|
لقشة من الدنيا: فيلم الممنوع
وائل بنجدو
الحوار المتمدن-العدد: 6099 - 2018 / 12 / 30 - 06:20
المحور:
الادب والفن
إحدى أهمّ فوائد السينما أنّها تقدِّم لنا فرصةَ لقاء أشخاصٍ لن تُسعِفنا مساراتُ حياتنا وظروفُها في أن نلتقيَهم، وأن نعيشَ من خلالهم مغامراتِهم وآلامَهم.
هكذا كانت كاميرا المخرج نصر الدين السهيلي في فيلمه، لقشة من الدنيا. لكنّها لم تكن نافذةً يقتحِم من خلالها المتفرِّجُ عالمًا مخفيًّا فحسب، بل عرضتْ عليه أيضًا عالمًا يخاف منه ويخشى الاقترابَ من الفاعلين فيه: إنّه عالمُ المُهمَّشين، الذي يمثِّل جزءًا من الحياة (أو لقشةً من الدنيا) المعقّدة والقلِقة في العاصمة، تونس.
في أحد الأحياء الشعبيّة، وفي قاع الهرم الاجتماعيّ، يعيش بطلا الفيلم، رْزُوقة ولطفي، حياتَهم التي يُمَثِّل "الممنوعُ" (بالمقاييس الرسميّة) عنوانَها الرئيس: الحبّ المثليّ واستهلاك المخدِّرات. كلّما ارتفع منسوبُ الممنوع ارتفع منسوبُ العنف. وهذه المعادلة جعلت العنفَ اللفظيّ والجسديّ مسيطرًا على أغلب لحظات الفيلم، وبخاصّةٍ العنف الذي يمارسه رْزُوقة ضدّ لطفي ــ ــ وهو عنفٌ جاء تعبيرًا عن عدم تصالح رزوقة مع ميوله المثليّة، وتفريغًا لشحناتٍ ضدّ من يُمثّل (في نظره) "موضوعًا" لتلك الممارسات.
ولا بدّ في هذا الصدد من التذكير بأنّ التجربة المِثليّة كثيرًا ما تُعاش بتأنيب ضميرٍ في بلدنا، الذي لا يزال المِثليّون فيه يلاحَقون قضائيًّا ويُعتبرون "موصومين."
على أنّ النزوعَ إلى الهيمنة والإخضاع لم يكن الوجهَ الأوحدَ للعلاقة بين البطلين، بل كانت بينهما لحظاتُ حبّ بسيطةٌ وعطفٍ وإحساسٍ بالذّنْب لدى رْزُوقة؛ ذلك لأنّ هذا الأخير يرى نفسَه مسؤولًا عن تعليم صديقه تعاطي مادّة السُّوبيتاكْس، ووقوعِه فريسةً للإدمان، وإصابتِه بالتهاب الكبد الفيروسيّ.
على هذا النحو تتسرّب إلى المُشاهد المشاعرُ المتناقضة التي تعيشها شخصيّاتُ الفيلم: فيتملَّكه حينًا الحزنُ تجاه واقعهم البائس، وتسيطر عليه حينًا آخرَ مشاعرُ النقمة والغضب ضدّ رْزُوقة. وهذا ما ينتزع المتفرّجَ من دائرة الحياد تجاه القضايا التي تدُور رَحاها على أرضيّة التهميش الاجتماعيّ، من قبيل المثليّة والإدمان.
***
هذا الفيلم لا يَخْضع لمنطقٍ سرديّ واضح، شأن الأفلام الروائيّة المعتادة. كما أنّه ليس فيلمًا وثائقيًّا بالمعنى المتعارَف عليه. لقشة من الدنيا تسجيلٌ لواقع قاسٍ، بلا تزييفٍ أو تزْيين. ولهذا غابت الموسيقى التصويريّة وباقي المؤثّرات البصريّة والصوتيّة، وجرى الاعتمادُ على تقنيّة التصوير بالكاميرا على الكتف، من دون استعمال مُعدّاتٍ قد تُربِك شخصيّاتِ الفيلم وتُفقِدهم عفويّتهم. وهذا ما يُغرق المُشاهدَ مباشرةً، ومن دون مقدِّمات مُملّة، في مياه الفيلم، الملوَّثةِ بالعنف والإدمان، والمُعطَّرة بالحبّ والصداقة.
بعض المُشاهدين اختار إنقاذَ نفسه من ذلك الغرق بمغادرة القاعة قبل انتهاء العرض. لكنّ الأكثريّة، على الرغم من تعرُّضها للصدمة منذ اللحظة الأولى، آثرتْ مواصلةَ السباحة الخطرة حتّى النهاية. وهذا ما يُعَدُّ نجاحًا للمُخرج، إذ تمكّنَ، في الوقت ذاته، من أن يَرُجَّ المتفرِّج رجًّا وأن يشُدَّه إلى كرسيّه حتّى المشهد الأخير.
في هذا المشهد الأخير يَخرج لطفي باكيًا من المنزل الرثّ الذي يُمثِّل ملجأً لشخصيّات الفيلم، ويسير بضعة أَمتار، ليجد نفسَه في أحد الشوارع الرئيسة للعاصمة تُونس. وهنا نكتشف أنّ عالم تلك الشخصيّات، المُغلق والمهمَّش، ليس سوى تفريعٍ من تفريعات "عالم المركز،" وأنّ هذين العالميْن ليسا منفصليْن، بل إنّ أحدَهما (المركز) هو من أنتج الثاني (الهامش). إنّهما، في الحقيقة، وجهان لصورةٍ واحدة: صورةِ مجتمعنا، التي لا نرى في الغالب غيرَ وجهها الرسميّ، ونغُضُّ بصرَنا عن رؤية الوجه المُظلم الذي يُقلق راحتنا.
والحقّ أنّ العلاقة بين عالم المركز وعالم الهامش ليست فقط علاقةَ انبثاق أحدهما من الآخر في إطار منظومةِ حُكمٍ تنتِج التفاوتَ واللامساواةَ في كلّ مناحي الحياة، بل تتخطّى ذلك لتكُون علاقةَ هيمنةٍ وإخضاعٍ ورسمِ حدودٍ للمُهمَّشين، يُمنَع تجاوزُها، وتضمن بقاءهم في قاع المجتمع.
حين صرخ رْزُوقة، بعد أن أحرقت النارُ ملجأه هو وأصحابه، مُعتبرًا أنّ سبب الحريق هو الأوساخ التي يكدّسها الناسُ قربه، كانت صرختُه تعبيرًا عن محاولته التمرّدَ وتخطّيه تلك الحدودَ. فجاء الردُّ بإيقافه سبعة عشر يومًا. هكذا يقول المركزُ للمهمَّشين: أنتم في الأسفل وعليكم أن تبقوا هناك، وكلُّ محاولة للصعود ستكلّفكم غاليًا.
***
هذا الفيلم حقيقيّ جدًّا. والحكاية هنا هي مَن صَنع الفيلمَ، وليس الفيلمُ هو مَن أنتجها. إنّها إحدى حقائقنا العارية التي علينا النَّظرُ لها... وإنْ كان وهجُها مُضرًّا للأعين.
#وائل_بنجدو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تونس العرجاء: حول التناقض بين الساحل والداخل
-
كيف تصبح وزيرًا؟
-
تونس: أتمنّى أن يفشل رئيس الحكومة
-
دفاعاً عن كرامتنا
-
مُبادرات الحياة
-
الإنتفاضة الطّلابية 5 فيفري 1972 :الظّروف، الأسباب، النّتائج
-
تونس : عن الصراع داخل الحزب الحاكم و تداعياته
-
التّدخّل الرّوسي: جولة الضّرورة قبل تسوية الضّرورة
-
تونس: المواجهة الكاذبة للإرهاب
-
تونس في قبضة اليمين
-
مات عبد الله بن عبد العزيز وبقي آل سعود
-
القنيطرة: عَيْنٌ على سوريا وعلى فلسطين
-
قراءة في نتائج الإنتخابات التشريعية و الرئاسية التونسية
-
الانتخابات الرئاسية التونسية بعيون حركة «النهضة»
-
حركة «النهضة» خطر في الحكم وفي المعارضة
-
فوضى الإعلام التونسي
-
تونس : الإنتخابات ليست حلاًّ
-
عن مواجهة الإرهاب
-
رؤوس أقلام
-
لحظة الإنحياز
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|