|
عشرة طُرق لفهم الفلسفة
سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي
الحوار المتمدن-العدد: 6120 - 2019 / 1 / 20 - 06:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
صديق يسأل: كيف أفهم الفلسفة أستاذ سامح ؟
قلت: هذا يعتمد على طريقة حياتك فلو كنت مهتما ستدرسها ولو بكورسات على الويب ، أما لو لم تكن مهتما فأنصحك بعدم تناولها والاكتفاء بالشروح الميسرة والمقالات من روادها وباحثيها، فشرط تناول الفلسفة هو أن تحبها.
أخي العزيز..اعلم أن أي نتائج سلبية في حياتنا هي نتيجة (لخطأ في التفكير) ومعناه قصور فلسفي في تصور المشكلة..فالفلسفة تعني التفكير العلمي ومنها اعتمد الإنسان على التجربة لفهم الكون، أي بدون فلسفة لن تفهم الكون..لأنك لم تجرب أصلا، والسبب في كراهيتنا للتجريب أننا نقتنع بموروثات دينية واجتماعية خاطئة..هي التي دفعتنا للتفكير الخاطئ..
الفلسفة ترفض يقينك بأن جميع المشكلات قد حُلّت..هي نفسها لا تؤمن بيقين مطلق وتفتح باب الاحتمال دائما، لأنها ببساطة تعمل خارج إطار الزمان والمكان، يعني اعتقادك أن قضايا الأخلاق مثلا تم حلها منذ قرون..هذا غير صحيح، الفلسفة تؤمن أن لكل زمن ومكان أخلاقه ومعاييره...واصطلح على ذلك حديثا بمفهوم "الأخلاق المعيارية" التي تنطلق من واجبات وثوابت المجتمع ، ولها عدة صنوف ك "الأخلاق البراجماتية والعواقبية والفاضلة" وغيرها..وتعني أن شرط نهوض مجتمع اليابان مثلا هو احترام الكبير نظرا لثقافة اليابانيين..لكنه ليس شرطا في أمريكا فيتم المساواة بين الصغير والكبير وتقييمهم بحجم ما أنجزوه من براجماتية..مع أن حضارة اليابان ليست أقل من حضارة أمريكا..بل تفوقها في بعض الجوانب.
وبالتالي الاعتقاد بأن شرط النهوض هو تقليد واستيراد ثقافة وقوانين أمريكا..غير صحيح وعدم فهم للفلسفة..ففي كل مجتمع قيم ومعايير تساعده على النهوض..ومن يتخلف منهم هو عاجز عن استغلال تلك القيم أصلا..أو يمر بأزمة هوية وتغريب يصبح فيها مقلدا لا يستطيع الابتكار..والحضارة بالأصل هي ابتكار.
مشكلة من يريد تعلم الفلسفة في الغالب أنه لا يعرف من أين يبدأ، هل بكتب وروايات فلسفية أم أفلام ومسرحيات هادفة أو قراءة التاريخ، والسبب في ذلك أنه معتاد على رؤية الفلسفة أمر معقد وعلم غير نافع..فتفكيرك الشخصي وخيالك بالأصل هو (فلسفتك الذاتية) أي الأصل في فهم الفلسفة هو (الثقة بما لديك) وقلتها في كتابي الأخير "لا تحقرن من الأفكار شيئا" أي كلمة أو عظة أو فكرة في خيالك مهما كانت صغيرة هي فلسفة..بالتفكير الدقيق والعميق تربط بينها وبين غيرها، لو فعلت ذلك أقولك مبروك أنت الآن تمارس الفلسفة بأسلوبك الخاص.
كذلك مشكلة الفلسفة غير قاصرة عند من يريد تعلمها..بل يعاني منها الباحثين والفلاسفة أيضا، باختصار تجد الواحد منهم بعد الوصول لنظرية أو شرح أصبح باردا..مع الوقت يشعر بالاكتفاء وأنه بلغ مراتب الحكمة..هذا خطير، فالعلم عدو الاكتفاء ويتطلب دائما البحث دون توقف، وعندي أن أقوى الفلاسفة هو أنشطهم..فعقل الإنسان كموتور السيارة إذا تعطل أو وقف لأي سبب يتلف ولا يعمل إلا ببرنامج تأهيل وإصلاح، الموتور نفسه لا يعمل إلا بتسخين وتهيئة أجزاءه على الحركة..كذلك المخ البشري.
رأيي لو كنت فعلا تريد فهم الفلسفة عليك بعدة أشياء:
أولا: الاعتقاد بأن لكل فكرة ومشكلة حل باطن مخفي يحتاج جهدا للوصول إليه، شبهه سقراط بعميلة الولادة..أنت طبيب تريد إنزال "الجنين" دون مشاكل أو تشوهات..وطالما الجنين يعني الفكرة وأن الجنين حديث..فالفكرة أيضا يجب أن تكون حديثة..غير مقلدة، معظم من يمارس الفلسفة الآن – من العرب - هو مقلد لم يأت بشئ جديد...بل منهم من توصف كل أعماله بالتقليد وترديد ما أنجزه السابقون، وهؤلاء وصفتهم قبل ذلك بسلفية الفلسفة.
ثانيا: لا ترفض أي كتاب أو علم أو مذهب لمجرد أنه لا يناسبك أو لديك فكرة مسبقة عنه، فالفلسفة تتطلب منك البحث والمناقشة الموضوعية ، لذا أصبح لفظ فيلسوف إسلامي أو مسيحي غير علمي، فالأصل أنك باحث لم تبلغ اليقين المطلق بعد..وإذا بلغته يفضل فصل مصطلح الفلسفة عن دينك، أي تقول على نفسك مسيحي- مثلا – لكنك باحث فلسفي ما زلت تنقد وتشك.
ثالثا: كن مرتبا في أفكارك ولا تقفز على نقطة دون أن تعطيها حقها من النقاش ، فالعلم تسلسلي يبدأ من فكرة صغيرة كحبة الرمل ويتضخم حتى يصبح جبلا هائلا..حبة الرمل لا يمكنها أن تصبح جبلا إلا بجمع عدد كبير من حبات الرمل، كذلك فالفكرة الصغيرة بحاجة إلى (جمع) عدد كبير من الأفكار الصغيرة لتصبح نظرية وعلم معترف به، وهذه العملية ليست شاقة ..سهلة جدا معروفة في أصول المنطق ب (الاستقراء) ومع سهولتها إلا أنها تشترط الصدق والحيادية والترتيب ليخرج استقراءك صحيحا.
رابعا: الفلسفة لكي تتعلمها لا تلجأ للطريق الصعب، أحدهم بدأ بكتاب "نقد العقل المحض" لإيمانويل كانط، وآخر ب "علم الأخلاق" لسبينوزا، مستحيل أن تفهم..ستكره الفلسفة لأن هذه الكتب مصاغة علميا بمرحلة متقدمة جدا من التفلسف لا يعيها إلا من بلغ المراحل الأولى، ورأيي لو أحببت قراءة الكتب فعليك بكل ما هو عنوانه "مدخل أو طريق أو شرح" وسابقا رأيت في بعض القراء ميل للأدب والقصص فنصحتهم برواية "عالم صوفي" وفيلم "سقراط" على يوتيوب ، فأنت لا تتعلم الفلسفة غالبا إلا بطريقك وهوايتك الخاصة، كذلك فهناك كتب فلسفية صيغت بأسلوب حكائي أدبي ك "اعترافات" جان جاك روسو، و "هكذا تكلم زرادشت" لفريدريك نيتشة، وبرغم أنها فلسفية لكنها مناسبة لمحبي الأدب والخيال والتهذيب.
خامسا: الأساس في الفلسفة هو النقد والشك..ولكي تفهمها يجب أن تقرأ لمن يشك ويتمرد على السائد، لأن العالم يتطور والسائد اليوم قد لا يصلح للغد، بينما البشر يميلون للسائد على أنه صحيح دينيا واجتماعيا، والشك فضيلة وهبها الله للمصلحين والأنبياء..دورك الفلسفي يجب أن يكون متسق مع أدوار هؤلاء في نقد المجتمع وازدراء أي ظلم وجهل يمس الإنسان وحقوقه وعقله، وفي تاريخ الفلسفة يعتبر "نيتشة" أشهر من تمرد وشك وانتقد، لذا فجمهور هذا الرجل من الفلاسفة والباحثين كبير لما يمتلكه من نزعة نقدية، إضافة لأسلوبه الأدبي الجميل أصبح له جمهور أيضا من الأدباء والشعراء.
وللعلم فنيتشة متأثر بشوبنهاور..فيلسوف آخر نقدي وصف بالتشاؤم، وله كتاب في تقريظه ومدحه، يكفي العلم أن شوبنهاور رغم تشاؤمه لكن أكسب جمهوره حكمة عقلية بليغة ودراية بأغلب شئون الحياه، فالتشاؤم عند شوبنهاور ليس مدعاة للحزن والاكتئاب ولكنه طريقة لفهم الكون على أساس نقدي باعتبار أصالة الشر والصراع على البقاء.
سادسا: الفلسفة أيضا هي سؤال..ولا يمكنك التفلسف بدون طرح الأسئلة حتى مع الظن بعدم إمكانية الجواب، فالسؤال فضيلة الفلسفة العظمى، وهو محور فلسفة الأوائل كسقراط وأفلاطون، ويمكن اعتبار أن أغلب علوم الفلسفة الآن تدور بين أسئلتهم عن المادة والحياة والأخلاق والكون والدين..إلخ، صحيح الفلسفة تطورت كثيرا لكن ما زالت تدين بتأسيسها الأول هؤلاء، ويمكنك العروج قليلا على حوارات أفلاطون..فأسلوبه سهل وسلس بمناقشة قضايا حيوية ، وعندي أن كتب الأوائل المؤسسين أيسر للفهم من رواد الحضارة الغربية وفلاسفة أوروبا خصوصا الألمان والفرنسيين، أما الإنجليز والطليان فأسلوبهم أيسر أشبه بأساليب القدماء رغم تطورها ودقتها.
سابعا: قضايا الفلسفة الرئيسية التي تندرج من تحتها أغلب المفاهيم هما قضيتين (الحقيقة والحرية) شرحتهم بإيجاز في كتابي الأخير " الفلسفة هي الحل" لكن لا مانع من الزيادة وأحيلك إلى كتاب "الهروب من الحرية" لإيريك فروم، ناقش فيه الحرية من أغلب زواياها باعتبار أن البشر يتصارعون ويتخلفون بناء على فهمهم الخاطئ للحرية، أما الحقيقة فأفضل أن تقرأ عنها من "الأدب الفلسفي" كما قلت رواية "عالم صوفي" لجاردر، و 1984 لجورج أرويل وعالم شجاع لألدوس هكسلي، علاوة على أعمال ديستوفيسكي وباولو كويلهو ونجيب محفوظ.
ثامنا: الفلسفة أيضا تعني الحكمة، والقراءة في كتب الحكماء (أمثال ومواعظ قصيرة) مهمة للغاية، كأعمال حكماء الصين والهنود والفرس والمسلمين ، هذه تضيف لك بصيرة عقلية نافذة واطمئنان وانسجام روحي مع الكون، وتعطيك القدرة على قراءة الناس والواقع بدقة، فهي إذن ليست مجرد حِكم قصيرة...هذه مدارس لتعلم فن الحياة.
تاسعا: الحكمة تتطلب ثلاثة أشياء هم التاريخ والفلسفة والسلام الروحي، لكي تصبح مفكرا قادرا على الرؤية يجب أن تتمتع بسلاما روحيا وصفاء داخليا قبل كل شئ، فلو لم تمتلك هذا السلام ستطيش أفكارك لتظهر عدوانيا مهما بلغت من العلم، والتاريخ يسرد لك تاريخ المشاكل بالأساس ثم بالفلسفة تصبح قادرا على تحليلها..وعندي أن الفيلسوف العالم بالتاريخ والمسالم هذا أدق الفلاسفة على الإطلاق، وبإضافة النشاط – كما أوضحت في المقدمة – يصبح الفيلسوف وقتها كنز إنساني لا يُقدّر بثمن..
عاشرا وأخيرا: الفلسفة ليست علم بل وسيلة لبلوغ العلم..طريقة تفكير بشرية تختلف من شخص لآخر أحيانا تخطئ وأحيانا تصيب، وهذا يعني أنه ليس الحصول على لقب فيلسوف نهاية المطاف، هناك من يطلق عليهم فلاسفة وهم أغبياء ناقشوا قضايا بتصورات ومقدمات خاطئة - تبعا لطريقة تفكيرهم – كما قلنا – وطالما الجذر خاطئ فالنتيجة حتما ستكون خاطئة، والفلاسفة اليونان هم أولم انتبهوا لتلك الجذور وقامت طرق تفكيرهم على سؤال واحد: كيف تكون ذكيا؟..فالذكاء يتطلب منك الخروج من الصندوق وعدم الخضوع لطريقة تفكيرك الشخصية، وأن تهتم بوجهات النظر الأخرى بمناقشة موضوعية عن طريق طرح الاحتمالات ولو لم يقلها أحد، لكن تصورك لحجج المعارضين والرد عليها هو ذكاء مطلوب.
أرى أن مسببات الغباء لو تم تلافيها سنفهم الفلسفة من أقصر الطرق، فمن أعراض الغباء التعصب والدوجمائية..أي الاعتقاد بفكرة دون مناقشتها ثم تقديسها لدرجة تعنيف كل المعارضين،وأكثر من يعاني من هذا الغباء هم المتشددين من كل الأديان والنماذج، ذلك لأنهم التزموا بأشهر مسببات الغباء ك (التقليد والنسق الواحد) أي يفكرون بنمط وشكل واحد لا يغيروه، هذا يسبب اغتراب للإنسان عن واقعه، ويبدأ في تبني أوهام وعرضها كحقائق غير قادر على تجاوز هذا النمط..رغم أنه لو فكر قليلا سيدرك أن هناك من يدفعه للتمسك بهذا النمط ويستفيد منه شخصيا كرجال الدين والقادة السياسيين أحيانا.
النفس عموما تنزعج من الجديد ولا تسلم له بسهولة، نحن لم نفارق بعض غرائزنا الحيوانية بعد، فالحيوان لو اعتاد على سماع الجرس قبل طعامه وظل هكذا سنوات ثم عرضت له طعاما دون جرس لن يأكل ويظن أن في الأمر خدعة أو خطرا ما..نفس الشئ نحن لا زلنا نرى أي جديد كخطر أو خداع لمصالح آخرين..ثم إذا اطمأننا له قبلناه كما يقبل الحيوان طعامه بعد ذلك دون جرس ولكن بعد جهد ومشقة لإقناعه أن هذا شئ عادي
#سامح_عسكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التطور كصراع بين العلم والدين
-
نظرات في العبودية
-
نظرات في تاريخ وفلسفة الوحدة
-
دراسات معاصرة في الفرق الإسلامية
-
كيف أصبح المسلمون في مصر أغلبية؟
-
موقف الإسلام من المرأة في ضوء آيات المواريث
-
اتّباع الرسول ما بين الفئ والغنيمة
-
الصلاه بدون فاتحة جائزة
-
قصة اللجان الألكترونية
-
في رحاب طه حسين
-
الترجمة وتحدياتها المعرفية
-
عشرة أدلة للعلمانية من الفقه الإسلامي
-
اليمن تعني مأساه
-
اتفاقية بحر قزوين..جدار الحياه
-
مصر ليست للبيع ياتركي
-
دونالد ترامب..المشكلة والعلاج
-
فلسفة عاشوراء..دراسة نقدية
-
الهيمنة الذاتية والموضوعية في الحديث النبوي
-
تعلموا من الشيوخ
-
تطور الصهيونية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|