|
قصة قصيرة : (… كقصيدة رعويّة )
بديع الآلوسي
الحوار المتمدن-العدد: 6051 - 2018 / 11 / 11 - 02:39
المحور:
الادب والفن
قال الرسامه اليابانية ( وانغ فو ) وهي تنظر الى عرانيس الذرة : ـ احتاج الى العزلة ... الطريق الذي مرت به طويل بمنخفضات ومرتفعات وبعسر ويسر و بشجاعة ورهبة . اليوم ، تتداخل في روحها وتذوب كل هذه المفردات الملتبسة ، والتي تتأملها وهي تزفر دخان التبغ غير مكترثة بالعادات والتقاليد الصارمة .. في الفترة الأخيرة ، ومن حسن حظها ان اللوحة البيضاء ما عادت تسبب لها ذلك الاضطراب ، وان محاولاتها المتأنية في البحث ساعدتها في العثور على ذاتها و أعادة الثقة والأمل إلى نفسها ، أحيانا ً تقول للأطفال : كأني بدأت أتخيل روحي مثل تلك الساحرة التي امتلكت قدرة الإبهار .هي تعترف ان سنيين عمرها السبعين قد أمدتها بخبرة تساعد مخيلتها على رؤية ماوراء الشكل من جماليات . و كذلك فأن وانغ فو قد أنتبهت وكتشفت ان في صراع الظاهر والباطن إيجابيات لا تعد ولا تحصى . ففي عزلتها وقبل ان تمسك الفرشاة ، تقضي ساعتين مصغية ً إلى موسيقى ملحن شعبي موهوب ، يدها اليسرى تحضر السلم اللوني الذي يتلائم مع مزاجها ، وبحركة مدربة تحدث تغيير ما ، بخط رشيق او منفعل تخلق شكلا ً ، او بفرشاة كبيرة وعبر اللون تبدع تكوينات غريبة . لكنها توقفت فجأة ً كي تعيد إلى لفافة التبغ الحياة ، انها تحب مراقبة الدخان ، الذي يظهر ويختفي ، كل ذلك دفعها كي تخاطب ببغاءها الكسول والغبي : أنا ما زلت متفائلة ً على الرغم من كل الآلام . حاولت هذا النهار رسم طائر يطلق عليه البوذيون بالملاك الحائر . بعينيها نصف المغمضتين وبضربات فرشاة ناعمة ، اذهلت الأطفال ، كأن روح الطائر صارت ترقص على ورقة الرز ، قال صديقها دون تردد : هذه المرتبة من الجمال لا تحتاج الى برهان . مَن يرى وانغ فو منهمكة في عملها ينتابه شعور ان ما تنجزة سيتجاوز ما هو مألوف ، ربما لأن لوحاتها اشبه بلحن رَعويّ خالي من الانفعال المتطفل اوالهواجس غير المجدية ، يعرف الاطفال جيدا ً ، انها ستذرف الدموع إذا عملها الفني لم ينل رضاها . كان قلبها المغامر يؤكد للزوار الفضوليين المحبين مشاركتها عملية الخلق من ان الإبداع سلسلة من الاحتمالات الامنتهية ، وان الرؤية المتكاملة تلد بعد انهيارات تشذب اللوحة من الخداع المحايد . لوحات وانغ فو يطغي عليها الصفاء الروحي ، اما عن مشغلها فعبارة عن صالة طويلة رتبتها بما تقتضي ضرورات عملها ، حيث نجد عدد من الطاولات الملتصقة ببعضها ، على أحداها صندوق وضع عليه لوح خشبي ، أعد خصيصا ً لتحضير السطوح التي سيتم معالجتها بالألوان . بما انها ريفية المزاج ، فقد أحضرت هذا النهار باقة ورد من كل الألوان ووضعها قرب النافذة ، يوم حافل بالفرح والنشاط ، ربما كل ذلك لان لها موعد مع الحب يوم غد ، فقد حرصت ككل خميس بعد الظهر على اللقاء بصديقها ، الذي يملأ قلبها بكلمات تعيد المسرات الى روحها . كان ترسم بخفة راقص ، وتحفر سطوح الخشب والبلاستك بهدوء وصبر عجيبين ، كانت فرحة ً بلوحتها ينابيع الربيع والتي كل من يراها يسترسل في تأويل ما تبعثه من سرور ، كان بعض ما تنجزه يصل في نهاية المطاف الى المطبعة التي وضعت في آخر طاولة . كل الاطفال يحبوها وتحبهم ، كانوا يرون الابتهاج على وجهها حين حظر صديقها ، هي تعلم إن تحمله عناء المجيء جوابا ً على حبه لها وفرط التعلق بها ، وقبل ان يشرب الشاي قال لها بنبرة مشجعة : أرى في اعمالك الأخيرة استعارات مكثفة . كانت تضحك وانغ فو وتقول للاطفال : وانتم ماذا ترون ؟ كانوا يصرخون بحماس ، كل منهم يصرح بما يحسه ، أما هي فتفرح حين تعرف انهم يرون ما يشبه تلال بللها المطر أو الغيوم تتعمد بالشمس ، أو نجوم فضيّة تحتضن القمر ، و كذلك طائر يغفوعلى غصن شجرة .. لكن صديقها يفلسف الأمر بعبارات غامضة ، قال كلاما ً لم يدركه الأطفال لا بل ضحكوا حين سمعوه : اني أرى عالما ً خياليا َ بعاطفة مضغوطة تشبه عاصفة تجريدية . بعد ان انصرف الضيف .. غابت الشمس ، وحل الليل الرمادي والسلام الهانيء ، كل ذلك ساهم في انزواء وانغ فو بتلك الغرفة التي تحوي أهم اعمالها ، ظلت معلقة ً بين الفرح والدهشة ، وهي تتفحصص لوحاتها الملونة الصغيرة ، التي صارت تقلبها وتعيد تأملها واحدة واحدة ، سمع الأطفال ماقالته : حمدا ً للحرية على حسن المفاجئة والمصادفة .. بعدها شعرت ان روحها قد امتلأت بالغبطة ، كأنها لامست تفاصيل حلم عاطفي لذيذ . كانت شجاعة لكن بخطى متثاقلة انسحب ورتمت على الكرسي القريب من المدفئة .. ولتبديد مواجعها قررت ان تحتسي مشروبها الروحي المفضل ، وغطت في غيبوبة التأمل الروحي، محاولة ً عدم مطاردة ما وراء الأشكال من جماليات . لكنها جعلتني في حيرة من أمري حين فاجأتني بسؤالها : ـ هل تعلم من رسم لوحة ينابيع الربيع … ؟
#بديع_الآلوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثلج يحلم بالدفء
-
المساء الصوفي
-
قصة قصيرة : لينافا أرملة الرب
-
قصة قصيرة : حانة الملائكة
-
قصة قصيرة : الصديقان
-
قصة قصيرة : لعنة النزيف
-
قصة قصيرة : القط همنغواي
-
قصة قصيرة : الومضات الخرافية
-
قصة قصيرة : قولوا له أن يتركني
-
قصة قصيرة : ما الحكمة
-
قصة قصيرة : متاهة الخلود في الهور
-
قصة قصيرة : قمر اللوكيميا وأنياب التنين
-
قصة قصيرة : غواية الفيسبوك
-
حديقة كيفين
-
قصة قصيرة : نجمة في القلب
-
خفقات ناي غريب / البوح الثالث
-
خفقات ناي غريب / البوح الثاني
-
خفقات ناي غريب / البوح الأول
-
قصة قصيرة :عجيبة هي الحياة
-
الرأس
المزيد.....
-
رسميًا إلغاء مواد بالثانوية العامة النظام الجديد 2024-2025 .
...
-
مسرح -ماريينسكي- في بطرسبورغ يستضيف -أصداء بلاد فارس-
-
“الجامعات العراقية” معدلات القبول 2024 في العراق العلمي والأ
...
-
175 مدرس لتدريس اللغة الصينية في المدارس السعودية
-
عبر استهداف 6 آلاف موقع أثري.. هكذا تخطط إسرائيل لسلب الفلسط
...
-
-المُلحد-.. إبراهيم عيسى: الفيلم هو الدولة المدنية التي نداف
...
-
ساويرس يرد على سؤال بشأن فيلم -الملحد-.. وهذا ما قاله عن -من
...
-
-رأس الخس- يلاحق تراس من جديد ويخرجها من المسرح (فيديو)
-
هيفاء وهبي تعلق على قرار منعها من التمثيل والغناء بمصر بآية
...
-
بعد أزمة فيلم -الملحد-.. هل تأجل العرض بمصر أم مُنع العمل؟
المزيد.....
-
في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
(مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
كتاب نظرة للامام مذكرات ج1
/ كاظم حسن سعيد
-
البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
صليب باخوس العاشق
/ ياسر يونس
-
الكل يصفق للسلطان
/ ياسر يونس
-
ليالي شهرزاد
/ ياسر يونس
-
ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير
/ ياسر يونس
-
زهور من بساتين الشِّعر الفرنسي
/ ياسر يونس
-
رسالةإ لى امرأة
/ ياسر يونس
المزيد.....
|