|
العنف في السياسة 1-2
خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 6033 - 2018 / 10 / 24 - 22:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من الممكن، بل والمطلوب، اعادة النظر في وقائع التاريخ، لاسيما المهمة منها، وتحليلها وفق متغيرات الحياة وتطوراتها، لكن ذلك يشترط شيئين مهمين، هما توفر معطيات جديدة تلقي ضوءا مغايرا على الواقعة أولا، وأن لا تجردها من سياقها الزمني والظروف التي احاطت بها ثانيا. بغير هذا لن نحصل إلا على صورة مشوهة للواقع، من هنا أرى أن بعض الكلام الذي يدور في الوسط الاجتماعي والسياسي حول تجربة الكفاح المسلح للأنصار الشيوعيين العراقيين في الثمانينات فيه بعض التشويه والتجني. فقد تم عزل التجربة عن سياقها السياسي وإطارها العام وحُكم عليها وفق مفاهيم غير دقيقة. فالقول بان الانصار كانوا يطعنون الجيش العراقي في ظهره وهو في حرب مع إيران، هو عدا أنه كلام غير دقيق، فهو أيضا كلام عاطفي وأحادي النظر، لم ياخذ بعين الاعتبار الظروف التي انتجت هذا الواقع ولا المتسبب الحقيقي فيه.
صحيح ان ما يردد هو كلام مرسل، ولا يرقى الى مستوى الرأي ووجهة النظر القائمين على التحليل والتقصي للوقائع لكي يناقش، وهو قائم على فرضيات عاطفية اعتباطية لمفاهيم الوطن والنظام الوطني وغيرها من المفاهيم التي استند اصحاب هذا القول عليها، إلا أن مثل هذا الكلام يمكن أن يعمم كحقيقة ما لم يتم ايضاح المسائل التي تطرح فيه لمن هم قادرون على التمييز بين الحقائق. ولأني معني شخصيا بالتجربة، فقد ارتأيت، لأسباب أخلاقية وسياسية، أن أدون هنا ما أعرفه عنها في محاولة لإيضاح صورتها، والكشف قدر المستطاع عن حقيقتها.
ولنبدأ من البداية.
***
في مقال له عن المهاتما غاندي استخلص الكاتب البريطاني جورج اورويل أن تجربة غاندي المؤثرة في المقاومة السلمية ما كان لها أن تنجح وتحقق صداها وأثرها لو لم تكن قد قامت في ظل نظام ليبرالي، هو الحكم البريطاني للهند، لايستخدم عادة العنف في مواجهة خصومه. وتساءل؛ ماذا كان سيكون عليه مصير غاندي لو أن مقاومته اللاعنفية قد قامت في بلد ستالين أو هتلر؟
ليس في كلام اورويل مديحا أو دفاعا عن الاستعمار ولا عن الليبرالية، فهو يساري الفكر والانتماء وأحد نقاد النظام الراسمالي، لكن في كلامه اقرار بالجانب المتحضر وترسخ القيم الديمقراطية واحترام الانسان التي ميزت النظام البريطاني.
وفي العراق نصّب الإستعمار البريطاني نظام حكم، هو بالتوصيف العام، نظام تابع له ينفذ سياساته ويرعى مصالحه. وقد مارس هذا النظام، رغم ترسبات الإرث الاستبدادي العثماني في بنية الدولة والمجتمع العراقي، وأثره في تكوين شخصيات النظام الجديد الرئيسية، مارس سياسة مهادنة ضد خصومه ومعارضيه السياسيين. وقد اتسمت هذه المرحلة من عمر العراق بالسلم الأهلي والاستقرار رغم البؤس والفقر والتمايز الطبقي والإجتماعي الحاد، (والفقر، بالمناسبة، كان ظاهرة عالمية آنذاك) وحافظ نظام الحكم كذلك على بعض مظاهر الحرية الفردية، ولم يلجأ الى العنف ضد خصومه ومعارضيه إلا في حالات نادرة رغم اشتداد صراع المحاور الدولية في الحرب الباردة التي كانت في اوجها انذاك وامتد تاثيرها الى العراق بحكم موقعه الجغرافي ودوره في الصراع الإقليمي. ولجأت الدولة عند محاكمة أعتى معارضيها للطرق القانونية والعلنية وبحضور الصحافة.
في الجانب الآخر لجأت المعارضة السياسية نفسها الى ذات الوسائل والأساليب السلمية التي مارسها النظام السياسي معها. فلجأت هي ايضا الى الوسائل السلمية في مواجهته ( اضرابات، تظاهرات، عرائض احتجاج.. الخ) ولم تفكر بالعنف او تمارسه ولم تطرحه لا في شعاراتها ولا برامجها ولا حتى في مناقشاتها كوسيلة لتغيير النظام السياسي. أتحدث هنا عن أحزاب وشخصيات سياسية محلية، وليس عن جماعات قومية (كرد واثوريون) أرادوا بناء كيانات قومية تهز كيان الدولة، و لجأوا الى العنف والاستقواء بالخارج في مواجهتها.
في عام 1947، حصل قادة الحزب الشيوعي العراقي، على سبيل المثال، على محاكمة علنية روعيت فيها شكليات النظام القضائي، وسمح لهم بالدفاع العلني عن أنفسهم وعن قناعاتهم، وقد حوّل هؤلاء القادة، بحسب رواية الشيوعيين انفسهم، قاعة المحكمة الى منبر لعرض أفكارهم وآرائهم السياسية، وكان الحزب انذاك سريا ومحظور النشاط، وهو بحسب مفهوم النظام نفسه، بسبب من طبيعة الصراع الدولي زمن الحرب الباردة، من اخطر الاحزاب السياسية المعارضة وأكثرها استهدافا.
وقد حصل ذات الشيء وبأسلوب أكثر تحضرا وانفتاحا مع زعماء سياسيين آخرين وأحزاب سياسية كالسيد كامل الجادرجي وحزبه ( الوطني الديمقراطي)، وقد حوكم أيضا، في سياق آخر، الشاعر جسين مردان على ديوانه (الفضائحي) قصائد عارية، وصدر الحكم، بعد مداولات علنية، بالافراج عن الشاعر وديوانه.
لا يعني هذا الكلام أن نظام الحكم الملكي هو نظام نموذجي، فهو له مساوئه الكثيرة وجوانبه المتخلفة والمستبدة، لكنه كان نظاما قابلا للتطور، وما كان سيحظى بهذه الصورة الايجابية لو لم تخلفه في العراق انظمة حكم اتسمت بالقسوة والجهل، ولو لم تنجر المنطقة كلها، فيما بعد، لدوامة العنف وانغلاق الافاق.
ثم جاء العهد الجمهوري، وكان نظام حكم ثورة تموز، وهو مفتتح العهد الجمهوري، وشكل انتقالة نوعية لنظام الحكم الملكي ونقضا شاملا له، متارجحا في مواجهته لخصومه ومعارضيه، بين القسوة، التي ستغلب لاحقا على مجمل ممارسات النظم الجمهورية في العراق، وفي غيره من بلدان المنطقة، وبين المهادنة، فأخذت مواجهته لخصومه مرة طابعا حادا عنفيا ومرة هادئا مهادنا يتسم بـ (الرحمة)، ويعود ذلك في جزء منه، بالاضافة الى الارث السلمي للدولة، وحداثة العهد الجمهوري، الى شخصية عبدالكريم قاسم، مؤسس الجمهورية، التي اتسمت بالتسامح والرأفة مع انها حيرت المراقبين والمتابعين في غموضها وتقلبها وتناقضها.
لقد ولد مع ولادة النظام الجمهوري، وفي ظل تصعيد أيدلوجي شعاراتي، مفهوم جديد للوطنية جعل من نظام الحكم هو الممثل الشرعي، والوحيد، للوطنية وللإخلاص الوطني، وهو الذي يضع معاييرها وينظم شؤونها، وهُمش بذلك الانسان الفرد وأُهدرت آدميته، ولم تعد الدولة تقيم له حسابا ولا تستحضره الا ليزكي فعالياتها ويرضي غرورها بادعائها تمثيل الجميع (عدا خونة الوطن طبعا الذين سيكون كل معارض للنظام، بالبداهة، واحدا منهم). وأضحى السياسي والمواطن العادي على حد سواء، موسوسا بهاجس الشك بولائه وصدق وطنيته التي عليه ان يثبتها بشكل متواصل وبكل الطرق التي ترضي الحاكم.
وهكذا، بدل أن تكون الدولة هي المتهم باللاوطنية، كما كان الأمر في العهد الملكي، صار المواطن، الفرد، في العهد الجمهوري، هو المشبوه بلا وطنيته وصدق انتمائه.
وحين ننظر الى ماقام به البعثيون والقوميون العروبيون بانقلاب شباط الدموي عام 1963 ومابعده، عدا السنتان اليتيمتان لحكم الراحل عبدالرحمن عارف، الذي اتسم بالتسامح والمهادنة، سيتبين لنا أن مرحلة تموز كانت مرحلة انتقالية لأنظمة العنف المطلق والسافر التي أدار بها القوميون والبعثيون العراق حتى توجت بشخصية ونظام صدام حسين الهمجي.
لقد جاء البعثيون بانقلابهم المريب ( المدعوم من دوائر استخبارات اجنبية) عام 1968 ليضيفوا الى القسوة والعنف الهمجي الذي ميزهم ومارسوه بطريقة منفلتة عام 1963، عاملا جديدا هو الاغواء والديماغوجية السياسية. فضللوا الشعب والقوى السياسية فيه بشعارات وطنية وقومية رنانة غطت على دموية نظامهم الذي أخفى هذه المرة جرائمه عن أعين الناس، وغيّر من طابعها العلني السافر، الذي مارسه في تجربة شباط 1963، ليغلفها بسرية تامة داخل أقبية التعذيب والقتل الخاصة. وكانت معتقلات قصر النهاية، سيء الصيت، وأقبية الأمن والمخابرات من الشهرة ما يغني عن الوقوف عندها هنا.
وكان وصول صدام حسين للسلطة، أو قل انفراده بها، في عام 1979 إيذانا لتمكنه هو وحزبه من السيطرة التامة على المجتمع وعلى الدولة، وأيضا تتويجا لنزعة العنف المنفلت التي ستميز الحاكم الجديد وكامل عهده، اذ ازاح بلحظة كل اقنعة الزيف الشفافة عن وجه نظامه البشع، وتحول بين ليلة وضحاها الى سفاح مطلق لاتقيده أية قيود. وقد عبّد طريقه الى السلطة المطلقة، كما هو معروف في سيرته وسيرة نظامه، بالقضاء تماما على أي نأمة حس مخالف، ولا أقول معارض، لتطلعاته ورغباته ونزواته السلطوية، فقضى أولا على قيادات حزبه ممن اعترضوا على صعوده وانفراده بالقرار، وممن شعر أنهم قد ينافسونه أو يزاحمونه على موقعه الجديد. وبالتوازي مع ذلك مارس قمعه لكل القوى السياسية المعروفة في الساحة السياسية، وتنكر خلال ذلك لكل وعود نظامه للأحزاب وللمجتمع العراقي عموما، لينتهي به الأمر الى إقامة دولة استبدادية ونظام قرقوشي يخضع لمزاجه ونزوات بطانته المتخلفة، أدى لاحقا الى سلسلة من الكوارث حطمت الوطن ومزقت لحمة المجتمع.
لقد سُدت في فترة حكم البعث، بطوره الصدامي، كل السبل أمام المجتمع العراقي، وأمام القوى السياسية فيه، لممارسة أبسط وأدنى حقوقها بالتعبير عن رأيها، ولم يتبق أمامها، لكي تبقى على قيد الوجود، سوى مواجهة النظام وقمعه الذي لم يُبقِ لها غير طريق واحد وحيد، هو العنف، كرد على عنفه المنفلت. وتحت ضغط هذه الظروف الصعبة والاستثنائية تحول الحزب الشيوعي العراقي، وهو أكثر الأحزاب تحضرا وسلمية، الى العنف المسلح لمواجهة قمع النظام، وللدفاع عن نفسه وعن جماهيره.
هذا هو الاطار العام للخلفية التاريخية والسياسية لقرار، أو قل اضطرار، الحزب الشيوعي العراقي، كما غيره من الأحزاب العراقية، لتبني سياسة العنف المسلح لمواجهة همجية نظام مستبد ومتغطرس. أما كيف أُتخذ القرار، وكيف مارس الحزب الكفاح المسلح، وماهي نظرته للعنف؟ فسوف تكون موضوع الجزء الثاني.
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لمحة سريعة عن الازمة الوزارية في السويد
-
التحولات السياسية في الانتخابات السويدية
-
حجج لا تشيخ
-
وماذا بعد؟
-
حراس العقيدة
-
في حتمية زوال (اسرائيل)
-
من شّب على شيء شاب عليه
-
طفح الكيل في السليمانية
-
أولوية الأولويات
-
ممكنات التغيير في العراق
-
لمحة عن الصراع في الحركة القومية الكردية
-
تحديات الاستفتاء
-
شيء من الماضي
-
حلقات مفقودة من سيرة (مناضل)
-
مديح زائف
-
وعود خفية
-
مأزق الاستفتاء
-
مهرجان الاستفتاء والانفصال
-
ذات يوم كان ديلان
-
مخالب فولاذية أُنْشِبَت في غير مكانها
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|