محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 5997 - 2018 / 9 / 17 - 19:07
المحور:
الادب والفن
ماذا لو قال لنا أحدهم -لغاية ما لا نعلمها-أن ثمة كنز مطمور تحت حجر من حجارة الطريق حيث نعتاد المرور كل يوم , ترى هل سنقلب كل الحجارة؟ هل نعتبر الأمر مجرد نكتة أو خدعة و نتابع حياتنا دون اكتراث ؟,ربما , و ربما لا , إذا لابد أن يساور بعضنا فضول يدفعه لتأمل الحجارة؟ طيب وبعد هذا الفضول ,هل سنتابع السير مشغولين بتمثل من وضع الكنز لنقرر لو كنا مكانه أي حجر سنختار ؟هل سنشعر بقوة ما كامنة في كل حجر أم أن هذه القوة سوف تتركز -أو هكذا يخيل لنا- على حجر بعينه ؟ أم شيء آخر هو الذي سيحدد في نهاية المطاف سلوكنا اتجاه الحجر و الكنز و ما بينهما ؟
ماذا؟ لا مغزى لما سبق؟ حسن ,ولكن ما المانع من تأمله -وتأمل ما فيه من طروحات بصورة عامة-سواء بدافع فلسفي أ م بدافع الحصول على الكنز. فما يقوله فيلم "مرحى يا ويل هنتينج ,أو حسن فعلت يا ويل هنتينج" يحمل أكثر من كنز لو عرفنا خلف أي مشهد يكمن أو تكمن رموزه. ولكن لننتبه إن مثل هذا الافتراض يحمل جانبا من " الإكراه" يقيد حريتنا و حركتنا , فنحن نفترض أن ثمة كنز مخفي, وأحدهم"شخص،جهة،سبب،ظرف....إلخ"أخفاه, و بالتالي نحن منقادون لافتراضات مسبقة و حلول معدة سلفا لمعضلة ليست من صنعنا.
وتقييد الحركة بصورة عامة أمر صعب للغاية باعتبار الحركة أبسط اشكال الحرية , فهي تمنحنا القدرة على الانفتاح على المحيط , و أي إعاقة لها -سواء فطرية أو ذات منشأ غير مرضي جسدي- سوف تكشف هشاشتنا وضعفنا واضطراب ذواتنا وتهافت شبكة علاقاتنا المزدوجة الداخلية و الخارجية وما يدور حولها من دوافع "الأنا و المحيط" التي تتعدى الطبيعة الوجودية للوجود الإنساني , أي ,الحرية و الانفتاح على الآخرين وعلى كل ما يحيط بنا من كائنات و موضوعات نصادفها في حياتنا الزمنية القصيرة على هذه الأرض
هذا جوهر ما يعالجه الفيلم ,أي تركيزه على الاضطراب النفسي للشخصية الرئيسية "ويل هنتينج". وتظهر بعض هذه الاضطرابات لنا كأنها تمتلك تأثيراً مباشراً على تأويلنا لمعنى هذه الاضطرابات وانعكاسها كسلوك ،من خلال إصرارانا على الادعاء بوجودها, فمجرد الاقتناع بفكرة ما أو هاجس ما على أنه حقيقي فسوف يساهم هذا بطريقة أو بأخرى بتدمير حياتنا , وإذا ما تم تثبيت مثل هذا الهاجس في مراحل مبكرة من العمر فسوف يكون الأثر أشد وطأة لاحقاً ما لم نتدارك أنفسنا .
يتحرك الفيلم ضمن هذه الفوضى"النفسية" في أجواء قصة ممتعة على مستوى الفرجة لكفاح شاب مغمور تستحوذ محاولته العثور على مكان له في هذا العالم على العناصر السينمائية الاساسية لجذب المشاهد سواء عل صعيد الصورة أو الكلمة، العواطف أو الأفكار , فيظهر الفيلم متكاثفا لاسيما في الحوار الذي يبدو واقعيا في كثير من حالاته و تتمحور أحداثه و حبكته حول ويل هنتينج الذي يعيش وحيدا في أحد أحياء بوسطن الفقيرة (تقتصر حياته الاجتماعية على ثلاثة أصدقاء فقط) ,و يعمل حارسا في معهد ماساشوستس.
يتمتع ويل بذاكرة تصويرية و قدرة عقلية مذهلة تجعله قادر على حل أصعب المعادلات الرياضية, غير أنه في المقابل يجد صعوبة بالغة في التعامل مع محيطه "باستثناء أصدقائه طبعا" وهذا واضح من خلال عمله , فرغم كل إمكانياته إلا أنه يقبل أن يعمل حارساً. وسنكتشف لاحقا أن ويل يواجه صعوبات في محاولته السيطرة على هواجسه المتأصلة من طفولته,وهو كثيراً ما يلوم نفسه (أحياناً بطرق لا واعية أو تلقائية ),حيث مازالت ذكريات طفولته المؤلمة تسيطر عليه و تزيد من مخاوفه و تعيق اندماجه بمحيطه و تقلل من ثقته بنفسه وهذا ما يدفعه لأن يكون كارهاً لنفسه , فيسعى لتدمير ذاته لاسيما إذا تعلق الأمر بالجوانب العاطفية فلا يحتفظ بوظيفة ثابتة و لا بعلاقة عاطفية مستقرة.
يقوم "جيرالد لامبيو"(عالم الرياضيات المتخم بالهراء البيروقراطي لمعهد ماساتشوستس حيث يعمل مدرساً)بكتابة معادلة جبرية كنوع من التحدي لطلابه على أمل أن يقوم أحدهم بحلها , ليكتشف فيما بعد أن أحدهم قام بحلها سريعا دون أن يعرف من هو , فيقوم بوضع معادلة أعقد -نعرف أن هذه المعادلة استغرقت عامين كاملين من لامبيو لحلها بمشاركة زملاء له - .وذات ليلة وبينما كان يهم بمغادرة المعهد , يلمح أحدهم يخربش شيئا ما على الحائط فيتجه نحوه لكنه يختفي فيعود للمكان ليكتشف أنه وقع على عبقرية رياضية لا تقدر بثمن تمكنت من حل المعادلة (طبعا لم يكن سوى ويل هنتينج),فينتابه الذهول و الفضول لمعرفة الفاعل , فيقرر تعقبه. في تلك الأثناء يكون ويل في الحانة يتعارك مع شخص لا يحتفظ ويل بذكريات طيبة معه ,إذ كان قد اعتدى على ويل بالضرب قبل نحو 15 عاما , يتدخل رجال الشرطة لفض المشكلة , لكن ويل يعتدي على أحدهما , فيتم اقتياده لقسم الشرطة وهناك يتقرر عرضه للمحاكمة لمواجهة عقوبة السجن فيتدخل البروفيسور لامبيو , لإنقاذ ويل , فيذهب إلى موعد جلسة المحكمة و يقترح مساعدته و إطلاق سراحه بضمانته على أن يخضع للعلاج النفسي ليتمكن من متابعة دراسة الرياضيات. لا يجد ويل سببا يجعله يرفض هذا الاقتراح سوى أنه لا يبالي بموضوع العلاج النفسي لعدم اقتناعه به , لكنه يخضع لرغبة لامبيو فيقابل عددا من الأطباء النفسيين , الذين يتعامل معهم بسخرية , يجعلهم ينسحبون واحدا تلو الآخر , وفي محاولة يائسة يهتدي لامبيو إلى استاذ علم النفس وزميل قديم له يدعى "شون مغواير" فيعرض عليه القضية فيقبلها على الرغم من مشاكله العديدة الشخصية و الخاصة التي يعاني منها, وسوف نتعرف على شون بوصفه معالج نفسي "غير تقليدي" يحاول تفكيك كل الحيل و الآليات الدفاعية التي استخدمها ويل مع الأطباء السابقين. يندفع شون بحماس رغم علمه بصعوبة التعامل مع شخص صعب المراس مثل ويل. يثق شون بقدرته على تفكيك مشاكل ويل, وهنا يبدأ الفيلم بالارتقاء , فيتم وضع المتلقي في فضاء يتيح بصري له تخيل ويل كشخصية غير سوية نوعا ما و غير قادرة على إنشاء علاقات جديدة , وهذا ما يجعلنا نتوقع صداما بين ويل و شون (اصطدم ويل قبل ذلك مع معالجين آخرين) , وإذن نحن هنا أمام شخصين يقف كل منهما على محوره الخاص و لكل منهما معاييره الخاصة لكشف ما استغلق من معاني الحياة بما يضمن استمرارهما في الوجود. و نكتشف أن شون يشبه ويل بطريقة ما حتى في اتخاذ القرارات المصيرية , ولعل التشابه بينهما هو ما سمح لشون لاحقا بأن جعل ذكرياته تطفو على السطح (لاسيما ما يتعلق بزوجته المتوفية), ففي في إحدى الجلسات يصاب ويل بالدهشة حين يخبره شون كيف تعرف على الفتاة التي ستصبح زوجته , لن يصدق ويل أن ثمة شخص يمكنه رفض دعوة حضور المباراة النهاية لبطولة البيسبول من أجل لقاء فتاة ما في حانة لتناول الشراب , كما فعل شون في حديثه عن أول لقاء له مع الفتاة التي صارت زوجته .تثير هذه القصة فضول ويل , بل تصعقه لدرجة أنه يتشجع أكثر لتعميق علاقته بفتاة بريطانية ثرية تدرس في هارفارد تدعى سكايلار كان قد التقى بها في إحدى الحانات ( تظهر سكايلار كفتاة مغرمة بويل و ذكية و لتنفك تعبر عن دهتها و إعجابها بقدرات ويل الذهنية ). تمتلك سكايلار طموحا عاليا للفوز بويل ,الذي كان يخاف من المضي في علاقة جدية معها , وهم بحكم قادر على تصور شخصيتها فهو سيقول لنفسه أن فتاة ثرية مثلها سوف تصبح طبيبة ذات يوم و باللي سوف تتزوج شابا ثريا يحمل شهادة عالية مثلها , يرى ويل أن سكايلار لا تحبه و بل تحب عقله , بمعنى ذكاءه فقط و هي بالتأكيد لن تحبه قط , لذلك كان يكذب عليها ينما يتطرق الحديث عن عائلته (لطالما تمنى ويل أن تكون عائلة حقيقية: اب و أم و إخوة كثر) , وطالما الامر كذلك فلا مانع لدى يل من الاستمرار في الكذب و القول أنه لديه12 أخا وهو قادر على ذكر اسمائهم و ترتيبهم في العمر و يعدها بالتعرف عليهم قريبا .ولكن يبدأ ويل بمحاولة الهرب من سكايلار (و من أي علاقة جدية أخرى أو حتى وظيفة "محترمة" تتناسب مع قدراته و ذكائه.), فحين تطلب منه مرافقتها لى كاليفورنيا حيث ستبدأ دراسة الطب هناك , لا تروق له الفكرة , لأنها ستعرف حقيقته ,فتهجره ليجد نفسه في مأزق يحب فتاة لا تريده .تحاول سكايلار تهدئته و ترضيته بأن تظهر بعضا من مشاعر التضامن معه فيما يتعلق بماضيه , فيثور و يغضب و يغادر المكان ويقوم بحرق أوراق -على مرأى من لامبيو-فيها بعض الحلول لمعادلات رياضية , يحرقها بعجرفة رغم توسل لامبيو له ,لنكتشف ,عن كثب, طبيعة العلاقة بينهما حيث يظهر فيها ويل مسيطرا و مستقلا , بينما لامبيو يظهر متلقي و "ومراقب" . يذهب ويل إلى اقرب صديق له "تشاكي سوليفان" ,ليقول له أن سوف يمضي بقية عمره كعامل بناء فيثور تشاكي في وجهه بعنف ( تشاكي سوليفان يعرف حق المعرفة قدرات ويل ) ويقول له أنه يتمنى أن يأتي يوم يذهب فيها إلى بيته فيطرق الباب و لا يجده , فيترك تشاكي و يعود إلى شون من جديد , وتبدأ جلسة من المصارحة الحارة يتفقان فيها على أنهما كليهما كانا ضحية سوء معاملة في طفولتهما ,و سوف يستخدم ويل في البداية آليات دفاعه المعتادة من أجل عدم تورطه أكثر في قبول حلول شون و سوف يعبر عن استيائه من تكرار شون لعبارة "الخطأ ليس خطأك" ,ورغم كل محاولات ويل , تنهار أخيرا كل وسائطه الدفاعية إثر اقتناعه أنه عليه أن يتوقف عن أن يكون ضحية هواجسه ومخاوفه و يقرر أن يقود حياته بنفسه , و يقرر في حفلة عيد ميلاده أن يخبر أصدقائه بأنه سيلتحق بسكايلار متخليا عن كل إغراءات لامبيو وعروضه السخية. في النهاية يترك رسالة إلى شون يقتبس فيها أحد عباراته التي كان يرددها على مسامعه " على المضي وراء فتاتي" , ثم يكتشف تشاكي أن ويل قد رحل , ليظهر في آخر مشهد في كاليفورنيا برفقة سكايلار. هكذا إذن يكون قرار ويل بالذهاب إلى حيث تعيش سكايلار و التخلي عن الوظيفة المرموقة يشبه إلى حد بعيد قرار شون بالتخلي عن تذكرة مباراة البيسبول مقابل لقاء صديقته في حانة و قد برر حينها شون فعلته هذه بقوله أن ينبغي للمرء أن لا يسمح للأشياء المهمة في الحياة تفلت منه .
و نظرا لأن العلاقة بين شون و ويل هي علاقة "مريض" مع "طبيب" فهي ليست أحادية الجانب إلا أنها لن تكون علاقة متكافئة على الرغم من الارتياح الظاهري الذي يبديه طرفي العلاقة , لذلك يستفز ويل شون كثيرا حينما يدفعه لأن ينظر لحياته الخاصة بطريقة موضوعية فهو ليس سوى أرمل لم يعتد بعد غياب زوجته التي توفت قبل مدة بسبب السرطان و لم يتأقلم مع وضعه الجديد كأرمل. لا يسعى شون لافتعال المشاكل مع ويل في البداية , لكن الضغط يأتي من لامبيو , الذي يحاول الحصول على عمل لويل , وفي كل مرة يرفض ويل الذهاب لمقابلات العمل تلك وتتعقد الأمور أكثر حين يسمع -دون قصد- مشادة كلامية بين شون و لامبيو محورها مستقبل ويل. يكتسب ويل مزاجا غاضبا كلما كان يحاول الدفاع عن نفسه ضد أي تغيير حتى لو لم يكن ثمة داع لمثل هذا الغضب ما يتسبب له هذا بالمزيد من الإجهاد و التوتر رغم اكتسابه مهارات الدفاع لمواجهة أي شيء قد يغير من نمط حياته أو سلوكه أو يدفعه نحو الالتزام و المسؤولية, , وهذا ربما هو ما كان يقصده شون حين اشار إلى الطريقة التي يعمد فيها ويل إلى تدمير ذاته و تجاهل الحلول التي يمكنأن تؤدي إلى انفراج له يؤمن له بوابة عبور نحو المجتمع الرحب, كما توقع شون توقع فشل علاقته بسكايلار ,نظراً لأنه من النوع الذي لا يملك القدرة على تكوين أو توليد علاقة ما،فهو إما يجعلها تذوي عمداً لتموت من تلقاء نفسها , أو يدعها تموت ببطء لوحدها تفادياً لأي صدمة عاطفية قد تسببها له , وحتى حين يسأله عن مستقبله, يصر ويل على عدم الإجابة, فلا يجد شون بداً من طرده -بأدب- من مكتبه ,حين يكتشف هوية و طباع ويل المضطربة ,فطفولته البائسة تركت الكثير من الندوب التي يصعب الشفاء منها بسهولة مما سيقوده حتما للعزلة و سوف تخلق من مخاوف و اضطرابات و تحت ثقل هذا الخوف , يجد ويل نفسه اسيرا ,وحيدا, ضعيفا, يبحث عن الخلاص , وعمن يحرره و يعيد صياغة أحلامه أو استعادتها بالحد الأدنى , ولن يكون هذا متاحا إلا حين يثق ينفسه و يصبح مسؤولا عن حياته , فجوهر ويل ليس شخصا يحب العيش في الظل متواريا خلف ظروف و مسوغات و مبرات لا وجود لها أو على الاقل لا ينبغي أن تكون عائقا له , ويل يريد أن يكون فاعلا بطريقة ما ,لكنه يحتاج إلى نافذة يطل منها على حواجزه الداخلية التي بناها كنوع من الدفاع السلبي و كأسلوب مراوغة ذاتي لإنكار ما يعيشه.ولكن ليس ويل وحده من يقف على المحاور الوجودية تلك, فشون على سبيل المثال خبر حتمية الموت بوفاة زوجته ,هذه الحتمية التي حالت دون استمرار حالة الحب التي عاشها و الذي بفضله وصل لتحديد المعنى من أن يكون حيا , وهو ما لا يمكن أن توفره كل الكتب التي قرأها أو سوف يقرؤها ,إذ ليس أجمل من أن تستيقظ صباحا و يكون بجانبك المرأة التي تحب. رحيل زوجته سبب له معاناة كبيرة وخلق فقدا وفراغا ووحدة بداخله ,وهو ليس بالأمر الهين على كل حال فعندما تكون الحياة على المحك يصبح الألم له هدف و نتيجة أيضا .ثمة معنى يبحث عنه المرء ليتلهى به عن معاناته, و بالنسبة لويل كانت سكايلار هي المعنى الذي يبحث عنه , أما بالنسبة لشون فتعويض الفقد سيكون بالسفر و البدء بتجربة جديدة, وهذا ما يخلق -أو هكذا يجب أ يكون الأمر- مسافة تفصل بين ويل هنتينج و شون مغواير , مسافة حرة مهدت بلقائهما لخلق أرضية للحوار و فلسفاته و غايته و مغزاه , يدرك شون أنه يعاني بعد وفاة زوجته و هو بهذا المعنى لم يكن يحتاج لشخص مثل ويل كي يقول له ذلك , غير أن شون كان بحاجة فعلا , لخلق حوار مع طرف آخر يستطيع أن يبني معه موقف يظهر صورته الحقيقية , في المقابل عناد ويل و آليات دفاعه سوف يهددها وجود شون , مازال ويل يشعر بأن هناك من يدعوه للتخلي عن حياته الحالية وهو ما يعتبره تهديدا له , لكن عندما يكتشف أن مسعى شون إنما "تذويت" مشاكلته و ليس استعراضها , سوف تتحول مشاكله إلى بؤر مجهرية يمكن السيطرة عليها وسوف يكف ويل عن استعراض المظهر المزيف لشخصيته وخلق صور غير حقيقية له , لأن في بقاء هذا المظهر إعاقة لتقدمه نحو الحل و الانفراج . فحتى في دفاع شون عن نفسه حين يتهمه ويل بأنه تزوج المرأة الخطأ , سيكون شون واعيا تماما بأنه هو من سمح له أن يطل على حياته الداخلية ( نعلم أن شون شخصية تهتم كثيرا إلى درجة الملل بالتفاصيل التي قد لا يلتفت إليها أحد و ربما هذا هو السبب في حديثه عن زوجته أمام ويل فهو حين يتذكرها ,حتى لو أمام الآخرين , فهو الوحيد القادر على استعادة و استحضار خصوصياتها التي لا يعرفها سواه , فمثل هذه الخصوصية و مثال هذه التفاصيل هي التي خلقت ذهنيا صورة زوجته كما يراها بعينه , وإذن شون ليس شخصا مثاليا أو تاما , بل يبدو شخص له عوالمه الغريبة حقا ,لذلك كان قراره "عاديا جدا" بأن يغادر و ينطلق برحلة خارج البلاد.), يستخدم شون -هنا وسائله الدفاعية الخاصة-بوصفه طبيب- مثل الثقة بينه و بين مريضه ( يتقدم شون اكثر على هذا الصعيد حين يسأل ويل مستفهما عن علاقته بسكايلار , ويزيد أكثر حين يتهمه بأنه غير جاد في علاقته معها و أنه قليل الخبرة , و أنه لا يفهم سكايلار-و بالتالي المرأة- على النحو المطلوب , فهو , أي ويل, ليس سوى طفل عديم الخبرة يهرف بما لا يعرف).
تكمن قوة الفيلم في الإدهاش النصي على الرغم من احتوائه,(في لغته الأصلية) الكثير من العبارات التي يصعب ترجمتها , وعمد الإخراج على الاستفادة من هذا الإدهاش بابتعاده قدر المستطاع عن تصوير المشاعر غير الضرورية واختار بدلا من ذلك إبراز الواقع القاسي المشغول عاطفيا , وبالرغم من أن الفيلم لا يريد القول أنه معادلة تجريبية لأي "نصر" أو "فوز" من نوع ما , إلا أنه استطاع عبر السيناريو أن يكون حوارا مدهشا و ملفتا للنظر في خلق فيلم مناهض للاستبلاشمنت, ويبقى التكامل و التمايز السرديين اكثر تعقيدا مما يبدو عليه الأمر ظاهريا , فويل هنتينج ليس شخصا عاديا يمكنه أن يندمج بسهولة في المجتمع أو حتى يمكن فرض مثل الاندماج عليه , بل يتعدى الامر الأمر لما هو أبعد في صراعه مع المؤسسة , فثمة الكثير من المفاصل الجانبية الفرعية التي ابتكرها السيناريو و التقطها المخرج ببراعة مثلما هو حال الشخصيات المساعدة " شون تشاكي و سكايلار و لامبيو “في دعمها لأداء الشخصيات الرئيسية" ويل هنتينج " و عل الرغم من أن الفيلم يدور حول ويل بالدرجة الأولى , إلا أن لقطات الشخصيات الأخرى تحفز المضي نحو تفصيل سينمائي أكثر تعقيدا , لعل ما يوضح ذلك هو الطريقة التي يتم عرض شخصية شون مغواير فيها ( الذي عليه أن يعالج نفسه قبل أن يعالج ويل) , أو حتى شخصية سكايلار (التي تحب ويل و تطلب منه أن يمضي معها ) , اجتهد الإخراج بطريقة رائعة في "تقطير" السيناريو" لتشخيص العوالم البصرية للشخصيات و السرديات البصرية لحوارها . و يقع ضمن هذا المنظور "السردي “سهولة المتلقي في الربط بين المعاني الخفية للصورة و للكلمات حين تعبر هذه المعاني و تصف الحركة ( لا ننسى مثال الحجر و الكنز ) , ومثل أي فيلم يحاول أن يكون جيدا لابد للإخراج أن يكون على قدر من الذكاء و الحرفية و الجرأة في طرح المشهد البصري الذي عليه أن يعبر عن الأزمات الوجودية للشخصيات, فتم إعداد مستويات زوايا اللقطات و المشاهد بعناية فائقة حتى عندما يبدو الأمر كأنه عفوي و تلقائي ,فأحد المشاهد التي تحقق مثل هذا الذكاء هو المشهد الذي سيولد إيحاءات لدى المشاهد بأن شون مدمن على الكحول أو يشربه بكثرة على أقل تقدير, ففي المشهد الذي يلي لقاء شون مع ويل أول مرة , نجد شون يجلس في شقته غير المرتبة و الفوضى تعم المكان و أطباق الطعام منتشرة بغير ترتيب , يجلس شون على المائدة و يبدأ في احتساء الشراب, وعند هذه اللحظة يحدث قطع و تعود الكاميرا لتلتقط منظر شون و لكن هذه المرة من زاوية أعلى , فيظهر شون على يمين الإطار و كأس الويسكي عل الجهة اليسرى (من الرموز المعروفة أن اليمين أضعف من اليسار), فيظهر كاس الشراب كأنه هو المهيمن .كما أن أحد أهم و أجمل مشاهد الفيلم ,حين يحرق ويل الأوراق أمام لامبيو الذي يجثو على ركبتيه أمام ويل , إنها لقطة تعطي مثالا رائعا على طريقة تجسيد الصورة لمعنى القوة , فتبدأ اللقطة من مكان عال لتسقط على لامبيو وهو يجثو في حين يكون ويل واقفا و الورقة تحترق بين أصابعه , تخلق هذه اللقطة أحاسيس مختلفة و لكن أهمها إظهار عدم أهمية لامبيو إزاء ويل , فتصوير ويل عن قرب و بلقطة منخفضة تعطيه زخما و قوة و هيمنة و سيطرة و أهمية على لامبيو الذي يبدو ضعيفا منهارا -رغم أهميته و قوته خارج هذا اللقطة-, تظهر تقنية التصوير هذه الاقتراب المذهل من الأجواء المسرحية , فحين تتحرك الكاميرة أثناء وجود ويل مع سكايلار معا على السرر تتحرك الكاميرا مع حركتهما وهذا ا يعطي للمتلقي إحساس واقعي جدا أقرب إلى الفضاء المسرحي , مثل هذه التقنية في التعامل مع صورة ويل في الفيلم قد تكون رسالة من المخرج ترى أن تعدد زوايا سردية ويل البصرية إنما هي جزء من كون ويل شخصية مركبة متعددة الجوانب , ففي إحدى اللقطات عندما كان ويل مع أصدقائه و كان تشاكي يروي قصة ما , يظهر لنا ويل أنه يستمع , أو ربما كأنه يستمع لتشاكي , إذ يظهر كأن ثمة شيء ما يدور في ذهنه لا نعرف ما هو .
ثمة ملاحظة :لم يستطع الفيلم, من وجهة نظر مهنة علم التحليل النفسي على الاقل, أن يقنعنا بأسلوب و طريقة شون مغواير (الذي هو يعاني اصلا) العلاجية ,فكيف يمكن لشاب يعاني من المشاكل النفسية أن يتعافى خلال ثمان جلسات فقط؟ و ثمة نقطة أخرى تتعلق بالطبيب نفسه فقد خرق شون شروط مهنته حين يطلع لامبيو على تطور حالة ويل فضلا عن أنه يعتدي عليه في الجلسة الأولى. فحتى لو اعتبرنا أن اسلوبه غير تقليدي, إلا أنه سوف يخلق له متاعب جدية على صعيد الواقع , ثم كيف لطبيب أن يعالج مريضه النفسي بجلسة استماع في الحديقة "الجلسة الثانية" أو أن يطرده "الجلسة الخامسة" و يقول أنه محبط منه بسبب "هرائه" ماذا كان سيتوقع من مريض نفسي غير الهراء؟ ثم ما هي الأسس أو المدارس النفسية التي استند إليها و التي أعطت له الحق -كطبيب-أن يتحدث عن حياته الشخصية و الخاصة مع مرضاه؟ شون كمعالج ليس سوى شخص متهور حين يلعب لعبته العلاجية بتلك الدرجة المفرطة من الخطورة و الحرية.يرى شون -كطبيب- أن ويل-كمريض- متحدث جيد و يستطيع خلق أو تبني حوار عن العديد من الأشياء و لكنها أشياء قرأها لم يجربها و لم يعيشها , يستطيع أن يتكلم طوال اليوم عن أعمال ميكل أنجلو و قيمتها و أهميتها , ولكن هل خبر بنفسه هذه الأعمال؟ هل لمسها؟ هل شاهدها بعينه؟ و من الواضح أن هذه لاتعد من مزايا ويل , فهو شاب صغير السن قليل الخبرة و عديم التجربة و يعاني من اضطرابات نفسية , و لا يكفي أنه يقرأ كثيرا و أنه قادر على حل أعظم المسال الرياضية , فتلك عمليات ذهنية "المطالعة و الرياضيات" تنتمي للتجريد أكثر و لذلك حتى لو أردنا توصيفه بانه عبقري , فعلينا أن نحدد ماهية عبقرتيه تلك. و من الواضح أن العلاقة بين ويل وشون تنبني على الاستماع و الاختلاف ,أي على الحوار باعتباره مبدأ وجودي فلسفي , فالاستماع جوهري لنا لفهم ما يقال , كما أن الاختلاف شرط أساسي للدخول في أي حوار , وعمليا -وحتى فلسفيا -يستحيل القيام بحوار دون الالتزام بخواصه أي الاستماع و الاختلاف ,فضلا عن مفاهيم أخرى لكنها أقل أهمية مثل الصدق و الصراحة و الانفتاح التي يمكن النظر لها كمجرد عوامل شديد الأثر في أي علاقة حوارية لكنها ليست شرطا جوهريا لإنشاء الحوار مثلما هو شأن الاستماع و الاختلاف ,فحتى الحب باعتباره إعلان حواري يصبح لامعنى له إن لم يمتلك تلك الشروط و بعضا من تلك العوامل , الحوار هو أعمق علاقة يحترم فيها الناس بعضهم البعض وهو لا ينشأ هكذا دون انتباه, بل يشترط-باعتقادي- وجود مسافة بين موضوعي الحوار (لا ينشأ الحوار بين متماهيين , بمعنى لانطلق , من وجهة نظر الفلسفة, على الحوار بين السيد و العبد حوارا بل هو علاقة تلقين يكون أحد طرفيها خاضع للطرف الآخر),ولدى ويل و شون فرصة لأن يثبت كل منهما أحقيته في الانفتاح على الحياة بصورة حرة نظرا لأنهما يتشكلان و ينموان في سياقات الحياة الحرة نفسها التي تتضمن علاقات مفتوحة مع جميع الأطراف , أو تفترض على الأقل وجود مثل هذه العلاقات ,وهو ما يبدو أن شون يؤسس لشكل من اشكال التعاطي الإنساني بمقاربة "وجودية" من نوع خاص ضمن شروط "حوار خاص" لما يطلق عليه مارتن بوبر علاقة "أنا-أنت", فإذا افترضنا أن الإنسان -الفرد غير قادر على العيش وحيدا لأنه ليس إلها أو شبه إله فلا معنى إذن للخلود إلا في ذهنه ,وعلى هذا سيبقى سعيه للتماهي مع الإله الخالد أو مع إحدى صور خلوده مصيره الفشل , وضمن هذه العوالم وضمن هذا الفشل يكتشف الإنسان نفسه ,و كما عبر عن ذلك مارتن بوبر حين اعتبر أن الرب هو المعادل الإنساني لخلود الأب , ومثل هذا النسق من العلاقة لابد أن يغتمد على جوانب معممة في حياة الإنسان جوهرها الحوار و فلسفته و طبقاته "مع أنا و هو و أنت و النحن و الآخر .... إلخ[ يستخدم بوبر ضمير الفاعل الغائب لغير العاقل للتعبير عن "الآخر" "] .فالفيلم بهذا المعنى ليس سوى مقاربة لفلسفة الحوار تلك بين ويل وشون باعتبار الحوار, حسب بوبر, أحد أشكال الوجود الإنساني وليس مجرد وسيلة تواصل , فالقصة بينهما هي علاقة حوارية تبادلية ضمن مستويات متعددة موضوعية و ذاتية الحوارية بينهما هي التي تلهم كل منهما على حدة للتخلي عن حياته السابقة و الانطلاق نحو حياة جديدة ,ولم يكن هذا ليحدث لو لم يتحرر كل منهما من المخاوف المسيطرة عليهما سواء كوقائع أم كذكريات من الماضي أو حتى كإعاقة نفسية تم تثبيتها في مرحلة ما من حياتهما .في المقابل العلاقة بين ويل و لامبيو من طبيعة أخرى ومن مستوى آخر , يرى لامبيو في ويل عبقرية استثنائية -مثل آينشتاين- , عقل بإمكانيات هائلة تحتاج إل الصقل و البلورة و الإعداد حتى تتمكن من تقديم إسهاماتها بما يخدم البشرية, لا يرى لامبيو ويل على أنه "أنت" فهو لا يمكنه أن يلتقي مع ويل -لاختلافهما المهني و الطبقي-على الرغم أنه يحب القيام بمساعدته و إرشاده. و على خلاف ذلك نرى علاقة ويل و شون مختلفة،لقد تأثر شون بويل منذ الوهلة الأولى, وتعامل معه بجدية و وجد نفسه "متورطا" معه ,وهو لا يتوقف عن التصرف بحرية معه فهو يظهر غضبه و إحباطه ,لذلك تظهر العلاقة شفافة و كاشفة لذاته أمام ويل ويقاوم كل إغراء لتشخيصه حتى عندما يتحدث عن صدمات ويل السابقة فهو يستخدم كلمات شائعة عامة بدلاً من تلك التي لها علاقة بلغة التحليل النفسي ,و خلال جلسات العلاج يخلق شون شعوراً بأنه الأعمق داخلياً .الداخل هنا هو الجزء الذي كان ينتظر اللحظة المناسبة لكشفه.
يجهد شون كثيراً ,في الواقع،لإقناعنا بأنه راضٍ عن حياته , فهناك في دواخله و عوالمه ثمة شخص يطمح لتحقيق المزيد ,و خلال الجلسة الخامسة يشعر شون بالإحباط من أجوبة ويل المراوغة و يطلب منه المغادرة لو بقي مصراً على هذا الهراء ,نفاذ صبر شون يدل على اعتماده أن العلاج ينبغي أن يكون -الآن وهنا- كمحاولة لتجاوز آليات دفاع ويل التي خلقها لتفادي التواصل مع المحيط. و لا يعتمد أسلوب شون في العلاج على وجود وسيط " هو ليس محللاً فرويداً على كل حال" بل يعتمد أسلوبه على أن هناك ثمة شخص موجود هنا ،بالمعنى الهيدجري لما هو كائن( أي لما هو موجود) و ليس لما هو يكون (أي لما هو وجود),بافتراض أن ويل في حالة الارتباط سيكون ما هو كائن وهذا ما يجعلنا نقع في معضلة تعبيرية وإشكالية لغوية تبدأ من عنوان الفيلم وازدواجيه معانيه البادية للعيان ولا تنتهي بنهايته.
أخيراً, لدى كل شخص على هذه الأرض تاريخه النفسي الخاص به الذي لا ينازعه فيه أحد. كل واحد منا له قصته , واقعه و هواجسه, وأنماط سلوكه منذ ولادته وحتى رحيله عن هذه الأرض, البعض منا يثق بما يملك و البعض الآخر لا ,البعض لديه قدرات كامنة لم يكتشفها بعد بانتظار من سياتي لينفض عنها غبار الذكريات و متاهات العقل الباطن وخبرات الطفولة و قلقها الوجودي اللاشعوري..تستطيع الحياة بفضل قانون الصدفة القاسي و العجيب - ودون استشارتنا- أن تمس روحنا الإنسانية بأعمق معانيها بأن تخلق أشخاصاً "عباقرة" مثل ويل هنتينج و تلقيهم في طريقنا. شخصيات عبقرية دون بذل جهداً ليكونوا كذلك, شخصيات بأرواح تائهة تبحث عن المعنى.
يبدو الفيلم في معظمه كأنه رحلة في عقل ويل, يتغلغل بعمق في روحه، ولاشك أن ويل كعبقرية فذة شخص مدهش يتمنى ربما أي واحد منا أن يلتقي بمثله ذات يوم , يدهشنا رغم طفولته البائسة, يدهشنا سعيه وراء شغف الارتماء في حضن من يحب ,يدهشنا انكفائه نحو عوالمه الخاصة بأن يجعل البقاء على قيد الحياة أمراً مبرراً (عوالم ويل منشغلة بالقراءة , و لا عجب أن يبدأ الفيلم بمشهد ويل في غرفته التي تعج بالفوضى وهو يطالع الكتب.).
إن ما يريده ويل حقاً هو أن يكتشف نفسه لا أن يكتشف العالم , أن يعي قيمة نفسه و ليس قيمة العالم.ولكن هل ثمة ويل في هذه الحياة , هل يمكن لشخص مثل ويل أن يكون قد وجد ذات يوم؟
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟