باور أحمد حاجي
كاتب
(Bawer Ahmed Haji)
الحوار المتمدن-العدد: 6121 - 2019 / 1 / 21 - 13:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أعلن إيفان فيدوروفتش مرةً : أنه ما من شيء في هذا العالم يمكن أن يجبر البشر على أن يحبوا أقرانهم , وأنه ما من قانون طبيعي يفرض على الإنسان أن يحب الإنسانية , فإذا كان قد وجد وما يزال يوجد حب على هذه الأرض , فليس مرد ذلك إلى قانون طبيعي , بل إلى سبب واحد هو اعتقاد البشر بأنهم خالدون , فإذا قُضي على اعتقاد البشر بخلودهم فسرعان ما ستغيض جميع ينابيع حبهم , بل وسرعان ما سيفقد البشر كل قدرة على مواصلة حياتهم في هذا العالم , أكثر من ذلك أنه لن يبقى هنالك شيء يعد منافياً للأخلاق , وسيكون كل شيء مباحاً , حتى أكل لحوم البشر .
في بداية مناقشتنا لهذا الموضوع علينا أولاً أن نُميز بين ثلاثة أفكار يبدو عليهم التداخل فيما بينهم , بحيث من خلالها سنعالج قضية يعد من أصعب القضايا التي مرّ على البشرية منذ القِدم ولا تزال يتردد في العقل الحديث والتي هي : هل هناك حياة بعد الموت ؟ , وقد أصرّ الكثير من الفلاسفة إلى القول أنه لا مجال للتساؤل عن إمكانية الحياة بعد الموت نظراً لتِحلل النظام الجسماني , ولأن النظام العصبي لم يعد له وجود وهو الذي كان يتفاعل مع العالم الخارجي , وبناءً على ذلك أصبحت هذه النظرية غير ذات أساس عقلاني أو واقعي .
الفكرة الأولى : مسألة الخلود , وهي العقيدة التي كانت تخص الآلهة في بلاد ما بين النهرين , والخلود هو الحياة الأبدية دون نهاية أو الموت , فمنذ القِدم داعبت فكرة البحث عن الخلود العقل البشري ولعل جلجامش كان من الأوائل الذين سعوا للحصول على الحياة الأبدية والشباب الدائم , فكم كانت ساقية الآلهة سيدوري تحاول إقناعه بأن يجعل من كل يومٍ عيداً بدلاً من إضاعة الوقت في البحث عن الحياة الأبدية , فالموت هو قدر البشر جميعاً , فكانت تقول له : إلى أين تسعى يا جلجامش . إن الحياة التي تبغي لن تجد . إذ لما خلق الآلهة البشر قدرت الموت على البشرية . واستأثرت هي بالحياة . أما أنت يا جلجامش فاجعل كرشك مملوءاً . وكن فرحاً مبتهجاً ليل نهار . وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك . وارقص والعب ليل نهار . هذا هو نصيب البشر. ولكن عبثاً حاولت هذه الحسناء الجميلة , ومضى جلجامش في رحلته بحثاً عن ضالته , إلاّ أنه عاد خائباً بعد رحلتٍ طويلة وشاقة , فالعشبة السحرية التي تمنح الخلود ابتلعتها أفعى ضخمة بينما كان يستحم في النهر , وفي النهاية عاد هذا الملك المِقدام حزيناً إلى أسوار مدينته الضخمة التي شيدها بنفسه , وأدرك حينها أن هذه الأسوار المتينة هي التي ستخلد اسمه وأنه لا بد أن يموت يوماً .
لا توجد هناك ما يثبت إمكانية عودة روح الميت إلى جسده أو عقيدة اليوم الآخر في حضارة بلاد ما بين النهرين , وهذا ما نجده واضحاً على لسان جلجامش حين يندب صديقه انكيدوا فيقول : آه لقد صار صاحبي الذي أحببت ترابا , وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين. كما وأن عالم الأحياء في نظرهم هو دار الثواب والعقاب وليس عالم الأموات , حيث كان سكان بلاد الرافدين يعتقدون أن الخطيئة قديمة قِدم الإنسان يتعرض لارتكابها دائماً بقصد أو بدون قصد , وارتكاب أي خطيئة ينجم عنه أضرار جسيمة تتجلى في أمرين :
الأولى : يتخلى الآلهة عنه فيقع عندئذٍ فريسة للمصائب والكوارث والأمراض وتتلاشي السكينة والهناء .
والثاني : تقصير أجل الحياة وإحلال الموت بالمذنب عقاباً له على ما ارتكبه من خطيئة .
أما الثواب فهو صفاء العيش وطول العمر الذي يلحق من يفعل الفضيلة والحسنات والأعمال الورعة كالخوف من الآلهة وتقديم القرابين وبناء المعابد , وصنع التماثيل للآلهة , وهذا ما يتجلى في قول سرجون : لحفظ راحتي وإطالة أيامي واستقرار حكمي أركع على الدوام بنفسي في العبادة .
الفكرة الثانية : مسألة العود الأبدي , حيث أن آراء هذه الفكرة ليست مألوفة إلاّ في الأساطير الهندية المقدسة القديمة حول الأبدية والخلود وعودة الزمن وإمكانية التقاء زمن الماضي مع زمن المستقبل في نقطة حاسمة هي الآن , ويتحقق العود الأبدي إذا كان الزمن يسير بشكل دائري وهذا ما دعى شوبنهاور في كتابه ( العالم كإرادة وتمثل ) إلى أن يقول : إن الرمز الحق للطبيعة في كل زمان ومكان هو الدائرة , لأنها أنموذج أو نمط التواتر , تلك في الحقيقة هي أكثر الصور في الطبيعة شمولاً , حيث تضم كل شيء من مسارات النجوم حتى الموت ونشوء الكيانات المنظمة وبها وحدها وفي غمار نبع لا يتوقف عن الجريان من زمان ومضامينه يصبح وجوداً دائماً أي الطبيعة أمراً ممكناً .
وتفترض فكرة العود الأبدي أن الكون والإنسان وكل الأشياء سيُعاد خلقها من جديد بعد موتها , وهذه الدورة الحياتية ليست هي النهاية إذ ستعقبها دورات مشابهة لها وإلى الأبد , فكل دورة حياة تشبه التي سبقتها وكأنها نسخة عنها , فالإنسان وكل الموجودات ستظهر على مسرح الحياة كما كانت في السابق دون زيادة أو نقصان , وأن الأحداث والظواهر وكل النشاطات التي جرت في الحياة ستعود كلها مرة أخرى مشابهة إلى الدورة السابقة , وبذلك يقول نيتشه على لسان زارا : ها أنذا أموت وأتوارى وعما قليل أصبح عدماً فإن الأرواح تفنى كما تفنى الجسوم , غير أن شبكة العلل الدائرة بي ستعود يوماً فتخلقني مجدداً فما أنا إلاّ جزء عن علل العودة الأبدية لكل شيء . سأعود بعودة هذه الشمس وهذه الأرض ومعي هذا النسر وهذا الأفعوان سأعود لا لحياة جديدة ولا لحياة أفضل ولا لحياة مشابهة , بل إنني سأعود أبداً إلى هذه الحياة بعينها إجمالاً وتفصيلاً .
الفكرة الثالثة : مسألة الحياة بعد الموت , لا شك أن عقيدة الحياة بعد الموت أسبق من عقيدة الخلود ومن عقيدة العود الأبدي , فقد اعتقد بها الإنسان القديم حين كان يدفن موتاه , وقد ذكر المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت مرة : إن المصريين كانوا من أوائل الشعوب التي اعتقدت بخلود الروح , فقد عثر على نقوش مدونة على الأهرامات أو ما يسمى بكتاب الموتى الفرعوني ( عن بردية آنى بالمتحف البريطاني ) , تنص على أن النفس خالدة لا تموت , وقد اعتقد المصريون أيام الأسرة الخامسة منذ عام ( 2600 ق.م ) والتي كان أول ملوكها أوسركاف بحياة أخرى وإنها باقية بعد هذه الدنيا الفانية , بل إن دنيانا ليست إلاّ ممراً إلى ذلك الخلود , وكان أوسركاف أول من بني فناءاً للشمس في أبو صير لتقام فيه طقوس للملك المتوفى في إطار عقيدة الشمس التي ازدهرت في عصر الأسرة الخامسة , وقد قام اعتقادهم بالحياة الآخرة على أساسين:
1- إن هذه الدنيا معترك يتنازع فيه الشر والخير والبر والفاجر , وكثيراً ما نرى في هذا المعترك انتصار الشر على الخير وبغي الفجار على الأبرار , فلو لم يكن هناك يوم كله للخير وكله على الشر يُحاسب المسيء على إساءته ويكافئ المحسن على إحسانه ما استقام العدل الإلهي .
2- اعتقادهم في النفس الإنسانية , فهم يعتقدون وجود نفس تنفصل عن الجسم وإن كانت تحل فيه , وأن النفس ذات أربع شعب : إحداها الروح وهي أساس القوى في الإنسان . والثانية : العقل والإرادة , والثالثة : صورة من الأثير أو مادة أدق منه على هيئة الجسم تماماً , والرابعة : الجوهر الخالد السامي الذي يشترك فيه الإنسان مع الآلهة وهو سر الوجود والعلو , وهذه الشعبة من شعب النفس متصلة بعالم الآلهة ما دام الإنسان على قيد الحياة , فإذا مات اتصلت به اتصالاً وثيقاً . أما الروح فهي تظل تتردد على الإنسان في قبره إلى أن يجتاز الحساب ويصل إلى مرتبة الثواب وعندئذٍ تعود إليه فيشعر بما يشعر به الأحياء .
وكان المصريون يعتقدون أن النفس لا تعيش إلاّ إذا كان الجسم سليماً , وسلامته هي التي تجعله صالحاً لعودة الروح إليه بعد أن فارقته بالموت , لذا بذلوا أقصى الجهد في سبيل المحافظة على الجسم وجعله صالحاً لحلول النفس فيه بعد الموت , وهذا ما أدى بهم لأن يخترعوا تحنيط الموتى وبقاء المومياء على هيئة من التماسك وعدم التحلل لكي تعود النفس إلى غلافها , ولقد اجتهدوا مع ذلك في إقامة تماثيل للموتى تشبه أجسادهم تمام الشبه لكي تحل فيها النفس إن كان الجسم غير صالح , وقد عددوا التماثيل للميت الواحد لزيادة احتمال الصلاح فيها فتكون الروح في فسحة من الأماكن فتنتقل من هذا إلى ذاك .
كما كانوا يعتقدون أيضاً أن روح الميت في العالم الآخر يحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء في هذه الدنيا من طعام وشراب , وأن ما يقدم من ذلك في الدنيا قرباناً على أرواح الأموات يفيدهم في الآخرة , ولذلك تكون روح الميت في أشد الألم إذا لم تقدم القرابين من طعام وشراب وما إلى ذلك .
أما عقيدة البرهمية في اليوم الآخر , فتتمثل في حرق أجسام أكابرهم بعد الموت وذلك لأن النار في اشتعالها تعلوا شعلتها إلى أعلى بخط عمودي على أفق الأرض , والعمود أقرب المستقيمات بين السطوح والخطوط , ولذا تتجه الروح بهذا الاحتراق إلى أعلى سائرة باتجاه عمودي فتصعد إلى السماء في الملكوت الأعلى في أقرب زمن , وهناك سبب آخر في حرق أجسام كبرائهم بعد موتهم وهو أن الاحتراق يتم من أجل تخليص الروح من غلاف الجسم تخليصاً تاماً , وذلك أن في الجسم نقطة بها يكون الإنسان وهي متأشبه بالجسم متصلة به فلا تخلص منه إلاّ باحتراق أمشاجه , فعندئذ تتخلص تلك النقطة وهي معنى الإنسان , وبتخليصها تتخلص الروح من الجسم وتعلو عنه لتتصل بجسم آخر أو لتسمو إلى درجة الملائكة إن كانت قد وصلت إلى درجة الخلاص , وإذا تخلصت الروح من الجسم كان أمامها ثلاث عوالم :
أولها : العالم الأعلى وهو عالم الملائكة تصعد إليه الروح إن كانت بعملها تستحق الصعود إليه والخلاص من الجسم والسمو إلى الملكوت الأعلى .
ثانيها : عالم الناس وهو عالمنا الحاضر معشر الآدميين , والنفس تعود إليه بالحلول في جسم إنساني آخر لتكتسب عمل خير ولتتجنب عمل شر إذا كانت أعمالها في الجسم الأول لا ترفعها إلى مراتب التقديس في أعلى علييّن , ولا تنزل بها إلى أسفل سافلين .
ثالثها : عالم جهنم وهذا العالم يكون لمرتكبي الخطايا الواقعين في الذنوب , وليس هناك جهنم واحدة بل لكل أصحاب ذنب جهنم خاصة بمقدار يتناسب مع ذنبهم ومقدار ما فيهم من فسوق عن الدين وخروج من حظيرته .
أما اليوم الآخر في الديانة البوذية فليس له وجود , أو بتعبير آخر لم تهتم هذه الديانة بما وراء الطبيعة , بل كانت كل عنايتها لإصلاح الإنسانية بإنقاذها من الآلام وإبعادها عن ويلاتها برياضة الإنسان على هجر اللذات وتربية الإرادة على إهمال هذه اللذات وعدم العناية بها . فليس عندهم عالم آخر على النحو المعهود في الديانة المصرية أو البرهمية , إنما هو مقاومة للشهوات وتجرد من الأطماع وانسلاخ من الذاتية تؤدي بالنهاية إلى الفناء في روح الأعظم أو ( النيرفانا ) والإتحاد بذات الإله .
وفي بلاد الإغريق القديمة تظهر اليوم الآخر في أوديسية هوميروس حين ذكر الأسطورة أن أوديسيوس هبط إلى الهيدز تحت الأرض وهي مظلمة تهبط إليها أرواح الموتى مباشرة ويقوم عليها الإله بلوتو ويستطيع بعض الأحياء أن يهبطوا إليها بطرق خاصة كما هبط إليها أوديسيوس , وفيها جعل هوميروس ظل أخيل يُعبّر عن وجهة نظره عن الموت لـأوديسيوس وقال : أناشدك يا أوديسيوس الشهير ألاّ تتحدث برفق عن الموت , لقد كنت أوثر أن أعيش في الدنيا كأحقر إنسان , وأبتلع بلقمات قليلات من أن أقيم هنا وأحكم كملك لا ينازع سلطانه أحد في مملكة الأشباح . كما رأى أيضاً في الهيدز الأله مينوس جالساً على عرشه والصولجان الذهبي في يده والموتى يعرضون عليه قضاياهم .
ولا يخفى على قارئ ( مسامرات الأموات ) لـلوقيانوس السميساطي مدى تأثير عقيدة اليوم الآخر على حياة الشعب الروماني وفلاسفتهم , إن لوقيانوس في محاورات الأموات سبق بأجيال عديدة دانتي في ( الكوميديا الإلهية ) وأبي العلاء المعرّي في ( رسالة الغفران ) في الهبوط إلى عالم الأموات واستنطاقهم , غير أنه لم يذهب بأبطاله ليبلغ بهم ما وراء ( نهر الأوقيانوس ) العميق البقعة المظلمة التي يكتنفها الضباب الكثيف حيث تهيم أرواح الموتى كما فعل هوميروس بأوديسيوس أو أوليس , ولم يقسم الهاوية كـفرجيل إلى أقسام حين وضع في كل منها فئة من البشر كالأطفال الذي لاقوا حتفهم ساعة ميلادهم , ثم الأبرياء الذين حكم عليهم بالموت ظلماً , ثم الذين انتحروا ثم كبار المجرمين وتليهم السعداء في مقر النعيم .
ولم يفعل كـأبي العلاء المعّري في ( رسالة الغفران ) الذي نقل بخياله الواسع ابن القارح بطل رسالته إلى الجنة حيث أخذ يطوف به , ولا كـدانتي الذي ساح في عالم الخلد من الينبس فالجحيم فالمطهر , بل لقد كان لوقيانوس في مؤلفه ( مسامرات الأموات ) ينظر إلى حياة الناس وأخلاقهم من على شاطئ الأخيرون ومن عالم الأبدية حيث لا ظواهر مموهة خلابة ولا أوهام مغرّرة خدّاعة , بل نظر إلى الحياة مجردة من ذلك الطلاء الزائف الذي يطليها به المجتمع , وتوصلاً إلى غايته جعل الأموات أنفسهم يتكلمون حين اتخذ الفيلسوف الكلبيّ ديوجين أحياناً ومينيب غالباً وهو متبصر هازل مثّله بطلاً لعدد كبير من محاور كتابه .
أما فرجيل صاحب ( الإنيادة ) فقد جعل إينياس بطل الملحة يدخل مرة إلى العالم السفلي للالتقاء بروح أبيه انشيز لاستفتائها في مستقبله ومستقبل ذريته , ويهبط مع كاهنة تقوده إلى منازل الموتى وقد امتلأت أشباحاً وأرواحاً , ويعبران نهر ستكس وهو نهر في الجحيم ويشرف على عبورها شارون الكئيب الذي يقود أرواح الموتى , ثم تمضي الكاهنة مع إينياس في عالم كله يأس وقنوط وهناك يلتقي بكثيرين من أبطال طروادة , وأخيراً يلقى أباه فينبئه بما قد كتب لسلالته من مجد وفخار .
وفي الديانة اليهودية نكاد لا نجد عقيدة اليوم الآخر فيها , رغم وجود بعض الإشارات الغامضة هنا وهناك في التوراة إلاّ أنها بمجملها لا تثبت الحياة الآخرة , ففي سفر التثنية مثلاً يوجد نصٌ يدل على وجود يوم القيامة ولكن مقصوده مبهم لا يُعرف منه هل يُقصد به الجزاء في اليوم الآخرة أم أن الجزاء يكون في أحد أيام هذه الحياة الدنيا (( ألَيسَ ذلِكَ مكنُوزاً عِنِدي مختُوماً عَلَيهِ فِي خَزَائِني؟ لِيَ النَّقمَةُ وَالجَزَاءُ. فِي وَقتٍ تَزِلُّ أَقدَامُهُم. إِنَّ يَومَ هَلاَكِهِم قَرِيبٌ وَالمُهَيَّآتُ لَهُم مُسرِعَةٌ )) ( سفر التثنيه , 32 : 34- 35 ) , وهناك بعض النصوص في التوراة تشعرنا بوجود هذه العقيدة كما في الآية (( اَلنَّفسُ الَّتِي تُخطِئُ هِيَ تَمُوتُ. وَالِإنسانُ الَّذي ِكَانَ بَارَّاً وَفَعَلَ حَقّاً وَعَدلاً... وَسَلَكَ فِي فَرَائِضِي وَحَفِظَ أَحكَامِي لَيعمَلَ بِالحَقَّ فَهُوَ بَارٌّ. حَيَاةً يَحيَا )) ( سفر حزقيال , 18 : 4- 9 ) , ولا حياة دائمة في الدنيا بل في الآخرة , والآية (( وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرضِ يَستَيقِظُونَ, هؤُلاَءِ إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ, وَهؤُلاَءِ إلَى العَارِ لِلاِزدِرَاءِ الأَبَدِيِّ )) ( سفر دانيال , 12 : 2 ) , والآية (( تَحيَا أَموَاتُكَ, تَقُومُ الجُثَثُ. استَيقِظُوا, تَرَنَّمُوا يَاسُكَّانَ التُّرَابِ )) ( سفر إشعياء , 26 : 19 ) .
إن الآيات التي تذكر اليوم الآخرة في التوراة محدودة جداً ولا تعطي فكرة واضحة عن هذه العقيدة , وقد ذهب محمد الغزالي في كتابه ( المحاور الخمسة ) إلى القول بأنه : نكاد نجد أسفار موسى الخمسة التي تتصدّر العهد القديم وتسمى التوراة , إنها خالية من أي ذكر للبعث والجزاء , خالية من أي ترغيب في الجنة أو ترهيب من النار , كأن مؤلف كتاب ( رأس المال ) لـكارل ماركس هو الذي وضع هذه التوراة ! .
في حين يرى ابن كمونة في كتابه ( تنقيح الأبحاث ) : إنه من المعتقد لدى اليهود أن ثواب الطاعة هو الخلود في نعيم الجنة , وإن عقاب المعصية هو العذاب في جهنم , من غير خلود لمعتقد هذه الشريعة وإن كان عاصياً على أنه لم يبين شيئاً عن ذلك في التوراة تبييناً صريحاً , لكن نقله أحبار الأمة وعلماؤهم ونقله شرعهم , بالغين إلى درجة الاستقصاء في ذكر الجنة والنار ووصف النعيم والعذاب , أو بتعبير آخر أن الصالحين يعيشون في ذاكرة الله والناس إلى الأبد , وهم يقضون حياتهم قريبين من عين الله ويكونون معروفين عند الله , أما الأشرار فلا , هذا كان جزاء أولئك وعقاب هؤلاء .
وفي اللاهوت المسيحي يوجد مصطلح ( إسخاتولوجيا ) أو علم الآخرويات أو علم آخر الزمان , وهي كلمة يونانية الأصل تعني : دراسة الآخرويات يهتم بما يعتقد أنه الأحداث الأخيرة قبل نهاية العالم ومجيء المسيح , حيث أعلن الكتاب المقدس عن وجود قيامتين الأولى والثانية , وأن الفترة ما بينهما هي ألف سنة , تقع القيامة الأولى عند رجوع المسيح إلى هذا العالم ليأخذ شعبه إليه , وتقع القيامة الثانية عند نهاية الألف سنة , فعند مجيء المسيح في القيامة الأولى يكون الأموات من هابيل إلى نهاية العالم في القبور , ولسوف يسمع جميع القديسين الراقدين ذلك الصوت المبارك في القيامة الأولى , أما الراقدون من الخطاة فسوف يسمعونه في القيامة الثانية (( فَإنَّهُ تَأتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسمَعُ جَمِيعُ اَّلذِينَ فِي القُبُورِ صَوتَهُ, فَيَخرُجُ اَّلذِينَ فَعلُوا الصَّالِحَاتِ إلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ, والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قَيِامَةِ الدَّينُونَةِ )) ( إنجيل يوحنا , 5 : 28- 29 ) .
وقيام القديسين والأبرار يكون عندما ينادي صوت الرب (( اِستَيِقِظِي اِستَيِقِظِي!... اِنتَفِظِي مِنَ التُّرَابِ... انحَلِّي مِن رُبُطِ عُنُقِكِ )) ( سفر اشعياء , 52 : 1- 2 ) حينها تدفع جيوش الملائكة كالنسور إلى قبور القديسين وإلى بيوتهم لملاقاة الرب في الهواء , لكي يعيشوا مع المسيح ألف سنة وتلبس روح الأبرار جسداً من جديد وتقوم به لتعيش حياة دائمة مجيدة مع المسيح ويحيون في سعادة إلى الأبد (( مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَن لَهُ نَصِيبٌ فِي القِيَامَةِ الأُولَى. هؤُلاَءِ لَيسَ لِلمَوتِ الثَّانِي سُلطَانٌ عَلَيهِم, بَل سَيَكُونُونَ كَهَنَةً لله وَالمَسِيحِ, وَسَيَملِكُونَ مَعَهُ أَلفَ سَنَةٍ )) ( رؤيا يوحنا اللاهوتي , 20 : 6 ) .
إن اختطاف القديسين والأبرار إلى السماء في بداية ألف سنة وموت الأشرار يترك الأرض خالية وخربة , وخلال هذه المدة يمسي الشيطان مقيداً بلا عمل لأن جميع الأشرار أموات طوال هذه المدة , وعند مجيء الثاني للمسيح يبدأ القيامة الثانية التي يحيى فيها الأشرار وتلبس أجساداً غير قابلة للفناء , حينها يخرج الشيطان من سجنه ليضل من في الأرض بمن فيهم يأجوج ومأجوج الذين يجتمعون معه للحرب ويحيطون بمعسكر القديسين والأبرار من كل جانب , فتنزل نارٌ من عند الله وتأكلهم من أخرهم , أما إبليس فيُطرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحوش والأنبياء الكذبة لكي يعذبوا نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين (( ثُمَ مَتَى تَمَّتِ الأَلفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيطَانُ مِن سِجنِهِ, وَيَخرُجُ لِيُضِلَّ الأُمَمَ الَّذِينَ فِي أَربَعِ زَوَايَا الأَرضِ: جُوجَ وَمَاجُوجَ, لِيَجمَعَهُم لِلحَربِ, الَّذِينَ عَدَدُهُم مِثلُ رَملِ البَحرِ. فَصَعِدُوا عَلَى عَرضِ الأَرضِ, وأَحَاطُوا بِمُعَسكَرِ القِدِّيسِينَ وَبِالمَدِينَةِ المَحبُوبَةِ, فَنَزَلت نَارٌ مِن عِندِ الله مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتهُم. وَإِبلِيس الَّذِي كَانَ يُضِلُّهُم طُرحَ فِي بُحَيرَةِ النَّارِ وَالكِبرِيتِ, حَيثُ الوَحشُ وَالنَّبِيٌ الكَذَّابُ. وَسَيُعذَّبُونَ نَهَاراً وَلَيلاً إِلى أَبَدِ الآبِدِينَ )) ( رؤيا يوحنا اللاهوتي , 20 : 7- 10 ) .
فالقيامة في الديانة المسيحية مرتبطة بقيام المسيح عيسى ورجوعه : (( فَإِن لَم تَكُن قِيَامَةُ أَموَاتٍ فَلاَ يَكُونُ المَسِيحُ قَد قَامَ! )) ( رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس , 15 : 13 ) , ولقد حاول تلامذة المسيح معرفة وقت رجوعه فقال لهم : (( لَيسَ لَكُم أَن تَعرِفُوا الأَزمِنَةَ وَالأَوقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلطَانِهِ )) ( أعمال الرسل , 1 : 7 ) , ولكنه أعطى بعض الإشارات على قيامه وهي ما تكون أشبه بعلامات أشراط الساعة عند المسلمين من الانحطاط الخلقي وحروب (( وَسَوفَ تَسمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخبَارِ حُرُوبٍ. اُنظُرُوا, لاَ تَرتَاعُوا )) ( إنجيل متّى , 24 : 6 ) وكوارث ومجاعات (( وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ )) ( إنجيل متّى , 24 : 7 ) وظهور المسيح الدجال (( حِينَئِذٍ إِن قَالَ لكُم أَحَدٌ: هُوَذَا المَسِيحُ هُنَا! أَو: هُنَاكَ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. لِأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ, حَتَّى يُضِلُّو لَو أَمكَنَ المُختَارِينَ أَيضاً )) ( إنجيل متّى , 24 : 23- 24 ) .
يعتقد المسيحيون أن المسيح بعد أن ارتفع إلى السماء جلس بجوار الأب استعداداً لاستقبال الناس ليوم الحشر ليحاسبهم على ما فعلوه (( لَابُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظهَرُ أَمَامَ كُرسِيِّ المَسِيحِ, لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ, خَيراً كَانَ أَم شَرّاً )) ( رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثوس , 5 : 10 ) , وإن كل إنسان سيقف أمام الله بشخصه وهي عامة لجميع البشر , فيُحاسب الإنسان على أقواله وأعماله (( إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوفَ يُعطُونَ عَنهَا حِسَاباً يَومَ الدِّينِ. لَأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ )) ( إنجيل متّى , 12 : 36- 37 ) .
أما الديانة الإسلامية فتُعتبر الإيمان بعقيدة اليوم الآخر من الأركان الأساسية للإيمان بعد الإقرار بوحدانية الله , بحث لا تقوم هذا الدين إلاّ عليها ولا يكمل الإيمان إلاّ بها ( وبالآخرة هم يوقنون ) ( البقرة : 4 ) , فمعرفة الله تؤدي من وجهة نظر المسلم إلى معرفة مصدر الكون والهدف من خلقه , بينما الإيمان باليوم الآخر تُعرفهُ بمصيره بعد الموت ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) ( البقرة : 281 ) , بل يعد اليوم الآخر في مُخيلة المسلم عالماً بحد ذاته , ولعل الديانة الإسلامية من أكثر الديانات التي عُنيت أو اهتمت بالحياة بعد الموت , فلم يعد العالم الآخر كما كانت في الديانات السابقة التي كانت فقط تصفه , وإنما أصبحت عالماً مصوراً محسوساً حياً متحركاً وشاخصاً , بحيث عاش المسلمون معها عيشة كاملة , رأوا مشاهِده وتأثروا بها واقشعرت جلودهم تارة ( خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسله ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) ( الحاقة : 30- 32 ) وسرى نفوسهم الفزع مرة ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) ( الأنبياء : 103 ) وعاودهم الاطمئنان تارة أخرى ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) ( الأنعام : 82 ) ورف إليهم من نسيم الجنة ( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) ( الزخرف : 71 ) ومن ثم باتوا يعرفون هذا العالم معرفة تامة بكل تفاصيلها من الاحتضار إلى رؤية وجهة الله في الجنة وما بينهما من مشاهد القيامة وأهوالها , لكن رغم ذلك يبقى مجيء يوم القيامة مجهولاً لدى المسلم ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( الأعراف : 187 ) .
من خلال خبراتنا البشرية لاحظنا أنه كُتب علينا أن نعيش لفترة قصيرة جداً مقارنة بحياة الكون ومن ثم نموت , وأن مسألة إثبات الموت الجسمي لا تحتاج إلى براهينٍ وإثبات , ولم نرى عالِماً أو فيلسوفاً برهن مرة أن الإنسان يفنى بجسده , فهو شيء يعرفه الجميع صغيرنا وكبيرنا ونشاهده يومياً إلى حد ما , ولعل أقرب شيء للإنسان يمكن أن تشبهه به هو ( النهر ) الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض وهذا القول يذكرنا بمقولة هرقليطس بأنه : لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين لأن مياهاً جديدة تتدفق فيه . فالجسم الإنساني يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة وهو كالنهر الجاري المملوء دائماً بالمياه لا يمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ فترة لأنه لا يستقر , حتى إنه يأتي وقت لا تبقى فيه أية خلية قديمة في الجسم لأن الخلايا الجديدة أخذت مكانها , وهذا ما أدى بالسيد لنس بالنج الحائز على جائزة نوبل للعلوم إلى القول : أن الإنسان أبدي إلى حد كبير نظرياً كون أن خلايا جسمه تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائياً , ولكن رغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت , ولا تزال أسباب هذه الظاهرة أسراراً تُحيّر العلماء , فكل الخلايا في جسم الإنسان تتجدد إلاّ الخلايا العصبية التي تبقى كما هي دون تجديد , بل حتى الدم التي تجري في عروقنا يتجدد كلياً خلال ما يقارب أربع سنوات .
ويدعي بعض العلماء أن الأنسجة العصبية هي سبب الرئيسي للموت , ولكن هذا الإدعاء ضعيف إلى درجة لا توصف بحيث إن صح هذا القول فمن الممكن أن نزعم أن أي جسم خال من الأنسجة العصبية لا بد أن تحيى حياة أبدية , فلو أخذنا على سبيل المثال : نبات القمح التي لا توجد فيها أي أنسجة عصبية فإنها رغم ذلك لا تعيش أكثر من سنة , وكذلك كائن الأميبا ليس به جهاز عصبي ومع ذلك لا تبقى على قيد الحياة أكثر من نصف ساعة .
ويعتقد ت. ر. مايلز بأن البعث بعد الموت حقيقة تمثيلية وليس بحقيقة لفظية , فيضيف قائلاً : إنها قضية قوية عندي , إن الإنسان يبقى حياً بعد الموت , وهذه القضية من الممكن لفظياً أن تكون حقيقة قابلة لاختبار صحتها أو بطلانها بالتجربة , ولكن المسألة الرئيسية في طريقنا هي أننا لا نملك وسيلة لمعرفة الإجابة القطعية عن هذا السؤال إلاّ بعد الموت , ولذلك يمكننا أن نقيس وقياسه كما يلي : بناءً على علم الأعصاب لا يمكن معرفة العالم الخارجي والاتصال به إلاّ عندما يعمل الذهن الإنساني في حالته العادية , وأما بعد الموت فهذا الإدراك مستحيل , نظراً إلى بعثرة تركيب النظام الذهني .
وبناءً على ذلك يمكن القول : أن الموت هو جزء من النظام الكوني وانه شرط أساسي لاستمرار الحياة , فلا حياة بدون الموت لذلك على الإنسان أن يكون شجاعاً ومهيئاً لها أو كما قال الفيلسوف الروماني سينكا : أن على المرء أن يبقى نعليه في قدميه طوال الوقت , وأن يستعد للرحيل بمجرد إخطاره . فما دام الموت مصير كل حيّ فلماذا نقلق إذاً ؟ برأيي أن أغلبنا يخاف من الموت لثلاثة أسباب :
السبب الأول : لحظة معرفة الإنسان بأنه سيفقد جميع ممتلكاته وجميع أقاربه وأصدقائه وذكرياته , كون أن طبيعة الإنسان اجتماعي لا يحب العزلة ويكره أن يفقد أي شيء يخصه ويمتلكه . ولكن ما دام علينا سواء أردنا أم لم نرد أن نترك كل شيء في النهاية , فلنقتنع ولنرضى بذلك راحة لنا وقد يكون الموت في بعض الأحيان خلاصاً لنا من الآلام والشرور , فلا داع إلى هذا الرهُاب كلها من الموت حيث أننا لا نشعر بالموت إطلاقاً أقصد الموت نفسه وليس أسباب الموت والاحتضار , فكم منا شعر عندما كان طفلاً وأصبح فجاءةً في عمر الشباب بهذا الانتقال ؟ حيث أن الفارق هو مجرد لحظة للانتقال , فكان قبل لحظة بعمر إحدى عشر عاماً وأصبح عمره بعد لحظة اثنا عشر عاماً , أو كمثال الرجل الكهل ذو ستون سنة وأصبح فجاءةً أو خلال لحظات بعمر واحد وستون سنة , حيث دخل في عمر الشيخوخة , فهل يمكن أن نقلق إزاء هذه اللحظات القليلة التي تفرق بين سن الكهل وسن الشيخوخة أو سن الطفولة وسن الشباب ؟ باعتقادي لا .
السبب الثاني : لحظات الاحتضار أو الآلام التي يُعاني منها المحتضر والتي قد تسبب للبعض القشعريرة أكثر من الآلام نفسه بمجرد التفكير فيه , فبرأييّ أن الاحتضار هي مجرد وهم لا أساس لها , وإن صح ذلك فماذا نقصد بالاحتضار ؟ أهي الساعة التي يكون الإنسان بين الموت والحياة ؟ أم هي السنوات التي يعرف مريض السرطان بأنه في مرحلة الاحتضار وبأن أجله قريب لا ريب ؟ , وهل يمكن أن نقول أن الشخص الذي دهس رأسه عجلة سيارة ومات في حينه بأنه كان يحتضر ؟ إذاً ما دام الأمر كذلك فلماذا يرهبنا هذا العدو الرهيب المسمى بـالاحتضار .
السبب الثالث : هي مصير الإنسان بعد الموت أو ذلك العالم المجهول , فسواء كان هناك عالماً آخر كما أؤمن به أو لم يكن فأغلبنا يرعبنا مجرد التفكير فيه , هذا العالم الأرضي الذي ما مجرد أن تفقد الوعي به والتي هي فقط لحظات سوف تنقلك بحسب اعتقادك إما إلى عالمٍ أشبه بعالم الخيال كعالم الذي يرويه لنا باسيل في رواية ( زوربا ) بأنه عندما كان صغيراً كان في كتاب الأبجدية القسم الثاني منه قصّة من القصص الخرافية : وقع طفل صغير في بئر , حيث وجد مدينة جميلة مزدانة بالزهور والورود , ونهراً من العسل وتلالاً من الرز بالحليب وألعاباً ذات أشكال كثيرة , وفي أحد الأيام عدت ظُهراً من المدرسة فأسرعت إلى باحة المنزل , ووقفت على حافة البئر في ظلال شجرة الكرمة , ورحت أحُدّق مأخوذاً بصفحة المياه الصافية , وسرعان ما تصورت بأني أشاهد في تلك المدينة المسحورة , منازل , طرقاً , أطفالاً وكروماً تغمرها الثمار , فلم أعد أحتمل الانتظار , فأنحيت رأسي ضارباً الأرض بقدمي محاولاً رمي نفسي في البئر, إلاّ أنّ أمي وصلت في الوقت المناسب , فشاهدتني وصرخت , وأسرعت لتمسكني من حزامي .
أو إلى عالم الفناء كما يؤمن به الملاحدة وتصبح في عِداد الجماد ولا تذكر أي شيء إطلاقاً , وكأنك لم تلد ولم تعش ولم تكن جزءاً من عالم الأحياء , فهل تتذكر الأحداث التي مرت عليك قبل ولادتك حين كنت لا شيء ؟ . أظن أن الجواب يكون بـ ( لا ) .
من أجل ذلك لا بد أن نعيش ونغتنم الفرص ونتحمل أعباء حياتنا ومسؤولياتنا تجاه الحياة , ويكون مثلنا في هذا الوجود الفارس الذي رسمه الفنان الألماني آلبرخت دورر في لوحته الشهيرة ( الفارس والموت والشيطان ) التي تتضمن فارساً يمتطي حصاناً شاحباً يمر أمام الموت الذي يأخذ شكل مخلوق مشوه يمسك بيده ساعة رملية في إشارة إلى تسرب الوقت وقصر الحياة , كما توجد صورة الشيطان الذي يتربص وراء الرجل متخذاً هيئة مخلوق مشوه هو الآخر له قرن طويل ويحمل رمحاً ويبتسم ابتسامة ماكرة . وفي اللوحة أيضاً أشجار ميتة وجمجمة وسحلية تسير في الاتجاه المعاكس للفارس , وعلى طول الطريق مجموعة من الأهوال والعقبات التي تحاول إعاقة الفارس وإخراجه عن مسار . ولكن الفارس يرتحل في شجاعة عبر طريق الأهوال دونما اكتراث برفيقيه المخيفين . هذه اللوحة تعتبر من أفضل اللوحات التي تعبّر عن الحياة والموت والكوارث والشرور التي يعاني منها البشرية والمصير المجهول الذي ينتظره , وهي من اللوحات المفضلة أيضاً لدى نيتشه الذي شبّه فارس اللوحة بـشوبنهاور حين يمضي بقوة وبعزم غير مكترث بالموت والشيطان .
المصادر
• القرآن الكريم
• الكتاب المقدس
• إلياد , ميرسيا , 1987م : تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية , ج1 , ترجمة : عبد الهادي عباس , دار دمشق .
• إلياد , ميرسيا , 1987م : تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية , ج2 , ترجمة : عبد الهادي عباس , دار دمشق .
• باقر , طه, بدون تاريخ النشر : ملحمة كلكامش ( أوديسة العراق الخالدة ) , بدون مكان النشر .
• دوستويفسكي , 2010م : الإخوة كارامازوف , ترجمة : سامي الدروبي , ج1 , المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء .
• السميساطي , لوقيانوس , 2015م : مسامرات الأموات واستفتاء مَيت , ترجمة : إلياس سعد غالي , المنظمة العربية للترجمة .
• الغزالي , محمد , 1409هـ : المحاور الخمسة للقرآن الكريم , دار الشروق – القاهرة .
• كازنتزاكيس , نيكوس , 2017م : زوربا , ترجمة : أحمد بلسعيد , الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت .
• نيتشه , فريدريك , 1938م : هكذا تكلم زرادشت , ترجمة : فليكس فارس , مطبعة البصير – الإسكندرية .
• هرو , برت إم , 1988م : كتاب الموتى الفرعوني ( عن بردية آنى بالمتحف البريطاني ) , الترجمة عن الهيروغليفية : السير والس بدج , الترجمة العربية : د. فيليب عطية , مكتبة مدبولي – القاهرة .
• هوميروس , 2013م : الأوديسّة , ترجمة : دريني خشبة , التنوير للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت .
• هيرودوت , 2002م : تاريخ هيرودوت , ترجمة : عبد الإله الملاح , المجمع الثقافي - أبو ظبي .
#باور_أحمد_حاجي (هاشتاغ)
Bawer_Ahmed_Haji#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟