محمد التهامي بنيس
الحوار المتمدن-العدد: 6010 - 2018 / 10 / 1 - 17:19
المحور:
الادب والفن
في مواجهة المرآة
أطفأت التلفاز وأغلقت المذياع ورميت الصحيفة , وعلى نغمات موسيقى خافتة وضوء شمعة صغيرة وسط كوب أزرق . جلست أتأمل ما يقع في بلدي الجميل وما يلوثه وما يعكر صفوه من تناقضات . أغفو حينا على نفس المشاهد وأصحو عليها , فهي لا تفارقني لأنها ليست عابرة أو نتجت عن صدفة , بل هي أفعال متكررة رغم اختلاف المكان والزمان . في هذه المنطقة أو تلك . في المدينة أو القرية . في البحر أو البر . في السفح أو الجبل . أصوات تحتج . أقلام تكتب . صور تفضح . أشرطة توثق للفضائح . تحاليل تبني وتهدم . هل هذه كلها حقائق ؟ هل هي ملفقة ؟ صوت الحقيقة أصابه الخرس , ليبقى الغموض والمستقبل المجهول سيد الموقف . حاولت أن أجد مخاطبا يسمع أنيني وشكواي , فكانت المفاجأة التي قطعت علي تأملاتي وتفكيري , في لحظة ذهول , إذ تسمرت مشدوها فيما أسمعتني مرآتي من تأنيب , وقد انهالت علي بالانتقاد اللاذع. بمجرد ما وقفت أمامها , ولم توقظني من دهشة ما أسمعه , سوى رنة الهاتف وصوت بنبرة الهلع , يزيد ما بي ذهولا , يسألني عما ألم بي , وأنه أفزعه يأسي وقنوطي غير المعهود . فأدركت أنه صوتها القادم من بعيد , وأنها قرأت خاطرتي عن سخرية رغباتي من أحلامي , وعن حوض مائي الفارغ ودمعتي التي لم تجف . فقلت لا داعي لأي قلق , فماذا تراني قد فعلته يفزع البعيد القريب , ما هي إلا خواطر حول ما يجري من حولنا . لم أجد مخاطبا يسمعها مني , فاخترت الكتابة للتعبير عما يقلقني على اعتبار أن التعبير حر . كما أن المتلقي حر في أن يرمي به في سلة مهملاته أو يجعله في رف ( صار بالبال )
في هذه اللحظة , تدخلت مرآتي بفضول , تجدد تأنيبها وتؤكد أسئلة الصوت الذي سمعته عبر الهاتف . فازددت ذهولا ودهشة ومرآتي تواجهني مباشرة وعلى غير عادتها وبصوت صارخ صريح وقالت : لم أعهدك على هذه الحال , أعرفك صبورا متشبثا بالأمل . ولكنك صرت يائسا تكتب كمن هو في لا وعي , تصف نفسك مجرد حصاة تناشد المجهول , وتدعي أنك لست سوى أشلاء مبعثرة لا تزيد عن كثلة أنماط من الذهان . ومن سلبياتك أنك ما غسلت تاريخك , وما قومت وما حددت بعد ما أمشتك فيه خطواتك , وأنك جسد ممزق , والعقارب دست لعابها في دمك . هل هناك شيء ألم بك حقا ؟ أو أن هناك بركانا على وشك الانفجار تخيفك حممه أو تخاف منها على بلدك ؟ أم ترى أنها هلوسات ما تعانيه من فراغ في الزمان والمكان . وهذا ما يراك عليه من تعتقد أن الأمر يعنيه وهو لا يكترث له ؟
أصابني دوار . مددت يدي لأستند للحائط حتى لا أسقط , فإذا المرآة تستوي , وتكشف عن وجهي من داخلها , ليصبح مخاطبي , وقد بدا أعقل مني وأكثر رصانة , وهزني منبها : هل نسيت أن الضعيف يتهاوى من شدة اليأس , وأن القوي هو من يقاوم . تذكر دائما أن الحوادث لا تكف عن الجريان , وأن لا فرح يدوم ولا حزن يستمر . صلي في محراب العشق بخشوع , فإله العاشقين / رب العالمين يتقبل دعاءك دون وسيط , ( والعاشق – كما قال – جلال الدين الرومي – لا يعرف اليأس أبدا , وللقلب المغرم كل شيء ممكن ) وأنت عاشق للحق والجمال فلماذا هذا القلق وهذا اليأس , وخيط الأمل لم ينقطع ؟
قلت منفعلا مخاطبا وجهي في المرآة : اسمع يا أنا .إني لا أقبل في هذه السن المتقدمة , أن أصبح منديلا يمسح وجه الخطائين . أنا أفضل أن أبقى في شيخوختي طفلا لا يكبر, ما دمت في مكان لا يكبر قومه , وفي زمانهم يستصغرون ذاتهم , وهذا ليس ضعفا مني , ولو كان ضعفا منهم . ولكنه اختياري لرفض واقعي المر , الذي هو جزء من واقع المجتمع الذي ينتظر أن يولد , وتتأخر ولادته رغم العهد الجديد , فكأنه يخشى ويتوقع أن يصبح بعد ولادته – وفي أحسن الأحوال – جروا متمسحا بالنعال , أو كلبا مسعورا , أو مهرجا لطاغية يرقص فوق جثت الموتى , أو ظل حاكم , حماته جياع وجهلة , أو محكوما مختلا وفاقدا للوعي سرعان ما يلعن يوم مولده ويفضل الهروب " حراكا " يرى أهون عليه أن يكون طعاما لحيتان البحر , من أن يرقص على جثته الطغاة المستبدون . فجلال الدين الرومي أيضا قال : ( بالأمس كنت ذكيا فأردت أن أغير العالم , واليوم أنا حكيم سأغير نفسي ) والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) سورة الرعد آية 11 . وأنا فقط أحاول أن أبدأ في تغيير ما بنفسي . لماذا تلومني . فما أنا إلا ما أردتني أن أكون , وذنبي أنني لم أتمرد عليك . ولما فكرت في أن أنتفض من أنينك الذي ألصقته بي وسط عالم أخرق , وحاولت في رحلة قصيرة أن أبحث عن صدقك المفقود في مرآة بلدي . جئت لتؤنبني وتضع هوة شاقة تفصلنا عن بعض , تحاول أن تستصغرني , تفعل بي ما فعل الشيطان بالإنسان " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " فأنا أكفر بك ولن أكفر بالله , ومع ذلك لن أكسرك لأنك أنا ولأنني أنت ولأنك جزء من مجتمعي العاجز . فدعني وشأني فلم يعد تأنيبك يجدي نفعا , وما أفسده الطغاة والسنون , لن تصلحه كلماتك ووعودك . لقد صارت الأبواب مغلقة ولن أسهر لأرقب قمرا لن يطلع . دعني وشأني ففي قلبي صمت يخنقني وإن فلت مني يفجر بركانا , ولا شك أنك تفهم ما أقول وسيكون أجمل لو تفهم ما لم أقله في كلمات , فدعني وشأني , فقد تمزقت أحلامي في بلد يصنع أحزاني وآلامي . بلد أظلم فيه الليل وغابت شمس النهار . دعني وخذ مساحيقك فتجاعيد وجهي أعمق , خذ مشطك معك , فرأسي فقد شعره وأصبح أصلع , فأنا إن طلبت لؤلؤا – وهذا من حقي كمواطن – سأغوص في الأعماق , ولا أكتفي بزبدهم على السطح , فما زبدهم إلا تمويه وتسويف ووعود وطول انتظار. ذلك لأن نفسهم لا تؤمن بالخير والجمال , ومن نفسه بغير جمال , لا يعطي للبلاد شيئا جميلا . مهما حاولت المرايا تلميع فعله واستجداء أتباعه
فاس . محمد التهامي بنيس
#محمد_التهامي_بنيس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟