أنس نادر
(Anas Nader)
الحوار المتمدن-العدد: 5964 - 2018 / 8 / 15 - 07:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كيف يمكن أن يكون للإله علاقة مباشرة مع الجنس, أي مع الغريزة الحيوانية للبشر, على الرغم من أنه يمثل الحالة الروحية والمعنوية للحياة, ومهما اختلف التصورات حول ماهية نزعة الإنسان للتدين سواء كانت منعَكس معنوي للوعي, أو شعور أوقيانوسي نشأ في مراحل تشكل الأنا البدئية في الطفولة وتجليات مبكرة لرموز الأب كما يقول فرويد مؤسس التحليل النفسي, أو تراكم ثقافي رسخته الحضارة في ثقافة البشر الروحية, فإن كل هذه المذاهب الفكرية حول الدين والله تبقى ذات بعد معنوي وهاجس نفسي وروحي ولا تلتقي مع الغرائز الحيوانية للبشر. وبالتأكيد أيا يكن رافضا للتدين لا يكون بالضرورة رافضا للإله, فهو يبقى ضمن محظورات ومحرمات نفسية واجتماعية ليس من السهل المساس بها. ولكن نود القول هنا أن هناك ثمة علاقة تقاربية وانعكاسية في نفس الوقت تسود العلاقة بين التوق للسماء وللجسد على حد سواء, بكون السماء رمزا للانتماء الروحي العميق والملاذ الوجودي للوعي والغاية المعنوية للحياة والتجاوز المعنوي لحقيقة ورهبة الموت, ويمثل الجسد بالمقابل هواجس واضطرابات الواقع والسعي للظفر باللذة وتجسيدا لغريزة ودوافع الحياة والخوف من الفناء. وبين هذا وهذاك تمخضت التجاذبات النفسية عن كل هذا الإرث الثقافي للبشر من فنون وفلسفات وعلوم وتاريخ انساني بكل ما له من حقيقة قاسية ووهم جارف ليعبر عن نوازع النفس البشرية. ونعتقد أن هذه التجاذبات بين الروح والجسد ان جاز التعبير كانت وليدة تصدعات الصدامات النفسية لاحداهما على الأخرى وبالتالي أفرزت المحظورات الأخلاقية والثقافية أثرها الفتان في تشوهات الحضارة.
إن التكوين الجسدي للإنسان ذو الغرائز الحيوانية أو بالتحديد غريزته الجنسية, تشكل كل رموز ودوافع الحياة الواقعية, وكلما كانت هذه الدوافع والرغبات الجسدية حرة وبدون قيود تكبل شغفها ورغبتها, كلما شعر الإنسان بابتعاده وانسلاخه عن الطبيعة والغاية المعنوية لوجوده المتجذرة في وعيه, والتي تغازل رموز البقاء والخلود في أعماقه. لذلك فقد أخذت الطبيعة المعنوية والروحية في ثقافة البشر رموز الضد في نفس وعقل الإنسان مقابل دوافع الحياة المتمثلة بغرائزه, فكان لا بد لتكوينه وطبيعته النفسية والعقلية أن تبتدع وتخلق جميع القيود والمحرمات والأنماط الأخلاقية التي عرفناها لكي تكبح جماح غرائزه وتكبل دوافعه وشغفه لإشباعها, لكي تتيح له أكبر قدر من التلاشي المطلق بالغاية المعنوية لوجوده, وبإحساسه العميق بالتماهي المطلق مع الطبيعة المعنوية للمحيط الكوني والوعي الغامض المنبثق عنه أي الإله ومانتج عنه من فكر ديني, وجراء هذه العلاقة بين وعي الإنسان وغرائزه, نشأ في المقابل صراع يتمحور حول لذة الوعي المعنوية ولذة الجسد المادية, وكان هذا الأشكال الأولية والبدائية لما ندعوه الدين.
وإذا عدنا لمعنى الأسطورة وأسفار التكوين في جميع الحضارات والثقافات منذ أسفار التكوين السومرية وحتى وصولا إلى الديانات السماوية, فلم تتغير كثيرا بالواقع الملامح بين الأسطورة والدين من ناحية الدلالات النفسية. فسنشاهد غالبا وصف الإنسان كيف كان يقبع هو وزوجه في الجنان الخضراء حيث السلام الأبدي والصفاء الذهني والانسجام, حتى أغرته الأنثى لكسر المحظورات الإلهية, فتناول آدم ثمرة الخطيئة التي منعته عنها الآلهة, وجراء ذلك أدرك الزوجان الإختلاف الجوهري في تكوينهما الجسدي حيث بانت لهما أعضاءهما الجنسية وأدركوا رغبتيهما أحدهما للآخر, فغضبت عليهما الآلهة وأرسلتهم إلى الأرض حيث الشقاء والمعاناة في السعي لإرواء الرغبات الجسدية.
وهنا يتصور لنا بوضوح عالم الراحة والسعادة والانسجام في أعماق الإنسان بعيدا عن الرغبة والغريزة الجنسية, أو بالواقع خارج جسده الذي عبر عنه بإلغاء الغرائز والرغبات في الجنان الفسيحة, وعندما تعرف الإنسان على جسده وغريزته, أخذت الغريزة دور الضد الشرعي لعالمه وسعادته خارج الغريزة أو خارج الجسد,
ونرى هذا بوضوح أيضا خلال وصف الإنسان لعالمه الروحي بالأسطورة حيث يصور لنا كيف أن لذة ومتعة الحياة في السماء كانت أعظم بكثير منها بعد أن نفي إلى الأرض, أو أن العالم الأرضي كان رمزا للشقاء والمعاناة والنفي من رغد الحياة الحقيقية, وهذا يشير إلى التفوق السيكولوجي في النفس البشرية للذة الوعي المعنوية على لذة الغريزة في جسد الإنسان. وبذلك كان على الفطرة الأقوى معنويا أو ماديا أن تقمع وتكبح جماح نظيرتها وتلحق بها القيود الشديدة كردة فعل طبيعية لمحاولة للعودة إلى الفردوس والنعيم.
ولم تكتفي طفولة العقل البشري والإنسانية المبكرة بإخبارنا عن صراع الإنسان الداخلي بين ادراكه للقيمة المعنوية لوجوده وسطوة جسده والغريزة الجنسية على كينونته, بل أيضا لحق غضبه جميع رموز الجسد و الرموز المادية التي أقلقت سكينة روحه ووعيه خارج الجسد وأودت به إلى عالم الأرض والحيوان, فبعد أساطير أسفار التكوين نرى سلسلة طويلة من أساطير الطوفان في معظم ثقافات الحضارات القديمة, كالطوفان السومري والبابلي واليهودي وغيرهم, ثم تأتينا أساطير الدمار التي لا تقل هلعا ورهبة عن أحداث الطوفان. ولكن هذه الأحداث المدمرة لم تفني بني الإنسان, بل كانت تتوقف قبل أن تقضي على الحياة قضاء مبرما, وذلك لأن أحلامه بالخلاص لن تتحقق بالعودة إلى الأصل فكان لابد له أن يُبقي على النوع من أجل البقاء والاستمرار.
ويندرج ما قلناه من ناحية التوازن لشخصية الإنسان بين وعيه المعنوي وبالتالي توقه للتدين والرغبة الجنسية لهذا المبدأ تماما, حيث تسلك النفس البشرية الطريق الأسهل لبلوغ المتعة والراحة الذي اتخذته في عالم الفردوس بعيدا عن آلام الواقع من جهة, ولتجنُب الألم الكامن في الحياة الأرضية والواقعية المثقلة بأعباء السعي لإشباع الرغبات والغرائز من جهة أخرى.
فإن الجسد والحياة الواقعية هي مصدر الألم, ومبدأ اللذة هو سعي الإنسان المستمر للمواجهة والخلاص من هذا الألم, أما الوعي الذي دعوناه الوجود المعنوي والذي تمثل في طفولة النوازع البشرية بالرموز البدائية للإله, فهو بعيد كل البعد عن أي مصادر للألم, بل على العكس تماما فكل المحظورات الجسدية التي أنزلها الإنسان بنفسه كانت بسبب أن جسد الإنسان شكل قوة ورغبة مادية حاولت أن تسلبه متعته الواعية واللذة المطلقة بالاستسلام لعالم الغيب, وكان الصراع بين هاتين الغريزتين المعنوية والمادية وفق مبدأ اللذة الذي سيسلك الطريق الأكثر إشباعا له والأقصى بعدا عن الألم. فالألم يكمن بالواقع وبالقفص الجسدي للإنسان فيسقطها على نفسه بحرمان جسده من اللذة والمتع الغريزية وذلك بجميع أشكال المحرمات الدينية والثقافية التي أنزلها بجسده, ويسقطها من ناحية أخرى على جسد الغير بإظهار تلك الرغبة التدميرية والعدائية التي سعت بالإنسان والتاريخ البشري إلى ارتكاب كل هذه الفظائع وأشكال الدمار في ثقافته للتعبير عن رغبة الإنسان في الإرتداد للحالة الوجودية المعنوية في كيانه.
إذا أنه من الطبيعي جدا حسب ماورد أن يعاقب الله بشكل دائم الجسد وينزل به أشد العقوبات والمحظورات والمحرمات في تخيل الإنسان للعالم, وبالتالي مهر ثقافته بكل هذه الدماء والعدائية تجاه نفسه والآخرين. وفي الواقع لا يمكن للجسد اشباع غريزة الحياة والمضي بها إلا من خلال تخفيض الرمز الديني في ثقافته, فكلما ازدادت وتيرة التدين والابتهال الى الله ازادت معه المحظورات والمحرمات على حرية الجسد والغريزة الجنسية التي هي المحرض والدافع الأساسي للحياة وبالتالي تؤدي هذه الطاقة المكبوتة إلى رفع حدة السلوك الحانق للثأثر من الجسد ومن الحياة نفسها, والتي عبر عنها التاريخ الديني خصوصا والإنساني عموما بكل هذا العنف الغير مشرف في ثقافة الحضارة.
#أنس_نادر (هاشتاغ)
Anas_Nader#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟