|
كافكا والأمل
محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.
(Mohamed Elfeki)
الحوار المتمدن-العدد: 6079 - 2018 / 12 / 10 - 16:23
المحور:
الادب والفن
يروي ماكس برود؛ صديق كافكا وناشر أعماله بعد وفاته، أن محادثة قد جرت بينهما بشأن الأحداث العالمية الجارية، وبشأن ما اعتبره كافكا انحداراً للحضارة الأوروبية، وللجنس البشري عامة. قال كافكا في سياق الحديث: "إننا أفكار عدمية.. إننا أفكار انتحارية خطرت على بال الرب". يقول ماكس برود إنه ظن وقتها أن كافكا كان يقصد الإشارة إلى بعض الأفكار الغنوصية التي تعتبر أن قوى الشر هي التي خلقت الكون وأن العالم هو التجسيد المادي لهذا الشر، لكن كافكا سارع بالنفي قائلاً: "لا لا، ما أقصده هو أن عالمنا ليس إلا مجرد نوبة مزاج سيء للرب.. إنه واحد من تلك الأيام المزعجة التي تمر به!". عندها قال ماكس برود: "إذن يظل هناك أمل خارج كل تجليات هذا العالم المعروف لنا"، فابتسم كافكا قائلاً: "نعم، هناك أمل.. وفرة من الأمل.. مقدار لا يحصى ولا ينضب من الأمل.. ولكن ليس بالنسبة لنا! (1)"
إن الضمير "لنا" هنا يعود على كافكا نفسه وأشباهه. لا نظن أنه كان يقصد حال أولئك البشر العاديين من أمثالنا؛ فئة التسعة أعشار الذين ليسوا إلا "كومة نمل" بتعبير راسكولنيكوف في (الجريمة والعقاب).
في قصة (التحول)، يستيقظ جريجور سامسا من النوم، فيجد نفسه وقد تحول إلى حشرة بغيضة. في فراشه. في غرفته. في منزل أبويه. ويمر كافكا سريعاً على المأساة المخيفة، واصفاً تحول سامسا إلى حشرة في سطرين فقط؛ وكأن الفاجعة والمأساة هي الطبيعي والمتوقع والعادي في هذا العالم؛ يمر سريعاً إلى ما يشغل بال سامسا فور اكتشافه أنه قد تحول إلى حشرة: إنه الأمل الذي يحدوه في أن يلحق بقطار السابعة صباحاً حتى لا يتعرض لتعنيف رئيسه في العمل. هذه هي طبيعة الأمل المتوفر بالنسبة لنا؛ نحن العاديون أشباه جريجور سامسا (2).
-1- في كل أعمال كافكا، وبخاصة الأعمال الكبرى: كـ (القضية)، و(القصر)، و(أمريكا)، و(التحول)، سنلحظ ذلك التجاور الفصامي بين ما يمكن أن نطلق عليه "اليأس الهيكلي العام" الذي يغلف الحياة والوجود، وبين "الأمل الزائف" الذي يملئ نفس البطل في تحقيق هدفه. إن المشكلة الحقيقة هي مشكلة في عقل بطل كافكا نفسه. فبرغم انتفاء مسوغات أي أمل في البيئة والظروف والأحداث التي تمر به، وبرغم هيكلية اليأس الذي هو جوهر أساسي في طبيعة الوجود، يظل بطل كافكا يتمتع بالطموح والإصرار الذهني على تحقيق هدفه (وكأنه يؤمن بأن الخطيئة هي وهن العزيمة)، وتظل الحياة مفتوحة بالآمال بالنسبة له، رغم أنها لا تقدم له شيئاً طيلة مساعيه في الرواية. ألا يمكننا هنا أن نترجم عبارة كافكا الأخيرة لماكس برود على النحو التالي: "هناك وفرة من الأمل متاحة لعقول البشر العاديين، لكن تحقق هذا الأمل فعلياً أمر مستحيل"؟! ألا يشبه الأمر مساعي العقيم الذي يملؤه الأمل في الإنجاب، ويصدق أمله، دون أن تستطيع مساعيه، ولا إيمانه، أن يغيرا من قانون الطبيعة الأم؟! ربما يمكننا أن نصف تلك المساعي (ومساعي بطل كافكا أيضاً) بـ "الفاعلية في عقمها".
في رواية (القصر)، يُعيَّن ك مساحاً للأراضي في القرية التي يتحكم في مصيرها القصر. ورغم أن هناك نوع من الاتصال بين القرية والقصر، ورغم أن بعض كبار المسؤولين في القصر يزورون القرية بين الحين والآخر، ورغم محاولات ك التي لا تتوقف للوصول إلى القصر، إلا أن محاولاته كلها تبوء بالفشل. لكن ك لا يكف عن الأمل، ولا عن السعي طوال صفحات الرواية للوصول إلى القصر. وفي نفس الوقت، ومن ناحية أخرى، لا يُؤجل ك الحياة أثناء ذلك: فهو يأكل، ويشرب، ويحب، ويغضب، ويبحث عن بيت، وعمل، بالرغم من الخيبات الثقيلة المتتالية التي ُتمنى بها جهوده. إن المأساة لا ُتوقف ك عن ممارسة حياته، حتى وإن كان الخواء هو مادة الحياة، حتى وإن حملت الحياة خرابها بداخلها؛ اللعنة هنا لا ُتؤجل طلبات الجسد، ولا أبطال كافكا يؤجلون الحياة.
يشبه مساح الأراضي ك ذلك الشخص الذي يذكره ألبير كامو في (أسطورة سيزيف) (3)؛ ذلك الذي يحاول اصطياد السمك في حوض حمام منزله الخالي من أي أسماك، وهو يعلم أن فعله لامجدي. لكن ك -على عكس مثال كامو- يصطاد في حوض الحمام مؤمناً بأن صنارته ستصيد سمكاً. إن المراقب الخارجي فقط (أي القارئ)، هو من يعلم أن محاولات ك غير مجدية. هنا لابد وأن يتسائل القارئ وهو يقرأ (القصر)، أو (أمريكا)، أو (القضية): هل توجد تسلية أفضل، كي يحتمل الإنسان عقم الوجود، من تسلية الإيمان بهدف ما والسعي إليه بعزيمة؟ ألا يضفي ذلك سمة "الطبيعية" على الزمن الأرضي لحياة الإنسان، في ظل الوضع المأساوي الذي يغلف الوجود ككل؟!، ألا يُطبِّع الأمل المأساة الوجودية ؟!
هذه الوضعية المتناقضة؛ هذا التعايش الفصامي السلمي ما بين الوضع الإنساني العام بوصفه وضعاً عقيماً لا أمل فيه، وبين طموح الإنسان وأمله وسعيه الدائب في حياته اليومية؛ هو من أجمل ما يميز أدب كافكا. وهو ما يرتبط أيضاً بإحدى أجمل سمات أدبه الأخرى؛ ونعني بها استعماله للمنطق العادي والطبيعي والمألوف؛ منطق الحياة اليومية، في التعبير عن المأساة والكابوس (يمكننا أن نطلق على ذلك: الكابوس في واقعيته). هذا الأسلوب -بالمناسبة- هو نقيض ما يقوم به معظم الكتاب والفنانين الذين توصف أعمالهم بالـ "كافكاوية"؛ فبينما يستعملون هم منطق الكوابيس في التعبير عن الحياة اليومية، يستعمل كافكا المنطق اليومي في التعبير عن الكابوس. يصحو سامسا من النوم فيكتشف أنه قد تحول إلى حشرة مقرفة، لكن أشد ما يقلقه في الأمر أن مديره سيعنفه لغيابه عن العمل. إن كافكا حين يرسم كابوساً، يحرص على رسمه بأسلوب شديد العادية في تفاصيله اليومية؛ ومن هنا يبلغ الكابوس كماله، والرعب شدته، حين يصبح الفوقطبيعي هو الطبيعي.
من جهة أخرى، فإن هذا التجاور التعايشي بين وضعيتين متعارضتين؛ وضعية الوجود العقيم، ووضعية الأمل الشخصي، ربما كان أحد أسباب تعدد الرؤى النقدية حول أدب كافكا. في أقصى الطرف، يقف من يدرج أعمال كافكا ضمن الأعمال الكوميدية الساخرة (عدد من النقاد التشيك، على سبيل المثال)، في حين يقف على الطرف الآخر، من يوازي بين أدب كافكا وأفكار الفلاسفة الوجوديين الكبار (ألبير كامو، مثلاً، الذي يقارن بين كافكا وبين الفيلسوف الدينماركي كيركجارد؛ خصوصاً في دعوته إلى التخلي عن "الأمل الأرضي") (4). وبين الموقفين، تتعدد الرؤي النقدية والتفسيرية لآثار كافكا: من الفن للفن، إلى النقد الاجتماعي، إلى التأثيرات الصوفية، واللاهوتية، والرمزية، أو حتى السياسية (وهي أكثر التفسيرات النقدية بؤساً وفجاجة).
التعارض لدى كافكا بين الأمل الشخصي والعقم الوجودي، يوازيهما أيضاً غرامه باللعب على تعارض من نوع آخر: اللعب فنياً على الموقفين المتعارضين؛ فطريقة كافكا المفضلة هي العرض المسهب المدعم بالأدلة والمسوغات والبراهين، لموقف أو فكرة أو رأي، ثم يتبعه فوراً بالمضاد له، مدعوماً أيضاً بالأدلة والمسوغات والبراهين. التردد الدائم ما بين عالمين (اللامعقول والمعقول)، ومنطقين (الكابوس والواقع)، والفكرة ونقيضها، بل وبين ك نفسه الذي هو ليس كافكا تماماً، لكنه أيضاً كافكا على نحو من الأنحاء؛ هو ما يمنح كتابات كافكا ذلك الغموض الإيجابي الذي يطمح إليه كل فنان كبير؛ ذلك الالتباس الذي يفتح آفاق قراءة العمل الواحد بأكثر من تفسير، مع استمرارية طزاجة الدهشة مع كل قراءة جديدة؛ كاشفة عن مواطن جمال مختلفة في كل مرة، بحسب التطور الشخصي للقارئ وقت القراءة.
-2- يبث كافكا وضعية التردد في كل مكان في عمله؛ بصرياً وحوارياً ووصفياً. في قاعة المحكمة في (القضية) على سبيل المثال، يواجه ك قاضيه، بحيث يكون على يساره جمهور صامت متحفظ متجهم، بينما على يمينه جمهور مؤيد مصفق مستحسن. بل وحتى أشد التفاصيل رهافة، وهامشية، وبعداً عن الحدث الرئيسي، لا يعفيها كافكا من وضعية التردد. في (القضية) أيضاً، وبينما يصعد ك سلالم البناية التي تقع فيها قاعة المحكمة، يضايقه الإزعاج الذي يسببه بعض الأطفال على السلم، فيقول: - "لو كان عليّ أن أحضر إلى هذا المكان مرة ثانية، فلابد أن أحضر معي إما حلويات لأكسبهم بها أو عصا لأضربهم بها (5)."
لكننا سنلاحظ أمراً غريباً فيما يتعلق بوضعية التردد تلك. فبالرغم من أن هذا التناقض، وما يفتحه من إمكانيات للالتباس والغموض، مبثوث في كل ثنايا أدب كافكا، مشكلاً معماره الخفي، ومانحاً إياه جماله وعمقه المفتوح على كل التفسيرات، إلا أننا نعثر على استثناء وحيد متفرد يشرفه كافكا بأن يعفيه من وضعية التردد؛ ألا وهو الأمل الذي يملئ أبطاله. ففي أعمال كافكا، لا يجد اليأس طريقه إلى نفس البطل، مهما كانت الصعوبات والعقبات والخيبات والهزائم، ويظل بطل كافكا مستمراً في سعيه، لا يكف أبداً عن الأمل؛ وكأن الأمل هو التنفس بالنسبه له، لا يتعلمه بل يولد معه؛ حالة فطرية أولية من طبيعة لا تعرف بديلاً عن السعي والأمل. إن بطل كافكا يدرك المأساة فوراً، لكنه لا يتوقف، بل يقفز إلى كيفية التعامل معها في المستقبل، كمثل الشخصية التقليدية في التراث الياباني القديم التي اعتادت تشبيه نفسها بسمكة الشبوط السابح ضد التيار، والذي إذا ما واجه عائق، اجتازه سعياً لأعلى النهر. ومن اللافت هنا معرفة أن كافكا نفسه كانت لديه دراية واسعة بالآداب الآسيوية، خصوصاً الصينية واليابانية (6).
هذا هو الاستثناء الوحيد في وضعية التردد والتناقض الذي يغلف كل أدب كافكا؛ فالأمل في عالمه لا يبدو وكأنه نقيض اليأس؛ بل يبدو الأمل متضمناً داخل اليأس، كمثل الناقص المتضمن في الزائد، وكمثل علاقة الحاوي بالمحتوى. وكأن دائرة اليأس الكبرى تحوي دائرة الأمل الصغرى.
وإذا استعنا بتقسيم راسكولنيكوف للبشر إلى فئتين في (الجريمة والعقاب): فئة عليا قليلة العدد من البشر السوبر المتفوقين، وتسعة أعشار من الذين ليسوا إلا "كومة نمل"، يمكننا القول أن الفئة العليا من البشر (والتي تضم كافكا وأشباهه) توجد في محيط دائرة اليأس العام الوجودي الكبرى، بينما توجد الفئة الدنيا من البشر العاديين في دائرة الأمل الأرضي؛ والتي هي الدائرة الصغرى التي تدور داخل دائرة اليأس الكبرى، ومحال على الدائرتين أن يتحدا.
-3- لا يملك المرء وهو يعيد قراءة أدب كافكا، منع تداعي الأفكار والقياسات والمقارنات. فمثلاً، وبمعنى من المعاني، تبدو العلاقة بين اليأس الوجودي العام والأمل الشخصي عند كافكا، وكأنها علاقة تبادلية بين الآكل والمأكول: فاليأس يضاعف وجوده من ولادة الآمال الجديدة في نفس بطل كافكا؛ إنه يكبر ويتمدد ويتكاثر كلما رشقت عيونه الغيورة أمل بطل كافكا. ومن ناحية مضادة، تمتص النفس النقية المتحمسة المتكبرة لبطل كافكا، تمتص أبخرة اليأس المحيط وتحولها إلى أمل جديد.
هناك فكرة شيقة أخرى فيما يتعلق بالعلاقة بين اليأس والأمل عند كافكا؛ فكلاهما يبدوان من طبيعتين مختلفتين؛ كمثل الطبيعتين المختلفتين للشدة والامتداد على سبيل المثال. وكمثل النابض الزنبركي الذي لا ينبغي أن نقع في خطأ الخلط بين قوته في مقاومة الشد، وبين طوله عندما نعمل على شده على استقامته. يكون اليأس الوجودي وكأنه إحدى هاتين الطبيعتين (امتداد النابض مثلاً)، بينما الأمل الذي يملئ بطل كافكا هو الطبيعة الأخرى (قوة مقاومة النابض)؛ أحدهما ليس نقيض الآخر، ولا مقلوب الآخر، وكلاهما يتعايشان معاً دون أن يكون وجود أحدهما نفي للآخر.
وقد يمكننا أيضاً مقارنة اليأس والأمل، بالعلاقة بين الواقع والأحلام. الرغبة الشديدة في الأمل عند بطل كافكا، تبدو رغبة داخلية مكتفية بذاتها، كاكتفاء الحلم بنفسه، وانعزاله عن المواضيع الخارجية، للدرجة التي يصدر فيها عن الأشياء العادية جداً التي ترد به رنين لنغمات أصيلة كنا نجهل وجودها على السطح الخارجي للوعي المتعقل. ومن هنا عشق بطل كافكا للفروق الحاسمة التي يُعبر عنها بالكلمات، كما يعشق الحلم -المنافي للوعي المتعقل- ذات الفروق والتفاصيل الهامشية الدقيقة.
هناك مكان لفرضية من طبيعة مماثلة حين نعقد مقارنة بين المستقبل والحاضر، وبين اليأس والأمل عند كافكا. فاليأس حتمي وسيحدث في المستقبل، أما الأمل فهو آني ومكانه الحاضر. ونستطيع أن نجازف بالقول أن بطل كافكا يحدوه الأمل في الزمن الحاضر، دون أن يعرف هو نفسه مصدراً حقيقياً لهذا الأمل (7)؛ كما يرى المرء الضوء دون أن يعرف مصدر الإضاءة ولامنابعها؛ فهو يرى النتيجة دون إدراك السبب. إن ما يجعل بطل كافكا يتلذذ بالأمل، هو بعد المسافة بينه وبين تحقيق ذلك الأمل. إن ما يجعل الأمل لذة، هو فكرة أن المستقبل (اليأس) لم يأت بعد، لذا فهو رهن إرادتنا، ويفتح الأمل هنا كل التجليات والأشكال المتعددة والممكنة لتحقق الرجاء، دون أن نكون مجبرين على التضحية بأي من هذه الممكنات لتحقيق ما نرغب فيه، أي دون أن نفقد أي من البدائل الممكنة، ومن هنا يبدو الأمل أكثر خصوبة من التحقق الفعلي له، ويبدو الحلم أكثر غنى من الواقع المُعاش.
لذلك، تبدو أماليا التعيسة في (القصر) فقيرة الإحساس، لأنها بلا أمل ولا رجاء ولا حلم، وكأنها تنتمي للمستقبل لا للحاضر. ومن هنا تصل إلى الشعور بالانسحاق، الذي يؤدي إلى الشعور بالعدم، وإلى العثور في لاجدوى المقاومة على لذة شجية.
-4- إن أمل شخصيات كافكا يبدو كما لو أنه هو الطريقة الوحيدة النزيهة لممارسة الحياة والمضي قدماً. برغم دائرة اليأس الهيكلية الكبرى التي تغلف الوجود. فالأمل الشخصي يعمل كمحفز للوعي، وكاشف للرؤية، ومنبه للإدراك، فمن خلاله تدرك الشخصية ما كانت تجهله من قبل؛ عن العالم، وعن نفسها، برغم السوداوية والألم المصاحبين للعلم والوعي والإدراك. تتكرر كثيراً في أعمال كافكا عبارات من قبيل ما يرد في رواية (القصر)، أثناء حكي أولجا (أخت برناباس) لما جرى لأسرتها في القرية: "لقد انفتح أمام ك في حكاية أولجا عالم عظيم يوشك أن يكون عصياً على التصديق حتى أن ك لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يتحرك إليه بخبراته القليلة ليقنع نفسه بوجود هذا العالم وليقنع نفسه بوجوده الذاتي على نحو أكثر وضوحاً (8)."
إن ك أثناء رحلته للوصول إلى القصر يزداد وعياً بنفسه، وبمن حوله، وبالعالم، وبالعلاقات بين القرية والقصر. كما كان ك من قبل يزداد وعياً طوال رحلته لإثبات براءته في (القضية). كما كان كارل روسمان يزداد وعياً خلال رحلته في (أمريكا). كما كان سامسا يزداد وعياً بطبيعة حالته، وبأسرته، وبحقائق الإنسان والعالم والوجود في (التحول). وكأن رحلة بطل كافكا ما هي إلا سلسلة من الإثباتات لعجزه. لكن، وبرغم أن زيادة الوعي، وتفتح العين على الحقائق أثناء الرحلة، مليء بالألم والإحباط والخيبة، إلا أن ذلك لا يؤدي إلى نفاد الأمل من نفوس أبطال كافكا، بل على العكس، يزيدهم إصراراً (فكرة تغذي الأمل على اليأس، والعكس بالعكس، مرة أخرى) (9).
لكن هناك حالات نادرة نلمح فيها شخصية ما يائسة عند كافكا. على سبيل المثال، وفي رواية (القصر)، تبدو أماليا (أخت أولجا وبرناباس)، والتي رفضت الاستسلام للأغراض الدنيئة لأحد موظفي القصر؛ تبدو هي الشخصية الوحيدة الفاقدة للأمل والمزروعة في اليأس. تقول أولجا واصفة أختها أماليا: "لقد كانت تحمل أكثر مما كنا نحمل جميعاً، وإن الإنسان ليعجز عن فهم كيف احتملت كل هذا ومازالت تعيش بيننا إلى الآن. ولكن أماليا لم تكن تحمل الآلام فحسب، لقد كان لديها العقل الذي يمكنها من النظر في أعماقها، وفي الوقت الذي كنا نحن فيه لا نرى إلا النتائج، كانت هي ترى القاع، وكنا نأمل أن تتاح لنا بعض السبل اليسيرة، وكانت هي تعلم أن الأمر قد قضي. وكنا لا نجد لنا ما نلوذ به سوى التهامس، وكانت هي تلوذ بالصمت، لقد كانت تواجه الحقيقة عيناً في عين" (10). إن أماليا هنا تشبه فرانتس كافكا نفسه على نحو ما. تقول ميلينا؛ حبيبة كافكا، واصفة إياه: "إن الأمر ليبدو وكأننا قادرون على الحياة، لأننا لذنا ذات مرة بالكذب أو العمى أو الحماس أو الاقتناع أو التشاؤم أو غير ذلك، ولكنه هو لم يلذ قط بملجأ واق، ولهذا فهو يتعرض لكل ما نحن بمنأى عنه، مثل العريان بين المستورين (11)."
لكن يظل مع ذلك حقيقة أن الانزواء والصمت والانسحاب الذي تعيش فيه أماليا، لا يبدو أفضل حال من السلوك الآخر لأختها أولجا وأخيها برناباس، فرغم أنهما لا يؤجلان الحياة، ولا يكفان عن السعي، وعن الأمل في وضعية أفضل في مجتمع القرية، إلا أن وضعهما في القرية هو نفس وضع أماليا، وحظهما في الحياة هو نفس حظ أماليا، برغم محاولاتهما للاستمتاع بتفاصيل الحياة، ورجائهما في بداية طازجة ومثمرة عقب كل إخفاق أو خيبة جديدة، ورغم تطلعهما -ككل أبطال كافكا- إلى الفردوس المفقود: أيام كان السكان بضعة والموسيقى هي صدى الوجود؛ تلك الصورة الاستثنائية التي رسمها كافكا بغرابة في الفصل الأخير من روايته (أمريكا). إن اليأس عند أماليا هو المكافئ للجحيم، أما أمل أبطال كافكا فهو ملجأ وهمي من العواصف، ورغم أنهم يبدون أقوى من أن تهزمهم العاصفة، إلا أنها تهزمهم في النهاية، لكن يظل بطل كافكا أثناء الرحلة متمتعاً بامتياز الشعور بالسيادة على الذات، وعلى القدر.
-5- من هنا يبدو الأمل في عالم كافكا وكأنه الوسيلة الأفضل للحياة على الأرض، في ظل اليأس العام الحتمي الذي يغلف الوجود. ولذلك نتشكك ونحن نقرأ (أسطورة سيزيف) لألبير كامو، حين يتحدث عن أدب كافكا مشبهاً إياه بفكر كيركجارد، ومستشهداً بقوله: "يجب قتل الأمل الأرضي، لأنه حينذاك فقط يتم إنقاذ المرء بالأمل الحقيقي" (12). إن الوضع بالنسبة لكافكا يبدو وكأنه معكوس مقولة كيركجارد. إنه: "يجب قتل الأمل الحقيقي، من أجل إنقاذ المرء بالأمل الأرضي".
وبهذا المعنى يمكن أن نفهم الأمل الشخصي لدى بطل كافكا: إنه نوع من السلوان، من الرياضة، أو العلاج، للهروب من الجنون والكآبة والذعر المتأصلين في الوضع الإنساني؛ إنها محاولة كي لا ينقلب ك (أو كارل روسمان، أو جريجور سامسا) فيصبح أماليا؛ إنه نوع من التسلية النبيلة، من عزة النفس، إنه طريقة لتمضية الحياة على نحو شريف ونزيه. وهو -في نفس الوقت- أبعد ما يكون عن مغالطة النفس أو الوهم، فالأمل الحقيقي بالمفهوم الكيركجاردي بالنسبة لكافكا ليس إلا وهماً ومغالطة للنفس وخداع للذات.
يبقى افتراض أخير، افتراض عكسي يهدم كل ما سبق من تأملات، افتراض مخيف، يعززه أن كافكا شخصياً أقرب إلى أماليا من باقي شخصياته الأدبية الأخرى: ماذا لو كان النقاد التشيك على حق؟! ماذا لو كان أدب كافكا لا ينتمي فعلاً إلا إلى مجال السخرية؟! ماذا لو كان كافكا لم يفعل سوى أن يسخر، مجرد السخرية، من أبطاله ومن آمالهم؟!
هوامش: (1) WBenjamin, Illuminations, translated by: Harry Zohn, edited by: Hannah Arendt, New York: Schockn Books, 1968, p. 116.
(2) بخصوص عدم شكوى سامسا من تحوله إلى حشرة مقرفة، والآلام الجسدية والنفسية التي يتسبب فيها وضعه الجديد، من المثير هنا عقد مقارنة بين مفهوم الألم عند كل من دوستويفسكي وكافكا: ففي حين أن الألم حاضر دوماً عند أبطال دوستويفسكي؛ سواء في صورة الألم الجسدي أو الألم الروحي والنفسي، فإن بطل كافكا نادراً ما يعترف بألمه. صحيح أنه يتألم ولا شك، لكن تركيبته العقلية والنفسية تمنعانه من الشكوى، قافزاً إلى ما بعد الشكوى فوراً. على نقيض بطل دوستويفسكي، الذي يسعى إلى الاعتراف لكي يتخفف من ألمه. وقد يكون من المناسب إرجاع الأمر إلى الاختلاف بين بطل دوستويفسكي الروسي المسيحي الأرثوذكسي الخاضع المتواضع، وبين بطل كافكا الأنف صاحب الكبرياء الرومانية. من اللافت للنظر أيضاً في هذا المقام، ملاحظة أن كبار المتألمين عند دوستويفسكي (أمثال راسكولنيكوف، وإيفان كارامازوف، وأليوشا كارامازوف، والأمير ميشكين، وستافروجين، وشاتوف، وفرسيلوف) تعصف بهم الأفكار الذهنية الخطيرة، وتصارع عقولهم وأرواحهم المعاني الكبرى للوجود، في حين يستحيل أن نجد لدى بطل كافكا إلا الآلام التي تنتج عن الاهتمامات والمشاغل العادية، الآلام اليومية للإنسان العادي، آلام التفاصيل؛ آلام متناهي الصغر مقابل متناهي الكبر عند دوستويفسكي. وهذا لا ينفي كون بطلي دوستويفسكي وكافكا كلاهما يظلان زاخرين بالعزم طيلة صفحات الرواية.
(3) ألبير كامو، أسطورة سيزيف، ترجمة/ أنيس زكي حسن، بيروت: مكتبة الحياة، 1983، ص 149. (4) المرجع السابق، ص 151-156.
(5) فرانتس كافكا، القضية، ترجمة/ مصطفى ماهر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009، ص 59.
(6) WBenjamin, Illuminations, p. 117.
(7) إن ما يُغذي أمل ك في (القصر) ليس إلا الأصوات القليلة الغامضة المتداخلة التي يسمعها في هاتف الحانة آتية من القصر.
(8) فرانتس كافكا، القصر، ترجمة/ مصطفى ماهر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009، ص 262.
(9) من الشيق أيضاً عقد مقارنة بين تفتح الوعي عند بطل كافكا، وعند بطل دوستويفسكي. أو ربما يستحسن القول: "دور العقل عند كل منهما": ففي حين يلعب العقل (والوعي) دوراً سلبياً هادماً لدى بطل دوستويفسكي ويساهم في سقوطه (ما علينا إلا أن نتذكر على رأس القائمة راسكولنيكوف وستافروجين وإيفان كارامازوف، والدور السلبي المدمر الذي يلعبه العقل في مصير كل منهم)، لدرجة أن السعادة لا تتحقق إلا بطرح العقل جانباً والدخول في ملكوت الله (الشيخ زوسيما وأليوشا في "الإخوة كارامازوف"، وسونيا، وراسكولنيكوف في آخر صفحات الرواية في "الجريمة والعقاب"، على سبيل المثال)، نجد عند كافكا أن العقل يلعب دور المرآة الكاشفة فقط؛ فهو لايساهم لا في السقوط ولا في النجاة، لأن مصير بطل كافكا مُحدَّد سلفاً، بالرغم من أنه يجادل، وتتفتح عيناه على الحقيقة أثناء الرحلة، لكن دون أن يظفر بما يريد.
(10) فرانتس كافكا، القصر، ص 256.
(11) من مقدمة مصطفى ماهر لرواية (القصر)، المرجع السابق، ص 13.
(12) كان كيركجارد يتحدث عن فكرة لاهوتية تتعلق بالسعادة في الأبدية التي لا تتحقق إلا بقتل السعادة الأرضية. راجع: ألبير كامو، أسطورة سيزيف، ص 154.
#محمد_الفقي (هاشتاغ)
Mohamed_Elfeki#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دوستويفسكي والألم
-
ذوق الجماهير.. الفن في عصر النيولبرالية
-
حديقة الديناصورات، والإرهاب أيضاً
-
مرحباً في صحراء الدراما المصرية
-
القفزة الإيمانية لذوي السجلات الإجرامية
-
تزييف التاريخ في سينما هوليود
-
بداية ونهاية
-
الطبقة الوسطى في سينما محمد خان
-
نجيب الريحاني.. الكوميديا الذكية
-
صورة الانفتاح في السينما المصرية
المزيد.....
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|