|
عند ضفاف المعدمين !
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1506 - 2006 / 3 / 31 - 09:49
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
ما كنت قد سمعت بماركس قبل أن يجمعني لقاء عابر بجواد الخياط ، ومن أين لي أن أتعرف عليه ، وأنا أسكن مدينة بعيدة ، نائية ، وكنت مازلت طالبا بعدُ في السنة الأخيرة من المرحلة المتوسطة ، تلك السنة التي كنت أأمل النفس بعدها بالانتقال الى المرحلة الثانوية ، رغم أننا ، أنا ومن هو على شاكلتي من بعض أبناء مدينتي ، كنا مغرمين بمطالعة الرواية عند الكاتب المصري الشهير ، نجيب محفوظ ، لكن تلك المطالعة بدأت لنا غير كافية حتى لفهم مضامين ما كان يكتبه محفوظ نفسه ، وصدفة أعارني صديق كتابا بعيدا في موضوعه عن الرواية التي شغفت بها ، وأنا في مرحلة الصبا ، وكان الكتاب هذا هو محاضرات في الفلسفة العربية الإسلامية لمؤلفه المصري عباس هويدى ، ذاك الكتاب الذي قرأته ، ولكنني لم أظفر بشيء كثير منه ، بعدها أعارني الصديق نفسه كتابا آخر هو : النقد المنهجي عند العرب للدكتور محمد مندور ، وكان حظي منه هو نفسه مع كتاب هويدى ، إذ أنني عانيت في فهمه الكثير . لقد كنا نتبادل الكتب فيما بيننا في ساعات ذاك الزمان ، فمدينتنا لم تعرف اسما للمكتبة بعد ، لكنها كانت على درجة كبيرة من النشاط الثقافي ، ذلك النشاط الذي كان يتصدى له بالدرجة الأولى شيوعيو المدينة ، رغم عسف وظلم السلطات المتعاقبة على الحكم في العراق ، وعن طريقة تبادل الكتاب تلك تشكلت لدينا مكتبة توزعت على أكثر من بيت ، وصار مكان المطالعة مقهى من مقاهي تلك المدينة ، أو بستان من بساتين النخيل المحيطة بها ، وليلا كان جامعها ذاك البناء الوحيد الذي كان مزودا بالكهرباء ، فكل بيوت مدينتنا ما كانت تعرفها بعد . كنت ساعتها قد ابتعت جميع ما صدر لنجيب محفوظ من روايات ، يضاف الى ذلك بعض الروايات لكتاب معروفين على صعيد العالم مثل فكتور هيجو الفرنسي في أحدب نوتردام ، تلك الكنيسة التي وقفت أنا على أعتابها فيما بعد ، ثم ارنست همنغواي الأمريكي في الشيخ والبحر ، وفي ذات الوقت كانت صديقة لي قد أهدتني رواية : سافرولا ، لرئيس الوزراء البريطاني الراحل فترة الحرب العالمية الثانية ، ونستون تشرشل ، وكان ذاك وقت أن كنا على أبواب امتحانات البكلوريا للمرحلة المتوسطة ، تلك الامتحانات التي ستنقلنا ، في حالة نجاحنا فيها ، الى المرحلة الثانوية ، وكان الامتحان باللغة العربية ، وعلى العادة ، هو فاتحة تلك الامتحانات ، وقد تصدر أسئلة ذاك الامتحان موضوع الإنشاء الذي جاء تحت عنوان : وقفة على جدول ! وهو الحال هذه يكون موضوعا وصفيا يمكن للقلم فيه أن يرسم تلاوين جميلة من الكتابة ، ولذلك فقد دونت أنا ، من ضمن ما دونت فيه ، عبارة وصفية رائعة لتشرشل من روايته : سافرولا ، كانت ذاكرتي محملة بها ، ولازلت أحفظها للساعة تقول : ( نظرت الى الوجود ، فإذا هو قمة ثلج ، قد أشرقت عليها شمس الصباح من خلال قوس قزح ملون بألوان البنفسج والبرتقال . ) ورغم كل هذا الفيض من الكتابات التي كنا نتوفر عليها ، لكننا كنا نشعر في الوقت نفسه بوجوب تطوير قراآتنا ، وكان هدفنا ، الذي نسعى وراءه ، هو قراءة كتب الفلسفة ، أية فلسفة كانت ! ولما كنت قد خرجت من كتاب عباس هويدى المار الذكر صفر اليدين فقد أصابني بعض من النفور من قراءة الفلسفة ، وعزمت على إرجاع الكتاب لصاحبه ، وبينما كنت مارا في سوق المدينة استوقفني جواد الخياط ، وهو جالس وراء ماكنة الخياطة ، سائلا عن الكتاب الذي أحمله ، وحين تصفحه قال لي : هل استوعبت ما فيه ؟ قلت له ، وبنوع من الخجل ، لا . ليس الكثير ! قال : حسنا ، غدا سأهديك كتابا في الفلسفة ستجد ضالتك فيه ، ثم أردف قائلا : وسأهدي لك معه رواية جميلة كذلك ، فأنني كثيرا ما أشاهدك تحمل روايات لنجيب محفوظ ! كل الذي أعرف عن جواد الخياط هو أنه كان جنديا متطوعا في الجيش العراقي ، لكنه طرد منه كونه عضوا في الحزب الشيوعي ، فلم يكن أمامه إلا مشاركة أحد خياطي المدينة بدكان متواضع ، وذلك بعد أن اشترى ماكنة للخياطة ، واضعا إياها قبالة ماكنة شريكه في ذلك الدكان . لقد بر جواد بوعده لي ، وسلمني في اليوم الثاني كتابين مهمين ، كانا مدفونين تحت الأرض في دارهم ، خوفا من بطش رجال المخابرات الأمريكية القادمين الى الحكم في العراق على إثر انقلاب شباط الأسود عام 1963 م . كان أحد الكتابين رواية تحت عنوان : الطيران الى الحرية ! وهي من الأدب الروسي ، وكان موضوعها يدور حول أحداث الحرب الوطنية التي خاضتها القوات السوفيتية ضد قطعان النازية الهتلرية ، ويبدو لي أنها كانت واحدة من سلسة روايات كتبت عن تلك الحرب ، وأخذت عنوانا هو : مقاتلون في سبيل وطنهم . تلك السلسلة التي قرأتها بعد سنوات ، وذلك بعد أن توفرت لي كلها . أما الكتاب الآخر فقد كان في الفلسفة ، تلك الضالة التي كنا ننشدها ، وكان عنوانه هو : المادية الديالكتيكية لمؤلفين روسيين هما : بوسنت وياخوت ، ومثلما أسلفت، فقد أكلت الأرض منه الزاوية اليسرى العليا من وجه غلافه الأول ، بعد أن مكث مدفونا فيها طويلا ، ولكنه مع هذا لم يفقد روعة في إخراجه ، وجيدة في ورقه ، وجمالا في حرفه ، وطباعته ، وبساطة عرضه ، وطرحه ، ذلك الطرح الذي كان يتناول فيه جميع المدارس الفلسفية تقريبا ، وباسلوب رائع ، سهل ، قل نظيره . لقد نجح الكاتبان في تبيان الفروق الفكرية والنظرية بين تلك المدارس ، ليس من خلال الحديث عن كل واحدة منها منفرة ، وإنما من خلال انقسامها على المسألة الرئيسة في الفلسفة التي تعلقت بالسؤال التالي : هل الكون عقل أم مادة ؟ ومن خلال المسألة الثانوية فيها كذلك : هل يمكن إدراك هذا الكون أم لا ؟ وعلى هذا تكون إجابة كل مدرسة فلسفية قديمة كانت أم حديثة هي التي تحدد طبيعة تلك الفلسفة ونهجها ، فالفلسفة التي تقول أن الكون أصله عقل مطلق فهي فلسفة مثالية ، والتي تقول أن الكون أصله مادة سرمدية ، فهي فلسفة مادية . بعد ذلك يتناول هاتان الكاتبان المدارس التي تقترب وتبتعد من هاتين الفلسفتين المهيمنتين للان على الدنيا ، والمتعارضتين ، المتصارعتين أبدا . من جواد الخياط هذا ، الذي ما التقيته بعد ذلك كثيرا ، تعلمت الفلسفة في مرحلة مبكرة من حياتي ، ومنه تعرفت على عبقرية ماركس في وراثته الشرعية لكل فكر تقدمي أتت به البشرية على امتداد تاريخها الطويل ، مثلما يقول هو . لقد حملت كتاب جواد الخياط معي الى بغداد ، حين أصبحت طالبا في جامعتها ، وحين صرت أدرس الفلسفة أكاديميا على يد استاذ عراقي كان قادما للتو من أمريكا ، مغرما بفلسفتها البراغماتية ، فلسفة جون دوي ، مدافعا عنها أمامنا نحن طلابه دفاعا مستميتا ، طالما أوقعه في نقاش حامي الوطيس معي أنا المدافع من بين عدد من الطلاب بحماس عن الفلسفة الماركسية التي تعلمتها من جواد الخياط ، حتى اضطررت في صباح يوم من الأيام أن أحمل لاستاذي هذا الكتاب الذي أهداه لي ذاك الخياط الجنوبي ، وأنا ما زلت على سن مبكرة ، وقد كان هو جالس وقتها مع مجموعة من الأساتذة في قسم الفلسفة من كلية التربية في جامعة بغداد . قلت له بعد أن حييت الجميع : ها هو الكتاب الذي علمني الفلسفة ، والذي أهدي لي من خياط عراقي ، معدم ، يعيش في أهوار جنوب العراق ، وهو واحد من العراقيين الذين تتهمهم أنت بعدم التفكير ، مع أن الحقيقة هي ليست كذلك ، فالعراقيون - يا استاذ - يتعرضون منذ سنوات طويلة خلت الى قمع متواصل ، وعلى مدى تعاقب أنظمة الحكم في العراق ، ولهذا تراهم يدفنون الكتب في الأرض خوفا عليها من السلطان المؤتمر بأمر الأمريكان ، وكن على ثقة أن كتابا صغيرا مثل هذا ، الذي تراه أمامك ، والذي جاءني من خياط ، سيقودني الى السجن حتما ، حين يعلم مخبرو السلطة بأمره ! هذه هي صورة جهد من نضال مستميت كان يخوضه الشيوعيون العراقيون على أكثر من جبهة ، خاصة الجبهة الفكرية التي اعتبروها من أهم الجبهات في نضالهم وجهادهم ذاك ، ولولا هذا الجهاد المتواصل لظلت الساحة الفكرية في العراق نهبا للأفكار الغيبة التي حاول مريدوها تغيب الحقيقة عن الناس فيه من خلالها ، وبطرق ملتوية ، ومتعددة ، خاصة ذاك الممر الذي يعتقد البعض في العراق اليوم أنه يفضي الى السماء عن طريقه هو ، وليس غيره ! وبالإضافة الى كل ما تقدم يظل الكتاب النافع في العراق ، الذي حاول صدام الساقط حجبه عن الناس على مدى سنوات حكمه السوداء ، أخطر أعداء الرجعيين فيه ، بينما يظل هو ذاته أقوى سلاح بيد التقدميين الذين يحتفلون اليوم بالذكرى المجيدة الثانية والسبعين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي الذي رحل أعضاؤه ومناصروه بالثقافة والكتاب من رفوف المكتبات ، والى ضفاف المعدمين من العمال والفلاحين في مدن العراق ، وفي أريافه القصية التي كانت ما عرفت القراءة والكتابة بعد .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النهج الأمريكي الجديد !
-
إبن فضلان والعودة الى بغداد !
-
الشيطانان يلتقيان !
-
قصيدتان : السؤال وغزل
-
الشهواني يلوح بحظر منظمة بدر كمنظمة إرهابية !
-
العراق والحرب الأهلية !
-
الجعفري عاد من تركيا دونما توديع !
-
انتصرت أمريكا وخسرت إيران !
-
مضحك من مضحكات الوضع في العراق !
-
القراصنة (Vikingarna )
-
فرق الموت الصولاغية !
-
إيران بدأت زج الشيعة العراقيين في معركتها مع الغرب !
-
الأخبار في طوق الحمامة 3
-
الجعفري بمشيئة إيران الى رئاسة الحكومة في العراق ثانية !
-
الأخبار في طوق الحمامة 2
-
- الأخبار في طوق الحمامة - 1
-
مرام تجسيد للوطنية العراقية ونبذ للطائفية والعنصرية !
-
العراقيون : هجرة أخرى الى دول اللجوء !
-
نديم الجابري : الوزارة أم الموت والانسحاب !
-
نديم الجابري : الوزارة أم الموت والانسحاب* !
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|