أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - صخرة الإلحاد (1)















المزيد.....

صخرة الإلحاد (1)


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 6072 - 2018 / 12 / 3 - 20:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يُعد أبيقور أول من أثار مشكلة الشر كقلق وجودي خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ونقل ديفيد هيوم تساؤلات هذا الفيلسوف في (محاورات في الدين الطبيعي) وحسبها ما زالت بلا جواب. ومفاد هذه التساؤلات كالتالي:
إما ان الإله يريد ازالة الشر لكنه عاجز وغير قادر على ذلك، أو انه قادر على ازالته لكنه لا يريد فعل ذلك باعتباره شريراً، أو انه تام القدرة والارادة، لكن في هذه الحالة من أين أتى الشر؟.
وقيل ان هيوم نحى إلى طرح تساؤلات مشابهة استناداً إلى ما نقله عن أبيقور، حيث يُنسب اليه انه قال: ‹‹اذا كان الشر من تصميم الآلهة، فهي إذاً ليست مطبوعة على الخير، واذا كان الشر متعارضاً مع تصميمها فهي ليست كلية القدرة، حيث لا يمكن ان تكون القدرة والخيرية في آن واحد››.
وقد أشار البعض إلى ان مثل هذه التساؤلات جاءت في كتاب هيوم (محاورات في الدين الطبيعي)، رغم ان الأخير يخلو من ذلك باستثناء ما نقله عن أبيقور وصادق عليه كما يبدو.
كما نُسبت مثل هذه التساؤلات إلى اغسطين في (الاعترافات) خلال القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد. مع هذا فان ما ذكره اغسطين يختلف عما يُعزى اليه، فهو وإن أثار مشكلة الشر، لكنه قام بتفسيره استناداً إلى من سبقه من الفلاسفة وعلى رأسهم افلاطون. اذ اعتبر الشر ليس بكينونة أو شيئاً جوهرياً، وان كل ما يصدر عن الله فهو حسن، وليس بالامكان أبدع مما كان، وكل ما نراه في الموجودات من شر فذلك صادر لعدم معرفتنا لحلقات الأشياء بجميع أطرافها وروابطها ضمن سلسلة الوجود، ولو اننا عرفنا ذلك لرأينا كل شيء حسن من دون شر، فكلها مطابقة لأسبابها ومقاصدها. وبهذا ينفي اغسطين وجود شر في الأشياء، لكنه مع ذلك يعزوه إلى تمرد الانسان بفعل شهواته ونزواته.
إذاً ما يبدو ان التساؤلات حول مشكلة الشر وعلاقتها بكمالات الإله قد انحصرت في نص أبيقور كما نسبها ديفيد هيوم اليه. ويمكن اعادة ترتيب المشكلة وفق تحديد الحجة اللاهوتية وما تتضمنه من قلق وجودي حولها؛ عبر المحاور التالية:
1ـ إن الإله كلي العلم..
2ـ إن الإله كلي القدرة..
3ـ إن الإله كلي الخير عدلاً ورحمة..
هذه ثلاث خصائص أساسية تعزى للاله الخالق من وجهة نظر اللاهوتيين، لكنها تواجه مشكلة الشر بما يجعل بعضها يبدو غير صحيح.. فالشر موجود لا شك فيه، وبوجوده إما ان الله لا يعلم به اطلاقاً رغم قدرته الكلية مع خيريته المطلقة، أو انه يعلم به تماماً وانه خير أيضاً، لكنه غير قادر على ازالته، أو انه يتصف بالخبث مع بقاء علمه وقدرته مطلقتين، كما قد يكون هناك خلل في أكثر من صفة. وبالتالي فمع وجود الشر تصبح بعض تلك الخصائص غير صحيحة، سواء ضحينا بالعلم أو القدرة أو الخيرية أو بعدد من هذه الصفات.
ويعتبر أبيقور حالة استثنائية شاذة وسط ما سلم به الفلاسفة القدماء من تفسير ظاهرة الشر وفقاً لنقص مراتب الوجود. فقد سبق لهم ان قدروا بان ما يحصل من شرور يعود إلى حتميات الوجود، فالشر وارد لا محالة تبعاً لمقتضيات الحركة الوجودية بفعل تنزلات مراتب العلة والمعلول ومن ثم تناقص مراتب الوجود مقارنة بالمراتب العليا التامة، فالكل يغترف بقدر وعائه من بحر الوجود الفيّاض. والشر لديهم هو عدم وجود نسبي، أو هو نقص في الوجود كما يلاحظ لدى مراتبه الدنيا أو العالم الطبيعي الجسمي، اي انه نقص في الخير، باعتبار ان الأخير يساوق الوجود، وبالتالي فالايجاد يتعلق بالخير لا بالشر، فكل شيء بالنسبة إلى نفسه هو خير وان الشر عارض عليه من الغير بحكم ارتباطات الوجود بعضه بالبعض الآخر، وهذا ما يمنع ان يكون الشر مستقل الوجود والذات عن الخير، وهو ما يدحض فكرة وجود مبدأين للخير والشر، حيث أحدهما فائض عن الآخر بالعرض لا الذات. لكن تبقى النتيجة هي ان وجود الشر حتمي كحتمية وجود الخير، ويصدق عليه قاعدة (ليس بالإمكان أبدع مما كان). ولا تختلف النظريات الحتمية الحديثة من حيث المبدأ عن هذه الصورة المجملة. فطالما كانت علاقات الوجود حتمية فالشر وارد لا مفرّ منه، سواء ارتكزنا على اصول ميتافيزيقية، أو اصول مادية صرفة. وربما تعد محاولة مرتضى مطهري في (العدل الإلهي) هي آخر محاولة فلسفية تقليدية لتبرير ظاهرة الشر وفق نظام العلة والمعلول بتنزل مراتب الوجود حتمياً.
هذه هي الرؤية الفلسفية التقليدية في تفسير الشر، وكان يقابلها رؤية أخرى دينية تعتبر الشر من فعل الله ومشيئته لغرض البلاء واختبار العباد في الدنيا، كالذي تشير اليه الكثير من النصوص القرآنية، وعليه نشأت فلسفة التكليف باعتباره مناطاً باختبار العباد، بما يتضمن من أركان؛ كركن النبوة والرسالة للتبليغ وإلقاء الحجة، وركن يوم الحساب المتمثل في الثواب والعقاب. وقد اعتادت هذه الرؤية ان تعزو ما يحدث للبشر من كوارث طبيعية إلى غضب الله على المفسدين في الأرض. وما زالت هذه الفكرة سائدة لدى الرؤى الدينية المختلفة، وفي الاسلام تجد ملاذها فيما ورد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، مثل قوله تعالى: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)). ولأن ظاهر الآية يبدي الاطلاق فقد انساق المفسر محمد حسين الطباطبائي إلى وهم هذا الظاهر، معتبراً أن الشرور، كالحروب والأمراض المعدية والزلازل والجفاف والفيضانات وغيرها، كلها نتاج الإنحراف والفساد والغي والظلم والضلالة.
وبلا شك ان ما يضعف هذه الرؤية هو ان الكثير من الكوارث تحدث في بلدان فقيرة أو معدمة، مثل الهند وبنكلادش واندونيسيا، وقد أصيبت الأخيرة خلال إعداد هذا البحث بتسونامي مفجع، ذهب ضحيته أكثر من ألف قتيل، وسبق ان أُصيبت خلال (عام 2004) بتسونامي فضيع للغاية، اذ أدى إلى مقتل أكثر من ربع مليون شخص (300 ألف شخص).
كذلك فان الرؤية السابقة لا تفسر ظواهر أخرى للشر ليس لها علاقة باختبار العباد، كالذي يجري في عالم الحيوانات من افتراس بعضها للبعض الآخر وبوحشية مريرة، أو ما يجري بالنسبة للاطفال ضمن الكوارث العامة والخاصة، وقد لا يكون لهؤلاء أحد من المعارف والاقارب، وربما لا يعرف بمصيرهم أحد، وهو ما يخرج عن حد اختبار العباد من الاحياء والاقرباء.
ومن مفارقة ما يذكر حول موضوع الشر والرؤية الدينية الآنفة الذكر ما يعرف بزلزال لشبونة (عام 1755)، حيث دمّر ثلاثة أرباع المدينة البرتغالية وسحق حوالي (30 ألف شخص) تحت الانقاض، كالذي أشار اليه فولتير في روايته الساخرة (كانديد). وفي احصاءات أخرى ان التدمير فاق العدد السابق بأضعاف. وتعود أهمية هذا الزلزال إلى انه حدث في يوم عيد القديسين الكنسي، اذ دمّر أغلب كنائس المدينة الكاثوليكية، بل ان التدمير شمل المناطق التي تكثر فيها الكنائس بما هو أعظم من المناطق الأخرى الموصوفة بالفاجرة.
ومن سخرية القدر ان يستغل اتباع الايمان مثل هذه الحوادث للنيل والتنكيل من بعضهم البعض، كاشارة إلى غضب الله على المخالفين من المذاهب والفرق الدينية. فزلزال لشبونة قد انتشى له الفرنسيون طرباً وسروراً في ضربه لهذه المدينة الكاثوليكية، وهو واحد من محطات كثيرة اتخذتها المذاهب المختلفة للتنكيل من بعضها البعض وفق مقالة غضب الله.
وقبل هذا الزلزال المدمر بخمسين سنة نشر الفيلسوف الالماني لايبتنز كتاباً بعنوان (ثيوديسيا Theodicy) أو العدالة الإلهية، وعنى به تبرير المؤمن للشر بما يتفق وهذه العدالة التامة، أو بما يقترب من الرؤية الفلسفية التقليدية، حيث ليس بالامكان أبدع مما كان، فقد كان لايبتنز يرى عالمنا أفضل العوالم الممكنة. لكن عندما حدث زلزال لشبونة صبّ فولتير جام سخريته على ثيوديسيا لايبتنز وعالمه المفضل الذي اعتبره أفضل العوالم الممكنة، فهو يقول بلسان بطل الرواية كانديد: إذا كان هذا خير العوالم الممكنة، فما تكون العوالم الأخرى؟.. وعند سماعه لنكبة لشبونة غضب على رجال الدين الفرنسيين الذين اعتبروا الكارثة عقاباً لسكان العاصمة البرتغالية على ذنوبهم وخطاياهم، وانشد قصيدة متشائمة ومؤثرة تدور حول جدوى وجود الشر في العالم.. هذا نصها كما وردت في الترجمة العربية:
أنا جزء صغير من الكل الكبير.. نعم، لقد حكم على جميع الحيوانات بالحياة.. لقد ولدت جميع المخلوقات بمقتضى القانون ذاته.. وهي تتألم مثلي ومثلي تموت.. يشد الصقر على فريسته الوجلة ويطعن بمنسره الدامي أطرافها المرتعشة.. ويبدو كل شيء على ما يرام في عينيه لفترة.. ويمزق النسر الصقر إلى قطع شر تمزيق.. ويرشق الإنسان النسر بنباله ويقتله.. ويسقط الإنسان في غبار معارك الحروب.. ويختلط دمه بدماء القتلى من رفاقه.. ويصبح بدوره طعاماً للطيور الكاسرة.. وهكذا كل شيء في هذا العالم يئن ويتألم.. لقد ولد الجميع للعذاب والموت.. ومن فوق هذه الفوضى الشاحبة ستقول: ينزل الشر بواحد لخير الجميع.. ما هو النعيم! عندما تصرخ بصوت فانٍ يرثى له كل شيء حسن.. إن الكون يناقضك، ويناقض قلبك.. ويدحض مائة مرة أوهام عقلك.. ما هو رأي هذا العقل الأوسع؟.. صمتاً، إن كتاب القدر مغلق علينا.. إن الإنسان غريب في بحثه ولا يعرف من أين يجيء وإلى أين يذهب.. ذرات معذبة في فراش من طين يبتلعها الموت، سخرية القدر.. إن وجودنا ممزوج باللانهائي ولن نرى أنفسنا أو نعرفها أبداً.. إن هذا العالم مسرح للكبرياء والخطأ يعج بالمجانين المرضى الذين يتحدثون عن السعادة.. لقد غنيت مرة بأنغام أقل كآبة وحزناً بأن السرور المشرق هو الحكم العام.. ولكن الوقت قد تغير.. وعلمني تقدم العمر أن أشارك الناس في إنكسارهم وأبحث عن ضوء وسط الظلام العميق.. لا أقدر إلا أن أقاسي ولن أتذمر أو أتضجر.
هكذا يعترض فولتير على فكرة ان العالم أفضل العوالم كما سطره لايبتنز، بل ورآه شديد السوء بفعل ما يغلب عليه من شر. وهو لم يحدد أين مكمن الخلل، خاصة ان طرحه كان عاطفياً دون ان يهتم بتحليل المشكلة عقلياً.
على ان الحجاج الأكثر فاعلية حول مشكلة الشر يتعلق بصفة القدرة الإلهية ان كانت مطلقة أم نسبية أو معدومة كلياً.. وأقل من ذلك اعتبار الإله فاقد العلم كلياً، وقد تستحضر في هذا المجال فكرة كون الإله غير مبال بخلقه، لكن يستبعد وجود إله شرير، أو ما يعبر عنه بالإله الشيطان. رغم ان جميع هذه الخصائص داخلة في النقاش المعاصر بين اللاهوتيين ومعارضيهم. فحتى فكرة الإله الشرير مطروحة لدى البعض كإحدى الافتراضات الممكنة، لا سيما وان بعض المذاهب القديمة كالمجوسية والمانوية تنص على وجود إلهين خيّر وشرير، وهو ما يفسر وجود الخير والشر والصراع بينهما. وكل هذه الحجاجات تستنسخ صورة الانسان لتصنع منها مخيالاً للطبيعة الإلهية.
لقد أُعيد مفهوم الثيوديسيا بقوة أثر الجدل الغربي المعاصر حول مشكلة الشر. وهو الجدل الذي استعر لأول مرة بين اللاهوتيين ومعارضيهم من الملحدين المنكرين لوجود الله والربوبيين النافيين لصفات الكمال الإلهية، ولم يكن في السابق قد أُثير هذا المعنى من الجدل. اذ كانت المشكلة في الماضي لا تتجاوز تفسير الثغرة من قبل الفلاسفة واللاهوتيين، باستثناء عدد قليل جداً ممن أثار الاشكال حول الاطروحة اللاهوتية باعتبارها متناقضة وغير متسقة، ولم يكن الغرض من ذلك دعم الإلحاد.
مع هذا ظهر خلال القرن التسع عشر من أشار إلى وجود علاقة بين الإلحاد وظاهرة الشر، فالشاعر الالماني جورج بوخنر Georg Büchner (1813-1837) عبّر عن المعاناة البشرية بانها صخرة الإلحاد، وقال في مسرحية (موت دانتون): لماذا أعاني؟ فهذه هي صخرة الإلحاد . وقد نسبت العبارة الأخيرة في علاقة الشر بالإلحاد إلى اللاهوتي هانز كونج (Hans Küng) عام 1976.
في حين أخذ عدد من الباحثين الجدد يطرحون المشكلة تارة في قبال وجود الله، وأخرى في قبال صفاته التي يؤكد عليها اللاهوتيون من اتباع الديانات السماوية. لذا قد تختلف الصيغ المطروحة بهذا الصدد، فمن حيث دلالتها على انكار وجود الله يقال: إما ان الله موجود فالشر غير موجود، وعلى الأقل الصادم منه، أو ان الشر المريع موجود فالله غير موجود. فالملحدون يثيرون التناقض حول ما يقدمه المؤمنون من صورة للإله تتسم بصفات الكمال في كل شيء معنوي، كالكمال في العلم والقدرة والقوة والرحمة والعدالة وغيرها من الصفات، وهم يرون ان هذه الصفات لا تتوافق مع المكابدة والمعانات والشر المنتشرة في العالم.
لذا تعتبر مشكلة الشر من أكثر الأسباب التي تشير إلى غياب الايمان لدى الكثير من الناس. وقد وصف الفيلسوف مايكل بيترسون المشكلة بأنها تحدٍّ خطير ودائم للإيمان الديني، بل انها تضرب في قلب الاعتقاد التقليدي بالله.
كما عبّر الباحث اللاهوتي رونالد ناش عن مكنون الفلاسفة الذين يعرفهم بانهم جميعاً يعتقدون بان التحدي الأعظم خطورة على الايمان بالله كان وما زال وسيظل مناطاً بمشكلة الشر.
كذلك انعطفت الحجاجات الإلحادية إلى التركيز على مسألة الحب الإلهي وعلاقته بوجود الإله، خاصة فيما تصوره الرؤية المسيحية بان الله محبة تامة. ومفاد الحجة المطروحة بهذا الصدد هو ان البشر سيكونون أكثر سعادة إذا ما علموا بوجود الله المحب، فاذا كان موجوداً فسيحرص على أن يعرفه الجميع. وحيث ان البشر لا يدركون محبته، لذا فهو غير موجود.
وبعبارة أخرى، إنه لو كان الإله محباً وخيراً لما سمح بالشر والمعاناة، وبالتالي فهو غير موجود.
لقد اعتبرت هذه الاساليب رداً على جميع محاولات الثيوديسيا التي التزم بها المؤمنون بالله من أصحاب الديانات والفلسفات، سواء على نحو التبرير أو على نحو التفسير. وما زال الجدل قائماً بين المؤمنين والملحدين، فبقدر ما ينكر الملحد وجود الإله استناداً إلى مشكلة الشر؛ بقدر ما يجد المؤمن تبريراً أو تفسيراً لهذه المشكلة. كما يظهر لهم أحياناً نوع من الدفاع الذي غرضه إبطال ان تكون حجة الملحدين متماسكة.
على ان هناك من قسّم الإلحاد إلى موجب وسالب، كما فعل الفيلسوف الامريكي الملحد ميخائيل مارتن Michael Martin في كتابه الضخم (الإلحاد تعليل فلسفي)، فالموجب هو ذلك الذي يعتقد يقيناً بعدم وجود الإله مطلقاً، أما السالب فيتوقف عند عدم الاعتقاد بوجود الإله، ويشمل في هذه الناحية حالة الشك واللاأدرية. كما هناك تقسيم آخر للإلحاد، يأتي بالمعنى الموسع، فينفي وجود الإله مطلقاً، والمعنى المضيق الذي يكتفي بنفي صفات الإله الكمالية كما تدعو اليها الديانات السماوية على ما سنعرف لاحقاً.
ويعد الباحث الاسترالي جون ليزي ماكي J. L. Mackie أول من أثار الجانب المنطقي للمشكلة ضد الحجة اللاهوتية الشهيرة حول الشر (عام 1955)، وذلك في مقال له بعنوان (الشر والقدرة الكلية). ويعتبر أول من فتح طريق الإلحاد عبر تحليله لهذه المشكلة. أما قبله فلا توجد دراسة مخصصة حول الشر وعلاقته بالإلحاد أو انكار وجود الله من الناحية المنطقية. فقد التزم الملحدون بالعنوان العام لمصادفات الكون والحياة وما ترتب على ذلك من شر لا بد منه دون ان يفرد للشر دراسة منطقية خاصة تثير الجدل حول الإلحاد.
فهذه هي نقطة انطلاق الدراسات حول علاقة الشر بالإلحاد والصفات الإلهية المتعارف عليها ضمن الحجة اللاهوتية. حيث ظهر بعدها الكثير من الجدل والآراء المتعارضة حول الموضوع بين الملحدين وناكرين كمال الصفات الإلهية من جهة، واللاهوتيين المدافعين عن وجود الله وصفاته الكمالية المطلقة من جهة ثانية، من أمثال جون هيك John Hick وألفن بلانتنجا Alvin Plantinga وريتشارد سوينبرن Richard Swinburne وكارل بارث Karl Barth وغيرهم. لكن عادة ما كان الجدل كلامياً، فهو معني بالاطروحة الدينية في تصورها للإله، أو بأغلب اتباع الديانات السماوية، ومنها المسيحية التي دار الجدل حولها.
وبحسب ما نشره الباحث باري وتني Barry L. Whitney من فهرسة بيانية (bibliography) فان عدد الدراسات المطروحة في الغرب خلال إحدى وثلاثين سنة (1960ـ1991) فقط قد ربت على (4200 مادة) تتعلق بمشكلة الشر، وتم نشرها في دراسة مؤلفة من (490 صفحة) عام 1993. لذا أثنى عليه الكثير من الاكاديميين باعتبار ان عمله كان وما زال فريداً من نوعه، وفيه خدمة جليلة للفلاسفة الراغبين في بحث الموضوع، ولم تظهر بعد ذلك أي دراسة تقارب هذا الجهد الضخم حول المسألة.
وأهم ما ظهر بهذا الصدد ثلاث نظريات اعتبرت إلحادية وان بعضها يدعو إلى البعض الآخر. فكانت البداية مع جون ماكي الذي ركز على إبراز تناقضات الحجة اللاهوتية منطقياً، ثم أعقبتها محاولة الباحث وليام رو (William L. Rowe) في ابراز الشر المجاني وحجته البرهانية، وذلك في مقال له بعنوان (مشكلة الشر وبعض صنوف الإلحاد) عام 1978، قبل ان يقوم بكتابة عدد من المقالات حول الموضوع، ثم توجها بكتاب له بذات العنوان الأول (عام 2001). كما ظهرت أخيراً محاولة ثالثة حول الحب والاحتجاب الإلهي للباحث شيلينبرج Schellenberg في كتاب له بعنوان (الاحتجاب الإلهي والعقل البشري) عام 1993.
فهذه هي أبرز دراسات من وصفوا بالإلحاد في نفي وجود الله، أو على الأقل صفاته الكمالية، من خلال ظاهرة الشر، خاصة المروع منه أو غير المبرر..
فما زال الشر يمثل لدى الكثيرين صخرة الإلحاد التي تتحطم عليها رؤوس الايمان. ويقابلهم في ذلك المؤمنون حيث يعتبرون النظام الكوني الدقيق صخرة تتحطم عليها رؤوس الإلحاد. وحقيقة ان كلاً منهما يواجه شبهة كبيرة يعجز عن تفسيرها. فالمؤمن يواجه مشكلة الشر من دون جواب مقنع، فيما يواجه الملحد مشكلة النظام الكوني الدقيق من دون جواب مقنع هو الآخر. والنتائج المترتبة على كل منهما متعارضة، حيث ان المؤمن يرى ان من السهل الاقتناع بوجود الإله بفضل النظام الدقيق في الكون، فيما يرى الملحد ان ظاهرة الشر لا تدع مجالاً للاعتقاد بوجود مثل هذا الإله.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصل الجسيمات وتوحيدها (2)
- الانتروبيا والنظام الكوني
- أصل الجسيمات الكونية وتوحيدها (1)
- المزاج البيئي والمعرفة
- الايمان والقيم في القرآن
- سيرة مشروع (المنهج في فهم الاسلام) والتباساته
- الانفجار العظيم ونظرية البلازما الكونية
- تعريف بنظرية الانكماش الكوني (3)
- الشيء في ذاته ومبرراته الكانتية
- تعريف بنظرية الانكماش الكوني (2)
- الانبثاق الكوني والنظريات الضمنية (1)
- تعريف بنظرية الانكماش الكوني (1)
- هل للازاحة الحمراء صلة بتوسع الكون؟
- الدين والاخلاق
- نظرية الانفجار العظيم واشعاع الخلفية الكونية
- ترسندالية الواقع الموضوعي
- نظرية الانفجار العظيم والشكوك حولها (2)
- مفاتح البحث الميتافيزيقي والوجود الالهي
- نظرية الانفجار العظيم والشكوك حولها (1)
- المنبع الفكري للكراهية الدينية وسبيل التحرر


المزيد.....




- أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن ...
- -سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا ...
- -الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل ...
- صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
- هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ ...
- بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
- مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ ...
- الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم ...
- البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
- قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - يحيى محمد - صخرة الإلحاد (1)