|
الخروح عن النسق في ديوان -راهب العنب- لنضال القاضي
كريم ناصر
(Karim Nasser)
الحوار المتمدن-العدد: 6019 - 2018 / 10 / 10 - 09:57
المحور:
الادب والفن
لا يمكن أن تُعطي قصائد المجموعة الشعرية "راهب العنب" نفسها بيسر كما كنا نظن، ولا تكاد تكشف في العمق عن رؤاها الشعرية بمجرّد أن تبلغ معانيها الدلالية، ولنتفق على أنَّ مجموعة "راهب العنب" للشاعرة نضال القاضي تتطلّب من حيث المبدأ قراءة مميّزة، فربما لا تكفي قراءة واحدة لضمان فهمها، لأنّها ستكون مخادعة نظراً إلى وجود خاصية تنفرد بها وحدها، وإذا ما أردنا أن نسبر ها هنا أغوار موضوعات عميقة لتحليل بنيتها الدلالية، فإنّ ذلك من أجل أن نصل إلى مراجعها الأسلوبية، وهذا شرط ضروري لدراسة الشعر. وما من شك في أنَّ البحث عن السمات الضرورية العميقة يمكن أن يسهّل علينا الطريق للخروح من قمقم الأسلوبية، وهذا شرط نجاح أيّ تأويل للوصول إلى المعاني الدلالية والعناصر التي تكوّنها وتندمج في تراكيبها، والحقيقة أنَّ شعرية "راهب العنب" تبقى بامتياز شعرية متشظّية تظهر دلالاتها الجوهرية وتغيب على حسب قوّة تعابيرها الأدبية. هكذا تبدو القصائد دائماً كما لو أنّها أقانيم تغلب عليها تراكيب من صلب الواقع تحيطها هالات من الحلقات العنقودية الشجرية التي تتضمّن الكلمات المكرورة والحروف المتقطعة "بالتفسير الحرفي الفيلولوجي" فضلاً عن المتواليات التي تشبه سلسلة تضاريس حاملة لخصوصات أدبية يدخل من ضمنها الإنزياح ليغدو أداة من أدواتها الشعرية، في الوقت الذي يظلّ الأسلوب الشعري محتفظاً دائماً بأصالته ولا يخرج البتة عن العملية الشعرية، وهكذا يكون الوضع في كلّ مقطع يحقّق صيرورته.
الوظيفة الشعرية: الرؤى والدلالات:
ليست استعارة بورتو اليغري إلّا تجلّياً لبنية شعرية، وهذا ما يجرّنا إلى المستهلّ الذي يحمل بدوره نبراً خاصاً لفضاء إنساني خاص بها يجعلنا نشمّ عطر الخبز والمرأة والعنب والصباحات:
"كف الخبز عن الأرغفة مثل امرأة بلا كتف تكوّم الصباحات على العنب" ص7
والحال أنَّ قصيدة "راهب العنب" المستلهمة تحديداً من عالم بورتو اليغري تمثّل مفتاحاً شعرياً غنيّاً، فالمقطع الأول يرجع له، في حين أنَّ الشاعرة تبني سلسلة المقاطع المنشورة على أنقاضه، وهو منطق جمالي تعتمده في بناء التراكيب الشعرية من هذا المنظور لتفضي إلى تجسيدها مهما كانت تأثيرات الشاعر الجمالية واضحة في أدواتها الحميمة، ولكنها مع ذلك ليست مثلبة لإدراكنا أنّ الشعر صورة جوهرية من الإستعارات والمجازات:
"أي ما تبقى يا إسم الشجرة وقد بحت بيدي فانفضت لم تجدها أمي حين رفعت الشمس عن ثوبي" ص9
"سررت الطالع على حبل الغسيل لم تجدها حين صفقتني في الخزانة ورتلت بحطب أليف سريري" ص9
خصوصية اللغة، البناء والرؤية:
ليس من قبيل المصادفة أن تقوم الشاعرة ببناء أنموذجاتها الشعرية من تراكيب أسلوبية صارمة، وكأنّها حلقات عنقودية تمثّل ظاهرةً في طبيعتها أبرز خصائصها التوليف بين العناصر اللغوية التي تتكرّر حرفياً على أنّها إنزياحات لا تتوقف عند حدّ، ولكنّها في الواقع تحيل على دلالات يمكن أن تندرج ضمن السياق كلّه لتكون امتداداً كاملاً للمضمون إذ إنَّ الشاعرة لا تضع فرادة الفكرة في الخاتمة، بل في نقطة انطلاقها التي تفرضها بنىً أسلوبية خاصة بها، وقد يحدث أن تزداد وتيرة التكرار وتكون لها الخصائص الجمالية نفسها التي يطمح إليها الشعر، والحال أنَّ جوهر المادة تقول إنَّ الشعر امتدادات دلالية، بل إنَّ الشعر نفسه يمثل سلسلةً من الحلقات الحلزونية ضمن هذه التجربة بوصفها طريقة من الطرائق للتعبير عن حقائق جوهرية، وبهذا المعنى وبمجرّد تكرار البنى الحكائية يمكن أن تزداد هيمنتها معها، وهذه مشكلة بالقياس إلى الدلالة المعنوية، وعلى كلّ فإنها تبقى في نظرنا صيرورة لا تناقض جماليات اللغة، ولا تسمح بتمدّد هذه البنى الحكائية والتوسع فيها بالطبع لئلّا تعرقل تطوّر التراكيب العمارية لأيّة صيغة جمالية:
"على الكلمة دم كذب كلّ مرّة أجيئها بشجرة أخيرة وأقسم أنها أخي القديم فتأخذني إلى بئر" ص15 التكثيف والإختزال والإنزياح والدلالة: ليس في وسعنا أن نحكم على كلّ شعر من النظرة الأولى على أنّه عمل متكامل، ما لم نعد قراءته ونستئنف تحليله ضمن هذه المعادلة أي إنطلاقاً من تفكيك بناه التحتية الفنية واللغوية، وهذه الطريقة من منظور علمي تكون أكثر نجاعةً في التحليل الفكري بهدف وضع خلاصة أوليّة من المعايير لإيصال الفكرة المركزية التي نسعى إلى تأكيدها وهي غايتنا الأساسية، كما هي غاية كلّ ناقد حصيف وكلّ متابع مهتم بالأدب وبتأويله، ولكيلا نطيل نؤكّد أنَّ نجاح الشعر صراحة ما كان له ليكون كذلك لولا تماسك تراكيبه اللغوية وقوة معانيه الدلالية، وفي إطار قراءة متأنية نأخذ هذه الجملة كأنموذج
"ليس غيري من تأوّه الصبار ومشط حليبه حتى الغيم"
حيث إننا نجد أنَّ البنية التركيبية إذ تمثّل الأساس العميق للمعنى الدلالي، فلكي نصل إلى الفكرة، يجب علينا أن نقوم بالبحث عن الدلالة باجتهاد أي البحث عن وحدات يمكن تفكيكها لإثبات ما هو ضروري يحتفظ بشعريته، كما كنا نفعل في تحليل الجملة "التي سبقت الاشارة اليها" على رغم من وجود شيفرة تأويلية ضمن سياقها، ولنتأمّل هذا المثال كأنموذج دلالي:
"إني أسير إلى نومك بلا نهر" صحيح أنَّ العبارة سريالية بحق هكذا نفهمها، وهذا بفضل شعريتها الرفيعة، وكما بيّنا أنَّ الشعر يلجأ إلى خرق القاعدة العامة تارة بالإنزياح وتارة بتقويض المنطق السائد للخروج عن نسقه، الواقع أنَّ الشعر يقتضي أن تخترق عناصره اللغوية اللغة الطبيعية نظراً إلى أنَّ الصورة الشعرية لا تقوم إلّا على خاصية أي على وحدة فكرية دالّة، وهي الفكرة المركزية الأساسية نفسها، والملاحظ أنَّ الشعر لا يفسّر نفسه بل يمكن أن يؤوّل في حدود المنطق، ولذلك تبقى قيمة الجملة الشعرية في قوّة غرابتها، كما الحال في هذا المثال إذ إنَّ ما نحسّ به هو أنَّ الحروف هنا لا تني تتناسل لتؤلّف الصورة المثلى لتصبح شعرية: "في كل خضرة بقي ريش من ريش في الجذع" ص18
ويمكن أن تكون التراكيب دلالية تحقّق وظائفها التعبيرية بواسطة الصور الشعرية بالقياس إلى غيرها من التعابير البديهية خاصة، فلنتأمّل الأبيات الآتية:
"صدقت أن الأرض ليست تحت وان البلاد قش وعيدان واني أطير" ص17 أو "لا أريد ضلعك يقول رقم قديم في هشيم" ص23 أو "هذا الشعاع يصعب التنقل به مثل طفل ضاع في الشمس" ص45 أو "سرب طيور رفيف بثيابي يغدر بي في ثيابك ويطير" ص49 أو "لن اخبر أحداً أنك سهرت على سطح البيت تصنع تمثالاً من غبارك الأزرق" ص51 أو "وحدي أربّي فانوساً وأترنح حول ذُبالتي" ص55 أو "ليس غير الريح والريح لا تذهب إلى المدرسة" ص57 أو "ولأنه يصغي لندبة في وجهه أقسم أنها في الأصل أغنية" ص66
#كريم_ناصر (هاشتاغ)
Karim_Nasser#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مُدركات البلاغة الوجدانية في رواية -حب دافئ تحت الشمس-
-
ورق النخل
-
بحر
-
الغاشم
-
العصب السائب
-
إناث الحكايات
-
النُوتيّ
-
صرخة الرئم
-
الخمائل
-
السنّور
-
بقرة الأمير
-
القبطان واليرقانة
-
الصبّار والأيائل
-
شعراء الكرونولوجيا
-
السنجاب والقط
-
الدلافين
-
أزهار الفرسان
-
Gramophone
-
الشناخ
-
القُرقُف
المزيد.....
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|