أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى مجدي الجمال - حوار خصب مع سمير أمين















المزيد.....


حوار خصب مع سمير أمين


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 6082 - 2018 / 12 / 13 - 17:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


وجدت في أوراقي هذا الحوار الذي أجريته مع الراحل الدكتور سمير أمين قبل عدة سنوات.. وأخذته في حينها جريدة القاهرة ونشرته على صفحة كاملة.. ولاحظت أن الكثير من الأفكار التي طرحها مازالت وثيقة الصلة بوقائع اليوم.. فضلاً عن قيمتهها في حد ذاتها.. فقررت نشر الحوار راجيا الاستفادة منه..
########

رغم أنه في الخامسة والسبعين من العمر إلا أن حيويته البادية تتحدي الشباب، فهو لا ينقطع عن النشاط العارم في شتي جنبات الأرض ليدافع عن أفكاره وعن قضايا شعوب جنوب العالم، متحديا طغيان وقبح الرأسمالية العالمية، وبالأحري المعولمة. ورغم أن سمير أمين المفكر المصري العالمي يتمتع بكراهية الدوائر العدوانية في أمريكا والغرب، فإن الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والمنتديات الفكرية في سائر أنحاء العالم تكن كل الاحترام والتوقير لهذا العالم والناشط السياسي والإنساني، ولا تجد مفرا من التعامل مع أطروحاته إن سلبا أو إيجابا، فهو ظاهرة لا يمكن تجاهلها.

لكن الغريب حقا أن الرجل قد تعرض حتي أوائل الثمانينيات لقدر ظالم من التجاهل في الوطن العربي. وقد يكون من المفهوم أن تتجاهله الدوائر الأكاديمية المحافظة والتقليدية في المشرق العربي خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار موقفه من الاشتراكية السوفيتية التي صنفها كرأسمالية للدولة، أو حسب تعبيره "رأسمالية بدون رأسماليين"، في وقت كان اليسار العربي عامة يتعاطي المفهوم الستاليني عن إمكانيات ثورية لم تزل عند البرجوازيات "الوطنية" في بلدان العالم الثالث. كما ساد تصنيف لسمير أمين يضعه في المعسكر الماوي في وقت احتدام الصراع الصيني ـ السوفيتي، وحيث كان الأخير هو الحليف الرئيسي لليسار العربي.

ولد سمير أمين لأب طبيب مصري وأم فرنسية، وأرسله والده إلي جامعة السوربون حيث حصل علي الدكتوراة في الاقتصاد السياسي عام 1957، وعاد إلي مصر ليعمل في المؤسسة الاقتصادية، لكنه اضطر إلي الخروج من وطنه مرة أخري في أوائل الستينيات حينما تفاقم القمع الناصري لمنظمات اليسار الماركسي، ووضعت أعداد كبيرة منهم تحت سيف التعذيب والامتهان في معتقل الواحات، ليصبح بعد ذلك واحدا من أهم المفكرين الاقتصاديين الراديكاليين في العالم، فشغل موقع أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة السوربون العريقة، ومدير معهد الأمم المتحدة للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (داكار- عاصمة السنغال)، وعضو اللجنة التنفيذية لجامعة الأمم المتحدة (طوكيو)، وهو أحد مؤسسي منتدي العالم الثالث، وأيضا أحد مؤسسي المنتدي الاجتماعي العالمي الذي أقيم في مواجهة المنتدي الاقتصادي العالمي في دافوس. ويترأس سمير أمين حاليا منتدي العالم الثالث في داكار والمنتدي العالمي للبدائل في بلجيكا ومركز البحوث العربية والإفريقية في القاهرة.
وإلي جانب هذا النشاط العارم يوجد اسم الرجل بقوة في مراجع كل دراسات الاقتصاد السياسي، حيث اشترك مع جوندر فرانك وآريجي وآخرين في وضع نظرية التبعية ذائعة الصيت، فضلا عن إسهاماته الفكرية الأخيرة حول كيفية مواجهة الاقتصاد السياسي للعولمة. ولسمير أمين أكثر من ثلاثين مرجعا نشرت بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والصينية واليابانية والعربية. وتدعوه كبري الجامعات العالمية والمؤسسات الفكرية للمحاضرة بها. وهو في النهاية وجه مصري مشرق لكنه لا يجد من إعلامها وجامعاتها عشر ما يستحقه.

ولقد انتهزت فرصة وجوده بالقاهرة هذه الأيام لإلقاء عدد من المحاضرات كي أجري معه هذا الحوار، وكم كان صدره رحبا كعادته، وقال لي: "أتمني أن أقدم للقارئ جديدا وبشكل مبسط دون الخوض في الطلاسم النظرية".


** باعتبارك مفكرا وناشطا سياسيا مرموقا في العالم أجمع، ألا تشعر بعد أربعة عقود ونصف من عدم الإقامة الدائمة في مصر بضرورة أن تلعب دورا محليا أكبر؟
ـ نعم أحاول ذلك منذ قرابة عقدين، ولعل دوري المتواضع في مركز البحوث العربية والإفريقية يعبر عن ذلك، وفي الحقيقة أنا أفخر كثيرا بهذا المركز الذي قدم للمجتمع الثقافي والأكاديمي المصري أكثر من 250 عنوانا من الثقافة ثقيلة العيار إن صح التعبير في شتي فروع العلوم الاجتماعية، فضلا عن البحوث والندوات وتشجيع الأجيال الشابة من الباحثين الملتزمين. ومن ناحية أخري أنا أهتم كثيرا بالربط بين القوي الوطنية المصرية وبين الحركة العالمية المناهضة للعولمة الرأسمالية، وخاصة في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولعل أحدث جهد في هذا الاتجاه هو إعادة بناء تضامن باندونج علي أساس شعبي وليس حكوميا.

** أصدرت كتابا شهيرا في باريس عام 1964 بعنوان "مصر الناصرية" وباسم مستعار هو "حسن رياض"، وقد ترجمته وقتها مصلحة الاستعلامات المصرية ووزعته علي الشخصيات المهمة في الدولة، فكيف تنظر إلي هذا الكتاب الآن بعد أكثر من أربعين عاما؟
ـ كان غياب الديمقراطية هو العيب الأساسي والقاتل في التجربة الناصرية، وهو ذات الدرس المستفاد من التجربة السوفيتية، أي أن غياب الديمقراطية يحول دون بناء الاشتراكية أو أي مشروع تقدمي آخر. وقد حقق المشروع الوطني الناصري مكاسب اجتماعية جزئية للطبقات الشعبية، ولكنه أمم السياسة حسب تعبير الراحل العظيم محمد سيد أحمد، وضرب الطرفين الليبرالي واليساري في آن واحد، وهو ما أعد المسرح السياسي خير إعداد للإسلام السياسي.

** وماذا عن مواقف اليسار المصري من نظام يوليو؟
ـ لأسباب ذاتية وموضوعية وأيديولوجية عديدة، تحول اليسار الشيوعي في النهاية إلي التأييد المطلق والذوبان في نظام يوليو، ولذلك حينما تراجعت الشرعية الرسمية لأيديولوجية يوليو أصاب اليسار الكثير من هذا الرذاذ. أي أن اليسار فقد شخصيته المستقلة علي كافة الأصعدة.

** هل تشرح لنا أحدث مقولاتك عن "الاستعمار الجماعي أو المشترك" بقيادة أمريكية في عصر العولمة؟
ـ إنني أرفض الخطاب الفكري السائد والذي يتصور أن "الثورة التكنولوجية" تؤدي إلي إلغاء الطابع الاستعماري للرأسمالية، وأري أن هذا الطابع الاستعماري ثابت في جميع مراحل التوسع الرأسمالي. ودون الخوض في تحليلات تاريخية فمن الملحوظ بقوة الآن وجود تضامن ظاهر بين أطراف الثالوث الرأسمالي العالمي، أي الولايات المتحدة وأوربا واليابان، بفعل المصالح المشتركة للشركات العملاقة في الهيمنة علي الأسواق العالمية.

** ولكن هذا لا ينفي الوضعية الخاصة للولايات المتحدة؟
ـ لقد ساد في التسعينيات حديث وهمي عن تحقيق الولايات المتحدة معدلات نمو أعلي من أوربا، والحقيقة أن النمو الأمريكي يتركز أساسا في القطاع المالي، بينما يختلف الأمر تماما بالنسبة للزراعة والصناعة وبعض الخدمات. وهو نوع من التزييف في أرقام النمو لا يقل أبدا عن الممارسة السوفيتية في عهد بريجنيف. إن الولايات المتحدة تمتص الآن الجزء الأكبر من فائض الأموال في العالم، وفي مقدمتها الأموال الخليجية المحكوم عليها بالمصادرة يوما ما، وهناك أيضا تدفق الأموال من جراء فرض صفقات السلاح علي حلفاء ضعفاء، والتي تعتبر في نهاية الأمر بمثابة الإتاوة لتخفيف عجز الموازنة الأمريكية.

** ماذا تستهدف الاستراتيجية الأمريكية الآن بالضبط؟
ـ إن عسكرة العولمة هي خيار استراتيجي أمريكي يسعي إلي تعويض التدهور في قدرتها علي الاستمرار في المنافسة بالوسائل الاقتصادية. وتهدف هذه الاستراتيجية إلي توظيف التفوق العسكري والنووي للاستمرار في الضغط علي روسيا والصين، وأيضا الهند وإيران...، وكذلك تحجيم المشروع الأوربي في حدود مقررة للتضامن بين المراكز الثلاثة للرأسمالية العالمية، من خلال انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة علي موارد النفط الحيوية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي، وقد وظفت "الحرب علي الإرهاب" لتحقيق هذا الهدف، فضلا عن استخدام بريطانيا لتقوم بدور "حصان طروادة" داخل الاتحاد الأوربي.

** ألا يوجد احتمال للخروج قريبا من هذا الظلام؟
ـ تشير ظواهر كثيرة إلي حتمية اتساع التناقضات مستقبلا بين أمريكا من جانب وأوربا وروسيا والصين وبعض القوي الصاعدة مثل الهند والبرازيل من جانب آخر. وسيكون الخلاف سياسيا وثقافيا وتاريخيا بامتياز. فالأيديولوجية الأمريكية تتبني مفهوما مطلقا للملكية، بينما علي الطرف الآخر نجد استقرارا لمفاهيم تفرض قدرا من التضبيط والتقنين لمراعاة البعد الاجتماعي. فضلا عن انزعاج أوربا من الإدارة العسكرية الأمريكية للعولمة والتي تضر بالمصالح الجغرافية- الاستراتيجية الأوربية.

** ما هو الجديد تاريخيا الذي أحدثته هيمنة النموذج الليبرالي الجديد؟
ـ دون الدخول في تفصيلات تاريخية كثيرة فقد انهارت أنماط ثلاثة رئيسية، هي النموذج الاشتراكي الديمقراطي في غرب أوربا، والنموذج الاشتراكي الذي وجد في روسيا والصين وشرق أوربا، وكذلك ما أسميها النماذج الشعبوية الوطنية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ووقع هذا الانهيار أو التآكل نتيجة لعدم قدرتها علي التكيف. ومن ثم ساد النموذج النيوليبرالي، وأخذ البعض يتحدث زورا عن نهاية التاريخ. وأعتقد أن هذا الوضع الذي بدأ يتبلور منذ 15 عاما فقط قد أفرز ثلاث ظواهر رئيسية. أولا تفاقم المشكلات الاجتماعية من بطالة واتساع نطاق القطاع غير الرسمي أو غير المنظم والتراجع عن مزايا دولة الرعاية الاجتماعية. ثانيا سيادة طبقات جديدة في كل بلدان العالم تقريبا (باستثناء الصين وكوبا حتي الآن) تعتبر بمثابة الحليف المباشر والعضوي الذي تتماهي مصالحه مع النظام الرأسمالي الاستعماري، وهي ما يطلق عليها الفئات الكمبرادورية، والتي تعتبر معادية علي طول الخط لمصالح شعوبها وأوطانها. لكن هذا وذاك ساعد في إنتاج الظاهرة الثالثة المهمة، ألا وهي توالد حركات اجتماعية واحتجاجية واسعة في سائر أنحاء العالم، وهي التي توجت مؤخرا بحركة المنتدي الاجتماعي العالمي.

** يري البعض أن المنتدي الاجتماعي العالمي بدأ يفقد بريقه وأنه بحاجة إلي التجديد؟
ـ لا لم يفقد بريقه علي الإطلاق، ولكنه يتعرض لعملية تعتيم وتشويه مغرضة من جانب وسائل الإعلام العالمية الكبري التي تهيمن عليها المصالح الاستعمارية الغربية. ومن المؤسف أن الإعلام العربي يلعب دورا سلبيا في التجاهل والاستهانة بهذه التظاهرات العالمية الكبري بمئات الألوف التي تخرج لنصرة الشعبين العراقي والفلسطيني، وتدين الحرب والعدوان والعنصرية والاستعلاء والاستغلال. وقد أصبح للمنتدي الاجتماعي العالمي منتدياته القارية والقطرية التي تشكل ما يشبه الجبهات العريضة جدا من أجل العدل والديمقراطية والسلام. فرغم التدهور الذي لحق بدور الأحزاب السياسية الوطنية والتقدمية في العقدين الأخيرين أثبتت تجارب أمريكا اللاتينية وبعض التجارب الأوربية والآسيوية أن اتحاد الأحزاب اليسارية مع الحركات الاجتماعية، مثل الحركات الحقوقية وحركات المعدمين والمستهلكين والنساء والشباب والسكان الأصليين... الخ، هذا الاتحاد هو الذي مكن من تحقيق انتصارات مهمة بدرجات متفاوتة بين بلد وآخر. ورغم أن هذه الانتصارات الجزئية لم تحدث تغييرا حتي الآن في طبيعة المجتمع أو سيطرة الطبقات الحاكمة الكمبرادورية (الوكيلة أو العميلة)، إلا أنها بمثابة عودة الروح إلي طاقات الاحتجاج والتصدي لدي الشعوب. خذ مثلا التحدي الحقيقي الذي يواجهه مشروع الدستور الأوربي ربما لسبب أساسي هو تكريسه لسيطرة حلف الأطلنطي. ومما يؤسف له أن المنطقة العربية تكاد تكون المنطقة الوحيدة في العالم التي لم يحرز فيها تقدم ملحوظ، رغم أنها البؤرة الأساسية الآن للمشروع العدواني الرأسمالي العالمي.

** وماهو التطور الجديد في حركة المنتدي الاجتماعي العالمي؟
ـ لقد تم التجديد في اتجاهين. أولهما أننا انتقلنا من نقد الليبرالية إلي نقد الرأسمالية نفسها، أي أننا أعدنا الاعتبار إلي كلمة الاشتراكية دون أن يعني هذا بالطبع العودة إلي الماضي غير الديمقراطي. وثانيا أكدنا علي أن عسكرة العولمة ليست نتاجا فقط لطاقم المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، وإنما هي نتاج لمنطق واحتياجات التوسع الرأسمالي الاستعماري في المرحلة الراهنة. وبالطبع فقد احتاج هذان التطوران إلي حوار ديمقراطي صعب، خاصة في ضوء محاولة بعض المنظمات غير الحكومية الغربية فرض منظوراتها الخاصة مثل استبعاد النقابات والأحزاب وحركات التحرير الوطني. وفي الواقع أن هيمنة هذه المنظمات وفروعها في بلدان الجنوب تتراجع مع تصاعد الحركات الاجتماعية والشعبية.
** ألا تري في حركات الإسلام السياسي حركات اجتماعية أيضا تملك طاقات وطنية وشعبية يمكن أن تسهم في مقاومة الليبرالية الجديدة؟
ـ أولا يمثل الإسلام السياسي مظلة عريضة متنوعة مثل أي تيار سياسي آخر، ومع ذلك فهناك أرضية مشتركة بينها، تتمثل في القول بخصوصية الإسلام من حيث استحالة الفصل بين الدين والدولة، وهو ما يقود في النهاية إلي الدولة الدينية. وفي اعتقادي أن هذه الرؤية لا تتعلق بالخصوصية الإسلامية بقدر ما تتصل بسياقات تعثر التطور، وهي دعوي سبق أن وجدت في مجتمعات أخري في مراحل ما قبل الحداثة. ومن الملاحظ أن تيارات الإسلام السياسي لا تقدم أي موقف معاد بشكل واضح للرأسمالية، بل إن للإخوان المسلمين مثلا صلات قوية بما نسميها البرجوازية الكمبرادورية المرتبطة عضويا بالرأسمالية العالمية بشكل مباشر أو من خلال نخب مالية في الخليج العربي. ومن المهم أيضا ألا نستبعد في أحكامنا علي هذا التيار تاريخه الثابت من قضايا الديمقراطية والتقدم. ومع ذلك تظل هناك استثناءات يجب التروي في إصدار الأحكام القاطعة عليها، نظرا لخصوصية السياقات التي تنشط فيها، وأخص بالذكر هنا حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين وبعض الحركات الإسلامية المقاومة في العراق.

** ما رأيك في دعاوي الديمقراطية التي ترفعها العولمة؟ وكذلك رأيك في بعض الدوائر اليسارية سابقا التي تنظر للتحول من زاوية واحدة فقط هي زاوية البعد الديمقراطي ومن ثم ينضوون في مشروعات ومبادرات العولمة ذاتها؟
ـ لا يمكن الجمع بين الليبرالية واليسار، فاليسار حركة لإحداث تحول اجتماعي شامل، بينما الليبرالية هي بالأساس تعبير عن المصالح الرأسمالية. وقد تكون هناك ليبرالية ذات شكل ديمقراطي يسمح بالحريات وتداول السلطة كما في الهند، وكذلك هناك شخصيات من رجال الأعمال الليبراليين المصريين يقفون وراء ظاهرة الصحف المستقلة في العقد الأخير. بل إن تيار الإسلام السياسي ليبرالي في جوهره من حيث دفاعه أو تحبيذه لمصالح الرأسمالية الزراعية والعقارية والتجارية والمالية... الخ، ولعل موقفهم من قانون الإيجارات الزراعية ورفضهم توريث عقود إيجار المساكن خير تعبير عما أقول. أما اليسار الذي يسمي نفسه ليبراليا فهو أقرب إلي خط توني بلير في بريطانيا، وهو لايعدو أن يكون يمينيا حقيقيا برداء يساري.

** هل هناك إمكانية لبناء تحالف بين اليسار والناصرية في مصر؟ وألا تعتقد أن نقطة البداية المهمة في هذا أن يكون لدي كل تيار استعداد لتقديم نقد ذاتي لمسيرته التاريخية؟
ـ أعتقد أن البداية الحقيقية تكون بالانخراط الفعلي في المعارك اليومية دفاعا عن المصالح الاجتماعية لأوسع القطاعات الشعبية، وفي اعتقادي أن هذا هو المعيار الرئيسي للحكم بما إذا كان تيار ما يساريا وتقدميا أم لا. وأؤكد بالمثل أنه لا يمكن أن يكون هناك عمل مشترك متكامل بدون برنامج مشترك. وقبل هذا وذاك مطلوب التواضع، أي ألا يتصور تيار ما أن لديه الحقيقة المطلقة، وهو ما يفسح المجال أمام عملية صحية للنقد الذاتي أمام الأجيال الشابة.

** بعد تأمل هذه السنين الطويلة من الاجتهاد الفكري والسياسي، ماهي في نظرك الآن أهم معركة فكرية خضتها في حياتك؟
ـ هي المعركة التي خضتها داخل الفكر الماركسي، حيث أكدت أن التوسع الرأسمالي علي صعيد عالمي ينتج بالضرورة المزيد من الاستقطاب وزيادة الفجوة بين المراكز الرأسمالية المتقدمة في بلدان الشمال وبين الأطراف أو المناطق التابعة والمنكشفة في بلدان الجنوب. وهي فكرة لم تكن واضحة تماما في الفكر الماركسي التقليدي إن صح التعبير، بل كانت الفكرة السائدة هي فكرة ما يسمي اللحاق، وفحواها أن التطور الرأسمالي الذي حدث في المناطق المتقدمة الآن سيحدث بالضرورة وإن متأخرا في مناطق العالم الأخري. ولكني رأيت أن التوسع الرأسمالي علي صعيد عالمي يحول دون هذا اللحاق، ومن ثم يجب البحث عن مسالك أخري مثل فك الارتباط مع المنظومة الرأسمالية العالمية. وهي الفكرة التي لم تلق قبولا واسعا وقتها، ولكنها تتمتع الآن بقبول أفضل.


** لك كتابات ذائعة الصيت في نقد التجربة السوفيتية باعتبارها تاكيدا لرأسمالية الدولة، حتي أن الكثيرين وضعوك وقتها في خانة المعسكر الماوي، فما رأيك الآن في ما آلت إليه التجربة الصينية، حيث نري التوجه نحو آليات السوق وتقديم المزايا لرأس المال الأجنبي، وخصوصا أن هذا كله يجري في غياب الديمقراطية أيضا؟
ـ في الحقيقة أن نقد ماو تسي تونج للتجربة السوفيتية كان سليما تماما، فقد رأي أن البيروقراطية السوفيتية قد حولت النظام تدريجيا من نظام ذي آفاق اشتراكية واعدة إلي نظام سيصبح رأسماليا بالضرورة في نهاية المطاف. وقد كان سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990 نقطة التحول الحاسمة في هذه العملية ولم يكن ثورة مضادة، أي أن النظام ذاته هو الذي تغير من داخله وأن العناصر الرأسمالية الخاصة أو التقليدية قد ولدت من رحم البيروقراطية. والغريب أن الشيء نفسه قد وقع بعد هذا في الصين نفسها. ولعل إعلان ماو تسي تونج ما أسماها في حينها "الثورة الثقافية" قد تم إدراكا منه لهذا الخطر. ولكنه فشل.

** هل يمكن أن نتوقع مصيرا للصين يشابه مصير الاتحاد السوفيتي؟ وما هي النقاط الرئيسية علي جدول أعمال الولايات المتحدة تجاهها؟
ـ هو الاستمرار في ممارسة المزيد من الضغوط علي الصين، وخاصة من خلال التواجد العسكري في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي فضلا عن كوريا واليابان.. وكذلك دعم القوي الليبرالية في الصين، وهي لا يستهان بها الآن، علي حساب القوي الشعبية المرتبطة بالمشروع الاشتراكي. ورغم الظواهر السلبية من اتساع البطالة وزيادة أعداد المليونيرات في الصين فإن الحركات الفلاحية الشعبية نجحت حتي الآن في منع دخول رأس المال إلي الملكية الخاصة في الأراضي الزراعية. ويقاوم الفلاحون جزئيا من داخل الحزب الشيوعي، وغالبا من خارجه عن طريق إقامة تعاونيات مستقلة، وهي أيضا حركات قوية علي مستوي الأقاليم ولكنها ليست موحدة علي الصعيد الوطني. ورغم أنها حركات كبيرة جدا فقد دأب الإعلام علي عدم الحديث عنها بالمرة.

** ماذا عن فكرتك عن بناء باندونج جديدة؟ وفيم تختلف عن باندونج عبد الناصر وسوكارنو ونهرو..؟
ـ الفارق الأساسي أن باندونج 1955 كنقطة البداية لحركة عدم الانحياز، فقد كانت مبادرة حكومية لحكومات كانت تتمتع بشرعية شعبية كبيرة وقتها في إطار نضالات التحرير الوطني، وحتي لو لم تكن ديمقراطية. والآن لا نجد حكومات علي هذه الشاكلة، فلا نجد سوي حكومات الكمبرادور أو الوكيلة والعميلة والشريكة الصغري في أحسن الأحوال للإمبريالية العالمية، ومن ثم فهي علي أتم الاستعداد للتكيف مع عسكرة العولمة وفتح الأسواق وتدمير قاعدة الإنتاج الوطني وانسحاب الدولة من توفير الخدمات الأساسية للمواطنين. ولذلك فإن باندونج الجديدة يجب أن تكون باندونج الشعوب من خلال تضامن المنظمات الشعبية والحركات الاجتماعية في القارات الثلاث. والغريب أن رؤساء الدول والحكومات الذين اجتمعوا في إندونيسيا العام الماضي لإحياء ذكري باندونج قد أصدروا بيانا هزيلا لا يقارن بالموقف الجسور الذي اتخذه القادة منذ خمسين عاما ضد الاستعمار.

** ولكني قرأت في بعض المواقع الإلكترونية أن دعوتكم إلي باندونج جديدة قد أثارت خلافا داخل المنتدي الاجتماعي العالمي وخاصة من جانب بعض المنظمات غير الحكومية الأوربية بزعم أن هذا يمثل انحرافا نحو المركزية أو إملاء لموقف سياسي بعينه... وأن هذا يخالف الطبيعة التنظيمية الفضفاضة والمتفق عليها منذ البداية للمنتدي..
ـ نعم هناك خلاف، وهذا أمر طبيعي جدا في كيان بهذه الضخامة. وقد التقطته علي الفور وسائل الإعلام اليمينية وبالغت فيه. وعموما أقول إن هذا موقف بعض المنظمات الممولة من مؤسسات وثيقة الصلة بالمخابرات والخارجية الأمريكية مثل مؤسسة فورد، وتحاول بشتي الطرق اختراق حركة المنتدي الاجتماعي العالمي مستغلة طبيعته الفضفاضة، كي تثير المشكلات داخله بعدما أزعجها أيما إزعاج الموقف الصارم من العدوانية الأمريكية والصهيونية. ولكن هذا لا يجد تجاوبا ذا قيمة من جانب المنظمات والحركات الإفريقية مثلا رغم احتياجها الشديد للدعم والتمويل. وخير دليل علي ذلك هو إعلان المنتدي الاجتماعي الصادر في العاصمة المالية باماكو.

** باعتبار معايشتك وقربك من الحياة السياسية في إفريقيا جنوب الصحراء، هل تلاحظ أنهم هناك بدأوا يسأمون بالفعل من المشاكل في الشرق الأوسط ورغبتهم في النأي بأنفسهم عن شمال إفريقيا، علي عكس ما كان في السبعينيات مثلا؟
ـ أظن أن هذا صحيح جزئيا، ولكنه لا يقتصر علي إفريقيا وحدها، لأنه يرتبط أساسا بما أحدثته العولمة من تفكيك لكل الجبهات القديمة التي كانت قائمة في مواجهة الاستعمار والاستغلال سواء علي صعيد عالمي أم إقليمي. انظر ما يحدث داخل الوطن العربي ذاته، بل انظر إلي ما يحدث في العراق ولبنان والسودان من تفكك عرقي وطائفي وعشائري. ولعل هذا يفسر الطبيعة التنظيمية المرنة التي ارتضاها المنتدي الاجتماعي العالمي لنفسه. وفي الحقيقة أن عهد باندونج كان عهدا علمانيا وقائما علي أساس الدولة القومية، وهو ما أزاح جانبا الانتماءات الدنيا أو الفرعية.



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حقارة أن تتهكم على شعبك ولا ترى عيبك
- الكيماوي الأمريكي الحلال
- آخر أوراق سمير أمين
- أعراض ليبرالية
- اليسار والتغيير الاجتماعي
- حاورت خالد محيى الدين
- من ليالي المشقة والفزع
- خرافة الحديث غير الرسمي للمتحدث الرسمي
- الشفاء من الليبرالية
- حتى لو كانت صفقة أو تمثيلية
- شذرات من حكايتي مع الأدب والفن
- أمريكي ضميره حر
- ومضى رأفت سيف.. الرفيق المنير
- مصطفى وهبه الذي يجب أن تعرفوه
- رومانسية المتحدث باسم -الحركة المدنية الديمقراطية-
- الطائفية ذريعة ووسيلة للإمبريالية
- توءمة ملتصقة بين الحزب الشيوعي والتجمع
- مناظرة قبل العِشاء
- عبد الناصر والسادات وعادل حسين
- يسار جامعة المنصورة ومؤتمر جمصة 74


المزيد.....




- -جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال ...
- مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش ...
- ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف ...
- ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
- حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك ...
- الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر ...
- البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
- -أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك ...
- ملكة و-زير رجال-!


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى مجدي الجمال - حوار خصب مع سمير أمين