أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عفيف إسماعيل - *الأستاذ محمود.. ولعبة الموناليزا..















المزيد.....

*الأستاذ محمود.. ولعبة الموناليزا..


عفيف إسماعيل

الحوار المتمدن-العدد: 6117 - 2019 / 1 / 17 - 17:57
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    



كان بيت جدّي لأمّي «عبد الله خير السيد» المبني بالطين، بالحيّ الأوسط في وسط مدينة «الحصاحيصا»، رحيماً بنا، حيث ولدت، بقرب جدتي «عطانا» التي لا تعرف القراءة والكتابة لكنها كانت معلمتي الأولى. من حكاياتها الشيقة تعلّمت أسرار الكتابة الإبداعية ومسرح المرأة الواحدة، وتخصيب الذاكرة الانفعالية وشحذها. يسكن معنا في ذات المنزل الرحيب الأخوال «خير السيد عبد الله خير السيد» وأسرته، و«عبد العزيز عبد الله»، و»نصر الدين خير السيد»، إلى جانب الديوان المفتوح للإقامة غير المشروطة لكل الأقارب والأصدقاء وخاصة الطلاب الذين يتم قبولهم بمدارس الحصاحيصا، منهم في ذاك الزمان ابنا العمومة «عبد الرحمن بابكر» و«الحاج السرّاج».

بالجوار بيت الجد «رزق الله عبدو» وأسرته الكريمة التي تركت ملمحاً أسهَمَ في تشكيل تكويني على المستوى الإنساني والمعرفي، فالخلوة المفتوحة على مدار اليوم لكلّ عابر سبيل، وليالي الذِّكر الصوفيّ كلّ يوم اثنين وخميس؛ حيث كنتُ أقوم مع بقية أطفال العائلة بتقديم الخدمات للضيوف منذ ما بعد صلاة المغرب حتى منتصف الليل، وتشمل تجهيز المكان، أولاً رشّ رمله بالماء، ثم فرش البروش، وملء الأباريق ذات اللون الفضي اللامع التي تقف متراصة بانتظام سِيمِتري مثل كائنات هاربة من مركبات فضائية. ثم بعد ذلك تقديم الشاي والزلابية حتى موعد العشاء حيث نقوم بمساعدة كلّ هذه الحشود لغسل اليدين ما قبل وما بعد التهامهم «الفَتّة» الحارة.

هبةً لا تُقدّر بقيمة كان الخال «محمود رزق الله» بالنسبة لي، فهو أولُ مستنيرٍ أعرفه، وهو أول طالب يلتحق بالجامعة من بين الأخوال والأعمام، مهتمّ بالتعليم والثقافة وتنشِئة الصغار بحسّ سليم، منه تعلّمت قراءة المجلات المصوّرة المختلفة وكان يرسلني لجلب الجرائد وما يصله بالبريد من مجلات وكتب من خارج السودان. علّمني لعبة الشطرنج وعمري أحد عشر عاماً، وعندما هزمته لأول مرة بعد شهر كامل من اللعب والمراقبة المستمرّة في إحدى إجازاته الطويلة من الجامعة، ابتسم تلك الابتسامة الفخورة أكثر من ابتسامة مهزوم، أظنّ أنه قد أهداني ذاك النصر المبكر لتعزيز الثقة بالنفس، وتطبيق تلك المقولة الشائعة وهي: «الحوار الغلَب شيخو». وعلّمتني لعبة الشطرنج دورساً عمليّة في الحياة بعد ذلك؛ أن أخطّط لكلّ خطوة وأدرس أبعادها وعواقبها بدقة، وأن أكون جاهزاً دائماً بخطّة بديلة، وبديلاً إسعافيّاً يقلّل الخسائر إذا فشلت الخطة البديلة، ثم خطّة محكمة رابعة لاستعادة التوازن، وخامسة للسير إلى الأمام بلا توقّف مثل بيدق الشطرنج، الذي عندما يصل إلى المربع الثامن يمكن يصير ما يريد. وعندما أُهزم فيها تصير الرقعة واضحة في الذّهن بكل النقلات الخاسرة، فأراجعها خطوة بخطوة حتى أتعلّم من فداحة الخسران، وصار ذلك منهاجي الحياة منذ طفولة باكرة حتى تلمّست أهداب فكر إنسانيّ تعلّمت منه «النقد والنقد الذاتي» بأسُس التخطيط العلمي.
عندما التحَقَ الخال «محمود رزق الله» بمعهد الدراسات التكنولوجية بالخرطوم كانت عودته كلّ أسبوع أو أسبوعين فرحةً غامرةً لنا. قبل أن يذهب ليُنادِم أصدقاءه في المساءات؛ خاصة زميل دراسته في الحصاحيصا الأستاذ الجليل «ياسين عنتر»، يكون قد جمّلَنا بهداياه وكانت في الغالب كتباً ومجلات ملوّنة ننتظرها بفارغ الصبر.

في إحدى المرّات جلب إحدى المجلات المصريّة وكانت مرفقة بالعدد الخاص هديّةٌ عبارة عن صورة بحجم كبير للوحة دافنشي «الموناليزا». جمعَنا في غرفة الديوان؛ شقيقه «النور» وشقيقي «عاكف» و»فضل جابر»؛ ابن الخالة «التايَة بت الشريف». شرَح وأفاض عن جماليات اللوحة وتاريخها الشهير، وعندما أحسّ بألا مجال كي تسكن هذه المعلومات الغزيرة عقولنا الصغيرة سألَنا: هل هناك من يعرف لعبة «الموناليزا»؟ فكانت إجابتنا الجماعية بالنفي المؤكد والتشوّق لمعرفة لعبة جديدة.

فقام بهدوء وعلّق اللوحة على منتصف حائط الديوان، وأمرَنا بأن نقف ثلاثتنا في مقابلة اللوحة وكلٌّ منا على بُعد متر من الآخر، وسألنا: «أين تنظر الموناليزا؟» فأجاب كلّ منّا بأنها تنظر إليه! قال لنا: «تبادلوا مواقعكم». فكانت الإجابة نفسها. ثم جعلَنا واحداً واحداً نسير من ركن الغرفة إلى الركن الآخر، وكانت عينا «الموناليزا» تتابعاننا بهدوء. فصارت تلك لعبتنا لشهور، بعد أن أخبرْنا بها كلّ أطفال الجوار الذين يدخلون من الباب في كافة الأوقات بالمشي جيئةً وذهاباً أمام عينَي «الموناليزا».
الخال «محمود رزق الله»، ذهنه منجمٌ لا ينضب، غنيّ بالأفكار النابضة والمثمرة. وهو ما زال طالباً في الثانوي العالي طلب من الخال «عبد العزيز عبد الله» أن يبني له سبّورة على حائط الديوان. لم يستغرق الأمر بين يديه الماهرتين أكثر من ساعة فاستوت خضراء ذات غبشة أسمنتية. بعد يومين دهنها الخال «محمود رزق الله» باللون الأسود. في نهاية الأسبوع كانت جاهزة للاستعمال بعد أن أعلن عن فصلٍ للكبار لتجويد اللغة العربية وتعليم الإنجليزية. فتجمّع الأخوال والأعمام في باحة الديوان في طقس عامر بالودّ والمرح والمحبّة ينهلون من فيض معرفته ما فاتهم في محطات الحياة.

كان عمري حينها ستّ سنوات، لم أبدأ دراستي الابتدائية بعد، وقد سبقَني شقيقاي «عاطف وعاكف» إلى المدرسة، وكنت أنتظر عودتهما كلّ يوم بفرح وغيرة خفية عندما أراهما يحملان الكرّاسات الكتب والألوان والأقلام في شنط «الدّمّور» الصغيرة، وأتمنى ذاك اليوم الذي لا يريد أن يأتي كي أصير مثلهما؛ أحمل الشنطة وأكتب وأقرأ. فصرتُ أجلس القرفصاء في مؤخرة فصل تعليم الكبار، أمامي على الأرض مساحة مجهّزة بالرمل للكتابة عليها، وكذلك كان يفعل شقيقي «عاكف» الذي تجاوز مرحلة معرفة الأبجدية العربية وكان مهتماً بفكّ طلاسم اللغة الإنجليزية، فصرنا نتنافس في ذلك. التقط الخال «محمود رزق الله» هذا الشغف المبكر، وصار يوجّه إلينا الأسئلة عندما يعجر الكبار عن فكّ حروف كلمة أو نطق جملة في اللغتين، وكانت الإجابة تأتي منا ثنائية الصوت مبهورة الأنفاس ومليئة بالإصرار؛ كلّ منّا يريد أن يسبق الآخر في الإجابة الصحيحة. فيصفّق لنا الجميع. ويضحكون جميعاً أيضاً عندما أحاول بتعثّر قراءة عنوان الكاتب الجنوب أفريقي «آلان باتون»؛ «اِبْكِ يا بلدي الحبيب»، بنُطْق الفعل «اِبْكِ» منسوباً إلى «الأب» وليس «البكاء».

إلى جانب كتاب «آلان باتون» يزخر بيتنا بمطبوعات دار التقدّم ودواوين الشعر لعل أبرزها في ذلك الوقت هو ديوان عنتر بن شداد. وكذلك كانت كلاسيكيات روايات الأدب الفرنسي والمجلات المصرية وبناء الصين، تتوزّع في الدواليب وعلى عتبات الشبابيك. ولا أنسى ديوان شاعرة البطانة «شغبة المرغُمابيّة»، الذي حفظه شقيقي «عاكف» عن ظهر قلب وأكسبه قدرة النظم والقراءة بصوت عالٍ منذ عمر مبكر.

في العام الثاني للخال «محمود رزق الله» بالجامعة في بدايات السبعينيات من القرن العشرين ظهرت في بيتنا بغزارة كتبٌ ذات أغلفة فقيرة الصناعة والألوان وخالية من الصور، لكن خطوط عناوينها تشبه كتابة الخال «محمود رزق الله» على السبّورة. حاولتُ وعمري تسع سنوات قراءة بعضها لكنها استعصت عليّ. أغلب الظنّ ليس لصعوبة لغتها أو محتوى موضوعاتها بل لعامل الخوف في غيبوبة رهبة الاعتقاد الذي كان يتسرّب إلى روحي عندما يحتدم النقاش حولها بين الكبار من الأهل والجيران، وينتهي في الغالب بجملة محفوظة بأن كاتبها الأستاذ «محمود محمد طه» كافرٌ ولا يصلّي! كان الخال «محمود رزق» صبوراً ودوداً يجادلهم بصفاء وهدوء وعقلانية، ويجلب مزيداً من كتب الإخوان الجمهوريين حتى تخرّج في الجامعة.
فور تخرُّجه تم توظيفه مباشرة كمهندس مكانيكي في مشروع «الرهد الفاو»، وصار يأتي بالعربة «الميركال»، زرقاء فخمة تتهادى بين غبار شوارعنا التي لا تتناسب وجدّة العربة. كعادته فرّق راتبه الأول بين الأهل والأصدقاء، وعندما يعود في نهايات الأسبوع يصبح للعطلة معنى مختلف وطعم آخر بوجوده الذي لا يفتر عن إنتاج ما يُفرح ويفيد الناس من حوله، بعد شهور قليلة في وظيفته الأولى نظم رحلة إلى مشتل «قُنِب» لشراء شتلات لتشجير شارعنا في الحي، ورافقه فيها شقيقه الخال «النور رزق الله» وشقيقي «عاطف إسماعيل» والخال «الزين بيّن» وصديقه الحميم «ياسين عنتر» وصديق الأسرة ابن «الحلاوين» الذين يسكن معهم في نفس الحوش «سيف محمد أحمد» الذي كان يعمل في شرطة الحصاحيصا. ذهبوا جميعاً سعداء بآمال الغد، تسبقهم الحياة حافية مثل طفلة ممراحة، عادوا برضوض وكسور وجروح نازفة وحزن راعف لا يهدأ وفجيعة لا تمّحي، لقد اختطف طريق الموت الخال»محمود رزق الله» بين «الحصاحيصا والخرطوم» في منحنى قرية «البطاحين» الشهير بكثرة الحوادث المرورية. لا أدري كيف احتملتنا حزناً يهدّ العمر ويسمّم الأيام ويجعل كلّ شيء بلا طعم. نزفت المدينة الصغيرة دموعها عليه، وأخذ جزءاً من قلبي الصغير معه، لكنه ترك بذرة مضيئة بعقلي تنمو، تشغلها تلك الكتيّبات فقيرة الصناعة والألوان.

صار الخال «فضل الله قسم السيد»، الشهير بـ»الشائب» والمساند سياسيّاً لقوى اليسار، الوريثَ الشرعيّ لتركة الخال «محمود رزق الله» الفكريّة بعد رحيله، فهو معروف باحترام الاختلاف بقوّة الحجّة وحبّ الجدل التي اكتسبها من عمله النقابي وسط عمال محالج الحصاحيصا، وأيضاً من صداقته الحميمة وجلساته المستمرّة بحكم الجيرة والصداقة لأحد الإخوان الجمهوريين المعروفين بالمدينة وضواحيها وهو «أحمد البدوي». فصار ضليعاً في تفسير الآيات القرآنية بطريقة غير مألوفة لعقلي الصغير، ويدافع عن الأستاذ «محمود محمد طه» بضراوة وتمكُّن وإقناع. بعد أن صارت موضوعات تلك الكتيّبات فقيرة الصناعة والألوان تحتلّ زمناً مقدّراً من جلسات العائلة الأسبوعية، أصبحتُ شغوفاً بمتابعة تلك الحوارات المستمرّة بدقة، وأتذرّع بجلب الماء والشاي كي أبقى أطول فترة ممكن بقرب حلقة النقاش التي لا مكان فيها للصغار ووجودهم المزعج للكبار حتى ولو كانوا صامتين.
يوماً بعد يوم، صارت مُخيّلتي الصغيرة تنسج من محيطها المقرّب للأستاذ «محمود محمد طه» شخصيةً أسطورية عملاقة، قطعاً هو أطول من جدي «عبد الله خير السيد» الملقب بـ «جبل بيلا» لطوله الفارع، وأضخم أيضاً من جارَيْنا في الحي «ود الأزرق» و»أبو نورة» مجتمعَين. أحياناً أُلبِسه شخصيات الأبطال اليونانيين والهنود التي تعرضها ملصقات العروض السينمائية، وأتخيّله يأخذ منهم وسامته.

أسراب الحمَام الأبيض انتشرت في طرقات مدينة الحصاحيصا في ذاك النهار السبعينيّ، بوجوه مشرقة نضرة لشابات وشباب الجمهوريين وهم يوزّعون كتيّباتهم فقيرة الصناعة والألوان. تزامَن دخولي إلى بيتنا الطيني، عائداً من المدرسة في صفها الخامس الابتدائي، مع دخول بعض اليمامات من باب السنط ذي الصرير المميّز؛ يمامات لم يفررن من قسورة، بل انبثقن من اطمئنان ثيابهنّ البيضاء المغسولة بحُسن الخُلق والتواضع والبهاء الداخلي الذي تعكسه مرايا وجهوهن المشرقة، وخلقت أرواحهن الرهيفة من الألق والمهابة جسارةً لا تعرف معنى لكلمة «المستحيل»، نساء فارعات يشبهن النساء الجميلات اللاتي أعرفهن من خالات وعمّات وجارات وبناتهن، لكنهن يختلفن عنهنّ بذاك التوثّب ومثابرة الخطو الواثق الذي لا يشبه زمانهنّ المقهور بحصار الموؤودات. جلسن في «الراكوبة» الفقيرة إلى جانب جدّتي لأمي على «البنابر» العارية ببساطة لا تتناسب مع نصاعة بياض ثيابهما النقية مثل ندف الثلج. قالت لي جدّتي بصوتها المرحاب:
- أدّي المدرّسات ديل موية.
ذهبتُ إلى «الفضّية»؛ حيث تحتفظ أمي بطقوم مذهبة لا تخرج إلا في الأعياد والمناسبات الخاصة، وأحضرت الماء وأذني تنصت إلى حديثهن البسيط مع جدتي التي أشعلت نار قهوتها. سألتهنّ أن يعطينني بعضاً من الكتيّبات التي بأيدهن، فنظرن إليّ في وقت واحد ثم إلى بعضهنّ بابتسامة عرفتُ منها أنهنّ يحاولن تقدير عمري، ثم مدّت لي إحداهن كتابين. حتى لا تغيّر رأيها أردفتُ سريعاً سائلاً:
ـ هل يمكن أن أحضر ندوة الأستاذ محمود محمد طه بكره في نادي العمال؟
تبادلن ذات النظرات المبتسمة، وقبل أن أسمع إجابتهن قالت لي جدّتي بصوت حاسم أعرفه:
ـ ما تغَلِّب المدرِّسات يا ولدي وتَخَوْتِن راسهن بأسئلتك الكتيرة ومسيخة دي، خلّيهِن يرتاحَن من الحرَّاية دي شوية.

سرتُ مبتعداً، وكنت أحسّ بابتساماتهنّ ونظراتهنّ تلاحقني، فاعتبرتُ ذلك إذناً لي كي أحضر الندوة في الغد على الناصية الشرقية لبيتنا؛ أي على بعد خمسمائة متر فقط.

نجوم سماء ذاك الليل لم تنَم، وكذلك مخيّلتي الصغيرة التي صارت ترسم صورة الأستاذ العملاق السّمت؛ هل سيأتي راكباً حصاناً أبيض أيضاً؟ لا! ضخامة جسمه لا يحتملها الحصان! إذاً سيأتي على ظهر جمل! لا! الجمال التي رأيتها لن تستطيع الوقوف إذا جلس بثقله عليها! إذن سيأتي راكباً على ظهر فيل! لم أرَ فيلاً في حياتي!! إذن سأرى الفيل والأستاذ محمود محمد طه!

رسمت خطّة محكمة كي أدخل نادي العمال الذي لا يدخله الأطفال، سأرتدي جلباب العيد الأبيض وحذاء العيد الأسود، وأضع عمامة أبي على رأسي وأحمل الكتابين بيدي، فمن يراني سيظنّ أنني زغب صغير أتى مع أسراب الحمام الأبيض. تسلّلت في ذات الليل الذي لا يريد أن ينتهي كي أجرّب ارتداء العمامة، لم أفلح في إحكامها، وكلما حاولت لفّها على رأسي تصير مثل أمعاء خروف يعرضها جزار للبيع بالجملة! كيف يفعلها أبي في أقل من نصف دقيقة؟ إذن لا بديل غير طاقيّة، لا أحد سينتبه إليّ! أليس كذلك؟ خشيت أن تراني جارتنا «مريم طويل» فتطلق دعابتها المأثورة عندما ترى جسدي النحيل يجول وسط الجلباب وتقول لأمي:
ـ أنا ما كلّمتك؟! إنتي قنعانة من ولدك دا ولا شنو؟! ما تلبِّسيه الجلّابية دي! يوم بيجي العُصَار ينفُخَا ويشيله معاه.

كان ليلاً طويلاً مثقلاً بالاحتمالات والهواجس!
ونهاراً أطول منه ومملاً بالمدرسة!
ومهام الغداء بعد العودة من المدرسة لا تنتهي! مهامّ تبدأ مع توقيت بثّ عالم الرياضة بإذاعة أمدرمان حوالي الساعة الثانية وخمسة وأربعين دقيقة، ولا بدّ أن أكون حاضراً لمدة ساعة كاملة لتقديم الخدمات من إحضار الماء البارد والشاي، وتجهيز أباريق الغسيل وبروش الصلاة وأخذ الصحون الفارغة وجلب أخرى مليئة.
أخيراً تخلّصت من عبء الانتظار، بعد ساعة تبدأ الندوة!!
وقفتُ على عتبة بيت الجد «محمد آدم»؛ المنزل الذي وضعتُه كمهرَب في خطّتي ، فهو يجاور نادي العمّال من الناحية الجنوبية، ويقابل نادي الهلال من الجهة الغربية. إذا سألني أحد الأقارب أو الجيران عن زيِّي الممّيز سأقول له إنني ذاهب لأشتري طعمية شهية من «حسن حنتوب» ببوفيه نادي الهلال. والشمس تتكئ ببطء في جهة الغرب إلى المغيب، انتبهتُ إلى أنّ أسراب الحمائم البيض قد بدأت تتقاطر صوب النادي، لكن ليس بينها شخص عملاق! أو فيل مربوط في عمود الكهرباء! خشيت أن يفتضح أمري إذا لم أدخل سريعاً وأذوب بين بيضاء السرب.

وجدت الجموع قد تحلّقت في دائرة كبيرة وقوفاً في منتصف باحة النادي، وهناك من ينشد بترانيم نورانية وصوت صدّاح، ويردّد الجميع معه بتنغيم رخيم يغزو القلب من جهة المحبة. لم أرَ شخصاً يختلف حجمه عن الآخرين! فقلت لنفسي كالعادة سيأتي الشخص المهم مع البداية الفعلية للندوة، فصرتُ أتحرّك خلف الدائرة المتزاحمة، وكلما وجدت فرصة كي أطلّ لأرى ما يحدث أجد في الجهة المقابلة وجهاً صبوحاً مليئاً بالبِشْر يبتسم بلطف عطوف، حوله هالة من الصفاء يعكسها حزن طفيف بعينين رأتا ما لا يُرى! فصرتُ أطوف حول الدائرة الممغنطة بالنشيد الروحي، وكلما وجدت فرصة كي أطلّ من بين الجموع أرى ذات الوجه الصبوح وصاحبه المتلفّح بثوب أبيض ناصع، مثلما يفعل جدّي، يحتل روحي بلطف ابتسامته والنظرة الثاقبة من عين رأت ما لا يُرى. قلت لنفسي: لا بأس سألعب لعبة الموناليزا مع هذا الرجل حتى يأتي الأستاذ محمود عند بداية الندوة. سأتحرّك الحركة الأولى عكس عقارب الساعة وأطلّ ثلاث مرات، ثم مع عقارب الساعة وأطل ثلاث مرات.
ـ هكذا ـ
صار بيننا خيطٌ لا مرئيّ، لعدة دورات صرتُ أطوف بالدائرة ألعب لعبة الموناليزا مع عينيه اللتين رأتا ما لا يُرى وابتسامته العطوفة التي تهدهد المثكول، حتى اكتشف أمري مدير الدار وأخذني بلا رأفة إلى بيتنا قبل بداية الندوة بدقائق.

عدت إلى البيت لأجد جريدة مفتوحة على صورة من كان يلعب معي لعبة الموناليزا قبل قليل، ومكتوب تحتها الأستاذ «محمود محمد طه»!!
ومنذ ذاك اليوم صارت تلك الكتب فقيرة الصناعة غنية المعاني والمحتوى بعضاً من زادي لاحتمال الحياة. ومحبة جامحة لا تفتر تنضح من قلبي وتتدفق صوب الخال «محمود رزق الله» ملهم ذهني للتفتح والاستبصار بين طيّات دياجير الكون.
الآن،
بعد ستةٍ وأربعين عاماً، ما زالت متيّماً حدّ الوله بتلك اللحيظات القصار الماتعة بنادي العمال بمدينة الحصاحيصا!!
لحيظات مرَرْن بسرعة الأطياف!!
ابن الحادية عشر يحظى حظوة العمر بلعبة الموناليزا مع الأستاذ «محمود محمد طه».
تلك اللحيظات التي لا تنتمي إلا إلى بريق قطرة مطر في لسان تائه ظمآن مثلي!!
خلال سنواتي في الحياة التي تشبه حال مركب شراعي يعبر مثلث «برمودا»، كلّما ادلهمّت الأهوال حولي أستدعي تلك اللحيظات القصار بطاقاتها السحريّة اللامرئية المشحونة بدفء إنسانيّ نادر وغريب، لحيظات تجعل الجسد يتشظّى عائداً إلى مكوّناته الأولى، يرشح ويشعّ ويلتصق بكلّ جزئيات الكون، ثم يعود ليتخلّل كلّ الكائنات ويعبرها بلا أثر مشهود يدلّ عليه، ثم يتخلّل الحيويات التي عشتها متعدّد الأحوال من تراب وصلصال متجوّل في أرواحي من فضاء إلى فضاء، ومن ضياء إلى ضياء، فأتوحّد به معه فأُولَد بعد كلّ نيرڤانا من جديد.


*من كتاب "نثراتٌ من عطر الغائبين" ، دار الريم للنشر والتوزيع- الخرطوم ٢٠١٨م



#عفيف_إسماعيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اسامة الفَراح عوان الحِله
- وتَبقَى طفلةُ العصافير الموسميّة*
- وداعا النقابي الجسور وسيم الروح فاروق احمد -جدو-
- من وصايا الشهداء
- تَشبَهي العيد في بَلَدْنا
- صور شعبيّة.. وقسم السّيد أدفريني*
- وداعا ..زوربا السوداني(2-2)
- مُسامرة من وراء المحيط..محمود.. أرق المهووسين
- وداعاً زوربا السوداني1
- لوحة2
- مُسامرة حوارية مع الفنانة المغنية د. ياسمين إبراهيم
- رنين الحنين على أجنحة نوارس عائدة أو نغم أخضر
- مسامرة حوارية- جريدة الحصاحيصا
- زهور ذابلة
- إندماج أم إقصاء؟!
- مبادرة -برانا- الثقافية
- نورس حط على القلب
- المتشظي
- عازف البيانو الأعمي في ميدان فورست او ظل بلا اثر
- الشاعر المصري حلمي سالم.. وفقهاء الظلام


المزيد.....




- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...
- في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در ...
- حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
- تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا ...
- تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال ...
- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عفيف إسماعيل - *الأستاذ محمود.. ولعبة الموناليزا..