|
المثقف ودوره الاجتماعي: مقاربة نظرية المثقف العربي وتحديات المرحلة
ثائر أبوصالح
الحوار المتمدن-العدد: 5993 - 2018 / 9 / 13 - 22:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الجولان السوري المحتل المحتويات أولاُ: مقدمة ثانياً: التطور التاريخي لمفهومي الثقافة والمثقف. ثالثاً: تطبيق النموذج: 1- ابن رشد 2- الإمام أحمد بن حنبل 3- ابو العلاء المعري رابعاً: نقاش النتائج: 1- نهضة الغرب 2- نهضة العالم الإسلامي: ا-الدكتور يوسف القرضاوي ب-الدكتور محمد شحرور ج-الأديب نجيب محفوظ د-الدكتور صادق جلال العظم خامساً: خلاصة واستنتاجات سادساً: ملاحظات
أولاُ: مقدمة: يقول ابن منظور في لسان العرب في مادة ثقف: المثقف والثقافة لغة مشتقتان من مادة (ثقف)، والتي تدل حسب ما جاء في معجمات اللغة العربية وقواميسها على عدة معان منها: الحذق، وسرعة الفهم، والفطنة، والذكاء، وسرعة التعلم، وتسوية المعوج من الأشياء، والظفر بالشيء. وفلسفياً عرف مجمع اللغة العربية الثقافي، المعجم الفلسفي بأنه:" كل ما فيه استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع. ومصطلحا ثقافة ومثقف يقابلان في اللغة الإنكليزية على التوالي لفظي (cultureو intellectual). (1) إن أدبيات الثقافة العربية تكاد تعكس المفاهيم والتصنيفات الرائجة في الكتابات الغربية، كما وردت عند المدارس المعروفة عالمياً في المجال الثقافي. فمدرسة الحداثة تعتمد على الرؤية الديكارتية لوظيفة المفكر، حيث تركز بعض المفاهيم على أن المثقف ناقد اجتماعي يسعى إلى نقد الممارسات الاجتماعية انطلاقاً من مرجعية نظرية محددة. أما المدرسة الماركسية فترى أن الفكر سلاح يستخدمه المفكر للدفاع عن مصالح الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها ويمثلها، أما مدرسة ما بعد الحداثة فتؤكد على أن مهمة المفكر تفكيك وإظهار التناقضات الداخلية. (2) يعود الفضل للجابري في أنه قدم لنا تصوراً واضحاً للمفكر الملتزم في الحضارة العربية الإسلامية، وهو الأسبق إذ استنبط صورة "المثقف" من التراث العربي محاولا تأصيل مفهوم "المثقف" باللغة العربية، بإحالته إلى بيئته الأصلية التراثية العربية التي يمكن من خلالها الوقوف على أهم ملامح هذا المفهوم وتعيناته في التراث العربي الإسلامي. ولنا في التاريخ الإسلامي نماذج مختلفة ومتناقضة لعلاقة المثقف مع السلطة، فقد اتهم الخليفة العباسي المأمون، والذي اعتنق مذهب المعتزلة والذي يعتبر متنوراً قياسا لعصره، أحمد بن حنبل بالانحراف عن الدين الصحيح، وفي المقابل نرى نموذجاً آخر، فقد اتهم يعقوب المنصور الموحدي، ابن رشد وجماعته من العلماء بالانحراف عن الدين. وفي الحالتين كانت سلطة الحاكم الخليفة هي القادرة على القهر والسجن وإحراق الكتب. وكذلك اتهم أبو العلاء المعري بالكفر والزندقة نتيجة موقفه من الأديان، ويرى الجابري أنه على الرغم من تعاقب القرون فإن البيئة العربية الإسلامية ما زالت تواجه المثقفين بمثل هذا العنف الذي شهدناه في القرن الرابع عشر. وهناك العشرات من النماذج تجسد تضحيات العلماء العرب والمسلمين في التاريخ العربي الإسلامي الذين سطروا أروع المثل في مدى تفانيهم إزاء القضايا والأفكار والمعتقدات والقيم التي آمنوا بها وضحوا من أجلها، بغض النظر عن صحتها أو عدمها بمنظور تاريخي. من أمثال: هؤلاء الحلاج، والجاحظ، وابن سينا، والرازي، وغيلان الدمشقي، وابن المقفع، وابن رشد، وأبو العلاء المعري، والجهم بن درهم وغيرهم. أما في عصرنا اليوم، عصر العولمة، عصر نهاية التاريخ كما كتب فوكو ياما عام 1992، عصر صراع الحضارات كما يريد أن يسوق لنا الغرب، وعصر الثورات العربية نجد أنفسنا أمام جملة من المثقفين: أولا المثقف السلفي الذي يريد أن يعيد أمجاد النهضة الإسلامية بطريقة الاستنساخ الميكانيكي، ثانياً، المثقف الليبرالي الذي يريد أن يقلد التجرية الغربية ويستنسخها في العالم العربي. ثالثاً، مثقف السلطة الذي برز بشدة في زمن الثورات العربية والذي يبرر للأنظمة أعمالها مهما بلغت من العنف والاستبداد. رابعاً، المثقف الأصيل الذي يحاول أن يربط بين الأصالة والحداثة، فهو أمام تحديات جسام في عملية الحفر المعرفي، تتجسد بجملة من المحظورات على الفكر، فتمنعه من تحدي القداسة في النص والنقل.
من هنا تسعى هذه الدراسة الى استنباط إطار نظري لمفهوم المثقف ودوره الاجتماعي من خلال استعراض ودراسة هذا المفهوم وتطوره التاريخي، ومن ثم ستجري محاولة لتطبيق هذا الإطار النظري على الواقع العربي، من خلال استعراض بعض النماذج التاريخية التي تجسد المثقف ودوره الاجتماعي في التاريخ العربي الإسلامي، وقد تم اختيار ثلاثة مفكرين ينتمون الى ثلاثة تيارات مختلفة وهم: الإمام أحمد بن حنبل، والذي اتبع المنهج الديني للوصول الى المعرفة، وأبو العلاء المعري الذي رفض المنهج الديني واتبع المنهج العقلي، وابن رشد الذي اعتبر الدين والعقل منهجين يوصلان الى المعرفة ولكنه دعا للفصل بينهما. أما في المرحلة المعاصرة فقد تم اختيار الدكتور صادق جلال العظم وهو أحد أهم ناقدي الفكر الديني في العصر الحديث، والدكتور محمد شحرور الذي قدم قراءة جديدة للقرآن الكريم بما يتناسب مع الحقائق العلمية، أي أنه حاول التوفيق بين العلم والدين، والدكتور يوسف القرضاوي الذي يتبنى المنهج الديني ويعتبر أن العلم والدين في الإسلام شيء واحد. هذا إضافة الى استعراض رأي الأديب نجيب محفوظ فيما يتعلق بالعلاقة بين العلم والدين.
سيتم تطبيق النموذج في العصر الحديث فقط على الدكتور صادق جلال العظم، أما الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد شحرور والأديب نجيب محفوظ سيتم مناقشة أفكار هم الرئيسية فيما يتعلق بسؤال البحث، وذلك لتلافي التكرار، وللتركيز على الأفكار الرئيسية التي تتناولها هذه الدراسة. سيحاول هذا البحث تفكيك وتحليل مفهوم المثقف وفهم علاقات مكوناته الفلسفية والاجتماعية ((Analysis وصولا لإعادة تركيبه نظريا بما يتلاءم مع تحديات العصر الحديث، (Synthesis) معتمدين على ادبيات أهم المفكرين في هذا المجال. والكشف عن السؤال الرئيسي الذي اشغل المفكرين في العصور المختلفة، وما زال محط اهتمامهم في العصر الحديث، والمتعلق في العلاقة بين العلم والدين، والتي تدعي هذه الدراسة أنها الإشكالية الأساسية والتي تشتق منها كل التحديات التي تواجه المجتمع العربي الإسلامي. ثانياً: التطور التاريخي لمفهومي الثقافة والمثقف: عندما نحاول تناول قضية المثقف، تعترضنا على الأقل خمس اشكاليات أساسية، الأولى: مشكلة تعريف المثقف لذاته، فالمثقف يعرف المثقف، لذلك لا يمكن فصل الذات عن الموضوع. فالذين يكتبون عن الثقافة والمثقف هم على الأغلب المثقفون. والإشكالية الثانية، تتعلق بالعلاقة بين المتعلم والمثقف، هل كل متعلم هو بالضرورة مثقف، وهل كل مثقف هو بالضرورة متعلم؟، أما المعضلة الثالثة، تعنى بقضية التعريف المعياري، والذي يصلح ليكون تعريفاً خارجاً عن الزمان والمكان، في مواجهة التعريف الذي يلتزم الزمان والمكان، وبكلمات اخرى ما يمكن أن نسميه التاريخانية، وهو التعريف الذي يعبر عن حالة ثقافية ما في مكان وزمان معينين ومرتبط بهما، فهل يمكننا الوصول الى تعريف يجمع المعيارية مع التاريخانية والواقعية؟ أما المشكلة الرابعة فتتعلق بإشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة، الأمر الذي يقودنا الى الخوض في سيكولوجية المثقف. خامساً وأخيراً تتناول إشكالية العلاقة بين المثقف والمجتمع فهل هناك فعل ثقافي خارج المجتمع، أم أن الفعل الثقافي لا يمكن له أن يحيا إلا في حيز اجتماعي؟ سنتناول غالبية الإشكاليات التي ذكرت من خلال المنظور التاريخي والاجتماعي والفلسفي لمفهوم المثقف، وسنبدأ من أخرها والذي يتعلق بالبعد الاجتماعي. لقد تعددت آراء المفكرين حول تعريف المثقف، ولكن أكد الغالبية على دوره الاجتماعي، وقد اصطلح إدوارد سعيد، مصطلح "المفكر الرسولي" صاحب الرسالة، أما نتشه وسارتر. فقد استعملا اصطلاح "المفكر النقدي". ويرى عالم الاجتماع الفرنسي إميـل دوركهـايم أن المعرفـة كظاهرة اجتماعية لا يمكن تفسيرها إلا بظواهر جمعية، وأن كل حقيقة، في المنظـور السوسيولوجي، يجب ربطها بواقع اجتماعي محدد. (2) وإذا كان القرن التاسع عشر، شكل بدايةً لمحاولة ربط الأفكار والقيم بالبناء الاجتماعي، فهذا لا ينفي عدم وجود إرهاصات تلك البدايات لدى الفلاسفة العرب وأبرزهم ابن رشد وابن خلدون، إذ ربط ابن رشد، 1198-1126)) في مؤلفه الشهير (فصل المقال (بين طبيعة المعرفة وشكل الخطاب والاتصال المعرفي، ووظيفته وفعاليته، وتأثيره وجدواه بطبيعة الجماعة التي تحمله وموقعها الاجتماعي من جهة، وطبيعة المخاطب من جهة أخرى. (3) كما يمكن عد أفكار ابن خلدون (1332-1446) أول محاولة منهجية لربط الثقافة كنمط حياة بالوجود الاجتماعي، والنظر إليها من طبيعة هذا الوجود بين البداوة والحضارة بشكل عام. (4) من هنا نرى أن العلاقة بين المثقف والمجتمع هي علاقة عضوية، فيصبح العمل الثقافي خارج الفضاء الاجتماعي كالروح بلا جسد، فالأفكار لا يمكنها أن تتحول الى أفعال إلا ضمن الواقع الاجتماعي، كما أن الروح لا تستطيع ان تفعل ونشعر بها ونتأثر ونؤثر بها إلا إذا كانت داخل جسد، عندها تصبح روحاً حية، كذلك الأفكار لا تكون حية الا داخل الواقع الاجتماعي، حينها فقط تستطيع أن تفعل وتنفعل. لقد أورد عالما الاجتماع تشارلز كورزمان ولين اوونز ثلاثة اتجاهات رئيسية تعنى بالعلاقة بين المثقفين ومجتمعاتهم. يرى الاتجاه الأول أن المثقفين يشكلون طبقة مستقلة بحد ذاتها، ويرى الاتجاه الثاني أن المثقفين مرتبطون بطبقة ما، أما الاتجاه الثالث فيرى أن المثقفين لا ينتمون لأي طبقة من الطبقات (Less Class). (5) لقد عبرت قضية دريفوس عن الاتجاه الأول حيث وجدت طبقة وصفت نفسها بالمثقفة ودافعت عن قيم المجتمع، حيث ترافقت ولادة مفهوم “المثقف” في الغرب للتعبير عن الموقف الشجاع للروائي الفرنسي إميل زولا ونخبة من المثقفين الفرنسيين الذين دافعوا في باريس عن الضابط الفرنسي اليهودي الأصل الفريد دريفوس، الذي اتهم بجريمة الخيانة العظمى، وحكم عليه في 22 ديسمبر عام 1894 بالنفي إلى غويانا، بتهمة التجسس لصالح ألمانيا. وفي هذه الأثناء كتب إميل زولا مقالته الشهيرة “إني أتهم” التي دافع فيها عن دريفوس، ثم انبرى مجموعة من المثقفين الفرنسيين للتوقيع على بيان شهير عرف باسم “بيان المثقفين” الذي عبروا فيه عن رفضهم حكم المحكمة. ونشر هذا البيان في جريدة “لورور” الفرنسية في 14 يناير 1898. وتحت تأثير الضغط الثقافي للمفكرين الفرنسيين أعيدت المحاكمة وخفض الحكم إلى مدة 10 سنوات من السجن، ورفعت إلى محكمة النقض التي ألغت الحكم وأطلقت سراح دريفوس وتمت تبرئته. (6) وقد مثل أيضاً هذا الاتجاه كتاب الفيلسوف والمثقف الفرنسي جوليان بندا "خيانة المثقفين"، واعتبر أن المثقف لا يمكن أن يكون معبرا عن مصالح مادية ضيقة، وانما يدافع عن مثل عليا تخدم المجتمع كله مثل العدل على سبيل المثال. حيث يرى جوليان بندا أن المثقفين يشكلون " نخبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية (…) إن المثقفين الحقيقيين يشكلون طبقة العلماء والمتعلمين بالغي الندرة لأن ما ينادون به هو المعايير الخالدة للحق والعدل". (7) أما الاتجاه الثاني فقد مثله انطونيو غرامشي، والماركسيون بشكل عام، والذين يرون ان اي طبقة تنشأ من خلال نشاط انتاجي ما، وتنشأ معها بصورة عضوية طبقة المثقفين الخاصة بها والساعية الى تكوين وعي هذه الطبقة الاجتماعية بدورها ووضعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، اضافة الى تحقيق تماسكها والحفاظ عليه. وينحو غرامشي الى التمييز بين نوعين من المثقفين: المثقفون التقليديون، والمثقفون العضويون. فالمثقفون التقليديون يملكون ثقافة مهنية بحسب طبيعة عملهم، ويقومون بنفس العمل وينقلون ثقافة متواترة من جيل إلى جيل مثل: المعلمين ورجال الدين. أما المثقفون العضويون، فهم أولئك المثقفون المخضرمون المتمرسون بالمعرفة انتاجاً وإبداعاً، الذين يحملون في عقولهم وقلوبهم هموم الطبقات الكادحة في المجتمع من العمال والفلاحين، ويضحون من أجل الدفاع عن قضايا الأمة وقضايا المضطهدين والمسحوقين، وهم في النهاية يمثلون ضمير الأمة والصوت المعبر عن طموحاتها وقيمها الاجتماعية. (8) كذلك ترتبط المدرسة الماركسية بنفس التوجه، وتعتبر أن المثقف مرتبط بطبقة ويدافع عنها وعن مصالحها، فهناك مثقف تقدمي يدافع عن الطبقات المسحوقة ويدفع بعجلة التطور الى الأمام، وهناك مثقف رجعي يدافع عن الاستغلال ويريد أن يحافظ على مكتسبات الطبقة الرأسمالية المستغلة التي يدافع عنها، ويرى كارل ماركس، مؤسس هذا الفكر أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، والطريقة التي نفكر بها تنبعث من الظروف الاقتصادية والاجتماعية التـي نعيـشها، وتتعلق المعرفة بمسائل الوعي الطبقي والإيديولوجيات الطبقيـة المتنوعـة، والبنيـة التحتية (قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج) هي التي تحدد البنى الفوقيـة (الإيـديولوجيا، والأفكار، والقيم الاجتماعية والثقافية المختلفة)(9) لقد عبر أيضا محمد عابد الجابري عن نفس هذا التوجه في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية”، إذ يعرّفهم بأنهم “هؤلاء الذين يعرفون ويتكلمون، يتكلمون ليقولوا ما يعرفون، وبالخصوص ليقوموا بالقيادة والتوجيه في عصر صار فيه الحكم فناً في القول، قبل أن يكون شيئاً آخر". والمثقف عند الجابري: “هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات “المقهورة” والكادحة”، إنه “المثقف العضوي” الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته المختلفة دفاعا عن الحق والحقيقة ورفضا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط في المجتمع. (10) ويعرّف الجابري نخبة المثقفين "بأنهم يشكلون الفئة الواعية التي اكتسبت بحكم ثقافتها موضوعية التفكير، ووضوح الرؤية، والقدرة على التحليل والمحاكمة المنطقية، مما يجعلهم في حصن من أن تنطلي عليهم أساليب البرجوازية، ومن أن يخيفهم تحكم المتسلطين". ويرى أن هؤلاء المثقفين، هم وحدهم القادرون على تصحيح تلك الصورة في الوعي الجماهيري، ورسم الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس. (11) أما الاتجاه الثالث فيمثله المفكر كارل مانهيم والذي يتجاوز الطبقات، فهو يفسر الأفكار بإرجاعها إلى الأصل الاجتماعي، حيث يتعرض المثقف من خلال نشاطه الفكري الى رؤى مختلفة عن الواقع الاجتماعي على عكس الآخرين المنخرطين بشكل مباشر في عملية الإنتاج المادي والنظرة الكونية المرتبطة بها. بعبارة اخرى يسمح التعليم للمثقف أن يرتبط بطبقة غير تلك التي نشأ بها أصلاً. (12) اذن المثقف هو ليس فقط الذي يمتلك المعرفة وإنما من يحول هذه المعرفة الى فعل، وهذا يقودنا الى إشكالية العلاقة بين التعليم والثقافة، فالمتعلم هو حاصل على الشهادات العلمية، أما “المثقف” فهو ذلك الذي تمرّس بالفكر والثقافة، وأصبح فاعلا ومنتجا للثقافة، ومؤثرا في المجتمع وفق معايير الدفاع عن القضايا الكبرى في المجتمع. إن ربط الثقافة بالعلم هو ربط منطقي ولكن هل كل متعلم وحتى إذا كان عالماً يمكن أن نسميه مثقفاً؟ لقد اعطى جان بول سارتر أدق تمييز بين “العالم” و “المثقف” إذ يرى أن “كلمة “مثقف” لا تطلق على العلماء الذين يعملون في حقل انشطار الذرة لتطوير أسلحة الحرب وتحسينها لأنهم في هذه الوضعية مجرد علماء، ولكن إذا شعر هؤلاء العلماء بالخوف والذعر لما تنطوي عليه هذه الأسلحة من طاقة تدميرية فاجتمعوا ووقعوا بيانا يعارضون فيه استخدام الاسلحة النووية ضد البشر غدوا من فورهم مثقفين". وهذا يعني أن الثقافة موقف نقدي جريء ومسؤولية كبرى ورسالة، وليست مجرد معرفة وعلم في المخابر أو معرفة في رؤوس العارفين. (13) يفرق عالم الاجتماع كارابل بين ثلاث طبقات من المثقفين، وهي أيضا محاولة لربط الثقافة بالعلم عن طريق تقسيم المثقفين الى طبقات: الطبقة الأولى، التي تمثل جوهر طبقة المثقفين في هذا التعريف، وتقوم ب "انتاج الثقافة"، وتشمل العلماء والمؤلفين والفنانين وبعض الصحافيين؛ الطبقة الثانية التي تشمل من يقومون بنشر الثقافة، من مدرسين ورجال دين وصحافيين. ثم تأتي الطبقة الثالثة وهي على أطراف طبقة المثقفين، وتشمل من يقومون ب "تطبيق" الثقافة مثل المهندسين والمحامين وعلماء الطبيعة... وغيرهم. (14) نرى هنا أن كارابل يدمج بين العلم والثقافة، ولكن وبنفس الوقت يقوم بفصلهما عن طريق التقسيم الى طبقات؛ الى من ينتج الثقافة، والى من يقوم بنشرها، والى من يقوم بتطبيقها. فهنا يدمج بين المتعلمين والمثقفين ولكنه يفصلهما وظيفياً. إن اشكالية الربط بين المعيارية والتاريخانية شغلت بعض علماء الاجتماع وأهمهم ادوارد شيلز الذي اهتم كثيراً بموضوع المثقفين ووضعهم في المجتمع وعلاقتهم بالسلطة، فشيلز يقول: " في كل مجتمع يوجد بعض الأشخاص الذين لديهم حساسية فوق عادية لما هو مقدس وتفكر فوق المعتاد في طبيعة الكون والقوانين التي تحكم المجتمع. وتوجد في كل مجتمع اقلية من الاشخاص الذين يتساءلون ويمتلكون الرغبة في أن يكونوا على اتصال دائم بالرموز التي هي أعم من مواقف الحياة اليومية الانية والملموسة" ويضيف شيلز أن الرغبة في التفكير في الرموز تصاحبها رغبة أخرى في التعبير عن تلك التساؤلات أكان ذلك بصورة شفوية أم بصورة مكتوبة قد تأخذ اشكالا ادبية او طقوسية. (15) ثم ينتقل شيلز بعد ذلك من المناقشة الموضوعية الرمزية الى المناقشة التاريخية، فيؤكد أن المثقف أدى دورا محوريا في مجتمعه، ولا يمكن لأي مجتمع أن يكتب له البقاء، بل لا يمكن ان يصبح مجتمعا أصلا من دون وجود المثقف. في رأي شيلز المثقف في النهاية مصدر شرعية السلطة فاذا كانت السلطة تستند الى ما يعتقد الناس حيالها فإن معتقدات الناس تلك لا تتشكل بناء على خبرتهم المناسبة فحسب إنما تتشكل أيضا وبصورة كبيرة بناء على النتاج المتراكم لجهد المثقفين. (16) إن طريقة فهم المثقف عند شيلز تتقاطع نوعاً ما مع تعريف عزمي بشارة للمثقف العمومي وهو ذلك المثقف الذي يمارس دورا في الشأن العام ويتفاعل مع قضايا المجتمع والدولة اعتمادا على ثقافته العامة ومعارفه الشاملة.(17) وتكتسب تجربة عزمي بشارة أهمية خاصة كونه كان يعبر عن حالة مزدوجة فمن جهة شكل نموذجاً للمثقف المقاوم للاحتلال، ومن ناحية أخرى مثل المثقف الناقد للواقع الاجتماعي والسياسي العربي وجعلهما مسارين متوازيين، فلم يؤجل أي منهما لمصلحة الأخر، وهذا تجسيد للجمع بين المعيارية والتاريخانية، فعبر بأحسن ما يكون عن ما يريد أن يراه عربياً وبشكل معياري، وقاوم واقع الاحتلال فكرياً، وتعاطى كمثقف مع الواقع المعاش داخل الأرض المحتلة. وهذا الحالة تمثل حالة المثقفين العرب تحت الاحتلال وتشابه الى حد ما حالة المثقفين في الأنظمة القمعية. إن علاقة المثقف بالسلطة تشكل أيضاً أحد الإشكاليات التي تواجه المثقفين فمصطلح مثقف السلطة أصبح مرادفاً لمصطلح شاعر البلاط. لقد عبر فاتسلاف هافل الكاتب المسرحي والرئيس التشيكي السابق عن هذه الاشكالية بقوله: إن المثقف يجب أن يكون مصدر ازعاج على الدوام ويجب أن يشهد مأساة العالم، ويجب أن يكون مستفزاً باستقلاله، ويجب أن يتمرد على جميع الضغوط والألاعيب الظاهرة والخفية، ويجب أن يكون الشاك الأكبر في الأنظمة وفي السلطة وأساطيرها ويجب أن يكون شاهداً على كذبها. (18) ولكن تبقى ظاهرة ما يمكن أن نسميه مثقف البلاط ظاهرة ذات اهمية كبيرة، حيث يتحول الفكر الى سلعة تباع وتشترى. فإن مثقف البلاط يسخر ما يملكه من علم ومن منطق ويستعمل الديماغوجية في سبيل تطويع الفكر والتأثير على الجمهور بما يخدم السيد، وفي نفس الوقت هو مستعد ليقوم بفعل معاكس ويسخر نفس الفكرة لتخدم سيداً آخر، هذا يقودنا الى موضوع آخر يتعلق بسيكولوجيا المثقف حيث يتحول بعض المثقفين الى محامين يدافعون عن أي قضية عندما يدفع لهم الأجر المناسب. فهل تحول التلاعب بمعايير الثقافة الى مهنة يمتهنها المثقفون، كما أن التلاعب والتفسيرات المختلفة للقانون الى مهنة يمتهنها المحامون؟ إذا أردنا أن نجمل ما قيل عن المثقف حتى الآن يمكننا أن نلخصه بالخطوط العريضة التالية: 1- المثقف هو شخص قادر فعلياً على انتاج الأفكار المجردة وتحويلها الى أفكار حية تسعى الى تغيير القائم سلباً أو إيجاباً، أو تثبيته. 2- لا يمكن للفعل المجرد أن يتحول الى فعل ثقافي الا إذا حدث في حيز اجتماعي وتفاعل معه بطريقة الفعل والانفعال. 3- لا بد لأي فعل ثقافي إلا أن يصطدم بسلطة سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو ثقافية، والفعل الثقافي الذي لا يصطدم بسلطة قائمة لا يمكنه أن يتحول الى رافعة تحول وانما يصبح كالطلقة الطائشة التي لم تصب أي هدف. 4- الفعل الثقافي يسعى الى تجاوز الوضع القائم من خلال التعامل معه وتحرير العقل من خطابات الثقافة السائدة والقوى المرتبطة بها. وقد يكون أيضا هناك فعل تقافي معاكس يسعى الى العودة الى الوراء أو الحفاظ على الوضع القائم من خلال التعامل معه. أي أن اتجاه التحولات هي التي تحدد هوية المثقف؛ من هنا فإن للفعل الثقافي ثلاثة أنواع: الأول دافع الى التطور أو ما يمكن أن نطلق عليه فعلاً تقدمياً، أو فعلاً يدفع إلى الخلف ما يمكن أن نسميه رجعياً أو سلفياً، أو فعلاً يسعى للمحافظة على القائم ويمكن أن نطلق عليه المحافظ أو البراغماتي. 5- الفعل الثقافي لأي مثقف كفيل بتحديد موقفه من الأيدولوجيات السائدة وطريقة التفاعل معها. 6- الفعل الثقافي يجب أن يكون علنياً لكي يستطيع التأثير في صناعة الرأي العام. 7- تساهم وسائل الاتصال في تعميم الثقافة حيث وفرت إمكانيات التأثير، وذلك من خلال نسخ الكتب والترجمة والمناظرات والخطب والتعليم في المساجد، واليوم تطورت لتضم شبكات التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، المرئية منها والمكتوبة والمسموعة. حيث تسهم وسائل الإعلام في إمكانية صناعة المثقفين اعلامياً.
ثالثاً: تطبيق النموذج 1- ابن رشد (1126-1198): - شخص يمتلك المعرفة التي تخوله على انتاج الأفكار المجردة: ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، يسميه الإفرنج (Averroes) واشتهر باسم ابن رشد الحفيد(19) مواليد 14 إبريل 1126م، في قرطبة، توفي في 10 ديسمبر 1198م، مراكش، هو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاض وفلكي وفيزيائي عربي مسلم أندلسي. نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس والتي عرفت بالمذهب المالكي، حفظ موطأ مالك، وديوان المتنبي ودرس الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري(20) يعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام. دافع عن الفلسفة وصحح للعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين فعينه طبيباً له ثم قاضياً في قرطبة. (21) تولّى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، فامتلك ابن رشد كل الأدوات اللازمة لإنتاج المعرفة والأفكار المجردة والقادرة على التحول الى فعل في الحيز الاجتماعي خصوصاً في الأندلس وشمال افريقيا. - تعمل الأفكار المجردة في حيز اجتماعي فتتحول الى أفكار حية قادرة على التأثير: إن أهم أفكار ابن رشد تتعلق بفهمه ألا تعارض بين الدين والفلسفة، ولكن هناك برأيه طرقاً أخرى يمكن من خلالها الوصول لنفس الحقيقة المنشودة. ويدعي ابن رشد أن لديه نوعين من معرفة الحقيقة، الأول معرفة الحقيقة استناداً على الدين المعتمد على العقيدة وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، وبمفهوم عصرنا لا يمكن وضعها تحت المقاييس العلمية لأنها غير قابلة للنقض فهي تستند الى معارف مقدسة متصلة بالإيمان أكثر من العقل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة، والتي تعتمد المنهج العقلي الفلسفي، وهنا نرى محاولة جدية للفصل بين ما هو علمي ويمكن اجراء الدراسات عليه، وما هو غير علمي ولكنه يبقى طريقاً للمعرفة.(22) وكان ابن رشد يؤمن بسرمدية الكون ويقول بأن الروح منقسمة إلى قسمين اثنين: القسم الأول شخصي يتعلق بالشخص والقسم الثاني فيه من الإلهية ما فيه. وبما أن الروح الشخصية قابلة للفناء، فإن كل الناس على مستوى واحد يتقاسمون هذه الروح وروح إلهية مشابهة. وقد كان أيضاً فلكيا واكتشف نجماً لم يكتشفه الفلكيون الأوائل. (23). وكان ابن رشد يتمتع بملكة عقلية باهرة، فكان يناقش نظريات بطليموس بل إنه نبذها من أصلها وأبدلها بنماذج جديدة تعطي تفسيرات أفضل لحقيقة الكون، وقدم للعالم تفسيراً جديداً لنظرية رشدية جديدة سميت "اتحاد الكون النموذجي". ثم انطلق يقدم الانتقادات الحصيفة حيال بعض الفرضيات التي قدمها الفلكيون في عصره. ثم قام بالمشاركة بوصف القمر بغير الواضح والغامض، وقال بأنه يحمل طبقات سميكة وأخرى أقل سماكة وتجتذب الطبقات السميكة نور الشمس أكثر من الطبقات الأقل سمكاً. وقدم للعالم وللغرب أول التفسيرات البدائية والقريبة علمياً لأشكال البقع الشمسية. أما في الأخلاق فانطلق ابن رشد في آرائه من مذهبَي أرسطو وأفلاطون، فقد اتفق مع أفلاطون أن الفضائل الأساسية الأربع هي (الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة)، لكنه اختلف عنه بتأكيده أن فضيلتي العفة والعدالة عامتان لكافة أجزاء الدولة (الحكماء والحراس والصناع)، وهذه الفضائل كلها توجد من أجل السعادة النظرية، التي هي المعرفة العلمية الفلسفية، المقصورة على "الخاصة". وقد قَصَرَ الخلود على عقل البشرية الجمعي الذي يغتني ويتطور من جيل إلى آخر. وقد كان لهذا القول الأخير دورٌ كبير في تطور الفكر المتحرِّر في أوروبا في العصرين الوسيط والحديث. وأكد ابن رشد على أن الفضيلة لا تتم إلا في المجتمع، وشدَّد على دور التربية الخلقية، وقد بسط ابن رشد أهم آرائه الأخلاقية من خلال شروحه على الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو وجوامع السياسة لأفلاطون. (24) وأناط بالمرأة دورًا حاسمًا في رسم ملامح الأجيال القادمة، فألحَّ على ضرورة إصلاح دورها الاجتماعي في إنجاب الأطفال والخدمة المنزلية. وقد قال بعض الباحثين": «"لقد تساءل الفيلسوف ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي وهو يعاين انطفاء آخر أنوار الحضارة العربية التي سمت في الشرق الأوسط وإسبانيا إلى ذرى شاهقة عما إذا لم يكن هذا الانحطاط يرجع جزئياً على الأقل إلى الوضع الذي حبست فيه المرأة، وإلى انتباذها خارج الحياة الاجتماعية.".» (25) من هنا نستطيع أن ندعي أن ابن رشد قد تكلم عن طريقين لمعرفة الحقيقة وهما العلم والفلسفة، ولكنه فصل بينهما، فلكل منهجه فالفلسفة هي احدى الطرق للمعرفة وهو تلميح واضح للعقل وقدرته على استنباط الحقائق بعيداً عن الإيمان والذي تركه في وقاره دون أن يمس به ولكن اعترف به كطريق آخر للوصول الى الحقيقة. وكذلك تكلم عن الروح بقسميها الشخصي والإلهي وتطرق الى سرمدية الكون فتحدى بذلك افكاراً دينية سائدة. وكذلك انتقد نظرية بطليموس واسس لفكر علمي جديد فيما يتعلق بعلم الفلك فكان مجدداً بامتياز ولذلك كان لا بد له ان يصطدم بمن يعارضونه من أفراد وسلطات. الفعل الثقافي يصطدم بسلطة قائمة لها مصالح وقد تكون السلطة: سياسية، دينية، اجتماعية، ثقافية تعرض ابن رشد في آخر حياته لمحنة حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر والإلحاد ثم أبعده أبو يوسف يعقوب إلى مراكش وتوفي فيها (1198) م من ناحية أخرى كان العديد من اللاهوتيين المسيحيين يخشون فلسفته حتى أنهم إتهموه بالدعوة إلى "الحقيقة المزدوجة" ورفضه المذاهب التقليدية التي تؤمن بالخلود الفردي، وبدأت تنشأ أقاويل وأساطير واصفة إياه بالكفر والإلحاد في نهاية المطاف، واستندت هذه الاتهامات إلى حد كبير على التأويل الخاطئ لأعماله(26) لم يسلم ابن رشد أيضاً من ألسنة رجال الكنيسة؛ فقد ذَمُّوه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن؛ فقد قال عنه بترارك: «إنه ذلك الكلب الكلِب الذي هاجه غيظ ممقوت؛ فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية». وأما دانتي فقد جعله في هدوء ووقار يتبوَّأ مقعده في الجحيم جزاء له على كفره واعتزاله(27) اتجاه الفعل الثقافي: الى الأمام -تقدمي الى الوراء – رجعي أو سلفي المراوحة –محافظ براغماتي عُرٍف ابن رشد في الغرب بتعليقاته وشروحه لفلسفة وكتابات أرسطو والتي لم تكن متاحة لأوروبا اللاتينية في العصور الوسطى المبكرة. وقد ساهمت شروح ابن رشد على ازدياد تأثير أرسطو في الغرب في العصور الوسطى. فقد أثرت مدرسة ابن رشد في الفلسفة، والمعروفة باسم الرشدية تأثيراً قوياً على الفلاسفة المسيحيين، ففي العالم المسيحي أثرت فلسفته على (سيجار البرابانتي) (Siger of Brabant) وتوما الأكويني وغيرهم (وخصوصاً في جامعة باريس) من المجالس المسيحية التي قدرت المنطق الأرسطي. وقد كان لابن رشد تأثير على الفلاسفة اليهود من أمثال موسى بن ميمون وجرسونيدوس والفلسفة اليهودية بشكل عام. فالترجمات العبرية لأعماله كان لها حضور واضح خصوصاً عند (جرسونيدس (Gersonides) الذي كتب شروحاً فرعية على العديد من أعمال ابن رشد. (28) أما عن علاقته بأفلاطون فقد لعبت رسالة ابن رشد وشرحه لكتاب أفلاطون "الجمهورية" دوراً رئيسياً في نقل وتبني التراث الأفلاطوني في الغرب، وكان المصدر الرئيسي للفلسفة السياسية في العصور الوسطى. فلا شك، ان فكر ابن رشد كان فكراً تقدمياً قياساً لعصره، دفع بعجلة التطور الى الأمام خصوصا في أوروبا التي استفادت من شروحه وافكاره، وقد دفع الثمن غاليا باتهامه بالكفر والإلحاد من قبل الفكر الديني بشكل عام، سواء كان اسلاميا او مسيحيا او يهوديا، فلقد وجد الفكر الديني بابن رشد خطرا وتحديا لأنه فكك الأفكار المقدسة ووضعها تحت المنظار العقلي.
- تحول وسائل الاتصال الفعل الثقافي الى فكر علني ومتاح:
إن طريقة نقل المعرفة في ذلك العصر كانت مبنية على حركة الترجمة فكلما كانت حركة الترجمة أقوى تجعل من الفكر متاحاً للجميع وخصوصاً المهتمين. لقد أثرت أعمال ابن رشد الفكرية التي ترجمت الى اللاتينية على الفكر الغربي وساهمت في نهضته أكثر من تأثيرها على الفكر الإسلامي، بينما أعماله وعلى وجه التحديد موضوعات الفقه الإسلامي والتي لم تترجم إلى اللاتينية أثرت بالطبع في العالم الإسلامي بدلاً من الغرب. لا شك أن التحريض على ابن رشد من قبل السلطات التي اصطدم معها ساهمت في نشر فكره، فإن عملية التشهير وحرق الكتب تثير الفضول عند العامة للتعرف على هذا الفكر. ولكن بالمقابل تحريم تداول هذا الفكر واتهام صاحبه بالكفر والإلحاد تحد من الانتشار العلني لهذا الفكر الذي تحدى دون شك المسلمات التي كانت سائدة في ذلك العصر. إن محاولة الحد من فكر ابن رشد في العالم الإسلامي جعلته ينتشر أكثر في العالم المسيحي واليهودي، حيث أثار فضولهم هذا الصد الإسلامي عنه رغم أنه حاول أن يعطي للفلسفة مكانتها دون المساس بالدين والشريعة.
تحول الأفكار الى فعل اجتماعي لا شك أن أفكار ابن رشد أثرت في نهضة أوروبا أكثر من تأثيرها في العالم الإسلامي، ففي حين أن الفكر في العالم الإسلامي بدأ بالأفول، كان الفكر الأوروبي قد بدأ ينفض عنه الغبار مستفيداً من الفكر العربي الإسلامي وفلاسفته وعلى رأسهم فكر ابن رشد. وعلى الرغم من ردود الفعل السلبية من رجال الدين اليهود والمسيحيين، إلا أن كتابات ابن رشد كانت تدرس في جامعة باريس وجامعات العصور الوسطى الأخرى، وظلت المدرسة الرشدية الفكر المهيمن في أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي. وقد قدم كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) محاولة متقدمة لتحرير العلم والفلسفة من اللاهوت الأشعري، وبالتالي اعتبرت الرشدية تمهيداً للعلمانية الحديثة(29) وقد اعتقد بعض الفلاسفة مثل توما الأكويني أن ابن رشد بلغ مكانة من الأهمية لدرجة أنهم لم يشيروا له باسمه بل يدعونه ببساطة "المعلق" أو "الشارح"، وكانوا يطلقون على أرسطو "الفيلسوف". ولقد أسس الفيلسوف الإيطالي (بيترو بمبوناتسي (Pietro Pomponazzi) مدرسة عرفت باسم المدرسة الأرسطية الرشدية متأثراً بفلسفات ابن رشد. وقد كتب جورج سارتون أبو تاريخ العلوم ما يلي: "ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون. وقد يصل تاريخ الرشدية إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهي فترة من أربعة قرون تستحق أن يطلق عليها العصور الوسطى، حيث أنها كانت تعد بمثابة مرحلة انتقالية حقيقية بين الأساليب القديمة والحديثة."(30) خلاصة: لا شك أن ابن رشد كان شخصية متفردة بإنتاجه للأفكار المجردة، التي تستطيع ان تتحول الى أفكار حية، في الحيز الاجتماعي الذي عاش فيه في شمال افريقيا والأندلس، وقد اصطدمت أفكاره بالسلطة السياسية والسلطة الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية ودفع ثمن ذلك غاليا فاتهم بالكفر والإلحاد، ولكن كان لأفكاره فعل تقدمي أثر ليس فقط على العالم الإسلامي وإنما أيضا على العالم المسيحي الذي بدأ ينهض من كبوته، فكان لانتشار ترجمات كتب ابن رشد التأثير الكبير على نهضة العلم في أوروبا وبقي تأثيره لقرون، مما جعله يتفرد بموقع خاص في دور العلم والجامعات مما أدى الى انتشار افكاره وتأثيرها على حاضر الأندلس وشمال افريقيا وأوروبا ومستقبلهم. حاول أن يتعامل مع العلاقة بين الفلسفة والدين بحذر شديد ففصلهما وجعلهما طريقين للمعرفة ولذلك حاول أن يستبعد الدين وتأثيراته على العقل وابداعاته ليطلق سراح العقل الإسلامي من قيود الدين.
2- أحمد بن حنبل (780-855): - شخص يمتلك المعرفة التي تخوله انتاج الأفكار المجردة: أحمد بن حنبل هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهل (164-241) ه (780-855) م فقيه ومحدِّث مسلم، ورابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي واشتُهر بعلمه الغزير وحفظه القوي. وُلد أحمد بن حنبل سنة (780) م (164)هـ في بغداد ونشأ فيها يتيماً، وقد كانت بغداد في ذلك العصر حاضرة العالم الإسلامي، أقبل على أنواع المعارف والفنون المختلفة، وكانت أسرة أحمد بن حنبل توجهه إلى طلب العلم، وفي سنة 179هـ بدأ ابن حنبل يتَّجه إلى الحديث النبوي، فبدأ يطلبه في بغداد عند شيخه هُشَيم بن بشير الواسطي حتى توفي سنة 183هـ، فظل في بغداد يطلب الحديث حتى سنة 186هـ، ثم بدأ برحلاته في طلب الحديث، فرحل إلى العراق والحجاز وتهامة واليمن، وأخذ عن كثير من العلماء والمحدثين، وعندما بلغ أربعين عاماً في سنة (204) هـ حوالي (820) م جلس للحديث والإفتاء في بغداد، وكان الناس يجتمعون على درسه حتى يبلغ عددهم قرابة خمسة آلاف. (31) لذلك امتلك الإمام أحمد بن حنبل المعرفة التي تخوله انتاج الأفكار المجردة وقد أثنى عليه كثير من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: «خرجتُ من بغداد وما خلَّفتُ بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل»، ويُعدُّ كتابه "المسند" من أشهر كتب الحديث وأوسعها. (32) - تعمل الأفكار المجردة في حيز اجتماعي فتتحول الى أفكار حية قادرة على التأثير: إن أصول الاستنباط التي اتبعها أحمد بن حنبل وبنى فتاويه عليها، ثم صارت أصولاً للمذهب الحنبلي وأصحابه من بعده هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، وفتاوي الصحابة والإجماع والقياس، والاستصحاب، والمصالح، والذرائع. وقد ذكر ابن القيم أن الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد فتاويه خمسة وهي: • أولاً: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولذلك قدم النص على فتاوى الصحابة. • ثانياً: ما أفتى به الصحابة ولا يُعلم مخالف فيه، فإذا وجد لبعضهم فتوى ولم يعرف مخالفاً لها لم يتركها إلى غيرها، ولم يقل إن في ذلك إجماعاً بل يقول من ورعه في التعبير: "لا أعلم شيئاً يدفعه" • ثالثاً: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول. • رابعاً: الأخذ بالحديث المرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه. • خامساً: القياس، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول الصحابة أو واحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، ذهب إلى القياس، فاستعمله للضرورة كما قال ابن القيم، وقد رُوي عن الإمام أحمد أنه قال: «سألت الشافعي عن القياس فقال: إنما يُصار إليه عند الضرورة. (33) من هنا نستطيع القول إن أحمد بن حنبل أنتج افكاراً وفقا لمنهجه المستنبط من مصادر التشريع المعروفة وأثرت أفكاره هذه في الحيز الاجتماعي الذي كان يعيش فيه من خلال دروسه للخاصة والعامة في البيت والمسجد فتحولت أفكاره المجردة الى افكار حية دخلت عقول وقلوب الكثيرين من اصحابه ومريديه. ولذلك اعتبر احمد بن حنبل الإمام الرابع لأهل السنة. - الفعل الثقافي يصطدم بسلطة قائمة لها مصالح وقد تكون السلطة سياسية، دينية، اجتماعية، ثقافية: بالرغم ان المأمون بقي متسامحا فيما يتعلق بقضية الفكر الا انه وفي سنة 218هـ، وهي السنة التي توفي فيها، بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطة إلى اعتناق فكرة خلق القرآن، فأراد أن يحملهم على ذلك قهراً، فابتدأ ذلك بإرسال كتبه وهو بالرقة إلى نائبه في بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره بامتحان الفقهاء والمحدثين، ليحملهم على أن يقولوا إن القرآن مخلوق، فقد جاء في أول كتاب أرسله إلى نائبه في بغداد: "فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع عن توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك". (34) لقد اصطدمت أفكار أحمد ابن حنبل بالسلطة السياسية في عصر الخليفة العباسي المأمون بالرغم أنه يعد متنوراً. وقد كان سبب المحنة التي وقعت بأحمد بن حنبل كما تبين سابقاً هو أن الخليفة المأمون دعا الفقهاء والمحدثين أن يقولوا مقالته في خلق القرآن، فيقولوا إن القرآن مخلوق محدَث، كما يقول أصحابه من المعتزلة الذين اختار منهم وزراءه وصفوته، ولكن أحمد بن حنبل لم يوافق المأمون في رأيه، ولم ينطق بمثل مقالته بل كان يقول إن القرآن كلام الله، وقد أدى ذلك إلى نزول الأذى الشديد به، والذي ابتدأ في عصر المأمون ثم توالى في عصر المعتصم والواثق بوصية من المأمون واتباعاً لمسلكه. واستمر حبسه ثمانية وعشرين شهراً. (35) بالرغم من أن المأمون يعد من أهم الخلفاء العباسيين الذين ساهموا في نهضة الدولة الإسلامية العلمية من خلال تشجيعه للعلم والعلماء، فقد نشطت في زمنه حركة الترجمة عن الحضارات الأخرى وكان يزن المأمون ذهباً كل كتاب يترجم ويمنحه لمترجمه، مما شجع العلم والعلماء وقد اقام مجالس لهم. وبالرغم من كل ذلك لم يكن متسامحاً في آخر حياته مع من خالفه بالرأي، فقد تعرض الإمام احمد بن حنبل الى الإهانة والسجن ولكنه لم يتراجع عن معارضته لنهج المعتزلة في قضية خلق القرآن. إن مذهب المعتزلة اعتمد العقل والتحليل المنطقي وحاول أن يفهم القرآن والإسلام بشكل عام بطريقة أكثر علمية وتقدمية، ومن الطبيعي ان يصطدم بالتيارات المحافظة وعلى رأسها الإمام أحمد بن حنبل. ولكن المشكلة أن هذا الفكر عندما تحول الى فكر السلطة لم يكن متسامحا وتعامل بشكل يتناقض مع وظيفته التاريخية. وحتى لا نظلم هذا الفكر فقد تكون المشكلة في السلطة السياسية التي مثلها المأمون أكثر من كون المشكلة في فكر المعتزلة نفسه. اتجاه الفعل الثقافي: الى الأمام -تقدمي الى الوراء – رجعي أو سلقي المراوحة -براغماتي لا شك أن الحالة المدروسة المتعلقة بقضية الإمام احمد بن حنبل تضع أمامنا تساؤلات عدة تتعلق بعلاقة الفكر بالسلطة. فعادة ما يصطدم المفكرون المبدعون بالسلطات المحافظة التي ترفض الجديد وتعتبره تهديداً لنفوذها. فالمفكر هو صاحب فكرة التغيير بينما السلطة هي الرافضة لهذا الشكل من التغيير. ولكن في حالتنا الأمر معكوس فالسلطة هي صاحبة فكر التغيير والمفكر هو الرافض او المحافظ. ولكن سلوك السلطة واحد وهو القمع الفكري سواءً كانت السلطة محافظة او متنورة. اما فيما يتعلق بفكر الإمام احمد بن حنبل فهو فكر محافظ يرفض التجديد الذي كان يقتضيه عصر نهضة الفكر الإسلامي او العصر الذهبي للدولة العباسية، فرفض الفلسفة وخصوصا تلك التي تقدم آليات جديدة للتعاطي مع النصوص المقدسة، وأراد أن يتابع نهج من سبقوه من الأئمة مع بعض التعديلات، ولكنه اعتمد نفس المنهجية الفكرية للذين سبقوه في طريفة التعاطي مع مصادر التشريع، رافضاً أي تجديد فكري في فهم القرآن والحديث. ولذلك فهو مفكر محافظ واجه قمع سلطة متنورة فأساءت السلطة للفكر، وساهمت في نشر الفكر المحافظ. ولكن يبقى الإمام احمد بن حنبل مفكرا محافظاً. - تحول وسائل الاتصال الفعل الثقافي الى فكر علني ومتاح: لقد كانت عملية انتشار الفكر في ذلك الزمان تعتمد على المساجد والمجالس والرواة، ولقد ذاع علم أحمد بن حنبل واشتهر وهو حي يرزق، بل إن علمه بالحديث والأثر ذاع وهو لا يزال شاباً يتلقى العلم ويأخذ عن الشيوخ. فقد كان للإمام أحمد مجلسان للدرس والتحديث: أحدهما في منزله يُحدِّث فيه خاصةَ تلاميذه وأولاده، والثاني في المسجد يَحضر إليه العامة والتلاميذ، وقد كان وقت درسه في المسجد بعد العصر، وقد كان يسود مجلسَه الوقارُ والسكينةُ مع تواضع واطمئنان نفسي. كانت دروس أحمد بن حنبل من حيث موضوعها على قسمين: أحدهما رواية الحديث ونقله، وهذه يمليها على تلاميذه من كتاب ولا يعتمد على حفظه إلا نادراً، وثانيهما فتاويه الفقهية التي كان يضطر إلى استنباطها، وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها. (36)
- تحول الأفكار الى فعل اجتماعي: بالرغم من المحنة التي مر بها أحمد بن حنبل والتي من المفروض أن تثير الفضول عند الخاصة والعامة للتعرف على هذا الفكر الذي تحدى الخليفة المأمون، ولم يرضخ له، إلا أنه لم يكن للإمام أحمد ابن حنبل نفس الانتشار والتأثير للمذاهب السنية التي سبقته، فقد جاء آخر المذاهب الأربعة وجوداً، وكان الإمام أحمد وأتباعه من بعده لا يتقربون من السلطة ولا يحبون الولاية ولا يسعون إليها ولا يريدونها، تقليداً لإمامهم واتباعاً لمسلكه، فإذا كان سلطان القضاة قد كان له أثره في نشر المذهب الحنفي بين أهل العراق، والمذهب المالكي بالأندلس والمغرب، فإن عدم تولي الحنابلة القضاء قد كان سبباً في قلة ذيوع المذهب الحنبلي بين العامة، وإن كان له علماء اجتهدوا فيه، وأخلصوا النية في اجتهاده. وقد لاحظ هذا المعنى ابن عقيل الحنبلي فقال: "هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سبباً لتدريسه واشتغاله بالعلم، فأما أصحاب أحمد فإنه قل منهم من تعلق بطرف من العلم إلا يخرجه ذلك إلى التعبد والزهد، لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم."(37) كان أتباع المذهب من العامة قليلين، حتى أنهم لم يكونوا سواد شعب من الشعوب في وقت من الأوقات إلا ما كان من أمرهم في نجد في القرن التاسع عشر، ثم في الحجاز كلها في القرن العشرين منذ تأسيس المملكة العربية السعودية والتي اعتمدته مذهباً رسمياً لها. (38) ومن الأسباب أيضا في عدم انتشار المذهب الحنبلي أن البلاد الإسلامية عندما أخذ ذلك المذهب يذيع وينمو قد اعتنقت مذاهب مختلفة، فالمذهب الحنفي كان في العراق، والشافعي كان في الحجاز والشام ومصر، والمالكي كان في المغرب وغير ذلك، وقد جاء الإمام أحمد بعد هؤلاء الأئمة، فجاء مذهبه بعد مذاهبهم، ولكي يسود كان يجب أن يزيلها من طريقه أو يُضعف شأنها، ولم يكن في معتنقيه تلك القوة، ولم يكن من الدولة عون، بل كانت أحوال معتنقيه تُنفِّر الناس والدولة، فاجتمع له ضعف من العامة الذين اعتنقوه، ومحاربة من الناس والسلطان، وعدم وجود فراغ يملأه. (39) خلاصة: لقد كان الإمام أحمد بن حنبل غزير العلم وأنتج أفكاراً مجردة وفقا للمنهج الديني، ورفض المنهج الفلسفي للوصول الى الحقائق حيث تحولت أفكاره الى أفكار حية، في الحيز الاجتماعي الذي عاش فيه، واصطدم بالسلطة السياسية بزمن الخليفة المأمون ومن بعده الخليفة المعتصم حيث سجن بسبب رفضه مقولة "خلق القران" التي تبنتها المعتزلة. لقد كان فكر الإمام أحمد بن حنبل محافظاً يقتدي بالسلف الصالح ورفض الانفتاح على الفكر الجديد الذي ساد في تلك الفترة بسبب الترجمات وخصوصاً عن الفلسفة اليونانية. لم يلاق مذهبه انتشاراً كبيراً بين الناس ولكنه لا شك أنه شكل ظاهرة فكرية مميزة أثرت في الحيز الاجتماعي الذي عاش فيه.
3- ابو العلاء المعري (973-1057): - شخص يمتلك المعرفة التي تخوله انتاج الأفكار المجردة يعتبر ابو العلاء المعري شاعراً وفيلسوفاً ومفكراً وهو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري عاش في عصر الدولة العباسية، ولد وتوفي في معرة النعمان في الشمال السوري وإليها يُنسب. لُقب بـرهين المحبسين أي محبس العمى ومحبس البيت وذلك لأنه قد اعتزل الناس بعد عودته من بغداد حتى وفاته. بدأ يقرأ الشعر في سن مبكرة حوالي الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره في بلدته معرة النعمان، ثم ذهب للدراسة في حلب وأنطاكية، وغيرها من المدن السورية. فدرس علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه والشعر على نفر من أهله، وفيهم القضاة والفقهاء والشعراء، وقرأ النحو في حلب على أصحاب ابن خالويه، ويدل شعره ونثره على أنه كان عالماً بالأديان والمذاهب وفي عقائد الفرق، وكان آية في معرفة التاريخ والأخبار. أخذ المعري النحو وشعر المتنبي عن محمد بن عبد الله بن سعد النحوي. وهو أحد رواة شعر المتنبي. سافر المعري إلى وسط بغداد لفترة، حيث جمع عدداً كبيراً من التلاميذ الذكور والإناث للاستماع إلى محاضراته عن الشعر والنحو والعقلانية. وإحدى الموضوعات المتكررة في فلسفته كانت حقوق العقل (المنطق) ضد ادعاءات العادات والتقاليد والسلطة. (40) كان على جانب عظيم من الذكاء والفهم وحدة الذهن والحفظ وتوقد الخاطر، شرع في التأليف والتصنيف ملازماً بيته، وكان اسم كاتبه علي بن عبد الله بن أبي هاشم. عاش المعري بعد اعتزاله زاهداً في الدنيا، معرضاً عن لذاتها، حتى توفي عن عمر يناهز 86 عاماً، ودفن في منزله بمعرة النعمان. (41) من هنا نرى ان ابا العلاء المعري كان قامة شعرية وفكرية وفلسفية كبيرة حيث امتلك المعرفة التي خولته على انتاج الأفكار المجردة وكتبت عنه العديد من الدراسات التي تناولت شعره وفلسفته خصوصاً آراؤه الجريئة فيما يتعلق بالأمور الدينية وقد تعرض بحياته نتيجة لأفكاره الى الإهانة حتى انه قرر أن يعتزل الناس حتى وافته المنية في معرة النعمان عام 1057 م. - تعمل الأفكار المجردة في حيز اجتماعي فتتحول الى أفكار حية قادرة على التأثير: لقد عبر المعري من خلال شعره عن آرائه الفلسفية، ولم يقبل كل ما تناقض مع العقل، واعتبر ان عقل الإنسان هو إمامه، ولذلك رفض الكثير من المعتقدات الدينية وشكك فيها لأنها تتعارض مع العقل والمنطق، ولذلك هناك من كفره واعتبره ملحداً وزنديقاً، فقد وردت بعض من أقوال العلماء المسلمين في ذم المعري، الذين نسبوه إلى الزندقة، كابن كثير، وابن قيم الجوزية وأبو الفرج بن الجوزي، الذي قال فيه: "زَنَادقَةُ الإِسْلاَمِ ثَلاَثَةٌ: ابْنُ الرواندي، وَأَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيْدِيُّ، وَأَبُو العَلاَءِ المَعَرِيُّ، وَأَشدُّهُم عَلَى الإِسْلاَم أَبُو حَيَّانَ، لأَنَّهُمَا صَرَّحَا، وَهُوَ مَحجْمَ وَلَمْ يُصرِّح". (42) ولكن أبا العلاء كان ايمانه بالله راسخاً، يقول الدكتور طه حسين في ذلك:" إن أبا العلاء قد هداه عقله إلى أن لهذا العالم خالقاً، وإلى أن هذا الخالق حكيم. لا يشك في ذلك، أو على الأقل لا يظهر فيه شكاً... وهو إذا تحدث عن هذا الخالق الحكيم تحدث عنه في لهجة صادق يظهر فيها الإخلاص واضحاً جلياً. ولكنه عاجز عن فهم هذه الحكمة التي يمتاز بها هذا الخالق الحكيم. وعجزه عن فهم هذه الحكمة هو الذي يضنيه ويعنِّيه ويعذبه في نفسه أشد العذاب. خالق حكيم، خلق هذا العالم ورتبه على هذا النحو الذي رتبه عليه. ولكن لماذا، وما بال هذا الخالق الحكيم الذي منحنا هذا العقل وهدانا إلى التفكير لم يكشف لنا القناع كله أو بعضه عن وجه هذه الحكمة التي لا نشك فيها ولا نرتاب؟ (43) ورغم ايمانه بالله كما يقول طه حسين الا ان المعري كان من المشككين في معتقداته، وندد بالخرافات في الأديان. وبالتالي فقد وصف بأنه مفكر متشائم، وقد يكون أفضل وصف له هو كونه يؤمن بالربوبية. حيث كان يؤمن بأن الدين” خرافة ابتدعها القدماء“لا قيمة لها إلا لأولئك الذين يستغلون السذج من الجماهير وقد رفض المعري ادعاءات الإسلام وغيره من الأديان الأخرى مصرحاً: "أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكرٌ من القدماء" "فلا تحسب مقال الرسل حقاً ولكن قول زور سطّروه وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ فجاءوا بالمحال فكدروه" "دين وكفر وأنباء تقص وفرقان وتوراة وإنجيل"(44) لقد كانت افكار ابو العلاء المعري موضع خلاف بين الباحثين ولكن لا شك أبداً ان افكاره كانت تحدياً للمنطق السائد وخروجاً عن المألوف فشكل ظاهرة فكرية نادرة في عصر انقسام الدولة الإسلامية، فهو يتحدى المسلمات ويشكك في المقدسات ويضع العقل في المقدمة ويرفض كل ما لا يستقيم مع هذا العقل فكان فعله كبيراً وتأثيره عظيماً مما اضطره أن يعزل نفسه عن الناس ولكن شعره وفكره انتشر وشاع وشهرته طافت انحاء الدولة الإسلامية.
- الفعل الثقافي يصطدم بسلطة قائمة لها مصالح وقد تكون السلطة: سياسية، دينية، اجتماعية، ثقافية: لا شك أن أفكار ابي العلاء المعري خصوصاً تلك المتعلقة بفهمه للأديان اصطدمت بالسلطة الدينية والفكر الديني السائد ولذلك اتهم أبو العلاء المعري بالزندقة والكفر: يرى بعض الباحثين أن المعري قد انتقد العديد من عقائد الإسلام، مثل الحج، الذي وصفه بأنه” رحلة الوثني“. كما ينقل أن المعري قد أعرب عن اعتقاده بأن طقوس تقبيل الحجر الأسود في مكة المكرمة من خرافات الأديان حيث قال: هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضلله اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له (45) كما يزعم بعض المستشرقين أن المعري رفض "الوحي الإلهي". ولكن عقيدته كانت عقيدة الفيلسوف والزاهد، الذي يتخذ العقل دليلاً أخلاقياً له، والفضيلة هي مكافأته الوحيدة. لذلك كان لا بد أن يصطدم مع السلطة الدينية ويتهم بالكفر والزندقة: يصفه الذهبي: بـ "الشيخ العلامة، شيخ الآداب أبو العلاء، صاحب التصانيف السائرة، والمتهم في نحلته. ويروي حديث عن غرس النعمة: "حدثنا الوزير أبو نصر بن جهير، حدثنا المنازي الشاعر قال: اجتمعت بأبي العلاء، فقلت: ما هذا الذي يروى عنك؟ قال: حسدوني، وكذبوا علي. فقلت: على ماذا حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟ فقال: والآخرة؟! قلت: إي والله." ويختم الذهبي قوله بـ "والله أعلم بما ختم له". (46) - اتجاه الفعل الثقافي: الى الأمام –تقدمي، الى الوراء – رجعي أو سلقي، المراوحة –براغماتي لقد اعتكف ابو العلاء المعري وبقي ملازماً بيته حتى موته وذلك نتيجة لأفكاره التي أدت الى تكفيره، ولكن لا يختلف عاقلان أن ابا العلاء المعري شاعر ترك علامة فارقة في الشعر، وفيلسوف ومفكر ترك علامة فارقة في الفكر، ان هذه الجرأة بالطرح وتحدي القوالب الفكرية الجاهزة وتفكيكها والتشكيك بمضامينها إنما تنم عن فكر منفتح وقدرة على تناول الأشياء بالطريقة غير المعتادة في ذلك العصر، من خلال كسر القوالب وتجاوز الممنوع وتحدي المقدس. ان هذه الصفات جعلته يتبوأ مركزا عالياً في التاريخ الإسلامي بغض النظر إذا كنا نخالفه الرأي أو نوافقه، فهذا لن يقلل من أهمية فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة. لا شك أن فكر أبي العلاء المعري واضح وجلي يتحدى المسلمات والنصوص المقدسة ويقترح استعمال المنهج العقلي لاستقراء الأحداث، فالنسبة له العقل هو الدليل وهو الإمام، وكل ما لا يستقيم مع العقل فهو مشكوك فيه، ولذلك نستطيع أن نصنف ابا العلاء المعري كمفكر وشاعر اراد أن يدفع بالفعل الثقافي الى الأمام، فهو لا شك يسبق عصره بطريقة تفكيره ويعتبر شاعراً ومفكراً تقدمياً قياساً لذلك العصر. - تحول وسائل الاتصال، الفعل الثقافي الى فكر علني ومتاح: ان انتشار الفعل الثقافي في ذلك العصر يحصل بسبب الرواة وخصوصاً في الشعر، فينقل هذا الشعر ويصبح متاحاً لمن يرغب بسماعة، هذا اضافة الى انتقال المفكر أو الشاعر الى مركز الفعل الثقافي مثل بغداد في ذلك العصر، والتقائه الشعراء والمفكرين وأصحاب العلم، مما يؤدي الى ذيوع الصيت ليصبح معروفاً، ومما يزيد من الانتشار، هو مخالفة الشاعر، أو المفكر، للفكر السائد في عصره واصطدامه مع سلطة من السلطات بحيث يصبح الأمر محط اهتمام الناس ليتعرفوا على الشخص الذي يتحدى المسلمات. بالإضافة الى ما ذكر وجود تلاميذ للمفكر أو الشاعر بساهم في انتشار الفكر حيث درس على أبي العلاء كثير من طلاب العلم ممن علا شأنهم في العلم والأدب، منهم: أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، أبو الخطاب العلاء بن حزم الأندلسي، أبو الطاهر محمد بن أبي الصقر الأنباري، أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي. (47) ولقد شهد جميع شعراء عصر المعري بفطنته وحكمته وعلمه، وعندما توفي ودفن في مدينته معرة النعمان اجتمع حشد كبير من الشعراء والأدباء لتكريمه. ولقد ألف العديد من معاصريه، ومن بعدهم كتباً ودراسات حول آراء المعرّي وفلسفته، مثل: ومع أبي العلاء المعري، لطه حسين، ورجعة أبي العلاء لعباس محمود العقاد، وغيرهم. كما ترجم كثير من شعر المعري إلى غير العربية. - تحول الأفكار الى فعل اجتماعي: لا شك أن أفكار أبي العلاء المعري كانت خارجة عن النسق العام المتعارف عليه ولذلك اعتبر ملحداً وزنديقاُ مع أنه وحسب ما أورد طه حسين كان مؤمناً بالله ولكنه يشكك بالأديان. إن أفكار أبي العلاء المعري تحولت الى نوع من التحدي للفكر الديني، ووضعت أمامه أسئلة كان لا بد من التصدي لها ولذلك تأتي أهمية أبي العلاء المعري من خلال تشكيله النقيض للفكر السائد المسلم بالفرضيات الدينية ومن خلال تشكيكه بكل ما هو مطروح دينياً، حتى بأركان الإسلام والوحي. ان وجود الفكر المناقض للفكر السائد والمتصارع معه يشكل رافعة للتطور الفكري وقد لا تأتى اكلها في نفس الفترة الزمنية ولكنها تأتي لاحقاً في نسق التطور الفكري. خلاصة: ان أبا العلاء المعري حالة فريدة في التاريخ الإسلامي، فقد امتلك امكانيات فكرية مميزة على انتاج الأفكار عن طريق المنهج العقلي، رافضاً وبشكل قاطع المنهج الديني، وكل ما يتعارض مع العقل، وقد استعمل الشعر والنثر لينقل افكاره الى الناس مما حولها الى افكار حية ومؤثرة فاصطدم بالسلطة الدينية واتهم بالكفر والزدقة لأنه هاجم الأديان جميعاً واعتبرها اسلوباً للسيطرة على البسطاء من الناس، ذاع صيته في انحاء الدولة الإسلامية، وطلبه العديد من الخلفاء ولكنه أبى. يعتبر من الشعراء والفلاسفة الذين دفعوا بعجلة الفكر الإسلامي الى الأمام بغض النظر عن موقف أي فرد منا من أفكاره والتي شكلت في عصره جرأة ما بعدها جرأة، اعتكف في بيته حتى مات، دمج الشعر بالفلسفة حتى أضحى شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. رابعاً: نقاش النتائج: إذا تأملنا جيداً نقاط الخلاف بين الحالات الثلاثة المدروسة، وفقاً للنموذج الذي تبنته هذه الدراسة حول المثقف ودوره، فنجد أن المسألة الخلافية الأساسية تتمحور حول علاقة العلم أو الفلسفة في حينه مع الدين. فالإمام أحمد بن حنبل رفض المنهج الفلسفي بشكل قاطع واعتبره خروجاً عن الدين والشريعة، أما أبو العلاء المعري فرفض المنهج الديني وهاجمه واعتبر أن العقل هو الإمام والهادي، ولا يمكن أن نقبل أي نوع من المعارف إذا ما تعارضت مع العقل، أما ابن رشد فتوسط الإثنين واعتبر إن المعرفة لها طريقان الدين والفلسفة. من هنا فإن النقاش الأساسي بين المثقفين في ذلك العصر تمحور حول العلاقة بين الدين والعلم وكان الشغل الشاغل لهم. وقد خرجت العديد من المدارس في التاريخ الإسلامي التي تبنت إحدى المناهج الثلاثة ونقصد هنا: المنهج العقلي العلمي، أو المنهج الديني، أو الجمع بينهما. فتشكلت حركات ومجموعات تركت أثرا كبيراً في التاريخ الإسلامي، مثل حركة اخوان الصفا، والقرامطة، والمعتزلة، والأشعرية وغيرها. ولكن هذا النقاش لم يحسم وتم قطعه بسبب انهيار الدولة الإسلامية ودخول العالم الإسلامي في حالة من التراجع، في حين أن الغرب بدأ ينهض لأنه أخذ عن مثقفي الأندلس وبالذات المدرسة الرشدية واستكمل هذا النقاش وحسمه أخيراً لمصلحة العلم، أما العالم الإسلامي فترك هذه المهمة والتي لو أعطيت له الفرصة لاستكمالها، لكان حتماً واقعه يختلف عما هو عليه اليوم. ومن أجل الإضاءة على هذا الموضوع سنحاول بعجالة تتبع أهم المحطات الفكرية التي أدت الى تطور الفكر العلمي في الغرب، من خلال تتبع الصراع بين العلم والدين، الممثل في الكنيسة. ثم سنحاول بعد ذلك الإضاءة على بعض المحاولات الفكرية في المشروع النهضوي العربي الإسلامي في العصر الحديث، لنكشف اللثام عن الموضوعات الفكرية التي ناقشها المفكرون في هذا العصر: 1- نهضة الغرب: يقول برتراند راسل في كتابه العلم والدين “ان العقيدة الدينية، تختلف عن النظرية العلمية، في أنها تزعم أنها تجسد الحقيقة الخالدة واليقينية بصورة مطلقة، في حين أن العلم غير نهائي على الدوام، ويتوقع ضرورة ادخال التعديلات على النظريات الحالية ان عاجلاً أم اجلاً.” (48) فالعلم يعتمد على التشكيك والملاحظة والتدقيق ولا يتعامل مع المعايير المطلقة التي لا يمكن وضعها تحت المجهر العلمي. ورغم محاولات التوفيق بين العلم والدين الا أن الصراع احتدم بينهما، لأن أية محاولة من هذا النوع ستكون على حساب إما الدين وإما العلم وهما منهجان مختلفان في الأصل. توماس الأكويني يعتقد "أن بعض حقائق الدين المسيحي الجوهرية، يمكن اثباتها عن طريق استخدام العقل وحده وبدون الاستعانة بالوحي أو التنزيل، ومن بين هذه الحقائق وجود خالق قادر على كل شيء وتسع رحمته كل شيء، ونستنتج من قدرته ورحمته أنه لن يترك مخلوقاته تجهل أوامره ونواهيه، بشكل يحول بينه وبين طاعة ارادته." (49) لا شك أن ما رمى اليه توماس الأكويني هو أن المنهج العقلي يستطيع لوحده أن يصل الى الحقيقة المطلقة دون الاستعانة بالمنهج الديني، وينطلق من الفرضية أن الله لن يترك مخلوقاته في ضلالة. ولكن العلم في الحقيقة يشجع على التخلي عن البحث عن الحقيقة المطلقة، ويستبدلها بما يمكن أ ن نسميه بالحقيقة التقنية لأية نظرية يمكن استخدامها بنجاح في الاختراعات أو التنبؤات في المستقبل. أما بالنسبة لعلماء اللاهوت فالمرجعية في العصور الوسطى كانت الكتاب المقدس ومسلمات العقيدة الكاثوليكية وتعاليم أرسطو. ان أول مواجهة علنية بين العلم والدين في أوروبا حصلت عندما وضع كوبرنيكوس (1473-1543) نظريته وقال إن الأرض هي التي تدور حول الشمس وحول نفسها، نافياً بذلك نظرية بطليموس حول كون الأرض مركز الكون والشمس والقمر والكواكب تدور حولها. (50) وقد هاجمه الكاثوليك والبروتستانت على السواء فقد قال لوثر "ان الناس يستمعون الى فلكي نصاب يحاول ان يبين أن الأرض هي التي تدور وليس السماوات والشمس والقمر، ولكن الكتاب المقدس يخبرنا أن هوشع أمر الشمس وليس الأرض أن تقف في مكانها."(51) ثم جاء جاليليو جاليلي (1564-1643) ليؤكد أيضاً صحة نظرية كوبرنيكوس، ولكن محاكم التفتيش أدانته، حيث اعتبرت أنه من السخف والعبث والزيف في مجال اللاهوت، بل ومن الهرطقة القول إن الشمس هي المركز وأنها لا تدور حول الأرض، لأن هذا القول يتعارض تماماً مع نصوص الكتاب المقدس. والافتراض الثاني القائل إن الأرض ليست المركز ولكنها تدور حول الشمس، هو افتراض ينطوي على العبث والزيف في مجال الفلسفة كما انه من الناحية اللاهوتية -على اقل تقدير -يتعارض مع الإيمان الحقيقي. ولهذا تم استدعاء جاليليو للمثول أمام محاكم التفتيش التي أملت عليه نبذ اخطائه ففعل في 26 شباط 1616. (52) ولم تكتف الكنيسة بذلك بل منعت تدريس نظرية كوبرنيكوس واستمرت بهذا النهج حتى عام 1835، حيث بدأت هذه النظرية تفرض نفسها على الواقع العلمي الفلكي. إن أول خطوة جادة في بناء نظرية عن نمو الشمس والكواكب والنجوم، هي تلك المحاولة التي ضمنها كانط عام 1755 في كتاب الفه بعنوان " الكتاب الطبيعي العام ونظرية السماوات" ولكن كانط كان فيلسوفاً وليس عالم رياضيات أو فيزياء ولذلك عجز عن لفت الأنظار اليه في تلك الفترة. ومن ثم جاء لابلاس 1796 واعتبر أن المجموعة الشمسية ونظام الكواكب كانت في الأصل عبارة عن سديم واحد موزع، وأن هذا السديم انكمش تدريجياً، الأمر الذي زاد من سرعة دورانه، وأن القوة الطاردة عن المركز تسببت في قذف بعض الكتل التي تحولت الى كواكب، وإن تكرار نفس العملية أدى الى ظهور الأقمار والكواكب. (53) كذلك بدأ العلم يشكك في قصة الخلق، والتي حدد لها علماء اللاهوت المسيحي عام 4004 ق.م وفقاً لسفر التكوين. (54) فقد اعتقد العلماء أن فترة ستة الآف عام هو وقت أقصر من أن يكفي لخلق الكون، ولذلك هوجموا من قبل رجال الدين وعلماء اللاهوت. وقد شكك العلم أيضاً برواية سفينة نوح والطوفان ووجود أزواج من الحيوانات على السفينة، خصوصاً بعد اكتشاف أمريكا ووجود نفس الأصناف من الحيوانات عليها، وثارت مشكلة أخرى بسبب عدد الأنواع المعروفة الأن والتي تحصى بالملايين، فلو أن زوجاً من كل هذه الحيوانات كان موجوداً على سفينة نوح لضاقت هذه السفينة بهم. (55) لقدد سدد مذهب داروين الى علم اللاهوت ضربة قاسية تماماً كما فعل كوبرنيكوس في علم الفلك، فالداروينية لم تجعل من الضروري فقط التخلي عن الاعتقاد بثبات الأنواع والتخلي عن فكرة إتيان الله بأفعال الخلق المنفصلة، التي يبدو أن سفر التكوين في الكتاب المقدس يؤكدها، بل أنها جعلت من الضروري أن نفترض انقضاء حقب سحيقة من التطور منذ بداية الحياة، الأمر الذي صدم مشاعر المؤمنين. وترجع أهمية داروين الأساسية من الناحية التاريخية إلى أنه اقترح في كتابه "أصل الأنواع" الية للتطور في الانتخاب الطبيعي، وهي التي جعلت التطور يبدو أكثر احتمالاً. (56) ولكن بالرغم من كل ما ذكر فقد كان عدد من العلماء الذين ساهموا في النهضة العلمية من المؤمنين، على الأقل علناً، أمثال مايكل فارادي، واينشتاين ونيوتن. فنيوتن مثلا كان يعتبر نفسه نبياً وقضى ساعات طولية لفهم أسرار الطبيعة من داخل الكتاب المقدس، ويرى أينشتاين أن حاجة الناس إلى الدين تماثل حاجتهم إلى العلم، وينظر إلى الرجل المتدين على أنه "تقي وورع بمعنى انه لا يشك في مغزى القوى فوق الطبيعة وأنه لا يمكن وجود تضاد بين الدين والعلم، فالعلم بلا دين أعرج والدين بلا علم أعمى". (57) وبالمقابل شهد القرن التاسع عشر بداية لنشوء ما يسميه جواد بشارة بـ " دين العلم" وانتشر اعتقاد وإيمان ساذج بقدرة العلم الكلية في تقديم الإجابات، يوما ما، على جميع التساؤلات الوجودية والفلسفية التي تقلق النفس البشرية. وقد بالغ البعض في هذه النزعة المادية والإلحادية حتى أصبحت عقيدة راسخة لا تختلف عن العقائد الدينية الغيبية السلفية. وكان تفوق المجتمعات التي تستخدم العلم الحديث على نطاق واسع في كافة مجالات الحياة، قد أثار، في آن واحد، إعجاب وحنق المجتمعات التي ما زالت مقيدة بالمنطق الديني السلفي، والتي صارت تطرح المسألة وكأنها صدام حضارات، وهي الأطروحة التي قدمها صموئيل هينتنغتون وتلقفتها العقول الدينية المتحجرة كهدية من السماء لتعمل بموجبها. فالنخبة العلمية في الحضارة الغربية تتحدث عن " أسطورة الله أو خرافة الإله الديني" بينما تقدس النخبة، والقاعدة الشعبية، في المجتمعات المتدينة، فكرة الله الواحد العلي المتسامي فوق كل الموجودات، ومن هنا منشأ الصراع الأيديولوجي بين الذهنيتين. أشاع الغرب فكرة موت الله أو إنه اختفى وتخلى عن البشر قبل الانتهاء من مشروعه في الخلق المطلق، وبات الخالق المتعالي كصانع الساعة الكونية الدقيقة التي تعمل وحدها وفق آلية ذاتية معقدة ودائمة، بحيث لم تعد بحاجة لتدخل صانعها، بينما يريد السلفيون والأصوليون في كل الأديان فرض الاعتقاد بالله بقوة السيف وبالعنف لإخضاع البشرية لرؤيتهم الاعتقادية. (58) من خلال هذا الاستعراض السريع لبعض محطات الصراع بين العلم والدين في أوروبا والتي أخذت شرارة انطلاق حركتها من الأندلس الإسلامية يمكننا الادعاء أن هناك من يعتبر أن علاقة العلم مع الدين هي علاقة تبادلية يوجه فيها الدين العلم نحو الأخلاق والجمال، فيما يمنع العلم الدين من النزوع نحو عالم البدع والأساطير والوثنية. وهناك من يرى أن لا علاقة بينهما وكل محاولة لفرض هذه العلاقة إنما تضر بالإثنين معاً أي العلم والدين. ولكن مع كل هذا النقاش استطاع الأوروبيون وبالتدريج فرض المنهج العلمي كطريقة للتطور، وفصله عن المنهج الديني واستبعاده من دائرة التأثير على التطور العلمي. فبالرغم من انحناءات بعض العلماء أمام الكنيسة إلا أنهم حافظوا على نهج التطور حتى وصلوا الى ما وصلوا اليه اليوم، لأنهم وباختصار شديد، حسموا قضية الصراع بين العلم والدين لصالح العلم. طبعاً هذا لا يعني القضاء على الدين وإنما استبعاده من الدوائر والساحات العلمية، مما حرر العلم من تأثيرات الدين السلبية وقيوده وجعله ينطلق نحو الأمام. أما الدين فتحول مع الزمن الى علاقة فردية بين الإنسان وربه يمارسها بحريته دون أن يفرض نهجها أو مضمونها على الآخرين أو على الأجندة العلمية. 2- نهضة العالم الإسلامي: لقد دخل العالم الإسلامي في سبات عميق، وتوقف عن الإنتاج العلمي بعد أن أضاء أوروبا بغزارة ما أنتجه من علوم، فبنى الأوروبيون عليه وانطلقوا نحو الأمام محققين انجازات عظيمة لهم وللإنسانية جمعاء، اما العالم الإسلامي وبسبب الحروب الداخلية، والانقسامات التي أدت الى سقوط الدولة العباسية، وظهور الإمارات المتصارعة والتي أدت أخيرا الى سيطرة العثمانيين على معظم البلاد الإسلامية، فقد دخل في أتون مظلم، لم يخرج منه حتى الأن رغم المحاولات الجادة من أعلام فكرٍ تركوا بصمة لا تنسى في تاريخ الفكر العربي الحديث. ولكي نؤكد أن المسألة الرئيسية التي أشغلت المثقفين العرب المسلمين وما زالت حتى عصرنا هذا تشغلهم، هي علاقة العلم بالدين، سنقوم باستعراض سريع لرؤية ثلاثة مفكرين بارزين وهم: الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور المهندس محمد شحرور، والمفكر المعروف صادق جلال العظم، والذي سنعالج فكره منفردا نظراً لأهمية فكره من خلال النموذج الذي تبنته هذه الدراسة لتعريف المثقف والفعل الثفافي، ومن ثم سنحاول فهم رؤية الأديب اللامع نجيب محفوظ، والذي حصل على جائزة نوبل للآداب، لقضية العلاقة بين العلم والدين. لقد تبنى الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي المنهج الديني في مسألة العلاقة بين العلم والدين، وبالمقابل حاول المفكر الدكتور المهندس محمد شحرور أن يقرأ القرآن بطريقة معاصرة في كتابه "الكتاب والقرآن" بهدف التوفيق بين العلم والدين، واعتقد أنها من المحاولات الجريئة والجدية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ولكن للأسف لم تستحوذ على الهامش الذي كان من المفروض أن تستأثر به، نظراً لأهمية الطرح وعمقه ومحاولة تحديث المفاهيم الدينية لتنسجم مع العصر الحديث. أما الدكتور صادق جلال العظم فقد حاول أن يعالج الكثير من المفاهيم الدينية بمنظور علمي نقدي متحدياً قداسة النص. أما الأديب نجيب محفوظ فقد تناول المسألة بشكل أدبي رمزي ولكنه كان منحازاً بوضوح لحسم النقاش لمصلحة العلم. ا-الدكتور يوسف القرضاوي: إن المشكلة الأساسية في العالم الإسلامي تمثلت بانكفاء العلم لمصلحة الدين بعد ان نهض نهضة كبرى في العصر العباسي الأول، وبدأت المفاهيم الدينية تتراجع امام إعمال العقل في النصوص المقدسة، وأهم دليل على ذلك قضية "خلق القرآن". لقد تجسد أوج هذا التراجع عندما ذهب البعض بعيدا في تصوراته إلى حد اعتبار القرآن المصدر الوحيد للمعرفة، وأن كل ما أنتجه البشر من نظريات وقوانين ومبادئ علمية عبر صيرورة وجودهم التاريخية متأطر في سياق الآيات القرآنية على شكل رموز وإشارات، وما على الذين أوتوا الحكمة إلا فك تلك الشيفرات والحصول من خلالها على "مجاميع علم الأولين والآخرين" (59) يقول الدكتور يوسف القرضاوي إن العلم والدين في حضارتنا يتعانقان ولا يتصارعان، ويتفقان ولا يختلفان؛ فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين. ولهذا لم يقُم عندنا ما قام عند أمم أخرى -مثل الأمم الأوربية في عصورهم الوسطى -من صراع تأجَّجت ناره بين العلم والدين، أو بين الفكر والعقيدة، أو بين الشريعة والحِكمة. (60) هنا يتفق القرضاوي مع من سبقوه وبعض معاصريه وخصوصاً أصحاب الإعجاز العلمي على سبيل المثال – زغلول النجار ومن هو على طريقته. (61) لقد انتقد ابن رشد قديما هذه النظرة ودعا إلى ضرورة استقلال العلم عن العقيدة الإسلامية وجعلهما طريقين للمعرفة، كما رفض الدخول في حوارات علمية حول المعجزات على اعتبار أنها أمور تتخطى حدود الوعي والتجربة الإنسانية. أما اليوم وبعد مئات السنين يعود بنا القرضاوي والنجار بطروحاتهم الى ما قبل ابن رشد. ويجب أن نعترف أن الفكر العربي الإسلامي لم يسستطع أن يحدث ثغرة في جدار التخلف بسبب عدم احتدام المعركة بين العلم والدين، ويجب ألا نتباهى، كما يفعل القرضاوي، بأنه لم يحتدم الصراع بين العلم والدين، فهذا دليل على احتواء أحدهما للآخر والحجر عليه وعدم اعطائه الفرصة لكي يتطور. وفي الحالة العربية الإسلامية العلم حبيس الدين. إن المشكلة الأساسية التي يجب على العلماء والمفكرين والمثقفين العرب والمسلمين التصدي لها وبشجاعة: هو كيف يمكن فك هذا الارتباط بين العلم والدين في العالم الإسلامي؟ خصوصاً ان حالة الارتباط بينهما تقوم على سيطرة المفاهيم الدينية على المفاهيم العلمية، حيث لا يمكن أن تنهض هذه الأمة دون أن يتصدى علماؤها ومفكروها ومثقفوها الى هذه المعضلة. ب-الدكتور محمد شحرور: أما المفكر الدكتور محمد شحرور وفي كتابه القيم "الكتاب والقرآن: دراسة معاصرة" يحاول أن يوفق فكرياً بين ما جاء في الدين ليتلاءم مع العلم. فقد فرق الدكتور شحرور بين القرآن والكتاب واعتبر أن القرآن الأزلي والذي هو كلام الله المنزل هو جزء من الكتاب وليس كله ومتداخل معه وهو المقدس، أما باقي أجزاء الكتاب فأخذت قدسيتها من كونها متداخلة مع القرآن. واعتبر أن الكتاب يحتوي عل آيات متشابهات والتي تحتوي على شكل ثابت ومضمون متحرك، يمكن تفسيره بما يتلاءم مع افهامنا وتقدمنا العلمي، وآيات محكمات والتي يدل اسمها عليها، ومن آيات لا متشابهات ولا محكمات. وقد فرق محمد شحرور بين القرآن والسبع المثاني (مفاتيح القرآن) واعتبرهما شيئين مختلفين في الكتاب، وقام بتفسير الوحي عن طريق ما سماه الإنزال والتنزيل. كذلك وبسابقة خطيرة في الفكر الإسلامي، أكد الدكتور شحرور أن نظرية داروين لا تتناقض مع الفهم الصحيح للقرآن، وأطلق على الأنسان القديم لفظة "بشري" واعتبره غير قادر على حمل الرسالة الدينية، ولكن عندما نفخ الله فيه الروح تحول البشري الى انسان وأصبح قادراً على حمل الرسالات السماوية. وفي معرض تفريقه بين البشري والإنسان قال الدكتور محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن " فالبشر يعبر عن الوجود الفيزيولوجي لكائن حي له صفة الحياة كبقية المخلوقات الحية .(62) ويضيف الدكتور شحرور أنه؛ عندما بلغ البشر مرحلة متقدمة من التطور العضوي ونضج ، اصبح مؤهلا لنفحة الروح (الأنسنة) وهذا التأجيل كان في ظاهرتين رئيستين هما: انتصاب الإنسان على قدميه وتحرير اليدين، ونضوج جهاز صوتي خاص به، وهذا الجهاز قادر على اصدار نغمات مختلفة بعكس بقية المخلوقات التي تصدر نغمة صوتية واحدة... (63) ويضبف الدكتور شحرور إن الآية الكريمة " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون ( البقرة 30) تعبر عن احتجاج الملائكة على الله عز وجل، والذي جاء على اساس معلومات مشاهدة، أي أنه عندما كان البشر ما يزال في مملكة الحيوان قبل الأنسنة، ولكنه قائم على رجليه، وله جهاز صوتي قادر على التنغيم المختلف، وكان تصرفه كالبهائم ،أي يأكل اللحوم وله أنياب ،وربما كان يأكل بعضهم بعضا.(64) وقد عالج الدكتور محمد شحرور في كتابه أيضاً قضية الأحوال الشخصية عند المسلمين من فتاوى وقضاء، والزواج والطلاق، بطريقة عصرية تستحق التوقف عندها والتمعن جيداً بهذه الأفكار التي قد تشكل مدخلاً لإعادة قراءة النصوص المقدسة بطريقة عصرية دون المساس بقدسيتها. ولكن يبقى وكما لاحظنا أن فكر الدكتور الشحرور يتمحور عملياً في محاولة نقاش العلاقة بين العلم والدين، محاولاً الربط بينهما بطريقة رائعة، كان يجب أن تأخذ صدىً بين المفكرين المعاصرين. ج-الأديب نجيب محفوظ: لقد حاول نجيب محفوظ أن يناقش هذه المعضلة أي علاقة العلم مع الدين، في رائعته أولاد حارتنا، حيث قام بعرض فلسفي للمسيرة البشرية من منظور ديني منذ آدم وحتى النبي محمد، وقد أطلق أسماء رمزية على أبطال حارته حتى لا يتهم بالزندقة، ولكن حيلته لم تنطل على رجال الأزهر وتم منع الرواية وقتها. لقد أطلق نجيب محفوظ على آدم اسم أدهم وعلى حواء اسم أميمة (نسبة إلى الأم) وعلى موسى اسم جبل وعلى عيسى رفاعة (نظراً إلى أن الله رفعه إليه) وعلى النبي محمد قاسم وهكذا... وقد شهدت حارته أحداثاً جساماً وتعرض أهلها لمظالم شديدة وصراعات عنيفة، ورغم لجوئهم إلى الدعاء والاستنجاد بصاحب البيت الكبير في الحارة (الجبلاوي ويرمز إلى الله) إلا أنه لم يعرهم أدنى انتباه ولم يخرج لهم من بيته العالي مرة واحدة. وأخيراً أتى الحارة شخص اسمه عرفة (نسبة إلى العلم والمعرفة) واستخدم علمه للنهوض بأحوال الحارة وتحسين أحوال قاطنيها على نحو غير مسبوق بل أنه سعى إلى تخليصهم من الأوهام والشعوذات، حتى أنه اقتحم البيت الكبير ذات مرة كي يرى بنفسه الجبلاوي الذي دارت حوله الكثير من الأساطير الممزوجة بالرعب والخوف بين أهل الحارة دون أن يراه أحد، وكانت المفاجأة الكبرى أنه لم يجد أثراً للجبلاوي. (65) هـذا عـرض مقتضب جـداً لـروايـة أولاد حـارتنـا والتي تـنـبأ فـيها نجيب مـحفـوظ بانتـصار العـلم عـلى الديـن في النهاية، وهـو يرى أن في هذا سعادة البشرية. ولكن وبنظرة سريعة، يمكن الادعاء، أن هذه المعركة قد حسمت في معظم أرجاء العالم المتقدم لصالح العلم، أما العالم الإسلامي فيشهد حالياً معركة شرسة مع الأصوليات الدينية المدعومة بجحافل من الفقراء والعاطلين والمظلومين والبائسين ممن لم يعد لهم أي أمل أو رجاء في هذه الحياة الدنيا بسبب الفساد والاستبداد والظلم السائد في دولهم، ولكن أملهم كبير في الحياة الآخرة التي لا يفضي العلم إليها ولا يتكلم عنها ولكنه الدين حسب رأي معظم الفقهاء المسلمين. ومن ثـم فإنه ليست هناك مشكلة فـي تـبـني أي خطاب ديني جهادي أو انتحـــاري مــا دام سيــؤدي في النهـايـة إلى جـنـة الخـلد.
د- صادق جلال العظم (1939-2016): • شخص يمتلك المعرفة التي تخوله انتاج الأفكار المجردة صادق جلال العظم (1939-2016) هو مفكر سوري علماني من مواليد دمشق وأستاذ فخري بجامعة دمشق في الفلسفة الأوروبية الحديثة. كان أستاذاً زائراً في قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون حتى عام 2007. كتب العظم في الفلسفة ولديه دراسات ومؤلفات عن المجتمع والفكر العربي المعاصر. وهو عضو في مجلس الإدارة في المنظمة السورية لحقوق الإنسان. وله العديد من المؤلفات من أهمها: النقد الذاتي بعد الهزيمة، نقد الفكر الديني، الاستشراق والاستشراق معكوساً، ما بعد ذهنية التحريم، دفاعا عن المادية والتاريخ، في الحب والحب العذري. (66) يعتبر صادق جلال العظم من أهم المفكرين الذين يمتلكون القدرة على إنتاج الأفكار النظرية القادرة على الفعل في الواقع الاجتماعي • تعمل الأفكار المجردة في حيز اجتماعي فتتحول الى أفكار حية قادرة على التأثير يعتبر صادق جلال العظم من أهم المفكرين العرب الذين تابعوا مهمة نقاش العلاقة بين العلم والدين والتي توقفت بعد انهيار الدولة الإسلامية، وتنوّعت كتاباته التي اعتمدت المنطق العلمي التجريبي بين النقد السياسي والديني وفض الاشتباك بين الديني والدنيوي، وقطع الحبل السري بينهما وتحريض الوعي العربي على التفكير وفحص كل يقينياته ومسلماته. لقد وجه، العظم في كتابه نقد الفكر الديني، أحد أسلحته العلمية ضد شيوع الخرافة والتلفيق لمحاولات دمج الدين مع الأطروحات العلمية والفكرية والسياسية الحديثة بشكل قسري، والذي غايته النهائية إيجاد نزعة إيمانية ذات قداسة وعصمة وتملك دفاعات تبريرية تحميها من النقد في حال ثبوت فشلها وهزيمتها. ويؤكد على ضرورة الفصل بين الديني والدنيوي وتصفية الأفكار الملتبسة حول وجود تصور ديني للكون ووجود مرجعية دينية للأفكار العلمية والفلسفية. بل تجاسر على تحليل بعض القصص الدينية ووضعها في إطار ميثولوجي أعاد تقديمه بصورة مجازية. وانتقد موقف الشيخ نديم الجسر الذي يربط بين التقدم بمعرفة أمواج الضوء والإيمان بالجن والملائكة. (67) وأوضح في كتابه نقد الفكر الديني: "نحن نجد مثل هذه الملاحظات البديهية جداً عن البرق والرعد والسحاب والليل والنهار في أساطير حضارة ما بين النهرين، ملحمة جلجامش مثلاً، وفي التوراة والإلياذة والكتب المقدسة الصينية والهندية كما نجدها في القرآن". (68) وتصدى في "مأساة ابليس" الى أحد أهم الأفكار المقدسة فيما يتعلق بقضية الخلق وقصة رفض سجود ابليس لآدم، فاعتبر أن ابليس كان بين خيارين أحلاهما مر، فإما أن يرفض الأمر الإلهي، ويقيل بمشيئة الله والتي تقتضي وجود الشر في هذا الكون، ويرفض السجود لأدم، أو أن يقبل الأمر الإلهي، ويرفض المشيئة الإلهية ويقبل السجود لآدم. اختار ابليس الخيار الأول، لأن رفض الأمر الإلهي أمر ممكن وجائز، اما رفض المشيئة فهو أمر لا قدرة للمخلوقين عليه أياً كان مركزهم، فنحن لا نستطيع أن نرفض ظاهرة الموت لأنها مشيئة الله في خلقه، ولكننا نستطيع أن نرفض الأمر الإلهي إذا أردنا، فهناك من يقتل ويزني ويسرق، مع أن الله أمرنا بأن لا نقدم على هكذا افعال. من هنا يصل صادق جلال العظم الى نتيجة مفادها، أننا سنكتشف في آخر الزمان أن أبليس كان ملاكاً أنيط به دو الشرير لتكتمل مشيئة الله في خلقه. (69) من هنا نرى أن صادق جلال العظم ناقش المسلمات وتعامل مع البديهيات بشكل تشكيكي وأبدع في طريقة طرحه للأمور خصوصاً المقدسة منها فامتلك الجرأة لحد اعتبار ابليس ملاكاً، فناقض بذلك الأسس الدينية، التي يقوم عليها ليس فقط الدين الإسلامي وانما باقي الأديان السماوية، ورفض كل الأساطير الدينية التي سيطرت وما زالت على عقول الكثيرين من المسلمين، وكل ذلك بطريقة علمية تعتمد على النقد العقلي للمعطيات، وهذا لا شك يعد استكمالاً لما وصل اليه الفكر الإسلامي النقدي من تطور والذي توقف بعد انهيار الدولة العباسية.
• الفعل الثقافي يصطدم بسلطة قائمة لها مصالح وقد تكون السلطة: سياسية، دينية، اجتماعية، ثقافية:
لقد اصطدم صادق جلال العظم مع السلطتين الدينية والسياسية. فالسلطة الدينية اعتبرته ملحداً وخارجاً عن أصول الدين وتعرض للشتم والإهانة، اما السلطة السياسية فاعتبرته معادياً للنظام وضيقت عليه وعلى فكره بطرق مختلفة. وكان موقفه من الثورة السورية التي اندلعت شرارتها في ربيع 2011 محط نقد من قبل الكثيرين من الكتاب والسياسيين، فقد أيد الثورة السورية مع أن طابعها بدأ يغلب عليه الطابع الإسلامي، وطرح مصطلح ما سماه ب "العلوية السياسية". وبالمقابل انتقد صادق جلال العظم الثورة السورية ووضع إصبعه على جوهر المشكلة، ففي الحوار الذي أجرته معه جريدة “المدن” في شهر آذار/ مارس عام 2014، عندما سُئِل عن “البعد الطائفي” للصراع في سورية، من جهة النظام والمعارضة، قال العظم: “توجد أبعاد طائفية متعدّدة لما يحصل في سورية اليوم، على الرغم من المحاولات الكثيرة لإنكار ذلك. وجميع الاجتماعات والمؤتمرات التي شاركت فيها خلال السنوات الماضية كانت تتهرّب عمدًا من الاعتراف بوضوح بالأبعاد الطائفية للصراع في البلد، وكأن ذكر الشيء يجلبه، وعدم ذكره يبعده”، مشيرًا إلى أنه “من الأفضل للثورة أن تعي نفسها جيدًا بلا تورية، وأن تُصارح نفسها علنًا؛ فالثورة رفعت غطاء الطنجرة (كما نقول باللغة الدارجة) فظهرت التشقّقات المجتمعية، وظهر العفن الطائفي الذي خلّفه النظام بعد حكم نصف قرن”، وأكد أنه “لا يمكن للصراع أن يصل إلى خاتمته من دون سقوط العلوية السياسية تمامًا، كما أن الحرب في لبنان ما كان يمكن أن تصل إلى خاتمتها من دون سقوط المارونية السياسة (وليس الموارنة) في لبنان”(70) من هنا نرى أن صادق جلال العظم وجه سهام النقد ليس فقط باتجاه النظام السياسي في سوريا وإنما أيضاً باتجاه المعارضة الإسلامية التي ناصبته أيضاً العداء. ولذلك نستطيع القول إن الفعل الثقافي النقدي لصادق جلال العظم كان له تأثيره على الكثير من المثقفين الذين انقسموا بين مؤيدين ومعارضين لطروحاته. • اتجاه الفعل الثقافي: الى الأمام –تقدمي، الى الوراء – رجعي أو سلفي، المراوحة –براغماتي لا شك أن فكر صادق جلال العظم يعتبر فكراً تقدمياً وأراد أن يدفع باتجاه فصل الدين عن الدولة والنهوض بمشروع فكري تحرري، مع أنه ومن خلال اهتمامه بمستقبل الأمة تساءل العظم عما إذا كان العرب قادرين على إنجاز مشروع ديمقراطي علماني، هذا السؤال الذي يفرض نفسه على جدول أعمال الفكر العربي الحديث. فهل الإسلام ينسجم مع العلمانية والتكنولوجيا الحديثة؟ وهو يطرح هذه الأفكار التي تشكل في راهنها تحدياً كبيراً أمام تحقيق مشروع التقدم في مجتمعاتنا والتخلص من انسداداته التاريخية. لقد دافع العظم وبشكل علمي عن رؤيته للواقع العربي ولم يتوان في توجيه النقد للأنظمة التي كانت تعتبر نفسها تقدمية وتحررية كما فعل من خلال كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" والذي تناول فيه استخدام النظام في مصر واقعة ظهور مريم العذراء، وحلل الشخصية العربية الفهلوية والتي تحاول دائماً تبرير الهزائم من خلال رمي المسؤولية على الأقدار وقوى ما وراء الطبيعة، فاعتبر أن تسمية العرب لهزيمة عام 1948 وقيام إسرائيل ب "النكبة" وهزيمة حزيران 1967 ب "النكسة" ما هي إلا محاولة للهروب من الواقع وتحميلها لقوى خارجية. • تحول وسائل الاتصال، الفعل الثقافي الى فكر علني ومتاح: لا شك أن العصر الذي عاش فيه صادق جلال العظم يختلف جذرياً عن العصور التي عاش فيها المفكرون الذين تناولتهم هذه الدراسة من نواح كثيرة، وخصوصاً وسائل الاتصال. ففي العصر الحديث شكلت الصحافة والراديو والتلفزيون وحديثاً الفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي نقلة نوعية في نقل المعارف، حيث أصبحت متاحة في كل مكان في العالم وسريعة الانتشار، ولذلك أصبح الناس أكثر تفاعلاً مع الفعل الثقافي وزاد أيضاً حجم ومساحة التأثير. بالرغم من محاولات التضييق على المفكرين من أمثال صادق جلال العظم ومنع انتشار بعض كتبهم، الا ان وسائل الاتصال الحديثة تجاوزت هذه التضييقيات وأصبح الفكر متاحاً مهما كان نوعه لكل من أراد الوصول اليه. لذلك يمكن أن ندعي أن وسائل الاتصال الحديثة جعلت من فكر صادق جلال العظم ومفكرين اخرين متاحاً ومنتشراً وسهل التناول مما سهل على المفكرين إمكانية التأثير والتأثر.
• تحول الأفكار الى فعل اجتماعي: لقد كان لفكر صادق جلال العظم تأثير كبير على المجتمع العربي وخصوصاً على جيل الشباب. فقد شكل نموذجاً وقدوة كمفكر ناقد تناول أهم القضايا العربية والإسلامية بالدرس والتحليل، وقدم أفكاراً نيرة جذبت جيل الشباب وأثرت بهم. بينما صد عنه أصحاب الفكر الديني، الذين رأوا به تهديداً لمنظومة الأفكار الدينية التي يطرحونها، فقد تناولها صادق جلال العظم في الصميم، وحاول أن ينزع عنها ثوب القداسة، ويصورها كما هي بالحقيقة بأسلوب فلسفي يتبنى العقل منهجاً، ليصل الى الحقائق، كما فعل أبو العلاء المعري من قبله وآخرون، وذلك بهدف تحرير العقل العربي من الخرافات التي شوهته وجعلته غير قادر على التطور ومجاراة الأخرين، بعد أن كان في الماضي بالمقدمة. لذلك كان صادق جلال العظم صاحب مشروع فكري تقدمي نهضوي يهدف الى نزع الغبار عن العقل العربي وتحريره من رواسب الماضي والدفع به قدما لبناء دولة المواطنة والقانون. خلاصة: يعتبر صادق جلال العظم من أهم المفكرين العرب المسلمين الذين ساهموا في انتاج أفكار مجردة قادرة على التحول الى افكار حية وفاعلة. فقد تصدى بفكره الثاقب لكل الهرطقات والشعوذات الدينية وحاول أن يناقش الفكر الديني من جذوره واضعاً إياه تحت المنظور العقلي العلمي، مما نزع عنه القداسة وجعله مادة للتحليل والتمحيص العلمي، مما أثار حفيظة أصحاب الفكر الديني وقاموا بالتحريض عليه. كذلك ناقش أحوال العرب السياسية وانتقد تجارب الأنظمة التقدمية، وحلل منطق الدفاع عن الهزاثم في الفكر العربي، ودعا الى نفض الغبار عن العقل العربي ليؤسس لنهضة حقيقية تقدمية بعيداً عن الأوهام والخرافة. انتشر فكر صادق العظم بين أوساط الشباب وكان له تأثير كبير على تشكيل وعي الجيل العربي الجديد. خامساً: خلاصة واستنتاجات: لقد حاولت هذه الدراسة أن تعطي تعريفاً معيارياً شاملاً عن المثقف والفعل الثقافي يصلح لكل زمان ومكان، وذلك بهدف فهم وظيفة المثقف والفعل الثقافي في الأزمنة المختلفة، فقد عرفت هذه الدراسة المثقف على أنه: ذلك الشخص الذي يمتلك القدرة الفكرية على انتاج الأفكار المجردة، والتي من الممكن أن تتحول الى افكار حية، في حيز اجتماعي ما، من خلال تفاعلها مع الواقع الإجتماعي، فيؤدي ذلك الى اصطدام هذه الأفكار مع السلطة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية اوثقافية، فيتحول فعلها الى تقدمي أو سلفي رجعي أو براغماتي محافظ، حيث تساهم وسائل الإتصال الى تحويل الفكر الى متاح للناس، مما يؤدي الى تحول هذا الفكر الى فعل اجتماعي، يؤثر على حاضرهم ومستقبلهم. وقد تبنت هذه الدراسة نموذجاً نظرياً للفعل الثقافي تم استباطه من خلال استعراض وتحليل أهم أفكار الفلاسفة والمفكرين الذين عالجوا موضوع الثقافة والمثقفين. ومن ثم تم تطبيق هذا النموذج على ثلاثة أعلام فكرية مختلفة وهم: الإمام أحمد بن حنبل الذي اتبع المنهج الديني في الوصول للمعرفة، ورفض المنهج الفلسفي، وابو العلاء المعري الذي استعمل المنهج العقلي ورفض المنهج الديني، وابن رشد الذي اعتبر أن الوصول الى الحقيقة يمكن أن يتم عن طريق المنهج الديني او المنهج الفلسفي ولكنه فصل بينهما. وقد استنتجت هذه الدراسة ومن خلال الحفر المعرفي في فكر الأعلام الذين ذكروا سابقاً، الى أن الموضوع الأساسي الذي كان محط خلاف المفكرين في ذلك العصر هو العلاقة بين العلم والدين، أو الفلسفة والدين، وهو السؤال الذي لم يتم حسمه إسلامياً بالرغم من التطور العلمي الهائل الذي وصلت اليه الدولة العباسية قياساً لذلك العصر. ومن ثم تم استعراض نهضة الغرب من خلال الإعتماد على الأفكار التي وصلت اليها الفلسفة الإسلامية في الأندلس، وخصوصاً أفكار ابن رشد، والتي بنوا عليها وتابعوا عملية التطور، من خلال النقاش الحامي الوطيس بين الفكر الديني والفكر العلمي، ورغم الإنتكاسات التي حصلت في أوروبا، الا انهم استطاعوا أخيراً أن ينجزوا المهمة في حسم المعركة لصالح العلم. اما العالم الإسلامي، وعندما بدأ ينهض من جديد بعد الخلاص من السيطرة العثمانية وانجاز الثورات التحريرية، عاد ليطرح مجدداً، وبقوة، نفس السؤال وهو: العلاقة بين العلم والدين، والتي حاول بعض المفكرين الإسهام في حسم هذه المعركة لصالح العلم أو الدين. لقد استعرضت الدراسة أفكار اعلام من المفكرين المعاصرين لتثبت أننا ما زلنا ندور حول نفس السؤال الذي توقف المفكرون المسلمون الحديث عنه بعد انهيار الدولة العباسية. فتم استعراض أهم أفكار الدكتور يوسف القرضاوي والذي يتبنى المنهج الديني، في الوصول الى المعرفة، وبالمقابل تم استعراض فكر صادق جلال العظم الذي تبنى المنهج العلمي، وكذلك عرضت أهم أفكار الدكتور محمد شحرور، الذي حاول أن يوفق بين العلم والدين، وأخيراً تم تناول ما طرحه الأديب نجيب محفوظ في روايته أولاد حارتنا، والتي تعد محاولة للأنتصار للعلم على حساب الفكر الديني. ولكن الواقع العربي كان مخيباً للآمال، لأن الفكر الديني طغى على الفكر العلمي وسجنه في قفص لصالح العودة الى الإصوليات و"السلف الصالح"، وذلك نتيجة انسداد الأفق أمام الإنسان العربي، مما جعله يهرب بإتجاه الدين ليجد لنفسه ملجأً، على الأقل، يعطيه الأمل في الآخرة بعد أن خسر دنياه. وقد ساهمت الأنطمة القمعية العربية مساهمة كبرى في وصول المواطن العربي الى ما وصل اليه من احباط مما دفعه باتجاه الدين والتطرف. ان إشكالية علاقة العلم بالدين وما ينتج عنها تؤثر تأثيراً كبيراً على مستوى الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية على حياة الإنسان العربي اليومية، وعلى المؤسسات التي أنتجها بدءاً من مؤسسة الأسرة وصولاً الى مؤسسة الدولة. إن سيطرة الفكر الديني على مختلف المستويات الحياتية عند المواطن العربي، وعدم قدرة العقل العربي على التخلص من هذا الأسر والتبعية، هو الحاجز الذي يمنعه من التطور، ولهذا فإن عمل المثقفين ومهمتهم الأساسية في العصر الحديث يجب أن يتمحور حول كيفية تخليص العقل العربي من الإرث والفكر الديني الذي جلب على هذه الأمة الويلات والحروب والدمار. إن أي نقاش فكري حول مشاكل العصر من بناء الدولة ومؤسساتها، الى الاقتصاد، الى الوضع الاجتماعي، الى الوضع السياسي سيقودنا حتماً الى نفس المكان وهو علاقة الدين بالعلم. ولا يمكنا معالجة أي موضوع من هذه المواضيع دون حسم المعركة في هذا الحقل لمصلحة العلم والخلاص من الإرث الذي أوصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم. ولكي نوضح هذا الموضوع، سنخوض قليلاً في التأثيرات الدينية على سلوكنا وحياتنا الاجتماعية، حتى نستطيع أن نعي أننا مأسورون في سجن الأفكار القديمة، التي تؤسس لها أفكاراً مقدسة يصعب التعامل معها، لأنها غير قابلة للنقض، أو حتى النقد، لأنها وببساطة مقدسة ومحرمة على العقل العربي أن يتعاطى معها. ان المجتمعات العربية مهما تنوعت وتباينت يغلب عليها الطابع الديني الإسلامي، فغالبية العادات والتقاليد ومنهج الحياة تنسجم مع روح الإسلام. وتؤثر المعتقدات الإسلامية على سلوك العرب المسلمين، حيث يشكلون الأغلبية الساحقة للمجتمع العربي في مشرقه ومغربه. وعلى سبيل المثال لا الحصر نورد بعضاً منها مثل: الإيمان بالجن والشعوذات الناتجة عنها، حوريات الجنة والوصيفات، تعدد الزوجات والنظرة للمرأة ودورها وما ينتج عنه من عادات وتقاليد، تدخل الدين بالاقتصاد بمفهوم الحلال والحرام، وغيرها من المعتقدات التي لها ركائز دينية تؤثر بسلوك الناس. أما في المجال السياسي فمفهوم الديمقراطية والحريات يعاد الى مفهوم الشورى ويحصر فيها، ويمنع الخروج على الحاكم الظالم، ويعتبر أصحاب الفكر الديني ما وصل اليه الغرب من تبنٍ للحريات وحقوق الإنسان هرطقات غريبة عن الدين. أما المشكلة الثانية فتتلخص برؤية الإسلام لغير المسلمين، وإمكانية تقبلهم والعيش معهم بسلام. فالإسلام كدين تبشيري يسعى للانتشار والتوسع وهذا سيؤدي حتماً الى صدام مع الآخرين، هذا عدا عن تكفير غير المسلمين والمذاهب الباطنية الإسلامية والتي تعتبرها بدعاً يجب التخلص منها ومن أفكارها، مما يؤدي الى نبذ جزء مهم من النسيج المجتمعي العربي على أسس دينية. ان الحلول لكل هذه المشاكل يبدأ من خلال تبني عقل الإنسان العربي المنهج العلمي، والإبتعاد عن الأفكار المعلبة المتوارثة منذ مئات السنين ونزع القدسية عنها، وهذا لا يمكن أن يحصل دون حسم الصراع بين العلم والدين لمصلحة الأول، أي العلم، وهذه هي مهمة المثقفين الأولى في العالم العربي وبدونها لا يمكن الحديث عن أية نهضة عربية. وأخيراً ومهما تعددت التسميات التي تطلق على المثقفين، كالمثقف الرسولي عند ادوارد سعيد، والمثقف العضوي عند غرامشي، ومثقف السلطة وغيرها... يبقى هناك، ومهما حاولنا التفنن في التسميات، فقط ثلاثة انواع من المثقفين وهم: أولاً المثقف الذي يريد أن يدفع بعجلة التطور الى الأمام وهو المثقف الأصيل الذي يقرأ التاريخ والتراث ليستفيد من عبره في بناء حاضر ومستقبل أفضل للمواطن العربي، ثانياً المثقف الرجعي الذي يريد أن يعيدنا الى امجاد الماضي من خلال تبني الهياكل التي عفى عليها الزمن، وطرحها كحل للواقع العربي المتردي كمايفعل منظرو الفكر الديني، مثل داعش وجبهة النصرة، ثالثاً المثقف المحافظ الذي يدافع عن الوضع الراهن لأنه مستفيد منه، أو لأنه يدافع عن جهة مستفيدة منه، مثل مثقفي السلطة أو أصحاب المصالح الطبقية الذين يدافعون عن واقع اقتصادي اجتماعي سياسي معين. ملاحظات:
1- أنظر: • أحمد زكي بدوب، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، 1982، ص 222. • - طارق مخنان، أزمة غياب دور النخبة المثقفة الجزائرية في التغيير، أطروحة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع، جامعة قاصدي مرباح –ورقلة – كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم العلوم الاجتماعية، مدرسة الدكتوراه، العام الجامعي 2011-2012، ص 12. 2- إدوارد سعيد، “المثقف والسلطة"، ترجمة محمد عناني، (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006)، ص 34-35. - أنظر أيضاً: ادوارد سعيد، صور المثقف، ترجمة، غسان غصن، (بيروت: النهار للنشر، ش..م.ل). 1996. - ادوارد سعيد، تمثيلات المثقف، المسيرة الإلكترونية http://www.al-maseera.com/2010/06/blog-post_8529.html 3- حمد اسعاف المثقف العربي إشكالية الدور الفاعل، مجلة جامعة دمشق، المجلد 30، العدد 3+4 ،2014 ص 346 4- نفس المصدر 5- Charles Kurzman and Lynn Owens" the sociology of intellectuals” annual review of sociology: vol 28. 2002 pp. 64-67 6- محمد الشيخ، “المثقف” والسلطة، دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر، (بيروت: دار الطليعة، 1991)، ط1، ص18. 7- ادوارد سعيد، المثقف والسلطة، مصدر سابق ص 34-35 8- أنطونيو غرامشي، كراسات السجن، ترجمة عادل غنيم، دار المستقبل العربي، 1994، ص 24، 25. 9- أنظر ويكبيديا الموسوعة الحرة: الماركسية على الرابط التالي: https://en.wikipedia.org/wiki/Marxism 10- محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000)، ط2، ص 25. أنظر أيضاً: محمد عابد الجابري، مفهوم الثقافة وقاموس الخطاب العربي المعاصر، 2007-12-11: مركز دمشق للدراسات النظرية وحقوق الإنسان http://www.mokarabat.com/s3011.htm 11- نفس المصدر 12- عمرو عثمان، مروة فكري، المثقف العربي ومتلازمة ميدان تيانانمن، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2016. 13- جان بول سارتر، دفاع عن المثقفين، ترجمة جورج طرابيشي، (بيروت: دار الآداب)، 1973، ص 13. 14- Jerome karabel," towards a theory of intellectuals and politics” theory and society. Vol.25 .no.2 (1996) p.208. 15- Shils, Edward. “The intellectuals and the power” comparative studies in society and history" vol. 1. No. 1. 1958 p.5-7 16- Ibid p.205 17- عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، ط 2 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014) ص 109 18- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D8%A7%D8%AA%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%81_%D9%87%D8%A7%D9%81%D9%8A%D9%84 أنظر أيضاُ: http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=24122011&id=08512b2b-b004-4b6d-8c30-74e654229a8c
19- ترجمة ابن رشد الحفيد -الموسوعة الإسلامية http://islamspedia.com/%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%B1%D8%B4%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%AF
20- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء جزء21، 2001، ص 307 أنظر أيضاً: أرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، (القاهرة: دار احياء الكتب العربية، 1957) ص 33 21- ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص 407 http://www.almaten.info/ebooks/arabic-lecture/a029.pdf 22- فرح أنطون، فلسفة ابن رشد، دار كلمات، 2011 http://www.goodreads.com/book/show/9857958
23- Nash, Elizabeth Seville, Cordoba, and Granada: A Cultural History, Oxford University Press US ,2005, p. 202, 24- معجم علم الأخلاق، ترجمة توفيق سلوم، (موسكو: دار التقدم،1984). 25- محمد منصور(إعداد)، موسوعة أعلام الفلسفة، (عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع،2001) ص. 13، 26- محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014 ص223 27- نفس المصدر 28- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%B1%D8%B4%D8%AF#cite_note-7 29- Abdel Wahab El Messeri. Episode 21: Ibn Rushd, Everything you wanted to know about Islam but was afraid to Ask, Philosophia Islamica. • Fauzi M. Najjar. The debate on Islam and secularism in Egypt, Arab Studies Quarterly (ASQ). (Spring, 1996)
30- ibid 31- مصطفى الشكعة، الأئمة الأربعة، (بيروت: ودار الكتاب اللبناني،1999)، الطبعة الثالثة، ج4، ص7 32- نفس المصدر. 33- عبد الله بن عبد المحسن التركي. أصول مذهب الإمام أحمد: دراسة أصولية مقارنة. (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1990) ص 434 أنظر أيضاً: أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل 14/12/2013: http://www.alhanabila.com/vb/showthread.php?t=241 34- موسوعة الوكيبديا مصدر سابق. 35- أبو الفرج ابن الجوزي، مناقب الإمام أحمد بن حنبل، الباب السادس والستون: في ذكر ابتداء المحنة وسببها، ص416-418، https://ar.islamway.net/book/26115/%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF
36- أنظر موسوعة الوكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D8%A8%D9%86_%D8%AD%D9%86%D8%A8%D9%84
37- محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد والمذهب الفقهية، ص 452-453 http://ia801408.us.archive.org/6/items/frq06/057.pdf 38- نفس المصدر ص 453-454 39- نفس المصدر ص 454-461 40- أنظر الموسوعة الحرة: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%A8%D9%88_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%8A
41- Philip Khuri Hitti, Islam, a Way of Life, University of Minnesota Press, 1970 p. 147
42- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة ،2001 http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=4300&idto=4300&bk_no=60&ID=4161 43- طه حسين. مع أبي العلاء في سجنه. دار المعارف. الطبعة الرابعة عشرة. ص. 44-45 http://www.books4arab.com/2016/01/pdf_522.html
44- Reynolds Alleyne Nicholson, A Literary History of the Arabs, Rutledge 1962, p.317
أنظر أيضاً موقع الشعر، الشاعر أبو العلاء المعري: https://www.alsh3r.com/poets/view/218
45- Ibid p.323 46- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير أعلام النبلاء، مصدر سابق 47- أنظر ويكبيديا الموسوعة الحرة، أبو العلاء المعري، مصدر سابق 48- برتراند راسل، الدين والعلم، ترجمة رمسيس عوض، دار الهلال، ص 10 https://docs.google.com/file/d/0B4tdKbWs3AxXaHdBRThiaHFnbUE/edit?pli=1 49- نفس المصدر ص 7-8. 50- أنظر موسوعة ويكبيديا على الرابط التالي: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D9%8A%D9%83%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B3_%D9%83%D9%88%D8%A8%D8%B1%D9%86%D9%8A%D9%83%D9%88%D8%B3 51- برتراند راسل، الدين والعلم مصدر سابق. أنظر أيضاً ويكبيديا الموسوعة الحرة على الرابط التالي: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%BA%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88_%D8%BA%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8A 52- برتراند راسل، العلم والدين مصدر سابق، ص 32. 53- نفس المصدر ص 51. 54- نفس المصدر ص 45. 55- نفس المصدر. 56- أنظر ويكبيديا الموسوعة الحرة على الرابط التالي: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%84%D8%B2_%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%8A%D9%86 57- أنظر أشرف البطران، الحوار المتمدن، العدد 2999، 9 أيار 2010 على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=214755 58- أنظر جواد بشارة، الحوار المتمدن، العدد 3019، 30.5.2010 على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=217387 59- أنظر شامل عبد العزيز، الحوار المتمدن، العدد 3602، 9.1.2012 على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=290864 60- نفس المصدر. 61- نفس المصدر. 62- محمد شحرور، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة، ط 9(دمشق: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع،2000)، ص 280. 63- المصدر نفسه ص 286-287. 64- المصدر نفسه ص 288. 65- أنظر رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا على الرابط التالي: http://www.mohamedrabeea.com/books/book1_7627.pdf 66- أنظر الموسوعة الحرة ويكيبيديا على الرابط التالي: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%82_%D8%AC%D9%84%D8%A7%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B8%D9%85 67- أنظر كريم شفيق، لنتذكّر معاً بعض أبرز أفكار صادق جلال العظم، الرصيف، على الرابط التالي: http://raseef22.com/culture/2016/11/28/%D9%84%D9%86%D8%AA%D8%B0%D9%83%D9%91%D8%B1-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%8B-%D8%A8%D8%B9%D8%B6-%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%82-%D8%AC%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7/ 68- نفس المصدر. 69- أنظر صادق جلال العظم، مأساة ابليس، على الربط التالي: http://www.bahzani.net/book/iples.pdf أنظر أيضاً: ثائر أبو صالح، سيكولوجيا الشر بين النظرية والتطبيق، مركز حرمون للدراسات المعاصرة ،2017، على الرابط التالي: https://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2017/04/The-psychology-of-evil-between-theory-and-practice.pdf 70- أنظر مقابلة صادق جلال العظم مع مجلة، المدن، اذار 2014 على الربط التالي: http://www.orient-news.net/ar/news_show/8179
#ثائر_أبوصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيكولوجيا الشر بين النظرية والتطبيق
-
الثورة السورية بين الواقع الموجود والواقع المنشود
-
إسرائيل وافاق التسوية السياسية مع سوريا
-
الأنظمة العربية السياسية بين الدوافع للثورات وسوء إدارة الأز
...
-
الديمقراطية وأهم معوقاتها في العالم العربي
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|