سعيد رمضان على
الحوار المتمدن-العدد: 5951 - 2018 / 8 / 2 - 09:58
المحور:
الادب والفن
محمد السنوسي الغزالي مبدع ليبي ، تطالعنا أعماله بكثير من الصدق والوعى بأحوال عصره وفى حكايته تلك ( ليلة حزن في قصر الوالي ) يتألق هذا الوعي بشكل خاص، وقبل الدخول لتحليل الحكاية ، نحب أن نشير إنها ليست تاريخية ، فلا هي تجمع بين شخصيات واقعية وأخرى متخيلة، أو تضمن وقائع تاريخية ، ثم إنها ليست إسقاطا سياسيا بالمعنى المتعارف عليه، فهي لا تأخذ تراث الماضي وتسقطه على الحاضر، لأن الحكاية بقصتها وشخصياتها وأحداثها متخيلة بالكامل ، فأسماء مثل الوالي والوزير والإماء والعبيد والجواري، هي أسماء عامة ، لا توجد أسماء خاصة تاريخية ، ولا وقائع أيضا تاريخية يمكن تحريكها من اجل هدف الحكاية ، فالجانب المتخيل هنا ساد تماما.
ومن الغريب أن الحكاية تضمنت نقدا لسلبيات معينة في التاريخ والتراث، وهذا النقد يمكن أن يمتد ليشمل سلبيات معينه في الواقع الحاضر .
فإذا كان الأدب التاريخي عموما ( قصة / رواية / مسرح ) ينظر إلى الماضي من خلال القضايا المعاصرة ، فأن هذه الحكاية أثناء تضمينها نقدا لسلبيات تاريخنا الماضي ، فهي تؤكد أن تلك السلبيات مازالت تعشش في واقعتا المعاصر .
وإذا كان والى حكاية السنوسي بلا اسم خاص هو ( والى ) وكذلك الوزير وباقي الشخصيات .
فيمكننا تبعا لذلك أن نضع هذا الوالي في أي عصر وكذلك الوزير، والإماء والجواري والعبيد يمكن إدراجهم في كل العصور حتى عصرنا الحالي.
وباستطاعتنا أيضا مد مساحة الأدراج إلى المكان، لأن المكان هنا محدد ( قصر ) دون ذكر مدينة معينه كالقاهرة أو بغداد أو غيرها من تلك المدن التي عرفت القصور والسلاطين والجواري والعبيد .. والقصر وجد في الماضي كما هو موجود في الحاضر .
وبذلك تكون الحكاية امتدت في الزمان كما امتدت في المكان.. وهذا الامتداد سمح بأتساع المساحة النقدية .
وإذا كانت المساحة النقدية في الحكاية، اتسعت في المكان والزمان ، كاتهام لسلبيات تاريخنا الماضي والحاضر أيضا ، فأن الحكاية حرصت على عدم قطع الروابط بتراث الماضي ، بل صنعت نسيج يربطها بهذا التراث من خلال الأسلوب وطريقة الحكي ، بحيث بدت الحكاية كأنها تشبه إحدى حكايات ألف ليلة وليلة وهو ما يشير لثلاث أمور :
الأول :أن ذلك النسج بتراث الماضي يدل على وعى ، فالرفض ليس كليا وشاملا
الثاني : انه يدل إننا محكومين بماضينا .. والسلب فيه متمكن تماما من الحاضر .
الثالث : أن الحكي بأسلوب قريب من أسلوب التراث هو نوع من التماهي مع المبدع الشعبي مستهدفا النفع العام عبر التحرير من خلال الكشف عن الفساد .
الرابع : الربط بين الشفاهي والكتابي في الأدب العربي كتأكيد على أصالتنا القومية أمام موجة التغريب التي تواجهنا .
ولندخل ألان والبحث عن الدلالات في تلك الحكاية العجيبة التي أثارت كل ذلك ، فكأنها فعلا حكاية من ألف ليلة وليلة، تولد حكايات وتتفرع منها حكايات ، وما أن ندخل حتى تنفجر السخرية في وجوهنا :
(حضرة الوالي وضع الرجل اليمنى على الرجل اليسرى..( فاعلموا !) و( انتبهوا!)
وقد علمنا وانتبهنا ... فأي والى أو سلطان أو ملك أو رئيس أو حتى مدير مصلحة صغيرة مغمورة في أقاصي عالمنا العربي السعيد ، عندما يتحرك ولو حركة بسيطة فنحن نعلم ونقف وننتبه .. وبعد السخرية يبدأ النقد :
( .وكانت الحاشية ..من وزراء وتنابلة وإماء وعبيد وماسحي الجوخ والسبابيط )
ومن المعروف أن الحاشية تتكون من وزراء .. لكن أن تتكون من تنابلة وإماء وعبيد وماسحي الجوخ والسبابيط .. فأن الأمر يستحق وقفة،. فكيف جمع الوالي حوله هذه الحاشية العجيبة ؟
أليس المفترض أن يكون إلى جانب الوزراء بعض العلماء والحكماء ؟ أي أصحاب الخبرة والمعرفة بدلا من تلك الحاشية التي تعيش وتأكل كالتنابلة وتطيع كالإماء وتتصرف كالعبيد، وتتمسح في السلطان بالزيف والخداع ؟
ثم يعود النص إلى السخرية :
(اتكأ والتفت ذات اليمين ثم ذات الشمال. ثم غير وضع رجليه ( فلا تنتبهوا ولا تعلموا!) ،)
ويمهد الكاتب للحدث العظيم .. هو لا يفجعنا به مرة واحدة .. بل تدريجيا بقوله :
( فالوالي كان ممتعضا ، شحوبا ، اصفر السحنة ، متقلق ، كمن تكالبت عليه نوائب الدهر ...)
وبدا لنا من أحوال الوالي أن غزو البلاد تم ، وانهارت حضارتها كما انهارت الحضارة العربية في الأندلس .. ويتأكد لنا هذا الظن عندما نطالع أحوال الوزير :
( الوزير تنحنح في حضرته وهو واقف عليه مثل كل واقف!! وأراد أن يجرب عقيرته !! مُحاولا الإيغال في مداخلة لا يعرف من أين يبدأ فيها !! ولكنها مداخلة فيما يبدو إنها للتخفيف من وطأة الحزن على حضرة الوالي ، فتكسر حِدة الصمت ، وتدخل البهجة إلى قلب ولى نعمته )
الأمر صعب وشديد ومؤكد إن الكارثة وقعت والبلاء نزل وضاعت البلاد .. لكن النص يفجر السخرية التي تتبدى لنا كمأساة عندما يقول الوزير :
( - لا ترعوى مولاي الوالي.. لا تبتئس ولا تفكر.. فداك كل العبيد والإماء!!إنه عبارة عن عبد زنيم ، ثمل ، ترنح في أرجاء القصر من فيض حبورك(!) )
أن الحكاية التي تتفتح بالخوف والقلق والسؤال عن الأوضاع والأحوال ومصير البلاد وعما ينتظر الوالي من جراء ما نظنه انهيارا بسبب غزو خارجي أو وضع سياسي شديد التعقيد أو مجاعة .. إلى غير ذلك من أنواع البلاء التي تؤدى إلى الانهيار ، هي نفس الحكاية التي تؤكد لنا أن الانهيار تم والمجاعة حدثت والضعف ساد بسبب فساد داخلي .. وان من يمتلكوا زمان الأمور انحدر تفكيرهم ، واصبح منحصرا في ذواتهم وملاهيهم وملذاتهم .
ومن هذه النقطة ندرك أن النص ليس نصا تاريخيا ، وليس تراثا تم إسقاطه على الحاضر ، لأنه يتوغل في الزمان والمكان ، مركزا فقط على الحدث فهو محوره الوحيد .
والحدث الظاهر يتعلق بموت أحد العبيد في جناح الجواري بقصر الوالي ومن خلال الحوار والبحث عن أسباب موت العبد في ذلك المكان بالذات يكشف النص عن مدلولاته وأهمها :
المدلول الأول : أسباب الفساد الداخلي
المدلول الثاني : تراث السلطة وتراث المعارضة
والفساد الداخلي أوضحناه ، عندما يصبح تفكير الوالي منحصرا في شخصه وليس في الذات الكلية والعامة أي الشعب والوطن ... ويحيط نفسه بحاشية فاسدة تعينه على الفساد ، وهذه الحاشية تجعلنا نتوجه ناحية المدلول الثاني، أي تراث السلطة وتراث المعارضة ، حيث يمتنع وجود أي معارض أو صاحب ضمير في حاشية الوالي الفاسدة .
ومع استمرارنا مع الحكاية والبحث عن أسباب موت العبد نكتشف ذلك :
(- ربما كان يريد التسلل إلى حجرة الخزانة ( قال الوزير) لان بابها من داخل جناح الجواري يا مولاي!! )
وفى مقطع أخر :
(إن هذا العبد كان دائما يظن أن باحة القصر في الشارع !! وان القصر – عافاكم الله – حظيرة تظم الخيل والحمير والبغال.. )
يكشف المقطعين عن ( حكاية قديمة ) ممتدة للحاضر , أو حكاية حاضر سطر بأسلوب ماضي , مال الشعب وخيرات الوطن لا يتم استخدامهما للنهوض بالأمة بل من اجل الملذات , باب حجرة الخزينة لا يفتح من حجرة العلوم , أو حجرة الابتكار أو حجرة التنمية أو حجرة الطب , بل من حجرة الجواري ونكتشف في العبد ( الأبق ) أو العبد ( الغبي ) انه ليس عبدا , بل رجلا حرا, ثار على الوضع وواجه الموت , لقد خسر حياته , لكنه لم يمت عبدا , بل حرا حقق شيئا ما .. ربما لنفسه ..
نكتشف من ناحية أخرى معنى تراث السلطة وتراث المعارضة :
فالسلطة تواجه المعارضة ليس بالحوار الهادف , بل بالنفي مثل :
( العبد الأبق ) ( العبد الغبي ) وأيضا بالحديد والنار .
وليس أمام المعارضة أمام هذا النفي المستمر سوى عمليه التفاف بمحاولة التخلص من الوالي بالاغتيال وليس عن طريق تداول السلطة , لأن تداول السلطة غير متوفر .. فيتم النفي بالنفي .. فتنفى السلطة المعارضة بقولها ( العبد الأبق .. الخ ) كما أشرنا .
وتنفى المعارضة السلطة بقولها :
( وان القصر – عافاكم الله – حظيرة تضم الخيل والحمير والبغال )
ينتج من ذلك أوضاع مرضية وضبابية ميؤوس منها يتربص فيها الكل بالكل , ويخاف فيها الكل من الكل وهاهو حوار كاشف :
(- ربما كان يريد سرقة شيء أخر غير المال!!
- حفظ الله حريمكم( قال الوزير) لا أظن انه يتطاول ..
- أيها الغبي الأحمق( قال الوالي) لا اقصد حريمي.. بل اقصد رأسي؟؟ رأسي وليس حريمي أو خزانتي!!)
تكشف القصة أيضا عن رجال السلطان وطبيعتهم : المداهنة والمداراة فيقول الوزير :
( لا ترعوى مولاي الوالي.. لا تبتئس ولا تفكر. .فداك كل العبيد والإماء! )
والمفترض لخير الأمة أن تتم المصارحة لإصلاح الحال , لكن رجال السلطان لا يهمهم إصلاح الحال بل حفظ المراكز و الرؤوس , ورحم الله العبد المسكين الذي لم يهتم برأسه مثل الوزير .. الذي أضاع هو والوالي وأمثالهم رؤوس الجميع مع خيرات ومقدرات الوطن
***********
#سعيد_رمضان_على (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟