|
إغاربيوان” الأنثى المقدسة ووجع المكان
سعيد بلغربي
الحوار المتمدن-العدد: 1508 - 2006 / 4 / 2 - 05:49
المحور:
الادب والفن
“إغاربيوان” الأنثى المقدسة ووجع المكان ولدت و تربة ضريح الوالي “سيدي محماد” الكائن في رأس التلة المجاورة لمنزلنا الريفي كانت أول حمامي ، تربة مقدسة تذهب الشر عن الرضيع كما يزعم جل نساء قريتي المتظرعات ببركة هذا الولي الصالح كل يوم خميس بالشموع والمرق بالديكة والتبرك بالتربة الموجودة بالحفرة الصغيرة عند شاهد قبره . و ضعت إمرأة في معصم يدي شريط مرسوم على جلدي بعسل أسود ذات رائحة قوية متميزة عن الروائح الأخرى ، إنها “ثامنت ن وودجي” هكذا تحمل إسمها بالأمازيغية ، وهي توضع للرضع و للحيوانات الأليفة لوقايتها من شر العين الأدمية و من سموم الزواحف و الحشرات المعدية . و العباد فيما يعشقون في لغة الإعتقادات مذاهب . تحتضنني الأيادي ، تقبلني الشفاه ، أحسست بأول قبلة تطبعها إمرأة على خدي فعرفت أمي ، كانت قبلة ناعمة لا تشبه وصفا في دفئها و رقتها ، إنه شيء جميل أن يعود المرء إلى ذلك العالم المليء بالعفوية و البراءة و يتحول الإنسان إلى كائن نظيف القلب و اللسان و إلى ورقة بيضاء عذراء ، هكذا تقول والدتي الرضيع كالحيوان الأصم لايعي بما حوله و هو صفحة بيضاء تكتب فوقها الأقدار تفاصيل حياته كما تشاء ، كانت أفكار أمي جيدة على الرغم من أميتها في فهم الأمور المعقدة التي تتركب منها هذه الحياة ، كانت بسيطة ككل نساء “إغاربيوان” . “إغاربيوان” كانت توحي لي و لأبناء السبيل العابرون في خرائط صمتها بعالم آخر ، ملامحها المعلومة مجهولة و المجهولة معلومة ، عالمها بسيط لكنه لغز يلفه الغموض و تتشابك فيه المتناقضات . عندما تجرك وحدتك لتجلس على صخرة بتلة إفوناسن أو بدهار إغبراون أو تيحويشين .. أمكنة صنعها التاريخ بتلقائيته من غبار تربة “إغربيوان” ، حينها تكتشف أنك فوق تظاريس جسد فاتن ، إنها أنثى رائعة ، مدللة تتبختر في أزيائها الريفية المحتشمة و أول ما تبصره “بوسيتو” أو خزان الماء العملاق كأنه ثديها الممتليء المتدفق إلى السماء لمعانقة فاه رضيع جائع ، و النهد الآخر يذوب بهدوء في كل نعومة هذا الجسد ليزرع الحياة في “إغاربيوان” و يتحول إلى حجارة تلبس جلد العقارب وبين العقرب و لسعته و النهد و حرمته سر العفة و الشرف و هما أرقى ما في سلوك أشخاص تلدهم إغاربيوان كل يوم ليصبحو لحنها المستساغ و بعدها تدفنهم تحت جلد تربتها و ترثي فراقهم في صمت . ” بوحوت” وحكاية الدواء البارد ـ دوا أصماض ـ بفردة حذاء زواج أسطوري مجهول التفاصيل لأخ من أخته في الرضاعة ، فردة لها تاريخ حي تعرفه العائلة و طقوس صوفية لايتقن أداءها سوى بوحوت الذي أشفت حكمة فردة الحذاء العديد من المرضى الذين كانت تستهويهم “إغاربيوان” إلى أنوثتها ، يدخل المريض إلى بيت صغير يكفي عدى تحرك شخصين بداخله ، فيداويه بوحوت بنعل حذاء العروسة المجهولة التي تزوجت عن خطأ من زوج كانت تحبه تبين في الأخير أنه شقيقها من الرضاعة ، فيضرب بها المريض ضربا خفيفا أنحاءا مختلفة من جسمه و هو يردد لازمته أكثر من مرة قائلا: ” سبحان الله العظيم ؤماس ييوي وتشماس ” فيكون الختام مسك دواءه بارد . “الحاج صارح” ونصف يده التي كان يدغدغ بها وجوهنا الصغيرة مداعبا براءتنا و نحن نمتعض من شكلها و نسأله بعفوية الأطفال عن مكان تواجد النصف الأخرى من الذراع فيخبرنا بطرافته الفطرية بأنه أكلتها الجدة ” تامزا” التي تلتهم الصغار الذين لا يعيرون لنصائح أبائهم إهتماما ، تتسرب قشعريرة الخوف إلى أبداننا الصغيرة فنهرع خائفين إلى بيوتنا قبل أن يلحس الظلام ملامح “إغاربيوان” وتخرج الغولة من مخبأها المجهول حتى لا تتمكن من إلتهام أطرافنا كما فعلت بعمنا صالح . سألت إغاربيوان ذات تأمل أخبرتني بالحقيقة التي جعلته يفقد بها يده وذلك في حادثة إصابته بإنفجار للمفرقعات التي تستخدم في إحياء بهجة الأعراس ، حيث كانت طاقة الإنفجار قوية. “أمزير” رجل من بين هؤلاء الذين صنعوا المقاومة في المنطقة ، كان صفحة مفتوحة من هذا التاريخ الغائب فينا ، يحدثك بالأمازيغية عن كل التفاصيل التي حدثت في حرب الريف ضد الإستعمار الإسباني ، عندما جاء مولاي موحند إلينا ليتفقد رجال المقاومة و خيطها هنا ، أحسسنا بأن شيئا ما يحدث ، أخذته من يده فأختبأنا في كهف كان مأوى لنا من غارات الإسبان ، إنفجرت القنبلة بعيدا ، فلم يحدث لنا مكروه ، هكذا كان يتحدث بعفوية عن مقاومة تساوي كل ذكرى من تاريخها ذهب . قضى أيام حياته الأخيرة حدادا ينفخ الكير ، شرابه المفضل صودا كوكاكولا السوداء وكأنه كان بذلك يلعن بلغته الخفية هذا السواد الذي ينتقم بنا ، رجل تحمل ذاكرته قبل أن يحمل جسده ندوب الدفاع عن كرامة هذا الوطن ، فكان جزائه أن نسيه الوطن و التاريخ معا . رجال و نساء ولدتهم و وأدتهم إغاربيوان في تربتها و هم أحياء ، مازالت تبكي فراقهم في عيون ترقص بداخلها دموع نقية نقاء قلوب هؤلاء ، كاثارا ثاسمانت و ثارا ن وامرابض و ثارا ثامدجاحث و عيون أخرى أصبح يقضمها الخراب بأنيابه التي أصابها الكلب . “إغاربيوان” عندما تغيب عنها الشمس و يسكنها الظلام تصبح كائن آخر ، ليلها يبدو لي إطار أسود لمعانات دفينة ، وفي جزر عتماتها كنا نعثر عن الهدوء أشلاءا متناثرة بين أماكن يلفها الآن الضياع و النسيان ، أماكن إغتالتها قوة الإسمنت اللعينة التي أصبحت تنتقم من رائحة الطين الزكية التي كنا نطلي به مساكننا ، عند عتبة المسجد حيث كنا نعقد مؤتمرات نميمتنا اللذيذة ، فوق البيدر الكبير بالقرب من ضريح “سيدي محماد” حيث كنا نلتف حول صلاة العيدين بلباسنا الجديدة و حلوتنا اللذيذة ، ثيحويشين دهار إغبراون حيث كنا نرتشف نكتنا اللذيذة . كل مرارة هذه الذكريات كانت لذيذة . وهاهي إذن إغاربيوان تعيش بداخلي رغم كل هذا الألم ، لاأدري لماذا منحت لها كل هذه السيول من العشق الأوديسي ، ربما لحميميتي بها مند أن طهرتني أمي بتربتها و مرغتني فيها . “إغاربيوان” كانت كأمي ، تلومني حينما كنت أغتال عصافيرها بمصيدتي ، كانت تحبهم وتحميهم من عربدنا نحن الصغار، لأنها كانت تصنع منهم عرسا لملامحها المليئة بالبهاء ، كنت أعثر في جمالها الخرافي على وجه كل عروسة تائهة تزين نفسها بأوشام تيفيناغية لتزف قربانا لكل يوم جديد . ومن أنغام وشوشاتهم كانت تهدي لنا أحزانها سيمفونيات عذبة فكنا مرغمين إلى أن نستمع إليها حتى لانموت . مازلت أحتفظ في مناطق من جسدي على ألوان من الجروح التي لم تندمل بعد ذكرايتها ، كلما فتحت أوراقها أتصفح معها قاموس من صفحات جرحي فأحن كالهارب من نفسه إلى عوالم طفولته ، لأجعل من هذه الأمكنة و الشخصيات كلمات أفرغها من محبرة لوعتي في ذاتي لأسكبها ميدادا على ذاكرة من ورق ، وأبصم بها في لذة الإستذكار كلمات تنساب موشومة بالصمت على صفحات أمكنة و شخصيات عاشت حياة البسطاء و ماتت بسيطة كميتة الفرشات في أحضان الزهور ، لأهديها قربانا من الإبتهالات لقريتي إغاربيوان التي ولدتني كأمي .
* حافظ النص على مجموعة من الكلمات الأمازيغية كما هي متداولة لأشياء و أمكنة و شخصيات حقيقية .
بقلم: سعيد بلغربي www.isuraf.tk
#سعيد_بلغربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة تطويني فراقا.............نص قصصي
-
همسات مدثرة في كفن الغربة.......قصة قصيرة
-
قصة قصيرة.....-الناظور- عندما تفتح فخذيها.
-
ألم ...ألم...ألم
-
مراسيم حفلة الزفاف الأمازيغي بالريف.....عادات ...وطقوس
-
موقع الأمازيغية في - ديوان ولث من النداء الحافي- للشاعر توفي
...
-
منديل مبلل و شيء من الصـمت
-
الرصيف و امرأة تشتهـي نبيذ شفتي
-
تيمـوزغـا حبيبتي
-
غربة و عزلـة
-
هـواجس حول الكتابة
-
شذرات حول الكتابة
-
هوايته الجنون..........شعر
-
ـ يوميات نملة مناضلة
-
في تامازغـا ...للعشق كائناته الخاصة
-
نساء قريتي .........شعر
-
نساء قريتي................شعر
-
خيانة .......شعر
-
طائر المطر يدغدغ صمتـي - شعر
-
و ما ذنب الحب في زمن الحرب يا زوبيدة ؟
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|