|
مأزق العلمانية
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 6109 - 2019 / 1 / 9 - 15:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما الذي يسوغ أن يقال في تعريف الدِّين؟ ألا يسوغ القول فيه: إنه نشاط روحي – عقلي يتزمّل ببُجُدٍ نسجُها عبادات وطقوس؟ بلى، فلما كان كذلك أي نشاطٌاً - والنشاط حركة فكرية ذهنية - فإنه لا مناص له من أن يظهر في جملة من الصور والأفعال المحسوسة؛ وفي أنماط من السلوك معلومة، وإلا كان منعدم الوجود؛ لأن الفكر الذي إن لم يكن ممكناً أن يتصور في صورة محسوسة، كان من المحال أن يكون له وجود أصلاً، إلا في الخيال: ففكرة السجود لصنم من الأصنام، على سبيل المثال، تستلزم أن تتحقق في حركة لها صورة محسوسة مرئية ترسمها هيئة الساجد؛ كي يصح ألا تكون فكرةً خيالية. وكذلك فكرة الإحسان، فإنها تستلزم أن تتجسم في هيئة إنسان يمد يد العون لإنسان آخر من جنسه، أو يمدها لحيوان أو يمدها لنبات حي. بل إن فكرة الخالق تستلزم الظهورأيضاً، أو التجسد أو التجسم في صورة مادية تدركها الحواس الخمس، وإلا كانت محضَ خيال. وشأن هذا النشاط الفكري في وجوب تجسّمه بفعل من الأفعال المادية، ومسلك من المسالك المرئية، كشأن الايديولوجيات السياسية – الاجتماعية تسيّر حياة المنتمين إليها وفق منهاج من السلوك يوائم رؤاها؛ ومنهاج يتوافق مع مبادئها النظرية. ومثال ذلك فكرة (الحرية) التي إن لم يكن لها ألبتة أن يكون لها معنى ملموس يجسده بشرٌ أحرار؛ فليس لها أن تكون حينئذ غير فكرة بمنزلة الألهوّة مما يصنع الخيال. وللدين تأثيرٌ عظيم في حياة معتنقيه الروحية – الدنيوية إلى حد أنه ربما دفعهم إلى التضحية بأنفسهم على مذبحه المقدس بأريحية تثير الإعجاب، وبأريحية تثير الدهشة. ولكن عظم تأثيره فيهم، لا ينبغي أن يوهم بأنه يحول دون تأثيرهم، هم، فيه. كلا! فإن تأثيرهم فيه حقيقة مسلَّم بها من حقائق الواقع إن أنكرها منكرٌ؛ فقد أنكر الواقع الذي لا ينكره إلا العديم، أو الذي له في إنكاره إربة. ومن أمثلة تأثير الدينيين في أديانهم: تعدد المذاهب في الدين الواحد، وتعطيل الحياة المتجددة لشريعة ما عتيقة من شرائع الدين، إذا ما أمست هذه الشريعة معوقاً يعوق الحياة عن التجدد... وما تأثير الدينيين في أديانهم، في حقيقة الأمر، إلا هذا المبدأ الذي يطلق عليه دون حرج اسم التطور، وإن كان كثير من أتباع الأديان ذات الطبيعة المحافظة، يجحد أن يكون دينه عرضة بأية حال للتطور؛ لأن التطور، بما هو مصطلح لفظي، يرادفه مصطلح التجديد أو الإصلاح أو التغيير. وهو، بما هو مصطلح معنوي، مبدأ ينطوي على فكرة إذا ما تُؤمِّلت، وُجدت تمثّل حركة تتصف بأنها تصاعدية إيجابية لا بأنها تراجعية تقهقرية سلبية. والحركة التصاعدية (الإيجابية) المقصودة من هذا الوصف المحدِّد، هي الحركة المعبرة عن روح وطبيعة عصرها، وهي الحركة التي يجب أن يتمثل فيها الخيرُ العام. ونقيضها، الحركةُ (السلبية) النابية عن روح وطبيعة عصرها، هذه التي إنما بحكم نبوِّها عن روح عصرها، ليس لها إلا أن تكون جالبة لكل ما هو ضار منكر من البوائق والشرور. والقول بعمومية الخير ههنا، توكيد لوجوب أن يكون الخير المذكور عاماً يشمل الناس كافة؛ كي يكون له أن يكون مستحقاً أن يعد خيراً حقاً. فإن الدين الذي يقصر خيره على أتباعه، ولا يراعي أن يوزعه على غير أتباعه، لا خير فيه للإنسانية بما هي مفهوم دال على البشر كلِّ البشر على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم؛ ولا خير فيه للمجتمعات التي تتعدد فيها الأديان والمذاهب على وجه التخصيص. فإذا كان دين في مجتمع متعدد، يقصر خيره على أتباعه دون سواهم من أتباع الديانات الأخرى، فقد غدا من جهة حجةً على أتباعه أن ليس هو من مصدر إلهي؛ لأن الله - إن وجد- لا يعقل أن يفرق بين البشر، وهم مخلوقاته، في توزيع آلائه، حتى لو كان بعض هؤلاء الخُلقاء كافراً به، ملحداً في وصاياه. وانطلاقاً من هذا المبدأ، مبدأ التطوير والتجديد والإصلاح، وباعتبار أن هذا التطوير أو التجديد أو الإصلاح، حركةٌ إيجابية يتمثّل فيها خير المجتمع عامة، تبيح العلمانية في بلدان الغرب لنفسها أن تنقض بعض مبادئها، كمبدأ حرية الاعتقاد، إذ تهتف بأتباع الديانات الذين يرفضون بأنف حميّ أن تمسّ أديانهم بأقل تعديل أو تطوير أو تغيير، حتى لو كان لهم في هذا التعديل والتطوير والتغيير، خير كثير.. تهتف بهم أن عليهم أن يصلحوا ما رثّ من دينهم وأمسى في معانيه نقيضاً لمعاني الحياة الجديدة من مثل كراهية من يختلف عنهم في العقيدة أو المذهب – والكراهية هي المصنع الذي ينتج العنف والإرهاب - ومن مثل قمع نسائهم وزجرهن عما هو حقّ من حقوقهن، أو واجب من واجباتهن منصوص عليه في دساتير بلدان الغرب، وغير ذلك مما هو كثير. ولكن ثمة اعتراض غير خفي يتساءل: أليست مطالبة أتباع الديانات هذه التي ليست على وئام مع قيم العلمانية بأن يطوّروا أديانهم أو يصلحوا ما فسد منها ونبا عن روح العصر، أكثر من خرق لمبدأ حرية الاعتقاد؟ أليس في هذه المطالبة، فرض أن يلحدوا عن أديانهم؟ وذلك أن هؤلاء الأتباع، حين يستجيبون لما يطلب منهم، فإنهم يكونون بهذه الاستجابة، أقرّوا بأن دينهم إن هو إلا نشاط إنساني خالص؛ فإنه لو كان من عند الله، لكان كل ما بين دفتيه حقيقةً مطلقة، والحقائق المطلقة، كما هو معلوم، ثابتة تأبى على التطوير والإصلاح والتغيير.
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بين الدين والأفيون من ضروب التشابه
-
حقيقة ما جرى في قرية الفردوس
-
مشكلة المعرفة لدى ايدن حسين. (دحض المثالية)
-
ياء ميم، ياء ميم الست مريم وصاحبها كريم
-
خالق الموجودات
-
مارس وفينوس
-
حَدُّ المادة وأصلها
-
صلوات حب على مدار العام 2
-
صلوات على مدار العام 1
-
في البدء كان الكلمة 2
-
في البدء كان الكلمة
-
رجع الكلام على ما تقدم من القول في المعنى
-
لاهوت التنزيه
-
مناظرة المسيحي والمسلم
-
قصة التحولات الفجائية 7
-
قصة التحولات الفجائية 6
-
قصة التحولات الفجائية 5
-
قصة التحولات الفجائية 4
-
قصة التحولات الفجائية 3
-
قصة التحولات الفجائية 2
المزيد.....
-
جنسيات الركاب الـ6 بطائرة رجال الأعمال الخاصة التي سقطت وانف
...
-
الدفعة الرابعة في -طوفان الأحرار-.. 183 فلسطينيا مقابل 3 إسر
...
-
-كتائب القسام- تفرج عن أسيرين إسرائيليين وتسلمهما للصليب الأ
...
-
بعد 50 يومًا من التعذيب.. فلسطيني يعود بعكازين إلى بيته المد
...
-
توأم الباندا في حديقة حيوان برلين: التفاعل بين الأم وصغيريهْ
...
-
دراسة تكشف حقيقة الفرق في الثرثرة بين الرجال والنساء
-
هل صورك الخاصة في أمان؟.. ثغرة في -واتس آب- تثير قلق المستخد
...
-
تاكر كارلسون يصف أوكرانيا بـ -مصدر الجنون-
-
لا يوم ولا مئة يوم: ليس لدى ترامب خطة سلام لأوكرانيا
-
الصداقة مع موسكو هي المعيار: انتخابات رئيس أبخازيا
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|