|
فتنة الملا سعيد البرزنجي من منظور الرحالة الأنكليز
صلاح سليم علي
(Salah Salim Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5997 - 2018 / 9 / 17 - 19:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعبر موقف جرترود بيل من الموصل ووصفها لها عام 1909..عن الموقف الرسمي للحكومة البريطانية،وهو موقف يبدو انها تأثرت في اتخاذه بلقاءاتها مع مارك سايكس شريكها في تصميم خارطة الشرق الأوسط وقراءاتها لرحلاته الى الموصل كما أرجح انها قرأت أدبيات الرحلة الى الموصل وبخاصة كتابات هنري لايرد و آن بلنت وكتاب كريفيث الذي تناولت فيه تفاصيل اقامتها في الموصل والمعنون "وراء الحجاب" وإني إذ أترجم موقفها لاأشاطرها الرأي،فهي تنتمي الى المدرسة الأمبريالية في السياسة االبريطانية متمثلة برئيس الوزراء االبريطاني يهودي الأصل دزرائيلي واضرابه كمارك سايكس، وتي . أي. لورنس المعروف بلورنس العرب وونستون تشرشل وغيرهم. مع ذلك ارى ان ترجمة موقفها من الموصل لايخلو من فائدة للبحاثة المتخصصين في تاريخ العراق والعلاقات االبريطانية العراقية ، ويلقي ضوء على تأثير الحوادث والتحولات في السلطة العثمانية على ألأوضاع الأقليمية في المنطقة والموصل بوجه خاص، ولأني كنت قد نشرت موقفها بالتفصيل في وقت سابق، اجتزء منه حديثها عن مقتل الشيخ سعيد البرزنجي كونها زارت الموصل عام 1909 وهي السنة نفسها التي حدثت فيها حادثة قتل الشيخ سعيد البرزنجي، وهي اي جرترود بيل تعرف بموقفها المعادي للعثمانيين، وعدم ثقتها بالأكراد والعرب. مع ذلك فإنها لاتجافي الصدق في رواياتها التي تميل فيها الى الوصف والتوثيق التاريخي..
ثم أتناول بعد عرضي لرأيها أو بالأحرى ترجمتي له الى الجزء المعني بالحادثة نفسها في رحلة ايلي بانستر سوان "1881- 1923" الذي دون تفاصيل رحلته في كتاب عنونه "رحلتي متنكرا الى بلاد الرافدين وكردستان" طبع في لندن عام 1912، وكان بانستر قد عاد بمرتبة ميجر "رائد" الى العراق ليعمل بمنصب الحاكم العسكري البريطاني في السليمانية عام 1919، وهو منصب استمر فيه حتى عام 1921 عندما انتهت مهام منصبه وعاد الى بريطانيا حيث نشر كتابه الثاني المعنون "مختارات من الشعر الكوراني" عام 1921، قبل ان يتوفى عام 1923..وكانت تفاصيل رحلته الى الموصل اعتمدناها من كتابه "رحلتي متنكرا الى بلاد الرافدين"، ويتطرق في معرض حديثه عن الموصل الى حادثة الشيخ سعيد التي نقلتها على لسانه مباشرة بعد ترجمتي لجرترود بيل عن الموضوع نفسه..كما تناولت وصف الرحالة أدوين وليم ورفيلد وهو موظف في شركة الهند الشرقية زار الموصل قبل الحرب العالمية الأولى وتحديدا عام 1912.. وكان اتخذ طريق الخليج العربي بادئا رحلته في العراق بالبصرة فبغداد ومنها اتخذ طريق شرقي العراق الى كركوك فاربيل فالموصل..وقد جاء وصفه للحادثة في معرض حديثه عن الموصل في كتابه بوابة آسيا..ولايختلف في سرده كثيرا عن سرد سالفيه، كما انه يشبههم في كونه بريطاني يعبر عن وجهة نظر حكومته الأمبريالية..
وقد اعتمدت الأقواس الهلالية في تحديد النصوص المترجمة فيما وضعت ملاحظاتي وتوضيحاتي على النصوص بأقواس مضلعة أما الفوارز المقلوبة فلغرض توضيح العناوين والمفردات التي تتطلب توضيحا إضافيا..ولابد من الإشارة الى أن مؤرخي الموصل وكتابها الرواد كانوا قد جاءوا على ذكر حادثة مقتل الملا سعيد البرزنجي وابرز من تصدى لتلك الحادثة المؤرخ أحمد الصوفي، والمؤرخ عبد المنعم الغلامي الذي خصص كتيبا لتلك الحادثة ومعها حادثتين أخريين عنونه " الضحايا الثلاث"، كما تناول الحادثة المؤرخ الكردي كمال مظهر وآخرون ممن لم يسعفني الحظ في الحصول على دراساتهم..
1. وصف جرترود بيل للحادثة:
(تتميز مدينة الموصل بتاريخ مضطرب لم يتغير اي شيء من مواصفاته خلال السنوات القليلة الماضية، فهي تقع على الحدود بين العرب والأكراد، والتقابل بين هاتين المجموعتين نادرا ما تصاحبه مشاعر الأخوة او النوايا الحسنة من قبل كلا الجانبين. وتجثم على ولاية الموصل الكئيبة الكراهية والتولع بالمذابح كشرين متوارثين ينتقلان "إن جاز القول؟" عبر الأجيال المختلفة من الغزاة منذ أن تركت بواكير الجبروت الوحشي للإمبراطورية الآشورية بصماتها على الأرض
وقد توازعت المدينة صروف طموحات اسر عربية طموحة استمر حكمها حتى اقل من قرن مضى وكان لكل اسرة عقارها التي لاينافس سيادتها عليه احد. هؤلاء (صغار) اللوردات [ استخدمت بيل كلمة "لوردينكز" التي تعني اشباه او صغار اللوردات تصغيرا منها لوجهاء الموصل] كانوا يعاينون، بعدوانية بادية، لايشعرون ما يدعو لإخفائها، اليد التركية وهي تشدد قبضتها تدرجيا على الولاية [الموصل]. وليس ثمة مكان ستجد فيه الحركة القومية العربية، ان هي وصلت مرحلة إزدهارها، ارضا خصبة لتنهل من جداول الكبرياء [القومي] الذي لايعرف الحدود، كالموصل [وهنا تصيب بيل قلب الحقيقة فأهل الموصل هم ورثة الأمبراطوريات العسكرية العظيمة ولاغبار على صدق مشاعرهم القومية ومشروعيتها]. وعلى الرغم من قسوة الحكم العثماني ودمويته في هذه الأطراف النائية من ألإمبراطورية ، فإنه افضل من الهيمنة المطلقة للبيكوات العرب او الأغوات الأكراد . وإن كان للطوائف المسيحية المضطهدة في أكثريتها، او اليزيدية المظلومين أو الفلاحين البائسين من مختلف العقائد ممن يزرعون بذعر مالايجنون ، أن تحصل على الحماية والإزدهار، فإن عليهم أن ينظروا الى التركي. [ ترى بيل ان علاج المجتمعات المنقسمة طائفيا وقوميا و"طبقيا؟" لايتحقق الا بنظام حكم استبدادي يضمن جانبا من العدالة وهو اعتقاد يذكرنا بمقولة جمال الدين الأفغاني: لايصلح الشرق الا مستبد عادل]. فالتركي والتركي وحده يقدر من السيطرة على العناصر المتحاربة في امبراطوريته، وعندما يتعلم [التركي] كيف يستعمل قوته على نحو غير متحيز وباستقامة، فإن ذلك سيتمخض عن السلم..لكن هذا مستبعد حدوثه في الموصل..ولا يبدو انه بمنأى عن الموصل في اي وقت كما هو الحال في بداية سنة 1909. [سنة زيارة بيل للموصل].
وباستثناء المقارنة القائلة بأن بعد المسافة بين القسطنطينية وسالونيكا يعني مسارا اضيق لتدفق الأفكار الغربية [اي من سالونيكا "مقر جمعية الإتحاد والترقي"الى أسطنبول]، لا أعتقد ان هناك في الموصل معارضة محددة المعالم للنظام الجديد [الإتحادي في تركيا] منها في اماكن أخرى، هذا على الرغم من أن القوى الرجعية فيها [الموصل] كما هو الحال في أماكن أخرى في تركيا ألآسيوية [العربية في آسيا] متنوعة وقوية. إلا أن الموصل كانت ومابرحت ضد الحكومة دائما مهما كانت الأشكال التي تتخذها [وهنا تصيب بيل في رأيها ايضا فأهل الموصل قادة في طبعهم تجري في جوانحهم دماء أسلاف حكموا العالم وأسسوا الأمبراطوريات وشيدوا القلاع وعمروا المدن]، وبيكواتها [اي وجهاء الموصل وقادتها] كانوا يلعبون [يتعاملون] مع السلطات [الحكومات] كما تلعب انت مع سمكة علقت بالصنارة. [ يتمتع أهل الموصل بمهارات قيادية فائقة للعادة، ولهذا لايمكن أطلاقا فرض اي حكم عليهم ان لم يكن هذا الحكم منبثقا من اوساطهم أو برضاهم..ففي التاريخ القديم نسجل عددا من الثورات على السلطة الأمركزية، تكررت في التاريخ الحديث مع سلسلة الأنقلابات العسكرية التي قادها ضباط أشاوس من الموصل وأبرزها انقلاب عبد الوهاب الشواف كما ان كون الحكومات [المشرقية] ليست دستورية، مايفضي الى حماس أكبر ويجعل من الصنارة أكثر حدة [وإيلاما] . [تتابع بيل المجاز الذي وظفته في وصف تعامل اهل الموصل مع الحكومات]. وكانت شؤون اللجنة [جمعية الإتحاد والترقي- فرع الموصل] تدار على نحو سيء للغاية [تأسس فرع الجمعية في الموصل بعد اعلان الدستور الإتحادي عام 1908، والإنقلاب الذي سبقه على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني واختير رئيسا او معتمدا لها السيد محمد الفخري]. وقد استقبلت هذه الجمعية الوفد الأمرسل اليها من سالونيكا بهدف تحديد مهماتها بالأحضان، وفي الحقيقة ان المدينة بأسرها خرجت في استقبال الموفدين وفي مقدمة الناس الوالي [مصطفى يحيى بك العابد] ووجهاء المدينة [خدع اهل الموصل بشعارات الجمعية الداعية الى الحرية و الاخاء والمساواة ولكنهم مالبثوا ان انتبهوا الى سياسات التتريك والإقصاء التي انتهجها ألإتحاديون فسعوا الى مقاومتها]. ولكن اختيار المبعوثين [من سالونيكا] الى الموصل لم يكن موفقا لأنهما كانا جاهلين يفتقران الى اللياقة أحدهما من اهالي [تركمان] كركوك المنافسة اللدود للموصل وكان يتصف بكل شيء باستثناء سمعة لاتشوبها الشوائب. فكانت النتيجة ان اللجنة المحلية [فرع الجمعية في الموصل]، لم تربح شيئا بل خسرت من جراء مجيء هذا الوفد الى الموصل. وعندما غادر هذان الموفدان الموصل عبرا الجسر بمفرديهما ومن دون ان يصاحبهما او يودعهما أحد أو حتى أن يلاحظ احد رحيلهما. فتلاشت مع مغادرة هذين الموفدين الامال الواهنة بتحسن الأوضاع الذي اثاره اعلان مباديء الحرية و الاخاء والمساواة، وتركت الساحة خالية امام البيكوات الذين فعلت تلك الكلمات فعل جرص عنيف في آذانهم: فالحرية العامة ليست منحة يثمنها الطغاة والمساواة تنفث روائح كريهة في مناخير رجال اعتادوا على مرأى شركائهم في الوطن من المسيحيين وهم يلوذون منذعرين الى اقرب مدخل بيت [ باب او مجاز يؤدي الى بيت] عندما يمرون راكبين عجلاتهم او خيولهم في الشوارع [الأزقة]..كما لايجد هؤلاء البيكوات عناءا في جعل الآخرين يشعرون بسخطهم او عدم رضاهم. وغالبا ما يتم تنظيم الإضطرابات [الفوضى والهيجان الإجتماعي] ليبلغ ذروة الإكتمال في الموصل. فالمدينة مليئة بالأشقياء ممن يعيشون على خرق القانون ، ويعيشون على افضل نحو. فمتى شاء وجهاء المدينة [بدافع الغضب] اثارة الفوضى، لايترتب عليهم سوى توصيل كلمة وعربون لهؤلاء الأشقياء فيحدث الشغب، ومن ترى يقع عليه اللوم في ذلك؟
فالبيكوات كلهم قد غادروا الى قراهم وليس لديهم يد في القضية. فقد كان ابو القاسم ذلك الشقي الشهير [أبو القاسم أو أبو جاسم هو غير أبو جاسم لر الذي ظهر على عهد اينجة بيرقدار محمد باشا وكان فتوة يمنع الجندرمة من احصاء الناس والدخول الى بيوتهم حرصا منه على عدم الإطلاع على النساء] ومعه ابن هذا وابن ذاك.. أما حول سبب حوادث [الشغب]، فليس من الصعب ايجاده، وفي هذه الأمرة حدث شيء في آخر ايام العيد الموافق الأول من كانون الثاني 1909. فقد خرج الناس الى الشوارع وهم في ابهى الملابس للإحتفال بالعيد عندما اقدم رجل [ثمل] من سرية البغالة في كركوك [الصوار اوالاسترسوار ] الكردية [ أنشأ محمد باشا بيرقداري منذ قرابة قرن سرية بغال مقرها كركوك تعرف بالصوارية، ولم تكن كردية على الأرجح.. واستمرت تلك القوة حتى العقد الأخير من ألأمبراطورية العثمانية] على التحرش "كما يقال" بإمرأة مسلمة من الموصل وبلحظة برزت الأسلحة وهاجم الجنود العرب الصوارية الكركوكلية، فنشب عراك استمر بضع ساعات.. وفي خضم الفوضى قتل وجرح العديد من النساء المسلمات كن قد خرجن للمشاركة في العيد ولم تتح لهن فرصة اللجوء الى بيوتهن. وتلك حادثة نادرة لم تشهد الموصل مثيلا لها. في تلك الأثناء كان الوالي جالسا يرتجف في السراي ولم يحرك ساكنا لإسترجاع النظام. وفي وقت متاخر من الليل عاد الكركوكلية الى ثكناتهم بعد استسلامهم نزولا عند نصح الحكومة وتسليمهم اسلحتهم. وتلك حادثة كان من الممكن ان تطوى تحت طائلة التعبير الطبيعي عن العداء العنصري، غير ان حوادث اليوم التالي لايمكن ان تفسر باستثناء الذهاب الى الإفتراض القائل انها بسبب تحريض البيكوات. ففي الصباح احتشد لفيف من الناس أمام مبنى السراي وبدءوا بالهتاف مطالبين بالثأر من الصوارية الكركوكلية ممن [زعم انهم] كانوا ينتظرون المحاكمة من قبل الحكومة. فتردد الوالي بينما طالب زعماء الحشد الغاضب الناس بحمل السلاح..فلم يتأخر الناس بتنفيذ الطلب بسرعة الخائف المهدد بالخطر.. فأغلق اصحاب المحلات والبيوت ابوابهم واضحت المدينة في حال من الحرب الأهلية. في تلك الأوقات كان يعيش في الموصل شخص من السادة ألأكراد من أهل السليمانية الواقعة على الحدود الفارسية..ومنذ سنوات نشب خلاف بين الشيخ سعيد [البرزنجي] والسلطات العثمانية الإتحادية. وقد تنامى تأثير الشيخ سعيد فحصل على قوة كبيرة [في السليمانية] فأرسلت السلطة العثمانية في طلب حضوره الى القسطنطينية [اسطنبول]..فعد الدعوة نذير شؤم اسود ..مع ذلك سافر الشيخ سعيد الى العاصمة العثمانية ..وعند وصوله كان احد اولاد السلطان [عبد الحميد الثاني] المفضلين مصابا بمرض عضال، ولما يتمتع به الشيخ من شهرة [على شفاء المرضى]، أرجئت معاقبته لكي يدعو الله بشفاء الطفل الأمريض. فتماثل الطفل للشفاء فرجع الشيخ مكرما الى مدينته [السليمانية] وحول عنقه مسبحة من اللؤلؤ لاتقدر بثمن وباتت شهرته اوسع. وكان الشيخ سعيد مسنا ومسالما، غير ان اولاده استغلوا مكانته فتاجروا بها وحولوا السليمانية الى بؤرة ساخنة لاتطيق احتوائهم فيها. ولما كانت الأسرة كلها [اسرة سعيد البرزنجي] في حماية السلطان عبد الحميد، تبين ان من الأفضل نقل الأسرة الى مكان تكون فيه تحت عين ممثل السلطان مباشرة اي الوالي، على ذلك وفدوا الى الموصل كأمراء في موكب نصر. فاكتظت شوارع الموصل بالبغال التي تحمل ممتلكاتهم ، وخصص البيت المقابل للسراي مسكنا لهم.[ الدار العائدة لمحمد باشا الصابونجي مقابل الأعدادية الشرقية والمجاورة لجامع الخضر [ع]. وسرعان ماتجمع الغوغاء مجددا مصطحبين اسلحة هذه الأمرة في الثاني من كانون الثاني [اليوم الثاني للعيد] حتى أعيد توجيههم [ لم تذكر بيل من الذي وجههم واستخدمت صيغة المبني للمجهول] الى بيت الأسرة الكردية. وكان الشيخ سعيد في ال 85 من عمره ولكنه يمتلك شجاعة قومه. عندما سمع الغوغاء يهرجون على باب بيته، أمسك بالقرآن وكان يرتدي ثوبين العمر والولاية [اي المكانة الروحية المميزة للسادة] وخرج الى الشارع في نيته اللجوء الى السراي الذي يقابل بابه باب داره. وكان الوالي يراقب المشهد من نافذة في السراي. ففسح الغوغاء الطريق امام الرجل الصالح حاملا القرآن في طريقه الى السراي، ولكنهم وقبل ان يصل باب السراي إنقضوا عليه وقطعوه اربا اربا ثم نهبوا بيته وقتلوا 17 من اولاده واقربائه..وإذا كان قادة الحزب الرجعي يريدون إحراج الحكومة وإبداء ضعفها، فإنهم حققوا بذلك [اي بتدبير مقتل الشيخ سعيد واسرته] نجاحا ساحقا. [يعد تحريك الغوغاء عبر التاريخ اسلوبا يختفي وراءه المحرض الحقيقي الذي يفلت من العقاب بينما لاسبيل الى معاقبة الغوغاء كونهم مجموعة غير معرفة من الناس تحركهم غرائز القطيع..والمشهد الذي حدث للشيخ سعيد البرزنجي ونجله الشيخ احمد وذويه، تكرر في اماكن عديدة في العالم عندما تسود الفوضى ويختلط الحابل بالنابل وقد تناول مؤرخو الموصل وبخاصة عبد المنعم الإلامي وأحمد الصوفي هذه الحادثة ووصفوا تفاصيلها وملابساتها غير ان بيل ترتكز في تحليلها للحادثة الى نظرية المؤامرة فتلمح الى ان الوالي كان من المتواطئين في قتله]..
وكانت الموصل خلال الأسابيع الستة التي انقضت [على الحادثة] قبل وصول القوات من دياربكر واماكن أخرى في فوضى عارمة. فقد كانت الاهانات [الشتائم] توجه للمسيحيين علنا في الشوارع بينما تقف السلطات المدنية والعسكرية مكتوفة الأيدي. كما لم تحرك جمعية الإتحاد والترقي [بفرعها في الموصل] ساكنا للحد من تلك التجاوزات. وعندما وصلت القوات تم استرجاع شيء من النظام إلا أن الحركة الرجعية مابرحت ماضية بلا كباح، فقد كان تنظيم [الجمعية المحمدية] التي اسست كنقيض ضدي لجمعية الإتحاد والترقي يحقق تقدما هائلا [تأسست الجمعية المحمدية فرع الموصل على غرار الجمعية المحمدية الأم في أسطنبول، عام 1908 وكان مقرها المدرسة الاحمدية في محلة باب السراي بالقرب من شارع النجفي وشرعت الجمعية بالتصدي للأتحاديين بعقد الاجتماعات والقاء الخطب والمحاضرات التي تؤكد على الشريعة الاسلامية ..لكن الاتحاديين عمدوا الى اإلاق الجمعية فتوقفت عن نشاطاتها في نيسان 1909]..وكانت تستقطب المسلمين من المدرسة القديمة [السلفيين] ممن يشعرون بالذعر من تأثيرات الروح الجديدة [العلمانية] على الشريعة ونهجها، وكانت تجذب الجهلة [ تنظر بيل الى المسلمين نظرة متدنية فتعدهم جهلة لمجرد اهتمامهم بالمحافظة على شريعتهم وموروثهم القيمي] ممن لايقدرون على استيعاب فكرة المساواة بين المسلمين والمسيحيين [تبنى الإتحاديون مباديء الثورة الفرنسية والحركات الماسونية في آيديولوجيتهم على الرغم من وجود ميول طورانية وعنصرية قوية لدى عدد من قيادييهم]..كما جذبت بقوة كل اولئك المعترضين على حكومة دستورية ولأسباب شخصية تتصل بقناعاتهم.
وقد ذهب احد كبار اعيان الموصل الى الأسواق ليجمع التواقيع من الموالين للمحمدية وكان الوضع احيانا خطرا للغاية وحساسا ..ولكن من الجدير بالذكر والملاحظة أن نقيب الموصل [حسن افندي النقيب]، والمفتي الأول [محمد حبيب العبيدي] رفضا بشدة التوقيع على اوراق الولاء للجمعية المحمدية أو التعامل معها بأي شكل من الأشكال [أعتقد ان سبب الرفض هو في كونهما يتمتعان بمكانة رمزية تجعلهما يمثلان جماعة اكبر على الصعيدين المدني والديني، ولما يمكن ان يتصل بالجمعية من سياسة واعمال عنف محتملة فضلا عن أن تأييد جماعة ما يعني استعداء خصومها]. وفي تلك الأثناء، تم تعيين وال جديد ومقتدر على ولاية الموصل [محمد فاضل باشا الداغستاني]، غير ان الوالي الجديد ذهب الى كركوك فورا حيث كانت الأمور على حال من التوتر وبيل العواقب بينما كان خرق القانون يسير صراحا في شوارع الموصل بدونما رادع او ضابط.. مما جعل الوالي يدرك المخاطر التي تهدد الولاية في العاصمة [عاصمتها الموصل] فاسرع سرعة ساعي البريد متجها الى الموصل ليبدأ عملية استرداد الأمن والنظام، فاعتقل وسجن عددا من الأشخاص ووجه توبيخات قاسية لعدد من الزعامات الإسلامية مع تأكيدات أن الحكومة ستعمل على حماية حقوق المسيحيين..وقد تكررت تلك التحذيرات وبلهجة متشددة بعد يوم من تنصيب محمد رشاد [هو محمد الخامس تولى الحكم بعد خلع اخيه عبد الحميد الثاني]، عندما انتشرت في الأسواق اولى أشاعات مذابح الأرمن في أدنة [شرع الترك بسلسلة مذابح راح ضحيتها الأرمن على مدى ثلاثة ايام بدءا من يوم14 نيسان 1909، ثم استأنف الترك عملية قتل الأرمن في أواخر الشهر وكان مركز المذابح في مدينة أدنة وفي اماكن تواجد الأرمن في الأناضول وسورية وأماكن أخرى]. وقد وضع سقوط عبد الحميد حدا عاجلا لحالة الهيجان [في الموصل]. ومن المرجح تماما ان الثورة المضادة في 13 نيسان [ حراك عدد من المؤيدين للسلطان عبد الحميد يؤيدهم رجال الدين ضد الإتحاديين في اسطنبول بهدف تثبيت السلطان في الحكم] لم تكن مفاجأة لمنظمي الجمعية المحمدية، غير ان التحرك السريع من قبل الجمعية في سالونيكا [جمعية الإتحاد والترقي]، [تحرك قوة ضاربة بقيادة مصطفى كمال اتاتورك من مدينة سالونيكا الى اسطنبول] لم يكن متوقعا. وكانت مجريات الحوادث كالاتي: بعد هرب النواب من القسطنطينية [اسطنبول] [حدث هروب النواب اثر الأنقلاب الحميدي المضاد في 13 نيسان 1909 او في 31 آذار حسب التوقيت الرومي المتبع في الأمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت..وقام بالإنقلاب عدد من الوحدات العسكرية الموالية لعبد الحميد وطلبة الشريعة والدراويش والجماعات الصوفية واعضاء الجمعية المحمدية، وهدف الأنقلاب المضاد الى انهاء الأمرحلة الدستورية الثانية وإلغاء جمعية الإتحاد والترقي . وتأسيس حكم الشريعة وارجاع السلطان عبد الحميد الى السلطة الاوتوقراطية، مما دفع جمعية الإتحاد والترقي ومقرها سالونيكا الى ارسال جيش بقيادة مصطفى كمال الى اسطنبول]، استلم الوالي [والي الموصل] برقية تطالبه عدم تلبية أية أوامر ترد اليه من العاصمة [اسطنبول] - ولا أقدر ان أجزم بصحة هذه الرواية ولكني لا ارى انها غير محتملة- وكان الوالي مدعوما بقوة غير اعتيادية من القوات "التي كانت قد ارسلت لإخماد الإضطرابات التي اعقبت مقتل الشيخ سعيد"، وكانت القوات الموجودة في تركيا كلها موالية للدستور.
وكانت مدينة الموصل تنتظر بقلق متنام مع تواتر وصول البرقيات يوما إثر آخر حول تقدم الجيش من سالونيكا الى القسطنطينية .. كما لم يكن سرا وصول برقية من بغداد يعرض فيها والي بغداد تقديم المساعدة الفورية للحزب الدستوري [الإتحادي]. ثم وعلى حين غرة، وصلت انباء خلع [السلطان]عبد الحميد..وبإستثناء السكان العديين وبإستثنائي في الطريق العالي [أو الشرفة العالية، تقصد انها مطلعة على معلومات استخبارية من الدرجة الأولى بحكم مركزها في المخابرات االبريطانية]، فإن الحدث [خلع السلطان] كان نصف متوقع...وهكذا كان الحال عندما وصلت الى الموصل وجدت المدينة، وهي أحدى أسوء المدن إدارة في الإمبراطورية العثمانية، مستكينة وهادئة. وفي اسبوع من بقائي في الموصل، لم تصلنا معلومات باستثناء اشاعات غير واضحة حول حادثة ادنة [مذابح الأرمن]، وحتى انباء تنصيب محمد الخامس في محل اخيه وردتنا من مصادر تركية رسمية ، ونحن لانقدر ان نتأكد فيما ذا كانت القوى الأوربية او اية منها قد اعترفت به من عدم ذلك . والمصادر الرسمية التركية لاتصدق احيانا، فالمناطق الواقعة في منأى عن نبع الحقيقة النقي قليلة جدا ولا نستثني منها شرقي تركيا [يبدو ان بيل تعد الموصل التي كانت جزءا من تركيا الآسيوية جانبا من شرقي تركيا وانها تستخدم تركيا والدولة العثمانية كوحدة جغرافية واحدة]، بل ربما كانت هي الأبعد [عن نبع الحقيقة النقي]. مع ذلك فإن السفارة االبريطانية في القسطنطينية ترى ان من غير الملائم ابلاغ وكلاء قنصلياتها في تركيا الآسيوية بتولي سلطان جديد الحكم في القسطنطينية. [ وارجح ان السفارة االبريطانية كانت مطلعة على مخططات استخبارية تتجاوز الحوادث التكتيكية الى التحولات الكبرى نظرا لنشاط اللورد كرزون ولقاءاته بأتاتورك في تلك الأثناء وهي محاورات مهدت لخطط تشكيل تركيا الكمالية و اقتسام الشرق الأوسط لاحقا]. وبودي ان اترك هذه الملاحظة بدون تعقيب. [اي لعدم اهمية الجزء الظاهر من جبل الجليد مما جعل السفارة االبريطانية تنتظر وتفضل عدم اطلاع نواب سفاراتها المحليين بتطورات لم تنته بعد].. ولكن اذا ما كنا نحن في الموصل غير مطلعين على مجريات الحوادث في اوربا، فلدينا مع ذلك، فرصا ثمينة في تقويم الأوضاع المحلية. ففي الموصل لم يرفع احد صوته ضد الإنتصار الثاني للنظام الجديد [دخول الإتحاديين اسطنبول وخلع عبد الحميد الثاني]. وفي الغياب المطلق للمبادرة المميز للمقاطعات ألآسيوية، لجأ الناس الى عزو مايحدث للقضاء والقدر وقد عزز الجيش هذا الإعتقاد عند الناس. أما بخصوص احتمالات ما إذا سيكون هذا الإنتصار الثاني اطول عمرا واكثر حسما من الأول فتلك مسألة مفتوحة [على الإحتمالات كلها].
وادت الأوضاع بالناس الى البقاء في بيوتهم محاكين بذلك بعض البيكوات الاقوياء ممن يريد ان يتمتعون بثرواتهم الهائلة بسلام ويكونون على استعداد على دعم السلطان الجديد بكل قلوبهم، ولكنهم تراجعوا خوفا من احتمال الا تكون الحكومة الجديدة قوية بما يكفي لحمايتهم ضد اخوانهم الفقراء [تقصد الطبقات الفقيرة والجائعة التي قد تثور وتعمد الى نهب الأغنياء كما حدث في اعقاب ثورة الشواف في الموصل]. وعبثا ماقام به الوالي بملئه السجون بالأشقياء [الشقاوات والفتوات] لأنه يعرف مسبقا بانه إذا ما قدمهم للمحاكمة ، فإن أحدا لايجرؤ على الشهادة ضدهم. بينما اضحت السجون مكتظة على نحو خطير.
ومن غير شك كان هناك بعض المشاعر المؤيدة لعبد الحميد، إلا انها نادرة. وكنت قد تعرفت على مواطن من اهل الموصل وهو نموذج ممتاز للمدرسة القديمة [ الطبقة المحافظة والملتزمة في الموصل] يبدو ان من المستحيل بالنسبة لمثله الا يشعر بالتعاطف [مع عبد الحميد] على الرغم من معرفتي به بأنه كان احد المحرضين على قتل الشيخ سعيد: كان هذا الرجل يتابع من غرفة في السراي اعلان محمد الخامس [سلطانا جديدا للأمبراطورية].وعندما شاهد الجندرمة وهم يمزقون ويسحقون تحت اقدامهم الفرمانات التي تحمل توقيع عبد الحميد، ولم يكن بصحبته سوى الشخص الذي اوصل الي هذه المعلومات، القى نفسه على الأرض [ارضية السراي] وبكى وقال: "الكلاب..البارحة كانوا سيتفاخرون لو ان اسمائهم مكتوبة بالنفس نفسه الى جانب اسمه". وبالنسبة لي أرى انه اليوم أفضل تحصينا ولديه الوقت لأسترجاع توازنه [السياسي] غير أنه كان يتنبأ الخراب والدمار والثورة والشرور كلها لبلاده [لم تحدد بيل مقصدها من بلاده في حديثها عن هذا الشخص الذي قد يكون الوالي او شخص آخر بمنزلته، ولاندري ان كان المقصود الدولة العثمانية ام العراق ام الموصل].
فسألته [اي الموصلي الذي قالت انها تعرفت عليه]:
- ألا يوجد هناك علاج [حل]؟ - إذا كان المنبع "راس العين" نقي، يكون النبع "المجرى" او "الجدول" نقي. رد بانفعال. سألته: - وهل كان المنبع نقيا؟ فتردد قليلا وقال: - لاوالله والنبي، حتى الملك يجب أن [لازم] يطلع على اوضاع الرعية يراهم [يغشعم] ويسمعهم [ويسمعم]. يجب عليه [لازم] ألا [ما] يجلس مسجونا [يقعد محبوس] في منزله [اببيتو] يستمع [يسمع] لأحاديث الجواسيس [كلام الجويسيس].
كما أعرف موصليا آخر يختلف اختلافا جذريا عن الشخص الأول، وهو احد اكبر اغنياء المدينة واكثرهم شرا، كان عبدا بالولادة. ولعله لايجلس في صحبة سيده السابق، على الرغم من ان سيده هذا لايمكن له باي حال ان يضاهي بالثراء عبده المعتوق. سألته ان كانت هناك اية قوة تسند الحركة العربية [كانت المشاعر القومية العربية في الموصل قوية كما تبين من المظاهرات المناهضة للإستعمار الإيطالي لليبيا والكتابات الصحفية شديدة اللهجة المؤيدة لوحدة العرب واستقلالهم]. فرد بحماس:
- على الخليفة ان يكون من قبيلة قريش! - فمن سيكون الخليفة الذي سيتم اختياره من قريش؟ فجاء رده: - شريف مكة نسبه من قريش والعرب يجب ان يحكموا انفسهم!
ثم تركني لأتفكر بكلماته لأني كنت عارفة تماما بإنه [لم تحدد الشخص بالضمير الذي يشير اليه هل هو شريف مكة ام الشخص الذي كانت تحدثه] اذا اختار ان يساندهم بالقوة [لم تحدد ضمير المفعول به من "يساندهم" وأرجح ان المقصود هو القوميين العرب في الموصل] ، فإن كل الأشقياء الذين تضج بهم المدينة سيكونون تحت امرته ولاسيما وانه يعرف المكائد والمكائد المضادة كلها في الولاية.
وجلست وقتا طويلا في غرفة ضيوف شخص ثالث من معارفي، وهو رئيس أعظم عوائل الموصل. وهو من نسب رفيع لاشائبة عليه بحيث بقيت شقيقاته عازبات لأن الموصل لاتقدر ان تقدم زوجا يرقى الى مقام العائلة رفعة ونسبا. وكان اسلاف هذا الشخص مسيحيين هاجروا من دياربكر منذ قرنين..وتجري الروايات على ان جده المسيحي حالما جاء الى الموصل ذهب في الصباح الى حلاق ولكنه عندما وصل دكان الحلاق وجده مكتظا بالزبائن من عامة المسلمين ..فلم يعر له الحلاق اهتماما خاصا وابقاه منتظرا حتى يكمل رؤوس المسلمين: فهتف قائلا: " هل على رجل في مقامي ان ينتظر لمثل هؤلاء؟" فاعلن فورا رفضه لعقيدة العبيد [لم تحدد بيل ماهي عقيدة العبيد ولعلها تقصد المسيحية لأن المقصود كان مسيحيا ثم اعتنق الإسلام ]. وكان حفيده احد اولئك الذين سيشعرون بابتهاج ازاء رؤية النظام الجديد ينتصر ويوفر السلام للبلاد..فدعى بالنقمة على رأس احمد عزت باشا [أحمد عزت باشا (1864-1937م) هو قائد عسكري عثماني، كان من اواخر من حمل الصدارة العظمى للدولة العثمانية وهو غير أحمد عزت باشا العمري الموصلي.]، أحد اسوء بطانة السلطان [عبد الحميد] ثم صب لعناته على شقيقه مصطفى الذي كان في وقت مضى واليا للموصل [تولى مصطفى باشا ولاية الموصل للفترة 1905- 1908ويعود الفضل في تعيينه واليا للموصل الى نفوذ اخيه في البلاط العثماني]. ثم قال " لو بقي سنتين اكثر في الولاية لخرب المدينة، غير ان كراهيته لعزت باشا لم تعمه عن متطلبات الإحترام الواجبة فقد تمكن [أحمد] عزت [باشا] بمهاراته الفائقة على الإقناع باغواء صديقي ليقدم له قطعة ارض ثمينة. وبعد شهرين هرب [أحمد] عزت باشا بعد سقوطه في عين السلطان خوفا من الإعدام من القسطنطينية إلا أن البيك لم يرجع في كلمته [بخصوص الأرض التي منحها لأحمد عزت باشا] عندما اصبح عزيز القوم ذليلا يعجز عن ارغام البيك على تنفيذ كلمته [منحه الأرض التي تعهد له بمنحها] وبذلك يتصرف البيك حسب تقاليد النبل التي تصف اسرته [استخدمت بيل عبارة فرنسية مفادها أفعال من تلد الكرام كريمة]. [تضمنت حاشية عبد الحميد العديد من العرب عام 1908، وبدلا من توجيه اللوم بالمشكلات التي تعصف بالبلاد الى عبد الحميد نفسه وجهت الإتهامات الى كبير مستشاريه أحمد عزت باشا العابد الذي وجهت اليه تهم كثيرة بينها تسهيله أو عدم منعه لعدد من اعضاء الأتحاد والترقي من الهرب خارج البلاد، مما ارغم احمد عزت باشا على الهرب ومعه عدد كبير من العرب في القصر والولايات فاتجه احمد عزت باشا الى الموصل].
كما غنمت فرصة المحادثة مع العديد من القساوسة. وهم في الموصل كثرة لايمكن معها تشكيل انطباع منفرد عن كل منهم. ويتناسب عدد القساوسة مع الطوائف المسيحية المختلفة التي يمثلونها فهي مثل رمال ساحل البحر، ولكن فيما افكر بالسفر في مناطق تقيم فيها هذه الطوائف فلابد من استيعاب الأسماء التي تميز هذه الطوائف أحدها عن الأخرى على الأقل. اما فيما يتعلق بالفروق الجوهرية [المذهبية او العقيدية] فتلك تتصل بالمفاهيم والافتراضات الميتافيزيقية التي ليس في امكاني الخوض في تفاصيلها. واكثر تلك الطوائف اثارة للإهتمام من الناحية التاريخية جماعة مار شمعون، الذين كنت قد التقيت بعدد منهم في الطريق. ويعرفون في الوقت الحاضر بالنسطوريين على الرغم من ان هذه التسمية لاتصفهم، كما لاحظ لايرد، بصورة صحيحة. فاتباع المار شمعون هم اعضاء الكنيسة الكلدانية القديمة. وعنصرهم على الارجح هو الأقرب للعنصر الاشوري النقي كما لنا ان نتوقع في منطقة تعرضت للعديد من الغزوات والخراب والتوطين والهجرات.[ تعد المناطق الآشورية في شمالي العراق وشماله وفي شرقي العراق وشرقه من اكثر المناطق تعرضا للإختراقات الإثنية والغزوات والهجرات من قبل الشعوب الآرية والتركمانية عبر التاريخ، مع ذلك حافظ الاشوريين على خصائصهم الإثنية والعرقية والحضارية على الرغم من زوال امبراطوريتهم في 612 ق.م.] اما كنيستهم فقد تأسست قبل ولادة نسطوريوس ولا صلة لتعاليمها به.[تشير بيل الى كتاب ادجار توماس ويغرام الكنيسة الآشورية، وللكاتب ايضا " آلاشوريين وجيرانهم"، و"مهد الإنسانية: الحياة في شرقي كردستان"].ومباديء الكنيسة الآشورية هي مباديء المسيحية القديمة التي لم تخالطها تاثيرات روما. وعقيدتها مع فروق تعبيرية غير مهمة مستمدة من نيقيا حيث نأى الكلدان بانفسهم بعد مؤتمر افسوس الكنسي عن الطوائف الأمرتبطة بالبابا والخاضعة لسلطته. وهم من الناحية السياسية لا يعيشون تحت السيطرة البيزنطية بل في الامبراطورية الساسانية. وحملت بعثاتهم التبشيرية المسيحية عبر آسيا من بلاد الرافدين وحتى المحيط الهادي. ويطلق على البطريارك عندهم وحتى الوقت الحاضر اسم كاثوليكوس الكنيسة الشرقية [الجاثليق] وكان مقره في البداية المدائن عندما اصبحت بغداد عاصمة للخلافة وعند سقوط بغداد، انتقل مقر البطريرك او الكاثوليكوس الى الموصل. وفي القرن السادس عشر حدث انشقاق ادى الى وجود بطرياركين بدلا من واحد. احدهما يقيم في رابان هرمزد بالقرب من القوش، والآخر يقيم في كوشانيس في الجبال جنوبي بحيرة وان.. وقد خضع الأول منذ قرنين لسلطة البابا، ويعرف اتباعه بالكلدان. ويقال انهم حملوا النير الروماني على الرغم من ارادتهم. والثاني هو البطريرك الوحيد الممثل للكنيسة الشرقية المستقلة التي يطلق عليها [على سبيل الخطأ] اسم الكنيسة النسطورية. ومركز البطريرك في هذه الكنيسة ينتقل بالوراثة من الخال الى ابن الأخت في الأسرة نفسها لأن البطريرك يحرم عليه الزواج. وتطلق على حامل المنصب دائما تسمية المار شمعون [مما يتسبب في خلط الروايات التي تنسب الى مار شمعون لعدم تحديد التسمية بمار شمعون الأول فالثاني وهكذا دواليك]. ويسود الإعتقاد القائل بأنه اذا ترتب على حكومة جديدة ان تنجح في فرض النظام، بحيث يتم الإستغناء كليا عن حماية دولة اجنبية، يتوجب على المسيحيين الكلدان [ممن يتبعون روما] هجر ولائهم للبابا واعلان ولائهم لكاثوليكوس الشرق).
ثم تتطرق جرترود بيل للحديث عن تفاصيل تتصل بعمارة الكنائس والجوامع في الموصل فالجماعات التي توطن ولاية الموصل كاليزيدية والشبك وغيرهم ثم الى نينوى وتلقوينجق فزيارتها للقرى في شرقي نينوى والقرى المسيحية واليزيدية في سهل نينوى ثم بافيان والشيخ عدي وحتى زاخو التي يعرفها الجغرافيون العرب بإسم الحسنية ..فوادي الخابور ..وكل ذلك يقصينا عن قلب موضوعنا وهو راي جرترود بيل في الموصل لذا اخترنا التوقف عن مواصلة ترجمة مواضيع متنوعة لاتخلو من فائدة الا ان لاصلة لها بعنوان الدراسة التي اسهبنا في تفاصيلها..
2. وصف الرحالة أيلي بانستر سوان للحادثة:
وفي الوقت الحاضر عندما يكون النظام سائدا في المدينة، وعندما تتقلص جرائم القتل الى معدل جريمة واحدة فقط في الأسبوع، تجد المدينة مكتظة بالأتراك الذين يفتشون عن عمل حيث لايقدر الكردي المعادي والعربي المتبدي التعرض لكرامته بالإحتقار أو تهديد حياته ببنادقهم المحشوة على الدوام.. ولغة المكان هي العربية غير ان التركية مفهومة هي الأخرى وكذلك الكردية لأن الجبال الكردية ليست في منأى بعيد عن المدينة، وملامح الناس التي تراها في الأسواق تحمل في ثناياها عنف القبائل القريبة من المدينة وضراوتها..فالحكومة الفاسدة واستمرار حالة انعدام الأمن في البلاد أديا وظيفتهما على أكمل وجه في منع الناس من القيام باية مبان دائمة بنتيجة تحول كل سوق وكل جامع وكل خان الى هياكل خربة متداعية الى السقوط..وفي الواقع فإن الموصل تترك لدى الزائر الغريب على المدينة بأنها مدينة نفايات على حافة الإنحلال..وعند مغادرة المدينة الى الصحراء المحيطة لبضع خطوات، تجد الموصل تلا في الصحراء مدينة متوارية في البراري النائية الوعراء وهكذا فالموصل تحيطها الصحراء باستثناء جهتها الشرقية والجنوبية الشرقية حيث تمتد الأراضي الخصبة ما يفسر التوطن الاشوري في هذا الإتجاه وصولا الى جبال زاكروس حيث يشكل الأكراد حاجزا جابهه القدماء...والى تلك المنطقة الى ذلك الحاجز ستكون محطتي القادمة..
وكنت اقيم في الموصل في غرفة حجرية في الطابق العلوي من خان يسمى بخان حمو القدو، وكان مرافقي الحجي قد وافق على مرافقتي حتى أربيل ولكنه عثر على ابن عمه في الموصل فقرر مغادرتي معبرا عن اسفه ومتمنيا لي السلامة بقوله ان ليس لديه ولد لأنه لم يفكر بالزواج كما هي سنة الناس في الحياة ولأنه اصبح مسنا يشعر بالندم لعدم زواجه لأنه لو تزوج لرزق بولد بعمري [كان عمر ايلي خلال زيارته الموصل عام 1912، 31 سنة]، ويبدو أن الرجل العجوز كان يحنو علي بعاطفة الأب طيلة طريقنا الى الموصل، فتعانقنا ثم رحل لأبقى وحدي في غرفتي الحجرية في ذلك الخان وسط السوق في الموصل، ففكرت بإيجاد قاطرجي [ المسؤول عن قافلة البغال والحمير في العهد العثماني، وهي كلمة تطلق على حامل البضائع أيضا وهي مشتقة من "قاطر" التي تعني بغلا في التركية و "جي" التي تستخدم كلاحقة للنسبة في التركية أيضا ] ياخذني الى السليمانية، ولأن المقهى أفضل مكان للإعلان عن الحاجة الى خدمات من هذا النوع ذهبت فورا الى المقهى وشرعت بالسؤال عن قاطرجي، وعندسؤالي عن السليمانية انتقل الموضوع الى السياسة ذلك أن حادثة وقعت في الموصل بين جماعة من السليمانية وجماعة من أهالي الموصل ونشب العراك نتيجة تحرش جندي مخمور بأمرأة كردية من السليمانية، ماتسبب بقتل الجندي المتحرش وترتب على ذلك قتل عدد من ألأكراد والعرب، وتلك الحادثة تكفي لإدامة الثارات بين السليمانية والموصل لبضع سنوات فلم يكن هناك من أهل الموصل من يجرأ على الذهاب الى السليمانية كما لم يكن هناك اي كردي من السليمانية يجرأ على المجيء الى الموصل، ومازاد الطين بلة ان قبيلة كردية تدعى الهماوند قد قطعت الطريق الى السليمانية وتعهدت بقتل كل من يمر بالطريق الى المدينة.. ولهذا السبب لم يكن بمقدوري العثور على قاطرجي او بغل لسفري المزمع الى السليمانية ما أضطرني للبقاء معطلا في الموصل اتردد بين غرفتي في الخان والمقهى القريبة أما مشكلة الطعام فقد وجدت لها حلا بالكريم الفاخر من حليب الجاموس [القيمر] والتمر والخبز الحار وهي وجبة لايمكن لأحد أن يجد أفضل منها في السوق المجاور [يتضح من رواية سوان أن الحادثة المعلروفة بدقة الشيخ محمد سعيد قد لاقت تشويها كبيرا وسط جمهور الموصل كما سمعها في المقهى، لأن واقع الحوادث كما رواها رحالة آخرون تؤكد ان المتحرش كان مصحوبا بأثنين من أولاد الشيخ محمد سعيد وأن المرأة التي تحرش بها هي من عرب الموصل وليس من أكراد السليمانية، كما نفهم بعد سوان عن القنصلية البريطانية وأنه لم يسافر مدعوما بتوصيات كما في حالات الرحلات الأخرى])
3. وصف الرحالة أدوين وليم ورفيلد للحادثة:
وتشتهر الموصل بكونها أكثر مدن تركيا اضطرابا وقلاقل، فقد ترددت فيها أصداء اعمال الشغب عام 1909، [وصلت اوضاع العاصمة العثمانية اقصى حالات التوتر بالإنقلاب والإنقلاب المضاد، بينما كانت الجبهة الخارجية مشتعلة بالثورات الإنفصالية، وكان لتلك الإضطرابات انعكاسات على الولايات العثمانية كلها لاولاسيما الموصل] حيث سحبت الحكومة العثمانية قواتها من الموصل [كما سحبتها باكملها من الولايات العربية لمواجهة التحديات في الداخل فضلا عن التمرد الألباني والقلاقل المصاحبة لخلع السلطان محمد علي وبروز القوميين الأتراك على مسرح الحوادث السياسية في تركيا] ما اخلى المدينة من اي مظهر للسلطة العثمانية وجعل السلطة بايدي عدد من الإقطاعيين والأثرياء الذين حكموا المدينة بطريق العصابات التي تأتمر بالأوامر على قدر مايدفع لها، ممن اذا لم يجدوا عملا في الإغتيالات، يسيرون امورهم بطريق السطو المنظم على البيوت وقطع الطرق والتهريب.. ولابد من الإشارة الى أن قلاقل عام 1909 في الموصل لم تنشأ بسبب الثورة في القسطنطينية والإضطرابات التي صاحبتها بقدر نشؤها بسبب الأحقاد الدفينة والتحاسد بين العرب وجيرانهم الأكراد والأتراك، وفي الواقع فقد نشأ في الآونة الأخيرة نزاع مسلح مع السليمانية الواقعة بالقرب من الحدود الفارسية، [تعود تلك الإضطرابات الى العقد الثاني من القرن التاسع عشر وقد نشأت بسبب العداوات بين ولاة بغداد وعبد الرحمن بابان متسلم السليمانية بتوسط ولاة الموصل الجليليين]..وكان تأثير القتال في مدينة يسقط بظلاله على المدن الأخرى [مثل الإنقلاب الإتحادي في الدولة العثمانية تحولا في التوجهات الفكرية والسياسية شملت المدن والولايات التابعة للدولة العثمانية فبينما أيدت الشرائح المحافظة ورجال الدين السلطان عبد الحميد الثاني ايدت الشرائح المثقفة والمتعلمة الإتحاديين وعندما انقلب الأتحاديون على مبادئهم المعلنة ولجأوا الى الإستبداد والتتريك ثار عليهم مؤييديهم، وقد صاحبت تلك التقلبات السياسية اضطرابات ومواجهات وقلاقل كثيرة في الموصل اضافت وقودا على العداوات المضمرة، وهو حال تكرر على الصعيد المحلي خلال ثورة عبد الوهاب الشواف عام 1959]، وهكذا فكركوك هي العدو التقليدي للموصل [يبدو ان الكاتب هنا حمل الرواية اللاحقة حول مقتل الشيخ محمد سعيد البرزنجي تصورا مجافيا للواقع التاريخي]، فالأتراك اعتادوا على دعم حكومتهم بكتيبة من الخيالة من تلك المدينة، وقد بدأت المشاكل في 2 كانون الثاني [1909]، بين خيالة تلك المدينة [الكلمة العربية المستخدمة في مصادر تتصل بالحادثة هي "استرسوار" ويبدو انها ترجمة حرفية للكلمة الإنكليزية "سوار" وهي من اصول مغولية استخدمها الأنكليز لوصف صنف الخيالة في الهند، وتعني فرسان الخيالة، استخدمها الكاتب هنا بهذا المعنى إلا ان نسبته لهم الى كركوك يحتاج الى توثيق]..وعدد من المواطنين، وتعقدت المشكلة عندما وجه أحد الخيالة اهانة الى امرأة موصلية مسلمة [الكلمة الأدق هي تحرش، كما يختلف في هذا الشخص ان كان من كركوك أم من السليمانية ام من الموصل ومنها مايذكر أنه يدعى" بهاء أفندي" وهو رئيس كتاب كمرك الموصل اصطحب ولدي الشيخ محمد سعيد في جولة في المدينة وكان ثملا فتحرش بامرأة موصلية في باب الطوب]، ويعد التحرش خرقا كبيرا للتقاليد فاسرع العرب في الرد بقتل الرجل المتحرش، فثارت ثائرة الكركوكلية وشرعوا بالتحرش بالنساء الموجودات كلهن قبل ان يهربن الى داخل السوق [باب الطوب]، فثارت المدينة وبدأ الرجال بالبحث عن اي شخص من كركوك لم يفلح بالهرب من المدينة ليقتلوه [لا أدري من اين جلب الكاتب هذه الرواية التي لم نعثر عليها في اي مكان آخر]، وفي تلك الأثناء اتخذت الحكومة موقف المتفرج لتخوف الوالي [زكي باشا الحلبي] من تلويمه من قبل السلطات في القسطنطينية مما قد يؤثر على مصالحه، وهذه حال نموذجية للحكام الأتراك في الولايات كلها..وفي اليوم التالي للإضطرابات انسحب السوارية [الخيالة] الى ثكناتهم حيث حوصروا بدون اي طعام [لم يحدد اين تقع تلك الثكنات وكيف لمدنيين ان يحاصروا خيالة مسلحين ويمنعون عنهم الطعام]، وبعد ايام قليلة، رمى السوارية انفسهم على رحمة الوالي الذي تحركت اليه جماهير الناس ايضا مطالبين بالإنتقام [لاندري كيف تمكن السوارية من كسر الحصار الذي ذكر الكاتب انه فرض عليهم في اليوم التالي للإضطرابات وكم من الوقت استمر الحصار لأنه يذكر ان اياما مضت قبل لجوئهم الى الوالي]، ثم حدثت حادثة على قدر كبير من الإثارة في سياق الأضطرابات كلها وهي كالآتي: "امام نوافذ مقر الوالي يقيم أحد أكثر الأولياء المبجلين في تركيا، هو الشيخ سعيد سيد السليمانية، وهو مقرب جدا من السلطان [عبد الحميد الثاني]، وأحد المحرضين على المذابح، حاكم طاغية على إحدى الولايات المجاورة للحدود الفارسية، ولكنه من العنصر الكردي ولهذا فهو منبوذ من قبل كل موصلي أصيل [وصف الشيخ محمد سعيد البرزنجي بالطاغية والمحرض على المذابح يتنافر مع الحقائق التاريخية المتصلة بهذا الرجل ولا اساس له من الصحة، كما أن وصفه بالمنبوذ من قبل أهالي الموصل فيه تعميم مجاف للحقيقة]، اتجهت الحشود الغاضبة من الناس صوب بيته واوشك الناس على اقتحام البيت [ تشير المصادر العربية كالغلامي والصوفي وغيرهما على ان الشيخ سعيد كان يقيم في الموصل بأمر من الإتحاديين الذين قضوا بنفيه من السليمانية وانه كان يقيم في بيت يعود لمحمد الصابونجي في شارع العدالة وان بيته كان مقابل مقر الوالي ولايمكننا تحديد موقع البيت على وجه الدقة للتغيرات الواسعة في الطوبوغرافيا على الرغم من استمرار وجود الشارع حتى الوقت الحاضر]غير ان الغوغاء توقفوا عن اقتحام البيت فجأة لظهور الرجل العجوز بلحيته البيضاء حاملا القرآن ومندفعا بالشجاعة المميزة لعنصره الكردي ويبدو انه وجد وضعه داخل البيت متضعضعا لايمكن الدفاع عنه فاحتسب ان حمله القرآن ومكانته وسنه سترد عنه مخاطر الغوغاء وكان في ثيابه الدينية المزينة باللآلي النفيسة التي أهداها اليه عبد الحميد نفسه وحاملا بين يديه القرآن المقدس فانطلق عابرا الشارع في اتجاه بوابة السراي حيث كان الوالي الذي يتوجب عليه حماية الرجل، إكتفى بمشاهدته من نافذته العليا [يضع هذا الوصف بيت محمد الصابونجي المذكور مقابل المركز العام حيث كان مقر الوالي وبذلك يكون موقع الحادثة بالقرب من دورة باب الطوب حيث موقع مقتل السواري [أو بهاء أفندي، التي تذكر الروايات العربية للحادثة ان ولدي الشيخ محمد سعيد كانا في صحبته في أثناء تحرشه بالمرأة الموصلية في اليوم السابق وكان يوم عيد]، في البداية، انسحب الحشد وساد صمت تام على المشهد بينما تحرك الرجل العجوز بخطى واثقة وبملامح صلبة وهو يشق طريقه وسط الزحام في خط مستقيم الى باب السراي..وعندما وصل منتصف الشارع، هتف أحد الغوغاء بكلمة نابية [وفي الرواية العربية ان شخصا من الغوغاء تقدم الى الشيخ وباحترام بالغ أخذ أو طلب منه القرآن]، وكانت الكلمة النابية تكفي لكسر الصمت فاندفع الغوغاء صوب ضحيتهم وشهر القريبين منه منهم اسلحتهم وعاجلوه بالطعن واندفع البقية طعنا وضربا وركلا حتى قطع جسم الرجل الورع العجوز الى اوصال بايدي المهاجمين..وهكذا قتل الولي الصالح الذي يقال انه شافى بصلواته اولاد عبد الحميد من علل مزمنة، قتل أمام أعين الوالي المرتجف خائر العزيمة الذي يمثل القوة التي يفترض بها منع هذه الحادثة والحيلولة دون تلك الفوضى..وفي تلك الأثناء أندفع الغوغاء الى بيت الضحية فقتلوا 17 عشر من أولاده بينما تمكن البقية من الهرب الى كركوك وبقى منهم من يمثله في السليمانية [ومن ابرز الناجين ابنه محمود برزنجي الحفيد]..ولم يواجه السلطان الذي كان سيخلع بعد وقت قصير، تحديا بهذه الجسامة بينما كان في كامل قوته عند حدوث تلك الحادثة [تنسب الروايات العربية ماحدث الى تحريض الإتحاديين أو عملائهم في الموصل على رجال الدين الموالين لعبد الحميد الثاني]..ولما كان الناس في الموصل موقنين ان من المستحيل ان يتوقعوا اي عفو من الحكومة واصلوا اعمال العنف وسادت الفوضى حتى تمرغت سمعة الحكومة بالوحل وكنت قد ذكرت ان وحل الموصل هو الأسوء [صيان]...وقد اثارت سلسلة الحوادث في المدينة الحكومة العثمانية التي سارعت بإرسال والي جديد يدعى طاهر باشا [الوالي الذي اعقب زكي باشا الحلبي يدعى رشيد باشا الذي اعقبه سليمان نظيف باشا]..ثم يتطرق الكاتب الى الخدمات الطبية في الموصل في فترة تواجده في المدينة، حيث تم تحويل مستشفى عسكري الى مستشفى مدني لعدم حاجة العسكر في ذلك الوقت الى مستشفى ولإمكانية تلقيهم العلاج أسوة بالمواطنين العاديين..ثم يتناول الحديث عن نينوى وتاريخها وتل النبي يونس حيث ينسب اكتشاف ثورين برونزيين الى بئر في جامع النبي يونس وليس الى قصر اسرحدون في النمرود كما أسلفنا، ثم يغادر الى كركوك ومنها الى تركيا في طريق العودة الى انكلترة..
على سبيل الخاتمة:
في الواقع، لابد من الإشارة الى أن روايات الرحالة غالبا ماترد بطريق النقل أكثر منها بطريق الإطلاع المباشر، وهذا ما قد يتسبب في احتوائها على معلومات غير صحيحة على سبيل المثال رواية الضابط أيلي سوان الذي عد النساء أو المرأة المتحرش بها من السليمانية، وهذا لايبرر غضب أهل الموصل والهيجان الذي تسبب بمقتل الشيخ سعيد ومعظم اهضاء اسرته..كما نطلع في المصادر العربية اللاحقة على تفاصيل مكانية واسماء المتورطين في التحرش، على سبيل المثال مقال لبدري نوئيل يوسف في موقع الكاردينيا، حيث نقرأ فيه الآتي: "خرج نجلي الشيخ (احمد ومحمود) بصحبة (بهاء افندي) وهو رئيس كتاب كمرك الموصل من منزل مصطفى بك القائم مقام العسكري للتجوال في شوارع الموصل ، إذ تعرض بهاء افندي وكان ثملا لإحدى النساء في منطقة باب الطوب ، والازدحام على اشده في المنطقة بمناسبة العيد ، وكانت مزدحمة بالمتجولين من رجال ونساء وشباب وأطفال وباعة متجولين ، كان هذا العمل يعتبر أمراً منكرا لا يسكت عنه أي شريف وغيور ولهذا تصدت له جماعة من اهل البلدة وتفاقم النزاع بعد تدخل الشيخين احمد ومحمود وتطور النزاع بعد تدخل الجندرمة وبين الاهالي وطال الجدال وخشن الكلام حتى انتهى بتوجيه السلاح بعضهم الى بعض"..كما يبدو من الروايات المتصلة بالحادثة لدى عدد من الكتاب الأكراد أن منهم من ذهب الى القول ان الشيخ سعيد كان قد قاد ثورة ضد الإتحاديين، وهو زعم مجاف للحقيقة على مافيه من نفخ ومبالغة..لننا نفهم من تفاصيل الروايات ان مشهدا محتلفا تماما عن الثورة كان قد حدث في الموصل، فلنا ان نفترض أن الإتحاديين ومؤييديهم المحليين كانوا وراء التحريض على مقتل الشيخ ولنا ان نفترض أن هناك عوامل كيدية وراء توريط نجلي الشيخ سعيد بالتحرش من قبل قائم مقام الموصل العسكري وصديقه كاتب الكمارك الذي قام بالتحرش، إلا أن الذهاب الى تصوير الحادثة على انها انتفاضة أو ثورة غير صحيح تماما كاعتبار قطاع طرق وسفاحين كبار كمحمد راوندوزي وبدرخان السندي وسيمكو شكاك واضرابهم ثوارا بما يتجافى مع حوادث التاريخ ووثائقه الثابتة..
#صلاح_سليم_علي (هاشتاغ)
Salah_Salim_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سعيد عقل بين الشعر والتاريخ والآيديولوجيا
-
يوليوس فلهاوزن وموقفه من ألأمويين والعباسيين
-
المثلث الآشوري
-
الشعوبيون وتاثيرهم على تدوين التاريخ العربي
-
سورية ارض الحروب الدائمة
-
حليب اللوز: رحلة في قصيدة [وتريات ليلية] لمظفر النواب
-
احتلال الموصل عام 1918- جرترود بيل/ترجمة صلاح سليم علي
-
الهوية والإحتلال
-
شخصيات خيالية في تراثنا الشعبي
-
عقدة الضحية بين التكفير والعنف-أيران نموذجا-
-
من أيمار الى لاهاي
-
شهرزاد والدب
-
الرحالة سفين أندرز هدين وصورة الموصل خلال الحرب العالمية الأ
...
-
تحولات مردوخ
-
العنكبوت والذباب
-
الجثة والطوطم:قراءة في قصة ربطة الأرجوان لأنور عبد العزيز
-
أنساب وذباب
-
شخصية ابن الموصل في ضوء الأمثال الشعبية الموصلية
-
أبراج الكبد والأميرة النائمة
المزيد.....
-
-لجنة التحقيق الإسرائيلية الخاصة بهجمات 7 أكتوبر: -الحكومة ف
...
-
ما جحم الخسائر في لبنان وإسرائيل منذ بداية الحرب؟
-
جامعة مصرية تعلق بعد التداول الواسع لفيديو أستاذ يجبر طالباً
...
-
لبنان.. القوات الإسرائيلية تطلق النار بعد ساعات من بدء الهدن
...
-
غرف متفحمة وقصف متتال.. طبيب يوثق غارات إسرائيلية مستمرة على
...
-
لجنة التحقيق الروسية تؤكد مقتل مدنيين في كورسك بصواريخ -أتاك
...
-
رئيس إدارة تايوان يشكو لمسؤول أمريكي -التهديد الصيني المستم
...
-
افتتاح مترو سالونيك الجديد في اليونان بعد 20 عاماً من البناء
...
-
اليوم الـ418 للحرب الإسرائيلية على غزة: وقف إطلاق نار في لبن
...
-
أبرز ردود الفعل على وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|