زياد عبد الفتاح الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 6118 - 2019 / 1 / 18 - 21:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تطرق الجزء الثالث بشيء من التفصيل الى المرحلة التي بدأت مع أواخر الثمانينات (عشية سقوط الاتحاد السوفييتي) مع تحول سلوك النخبة السياسية والطبقية العليا في الغرب الى ما يُعرف بالنيوليبرالية الاقتصادية وتكريس العولمة على الاقتصاد والتجارة الحرة بين الدول .. لتستمر هذه المرحلة الى أواخر العقد الاول من القرن الحالي مع اندلاع الازمة المالية الكارثية التي عصفت بالاقتصاد العالمي عام 2008 والتي أظهرت خللاً هيكلياً حاداً في بنية النظام الرأسمالي الغربي .. حيث شهد العالم بعد اندلاع هذه الازمة مُباشرة تغيرات عالمية كبرى على صعيد الاستقطاب العالمي مع الظهور القوي لروسيا والصين على المسرح السياسي والاقتصادي والعسكري وتحالفهما في إطار منظمة البريكس ليتحول العالم بعدها من جديد ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي الى نظام الثنائية القطبية .
وكانت الازمة المالية الحادة التي شهدها النظام الرأسمالي في الغرب عام 2008 والتي إبتدأت بالانهيار المالي لنظام القروض العقارية في الولايات المُتحدة .. قد استمرت آثارها السلبية الحادة على الاقتصاد العالمي حتى أواخر عام 2010 , ورافقها ركود إقتصادي حاد وتدهور في معدلات النمو وارتفاع في معدلات التضخم والبطالة .. في الوقت الذي سعت فيه النخب السياسية النيوليبرالية والشرائح الطبقية والمالية في الغرب بكل جهدها لاعادة التوازن المالي الى النظام الرأسمالي الذي يخدم مصالحها السياسية الطبقية, وذلك بضخ مئات المليارات من الدولارات في البنوك الكبرى والمصارف المركزية .. وقد تم ذلك ليس فقط على حساب دافعي الضرائب في دول الغرب من الطبقات الوسطى والعاملة والفقيرة وزيادة أسعار المحروقات وتخفيض الانفاق على الضمان الصحي والاجتماعي وتعويضات البطالة ورفع سن التقاعد وتجميد رواتب العاملين في القطاع الحكومي ...الخ , بل أيضاً من خلال المزيد من النهب والهيمنة على إقتصاديات وثروات العالم الثالث بالتعاون مع انظمتها العميلة .. إضافة الى دعم وتمويل مختلف أشكال الفتن والتطرف الديني والعرقي والصراعات المُسلحة في بلدان الشرق الاوسط , وتوريد آلاف الاطنان من الاسلحة بارباح خيالية لالهاء شعوب المنطقة بالصراعات الداخلية والاقليمية وضمان استمرار التمزق وعدم الاستقرار وإحباط أي تحركات وطنية وتحررية في تلك المنطقة .
وفي المُحصلة فقد تسببت النتائج الكارثية اللاحقة لازمة عام 2008 في تزايد الفقر والتضخم والبطالة وتصاعد وتيرة الانتفاضات والتمردات والاحتجاجات الشعبية والاضرابات العمالية بين الطبقات العاملة والفقيرة وفئات العاطلين عن العمل .. وهذا لم يقتصر فقط على بعض الدول الصناعية والاوروبية كاليونان وفرنسا وأسبانيا وغيرها .., بل شمل العديد من دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية, بما في ذلك العديد من بلدان العالم العربي ومنها مصر وتونس واليمن ولبنان والاردن والعراق وليبيا والمغرب والتي شهدت بين أواخر عام 2010 وبدايات عام 2011 انتفاضات شعبية عارمة , امتد بعضها الى أيامنا هذه في العراق (احتجاجات البصرة) وشملت تونس والاردن ولبنان ووصلت مؤخراً الى السودان الذي يشهد حالياً في جميع مدنه وأريافه انتفاضة شعبية عارمة سقط فيها العشرات من القتلى ومئات الجرحى وتطالب بإصرار برحيل عمر البشير وحكم العمالة والفساد الذي يقوده .... أما على الصعيد الاوروبي فقد شهدت ولم تزل العديد من المدن والعواصم الاوروبية احتجاجات وتمردات شعبية غاضبة شملت اليونان وفرنسا وأسبانيا وبلجيكا وبريطانيا ... وقد تصاعدت هذه المواجهات على نحوٍ خطير منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي .. وجميعنا يذكر على سبيل المثال المواجهات العنيفة بين بين عشرات الالوف من المتظاهرين الغاضبين وقوى الامن التي اجتاحت شوارع ومدن اليونان عام 2012 إحتجاجاً على سياسة التقشف التي فرضتها الحكومة اليونانية من خلال المفوضية الاوروبية ومصرف أوروبا المركزي وصندوق النقد الدولي والتي شهدتها اليونان بوتيرة أقل حتى في السنوات الاخيرة .. وربما ما زلنا نذكر حركة التمرد والعصيان التي عُرفت بحركة "احتلوا وول ستريت" في سبتمبر من عام 2011 , والتي قادها في الغالب حركات اشتراكية وشارك فيها الآلاف من العمال والناشطين من الطلاب والطبقات الوسطى والفقيرة وامتدت الى أوكلاند وبورتلاند وغيرها من المدن الامريكية قبل أن تصبح حركة تمرد وعصيان عالمية إمتدت الى سان باولو في البرازيل ومونتريال في كندا والى العديد من المدن الاوروبية , منها لندن وباريس وفرانكفورت وزيوريخ ... كما شاهدنا مُؤخراً الاحتجاجات والتظاهرات الغاضبة بعشرات الالوف التي إجتاحت الشوارع والمدن الفرنسية ولاحقاً البريطانية والتي امتدت كذلك الى بلجيكا, وقادتها حركة السترات الصفر.
ومع نضوج الظروف الموضوعية على الصعيد العالمي لعودة الحيوية والنشاط للاحزاب الشيوعية والماركسية والاشتراكية عموماً بعد مرحلة الركود التي أعقبت أنهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية , وكان هذا بالتأكيد ما تتطلبه سنوات العقد الاخير المليئة بالمُتغيرات السياسية على المسرح السياسي العالمي , واندلاع المئات من الاحتجاجات والمظاهرات الغاضبة والاضرابات العمالية في كافة أنحاء العالم ... إلا أن الاحزاب اليسارية والاشتراكية بمجملها لم تزال تُعاني للاسف على الصعيد العالمي ليس فقط من الضعف والانقسام والتشتت الآيديولوجي , بل كذلك من غياب التنسيق التنظيمي والتعبوي والتحالفات السياسية فيما بينها ... ومن أهم الامثلة على ذلك ما حدث في التجربة اليونانية منذ أربع سنوات عندما فاز حزب سيريزا اليساري في الانتخابات البرلمانية اليونانية .. وهو حزب تشكل عام 2004 من تجمع قوى اليسار الراديكالي والاشتراكي في اليونان .. وقد شكل فوز هذا الحزب حينها حدثاً تاريخياً للاشتراكية العالمية ولقوى اليسار الاوروبي .. ولكنه لم يستطع أن يُحقق الاغلبية البرلمانية التي تُؤمن له تشكيل الحكومة بمفرده بعد ان حصل على 149 مقعداً في البرلمان من أصل 300 مقعد .. وهو في هذه الحالة بحاجة الى 151 مقعد للحصول على الاغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة, وبالتالي كان ينقصه فقط مقعدين ... ولما كان الحزب الشيوعي اليوناني قد حصل على 15 مقعد في البرلمان .. لذا فقد كان بإمكان حزب سيريزا أن يُشكل حكومة إئتلافية بسهولة مع الحزب الشيوعي اليوناني لولا أن الحزب الشيوعي هاجم بشدة للاسف حزب سيريزا بعد فوزه , من خلال مقال طويل تم نشره لعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني إليسيوس فاغيناس وصفاً فيه حزب سيريزا بكونه "عجلة احتياط يسارية للرأسمالية " ... وهنا أضاع قادة اليسار اليوناني في حزب سيريزا اليساري والحزب الشيوعي اليوناني فرصة تاريخية لتشكيل حكومة يسارية بامتياز ودون مُشاركة أي من الاحزاب اليمينية .. وكل ذلك كان بسبب الخلافات الآيديولوجية والسياسية الغير جوهرية والتباين الشكلي حول كيفية التعامل حينها مع أزمات اليونان الاقتصادية .
لذا فإن غياب التنسيق والتعاون وظاهرة الانقسام والصراعات الايديولوجية بين الاحزاب الشيوعية والماركسة والاشتراكية عموماً كانت سمة مُشتركة وظاهرة مألوفة بين أحزاب اليسار في العديد من بلدان العالم ,وقد شهدناها للاسف في بعض البلدان الصناعية والاوروبية في الغرب وتحديداً في اليونان وفرنسا وأسبانيا وألمانيا .. ولا سيما في الظروف الصعبة التي تواجهها جماعات اليسار على الصعيد الاوروبي على اختلاف توجهاتها الفكرية .. وسواء كانت جماعات ماركسية لينينية أو ستالينية أو ماوية أو تروتسكية, أو تقع في أقصى اليسار من الخارطة السياسية ... كما شهدنا هذه الظاهرة أيضاً وعلى نحوٍ أشد في العديد من بلدان العالم الثالث ولاسيما بين أحزاب اليسار في الشرق ألاوسط والمشرق العربي .. فبالرغم من أن شعوب تلك المنطقة تعيش بشكلٍ رئيسي مرحلة التحرر الوطني من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية للغرب والولايات المُتحدة والاحتلال الصهيوني , والتي تتطلب العمال السياسي على الصعيد الوطني والتحرري في إطار جبهة وطنية عريضة , ليس فقط في الميدان القطري, بل أيضاً على الصعيد الاقليمي .. ولكن مع ذلك فاليسار في المنطقة قد فشل بوضوح في تبني استراتيجية الائتلاف التنظيمي والعمل الجبهوي بين الاحزاب الشيوعية والماركسية ومختلف التنظيمات اليسارية, المُعتدلة منها أو الراديكالية .
وإذا كان النضال السياسي بالنسبة لمختلف تنظيمات اليسار يتمحور عموماً في دول العالم الثالث حول النضال الوطني والتحرري أكثر مماهو في إطار الاصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية .. وبالتالي فالنضال السياسي بالنسبة لليسار في أوروبا والدول الصناعية والمُتقدمة يتمحور بشكلٍ رئيسي حول الاصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية .. وهنا يُفترض على مختلف قوى اليسار التي تتمايز فيما بينها ضمن العديد من الاحزاب والحركات السياسية التي تختلف في قدراتها ومقارباتها التحليلية والآيديولوجية , أن تتحد وتتحالف وتنسق تنظيمياً فيما بينها طالما أن التحديات الرئسية التي تُواجهها تتمحور حول التحديات الاقتصادية والطبقية .... وفي هذا الاطار يُمكننا القول أن أحزاب اليسار الشيوعي والاشتراكي في أوروبا هي نسبياً أكثر وعياً عندما يتعلق الامر بتشكيل تحالفات وإئتلافات سياسية مُقارنة بأحزاب اليسار الماركسية والاحزاب القومية الاشتراكية في دول العالم الثالث .
#زياد_عبد_الفتاح_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟