|
شيرين وفرهاد: الفصل الثاني 1
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6034 - 2018 / 10 / 25 - 22:07
المحور:
الادب والفن
الطائرة القادمة من لوبيك، الألمانية، حطت به في مطار محمد الخامس وكان الوقتُ مساءً. وكانت قد حلقت لما يزيد عن الساعتين فوق الغيوم المتجهمة، قبل أن يصبح بوسعه رؤية الأرض من الجو؛ الأرض الإسبانية أولاً، بجبالها ووديانها، ومن ثمّ بحرها تالياً، بخلجانه ومضائقه. استمر البحر المحيط ساطعاً في الأسفل، مثل صفحة فضية انعكست عليها أشعة الشمس، حتى حلّت الظلال رويداً وبان الأفق من نافذة الطائرة مصطبغاً بالأزرق القاتم. بقيت الطائرة معلقة في الأجواء المغربية لنحو عشرين دقيقة، مطلقة هديراً عالياً مع اهتزازات متوالية، إلى لحظة إعلان الكابتن الاستعداد للهبوط. ثم ظهرَ أخيراً جانب من مدينة كازابلانكا، وكان مضاءً كأنه شموع مرتعشة بفعل هبوب النسيم. فلما ارتطمت عجلات الطائرة على مدرج المطار، خفقَ قلبه فرحاً؛ هوَ مَن حُرم من حظوة زيارة موطن امرأته لما يزيد عن العام، وذلك لأسباب خارجة عن إرادته. خمسة فصول متواصلة، كان قد قضاها في البلد الغريب الآخر، السويد، قبل أن يؤوب ثانيةً إلى موطن الشمس. وكان من الممكن لتلك المدة الزمنية أن تكون كما عَهْده بأمثالها، كئيبة ومضجرة، لولا أنها أعقبت بداية " الربيع العربيّ ". آنذاك، وبينما كان قلبه يرقص فرحاً على إيقاعات الثورة الشعبية في بلاده، فإنه في المقابل كانَ على خشيةٍ من انتقال عدواها إلى موطن الأطلس. وهوَ ذا يعود إليه مطمئناً لسلامة الوضع، لواقع أن التغييرَ في وسعه التحقق تدريجياً عن طريق التعاون بين العرش والقوى السياسية المعتدلة. هنالك في صالة المطار، حقّ لتفاؤله أن يكون مشروعاً مع ما لاحظه من اختفاء المظاهر السلبية، التي سبقَ أن عانى جرائها في كلّ مرةٍ زارَ فيها المغرب. كان ينتظرُ القطارَ الذاهب إلى مراكش، ثمة في محطته تحت أرض المطار، آنَ أستعادَ باسماً كلمات " سيامند "، اللاذعة المتهكّمة، عن عبث الحنين إلى الجانب الشرقيّ من البحر المتوسط. وودّ لو أجابه، " ما الجدوى إذاً من كفاحكم وتضحياتكم، إن لم يكن لأجل هذا الحنين نفسه؟ ". إلا أنه، حينئذٍ، لم يشأ التعليق. لقد كان همّه مداراة مواطنه العنيد، لحين أن يتنازل له عن المذكرات المراكشية: " أما الآن، فإنني أقترب من تحقيق هذه الغاية بمجرد أن أخطره بحصولي على مخطوطة صديقتنا السويدية "، فكّر وكان ما يفتأ محتفظاً بمزاجٍ رائق.
*** وبينما القطارُ العتيق يشق طريقه الملتوي في الظلمة البهيمة، شبيهاً بثعبانٍ عجوز أتعبه الزمن، عادت الذكرى تدوّي في رأس " دلير " وكأنما تهيئه لمهمته في المدينة الحمراء. كان انتهى من قراءة صفحتين أو ثلاثة من المخطوط، حينَ انتبه إلى إفاقة صبيّ صغير كان يغفو في حضن أمه. كان طفلاً جميلاً، وإن يكن مكتسٍ بملابس بالية، وفوق ذلك، متسخة متربة. أخذ يرمش أهداب عينيه كما لو أنه استيقظ من حلمٍ عجيب، قاده إلى عالم حكايات الجدّات. ولما التقت عيناه بعينيّ الرجل الوحيد، الجالس في المقصورة الصغيرة، فإنه طفق يتطلع فيه بشيء من الخوف والحيرة. فهل حسبه أحد شخصيات الحكاية الخرافية، المتلاشية؟ " أماه، أماه.. "، صارَ الولد يردد باستمرار. وكانت الأم تواصل هدهدته، كأنما تود إعادته لعالم المنام. على الأثر، أنتبه " دلير " إلى حقيقة الطفل وأنه معاق ذهنياً. حوّل عند ذلك وجهه نحو النافذة المحاذية، الغارقة في العتمة، وقد كادت الدموع تفرّ من محبسها في محجريّ عينيه. وعند ذلك أيضاً، تسلل من أوراق المخطوطة طيفُ طفل مسكين، أبتليَ بنفس العلّة، ولكن والدته تركته وحيداً تقريباً يواجه مصيره المؤلم. بلى، تذكّر ابن " الشريفة "؛ المرأة الملغزة والمجهولة المصير بدَورها: " ماذا جرى من أمر ابنها ذاك، وهل استعاد حقوقه المشروعة مثلما كان الأمر مع أخته غير الشقيقة؟ ".
*** الأفكار، ما لبثت أن تزاحمت في رأسه فيما نظراته تغطس في العتمة العميقة، المهيمنة على مشاهد الطريق. وكانت أفكاراً مشوشة، كادت أن تسلّمه للقنوط. لولا أن داخله ما ينفكّ ندياً بحقيقة اقترابه من معانقة " مدينة البهجة "، المفترض فيها أن تكون بلسماً لجراح روح كل من لاذ بأسوارها.. كل من ساحَ خِلَل ساحتها، المسحورة بالأساطير والملاحم والأنغام.. كل من تاق إلى المتع الحسيّة، بما في ذلك الفاكهة المحرّمة.. كل أولئك الغرباء، بما فيهم أبطال سيرتنا المراكشية، الذين سجّلوا عبرها، سطراً سطراً، رؤاهم وآمالهم وإحباطهم : " شيرين "، " فرهاد "، " سوسن خانم "، " غوستاف "، " تينا "، " سيامند ".. وأخيراً هوَ نفسه، " دلير "، محقق السيرة! بيْدَ أنها سيرة، استغرقت جانباً من تاريخ المدينة، وذلك من خلال مفتتحها، " تاجر موغادور "؛ وهيَ التذكرة، المستهل فيها المحققُ مغامرته المغربية وكانت أساساً لمدماك العمارة ذات الطبقات الخمس، المختلقة فكرتها من الخيال بقدر استنادها إلى الواقع. وكان واقعاً أستند بيولوجياً إلى أجيال من سلالة التاجر الكرديّ الدمشقيّ، " جانكو ". أي لحين أن ظهرَ في السرد كلٌّ من " زين " وشقيقيها، بوصفهم أيضاً امتداداً تاريخياً له. > مستهل الجزء الثالث/ الفصل الثاني، من رواية " الصراطُ متساقطاً "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شيرين وفرهاد: الفصل الأول 5
-
شيرين وفرهاد: الفصل الأول 4
-
شيرين وفرهاد: الفصل الأول 3
-
شيرين وفرهاد: الفصل الأول 2
-
جزيرة مهجورة
-
شيرين وفرهاد: الفصل الأول 1
-
زين وآلان: الفصل السابع 5
-
شجرتان وأسطورة صغيرة
-
زين وآلان: الفصل السابع 4
-
زين وآلان: الفصل السابع 3
-
أُضحِيّة
-
زين وآلان: الفصل السابع 2
-
زين وآلان: الفصل السابع 1
-
زين وآلان: الفصل السادس 5
-
زين وآلان: الفصل السادس 4
-
زين وآلان: الفصل السادس 3
-
زين وآلان: الفصل السادس 2
-
زين وآلان: الفصل السادس 1
-
زين وآلان: الفصل الخامس 5
-
زين وآلان: الفصل الخامس 4
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|