهران بوصفهما نموذجين يمتلكان-من خلال مقتهما للقصور و الخلل في الباراديم- القدرة على خلق مسافة أمان بين بديهيات الحياة و بين أنفسهما.
فلماذا يعاقب القانون على السرقة و لا يعاقب على الخيانة (ليس المقصود هنا خيانة الأوطان قطعا). وعلى قدر ما هو هام وعميق هذا التساؤل , على قدر ما هو ساذج وسطحي إن لم يكن متبوعا باستنتاج يرى أن المحكمة -أي محكمة- مهمتها الأولى تطبيق القانون و ليس تحقيق العدالة .على الأغلب هكذا فهم كاظم عبيد بطل رواية "الحبل" لإسماعيل فهد إسماعيل و قبله سعيد مهران البطل التجريبي في رواية "اللص و الكلاب" لنجيب محفوظ الذي لا يدين بالولاء سوى لنفسه مقابل الوصول للمعرفة الحقيقية "رغم أنه سيفشل في نهاية المطاف فيدقع حياته ثمنا لفشله", . فالقانون -و ليس العدالة-هو المعيار الظاهري لأن هذه الأخيرة مصطلح مطاط قابل للتجاذب و الاستنسابية, وإذا كان سعيد مهران لم يبد أي اعتراض لتطبيق القانون عليه باعتباره لصا , فكاظم عبيد لا يرى ذلك , إنما يصور نفسه كبطل تراجيدي في زمن صعب , مثل إله إغريقي مهزوم , وهو مثل سعيد مهران يمقت , بل يحارب الخيانة و الغدر لكن انتقام سعيد مهران لا يصيب-للأسف -سوى الأبرياء فتتحول حياته إلى جحيم و كوابيس تثقل كاهله فيستسلم , بينما يصل الحنق و الغيظ بكاظم عبيد بأن يسعى بقوة لتفكيك الناقض من خلال طموحه بالظفر بنسمة هواء في فجر يوم بارد تملء رئتيه لينسى أنه ثوري فاشل و مهزوم و ليستعيض عن ذلك بإقناع نفسه بالسرقة كسلوك شريف ففي " الظلام تضيع الأبعاد" ..و هل سوى الظلام صديقا للسارق؟.
يركز إسماعيل فهد إسماعيل , بوعي نشيط ومتماسك لا تنفصل فيه تفاصيل الواقع عن الحقائق المعرفية ,في مقترحه السردي على تفكيك صورة الطاغية بأشكالها المختلفة كافة بوصفها حقب بحث و تجريب و بوصفها كليات , و يبتدأ التفكيك من الصورة الخارجية -أي الحاكم و الشرطي و الأب و الرب والعرف و القانون .... إلخ – إلى الصورة الداخلية -أي الطاغية الجاثم في عقلنا الباطني و الذي يتحين فرصة الظهور و الانقضاض على مفاصل حياتنا في أي لحظة ضعف تراودنا-ولذلك يكون بطله هو على استعداد في أي لحظة للتخلي عن إيمانه ببعض الأفكار أو كلها "الأفكار الأولية التي شكلت جوهر شخصيته" أو تلك التي اكتسبها من التقاليد في بدايات تنشئته , ورغم صعوبة تجاهل مثل هذه الأفكار بل حتى مناوئتها ’ لكنه لا يثق مهزوما أمامها , بل ينقدها ليس ذاتيا فحسب و إنما على الملأ حين لا يرى أي فائدة أو أهمية في أن يكون هناك تناقض ما بين تلك الأشياء المترابطة ، بل يصل به الأمر لأن يرى ذلك -بطريقة أو بأخرى- ،فالمطر حقيقة و تعاقب الفصول و كذلك الخوف و المرض و الموت ...والخيانة و الابداع ..كلها حقائق ،لكنه يراها حقائق عارية ،مسطحة غير ذات عمق، هي هكذا ،الحقيقة الآن وهنا، وتكون مخرجات هذا المأزق عبر التواطىء النفسي و الفيزيولوجي : النفسي لخلق حالة توازن داخلية مع الذات ،والفيزيولوجي لهلق حالة توازن مع البيئة "منعاً من الجنون او الابتعاد قدر الامكان عن حافة الجنون"
يقول لنا إسماعيل فهد إسماعيل أن كاظم عبيد خرج ليلا متخفيا وبعيدا عن الأعين بهدف السرقة (ومثله مثل سعيد مهران , لا يسرق الناس الفقراء) يتجه نحو منزل موظفة في دائرة الموانئ, و يتسلل بخفة إلى داخل البيت مستخدما حبل غسيل كان قد أحضره معه [هو شديد التعلق بالحبل, فالحبل ليس رمزية جامدة , بل أداة تواصل بين ماضيه , و حاضره , بين طفولته و ذكرياته مع أبيه من جهة و واقعه الحالي من جهة أخرى . يتحول الحبل إلى هاجس دائم يطارده منذ أن كان طفلا ,ومنذ أن رأى طرزان يتسلقه ومنذ أن أدمى يديه وهو يحاول تقليده.. والحبل في الأخير وسيلة (سلاحه؟)لاستعادة بعض من حقوقه التي سلبتها منه السلطة , فهو لم ينس بعد وجه الضابط ذو الملامح القصديرية القاسية الذي سلبه عشرين دينارا و زجاجة عطر وخمس علب سجائر كان قد كسبها من عمله الشاق في الكويت حين سلم نفسه للشرطة كي تعيده إلى البصرة .لقد سرق منه هذا الضابط ثروة العمر كله وثمرة الكد والإرهاق فكره جميع رجال الشرطة و قرر الانتقام منهم , ومهما يحاول أن يبرر "إدمانه" على السرقة ومهما يحاول أن يقول لنفسه أنه غير مقتنع بالسرقة كحل أو كأحد الحلول, إلا أنه يجد نفسه يقوم بها على سبيل البحث عن توازن داخلي لذاته المعذبة من أجل أن "أجد التبرير في أني أثأر لنفسي، وأجد التبرير في أني لا أسرق أيا كان" كما يقول. فهو مازال يتذكر باعتزاز مسيرته السابقة و قصيدته التي سجن من أجلها و لكنه في ذات الوقت يتذكر إحباطه بسبب إجباره على التنكر بمواقفه السياسي كمساومة مبتذلة تقوم بها السلطة مقابل خروجه من السجن . ]
يدخل كاظم عبيد إلى البيت الذي يريد سرقته و يصل إلى حيث تضع فيه صاحبة البيت مجوهراتها , فيجمعها و يأخذ معها مبلغ من المال و قنينة عطر , وما إن حاول الخروج حتى تستيقظ ابنة الموظفة ,فتظنه أمها فتعانقه لتغفو من جديد ، و بعد أن يتأكد من نومها يحملها ليضعها من جديد في سريرها (في تلك الأثناء كان قد وضع مسروقاته على وسادة الطفلة). تنام الصغيرة بهدوء و سكينة , يتأمل وجهها" هذا الجمل و هذه البراءة ".. لا يمكن أن يكونا من نسل تلك الموظفة الشرطية , ثم يهم بالخروج .و فجأة يتوقف , يغمره شعور لا يقاوم بمدى غبائه ,للحظة ما أحس أنه مغفل ..مغفل حقيقي و ليس مجازا ,إذ كيف له أن يترك مثل هذه الثروة و يمضي؟ يتوقف , يلهث , يخطو للوراء خطوة أو اثنتين , يقترب من السرير كأنه نسي شيء ما ،يقترب أكثر , يتناول عشرين دينارا من على الوسادة حيث ترك مسروقاته و يخرج مسرعا ليفتح رئتيه على اتساعهما لنسيم الفجر الذي يخترق كل خلايا جسده , يشعر بالارتياح ,و الزهو. شعور أقرب للانتقام حتى بدى له الأمر كأنه استرد بعض من كرامته ، و من حياته السابقة التي سلبت منه ..فعلى الأوغاد أن يدفعوا الثمن , لابد من أن يدفع أحدهم الثمن ,فدنانير تلك السيدة هي ذاتها الدنانير -مع قنينة العطر-( أو لا تختلف ضما و إن اختلفت شكلا ) التي سرقهما منه ضابط الحدود بين العراق والكويت ذات يوم بعد أن أشبعه ضرباً إثر تسليمه للسلطات العراقية من قبل الكويت التي كان قد هرب إليها سابقاً مع خمسة عراقيين وفلسطيني و10 ايرانيين، وعمل هناك في حفر المجاري .
لا توبة هنا و لا مغفرة , بل صراع بين الذات و العادة حيث تتحول رغبة الانتقام إلى عمل شخصي كأنه يقول لنا أن هذا اليسار الذي آمن به ذات يوم و الذي ظهر بمطامح عامة قد انتهي بحلول شخصية مثله مثل الأفكار "العظيمة" الفاشلة.
*كاتب وروائي كويتي ( 1- 1- 1941 – 25 -9- 2018 ), من أهم الروائيين العرب و يعد -حسب موقع ويكيبيديا- المؤسس الحقيقي للرواية في الكويت , أول أعماله المنشورة رواية "كانت السماء زرقاء" 1970 ,و سبقها مجموعة قصصية بعنوان "البقعة الداكنة" 1965, من أشهر أعماله : "المستنقعات الضوئية" 1971, "الحبل" 1972,"النيل يجري شمالا " (جزئين : البدايات 1983, النواطير 1984) , "سماء نائية" 2000, " الظهر الثاني لابن لعبون" 2015 ..وغيرها نحو أربعين عملا بين رواية و قصص قصيرة و دراسة.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟