لم يكن الحجاب في المؤسّسة الإسلاميّة النّاشئة مجرّد ثوب يغطّي جسد المرأة. فالحجب التي تتّخذ من قماش، الحجب باعتبارها أثوابا تغطّي لم تكن سوى تجسيد لمؤسّسة الحجاب، أي للفصل المؤسّسيّ بين فضاءين: فضاء خاصّ تلزمه المرأة، وفضاء عامّ يتحرّك فيه الرّجل. هذا الفصل كان صيغة تاريخيّة للعلاقات الاجتماعيّة بين الجنسين أسّستها أو دعّمتها دينيّا الآية 53 من سورة الأحزاب، وقد سمّيت "آية الحجاب" وتعلّقت بزوجات النّبيّ: "...وإذا سألتموهنّ متاعا فاسألوهنّ من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ." (الأحزاب/53) فالحجاب هنا حاجز فضائيّ، وفاصل بين مجالين اجتماعيّين.
وتؤكّد الأسباب المفترضة لنزول هذه الآية على فضائيّة مفهوم الحجاب، فهو يتعلّق بخروج أو عدم خروج النّساء من بيوتهنّ وبدخول أو عدم دخول الرّجال من غير المحارم عليهنّ، يقول ابن كثير (ت774/1373) في "تفسير القرآن العظيم" : وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَخِي اِبْن وَهْب حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْد اللَّه بْن وَهْب حَدَّثَنِي يُونُس عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : إِنَّ أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِع وَهُوَ صَعِيد أَفَيْح وَكَانَ عُمَر يَقُول لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُحْجُبْ نِسَاءَك. فَلَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَفْعَل فَخَرَجَتْ سَوْدَة بِنْت زَمْعَةَ زَوْج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ اِمْرَأَة طَوِيلَة فَنَادَاهَا عُمَر بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى : قَدْ عَرَفْنَاك يَا سَوْدَة، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِل الْحِجَاب. قَالَتْ : فَأَنْزَلَ اللَّه الْحِجَاب. هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة..."
وينجرّ عن هندسة الفضاء الاجتماعيّ هذه مراقبة لفعل الخروج الذي تقوم به النّساء، وحجب لأجسادهنّ يترجم أو يدعم الحجاب الفضائيّ، وهو ما يظهر في آيات الحجب التي لم تكن خاصّة بزوجات الرّسول، بل وجّهت إلى عامّة النّاس، ومنها الآية 59 من سورة الأحزاب: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا". ويفهم من تفسير هذه الآية أنّها خاصّة بالحرائر من النّساء، وأنّ الغاية من فرض الجلابيب هي التّمييز الطّبقيّ بين الحرائر والإماء: "يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ" جَمْع جِلْبَاب وَهِيَ الْمُلَاءَة الَّتِي تَشْتَمِل بِهَا الْمَرْأَة أَيْ يُرْخِينَ بَعْضهَا عَلَى الْوُجُوه إذَا خَرَجْنَ لِحَاجَتِهِنَّ إلَّا عَيْنًا وَاحِدَة "ذَلِكَ أَدْنَى" أَقْرَب إلَى "أَنْ يُعْرَفْنَ" بِأَنَّهُنَّ حَرَائِر "فَلَا يُؤْذَيْنَ" بِالتَّعَرُّضِ لَهُنَّ بِخِلَافِ الْإِمَاء فَلَا يُغَطِّينَ وُجُوههنَّ فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَعَرَّضُونَ لَهُنَّ "وَكَانَ اللَّه غَفُورًا" لِمَا سَلَفَ مِنْهُنَّ مِنْ تَرْك السِّتْر "رَحِيمًا" بِهِنَّ إذْ سَتَرَهُنَّ. (تفسير الجلالين) وفي الآية 33 من سورة الأحزاب نهي عن التّبرّج، وفي الآية 30 من سورة النّور أمر بعدم إبداء الزّينة إلاّ ما ظهر منها، وبضرب الخمر على الجيوب.
هذا فيما يخصّ الحجاب وملابساته التّاريخيّة، وعلاقته بطبيعة المجتمع الذي نزل فيه القرآن. وقد سارت المنظومة الفقهيّة في اتّجاه التّضييق على المرأة، ودعم الفوارق الجنسيّة والطّبقيّة، وتكريس الأدوار الجندريّة، فهي منظومة تمييزيّة تقوم على هرم اجتماعيّ أعلاه الرّجل وتليه المرأة، ثمّ العبد ثمّ الأمة ثمّ الطّفل والمجنون، وتقوم على مبدإ القوامة الذي يمنع المرأة من كلّ رئاسة وإمامة، ويجعل الزّوج رئيسا عليها في المجال البيتيّ، ويجعل الزّواج "نوع رقّ". بل نلاحظ لدى عامّة الفقهاء والمفسّرين والوعّاظ نزعة تدريجيّة إلى تشديد الحجب تظهر مثلا في منع النّساء من الصّلاة بالمساجد بعد أن كنّ يصلّين بها في عهد النّبيّ، وتظهر في نهيهنّ عن دخول الحمّامات، ونهيهنّ حتّى عن زيارة القبور. كما تظهر في تفنّنهم في الحجب تفنّنا سمّوه "تفريعا مليحا"، فنهوا مثلا عن إدخال القرود الدّور التي فيها النّساء خوفا من فتنة النّساء بالقرود، وأمروا النّساء بأن "يتحجّرن كالحيّات" ويتحيّلن في تقبيح أصواتهنّ إذا خاطبن الرّجال: "...قول الزّبيديّ : أخذ على النّساء ما أخذ على الحيّات، أن يتحجّرن في بيوتهنّ. وبلغني عن امرأة من القدماء أنّه كان إذا طرق عليها الباب، وليس عندها أحد وضعت يدها على فمها، وتكلّمت ليخرج كلاما منزعجا لا يفتن". (ابن الجوزيّ، أحكام النّساء)
ولا شكّ أنّ العلاقات بين الرّجال والنّساء كانت أكثر تنوّعا وتعقّدا ممّا توحي به هذه المعطيات الرّمزيّة التّأسيسيّة، إلاّ أنّ هذه المعطيات كانت لها دور فعّال في هيكلة الذّوات وتحديد مجال الممكنات الاجتماعيّة. وهذا ما يفسّر أهمّيّة السّفور في معركة التّحديث التي شهدتها المجتمعات العربيّة. فقد كان التّحديث في أحد أهمّ معانيه توقا إلى السّفور والخروج من الحجاب، تساوق مع محاولة فتح لأبواب الاجتهاد في الأحكام الفقهيّة. فمنذ النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر هاجم قاسم أمين عزل المرأة المصريّة عن المجال العامّ، وطالب بتعليمها وضمان حقّها في العمل، كما طالب بتحريم تعدّد الزّوجات، وتقييد حقّ الرّجل في الطّلاق، فسانده في دعوته المصلح الدّينيّ محمّد عبده في مناهضة تعدّد الزّوجات وأفتى بإعطاء المرأة حقّ فسخ زواجها نتيجة ضرر. ويمكن أن نذهب إلى أنّ لكلمة السّفور لدى روّاد التّحديث شحنةََ شعائريّة ومفعولا سحريّا، بل ربّما أمكن لنا اعتبارها عنوان مشروع مجتمعيّ لدى المثقّفين المصريّين الذين جمعتهم جريدة تحمل اسم "السّفور"، تأسّست في 15 مايو 1915، وكتب فيها لطفي السّيّد، وطه حسين، ومنصور فهمي، وعلي عبد الرّازق، أحمد أمين، محمّد تيمور... وكانت تدعو إلى السّفور بالمعنى الشّامل: "سفور المرأة، والسّفور في كلّ أبواب التّقدّم والصّلاح"، وكانت ترى أنّ "المرأة ليست وحدها المحجبة في مصر، ولكن نزعات المصريين وفضائلهم وكفاياتهم ومعارفهم وأمانيهم كلها محجبة." وعندما ظهر كتاب نظيرة زين الدّين "السفور والحجاب" سنة 1928 كتب مدافعا ومتفائلا، أو ربّما مبالغا في التّفاؤل: "إنّي لأحسب مصر قد اجتازت بحمد الله طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، فلست تجد بين المصريين إلا المخلفين منهم من يتساءل اليوم عن السفور هل هو من الدين أم لا، ومن ضروريات الحياة الحديثة، أم لا، بل نجدهم حتى الكثير من الرجعيين المحجبين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص لحياة المدنية عنه… أما إخواننا السوريون فيلوح أن للسفور والحجاب عندهم تاريخاً غير تاريخه في مصر، فهم لم يتجاوزوا بعد طور البحث النظري الذي بدأه بيننا المرحوم قاسم أمين منذ أكثر من عشرين سنة، ولكنهم على ذلك يسيرون معنا جنباً إلى جنب في الطور الجديد الذي نسير فيه، طور السفور الفعلي الكلي الشامل" .
كان في التّحرّر شيء من أفعال التّعرية والكشف. وكان في محاولة الإصلاح شيء من فتح المغلق، ومن نفض الرّماد عن المنسدّ. ويمكن أن نذكر بعض الوقائع المشهودة التي يتمّ فيها نزع الحجاب باعتباره فعل تحرّر من عهد الحجاب بمعنيي الغزل وتغطية الجسد:
* قصّة "قرّة العين"(1814-1852) التي اعتنقت الدّعوة البابيّة، وأخذت تدعو فيما بين إيران والعراق إلى نسخ الشّريعة الإسلاميّة، وتبديل تعاليمها، وهجرت زوجها. وفي مؤتمر البابيّين الذي انعقد سنة 1848 قرب خراسان، فاجأت المجتمعين "وهي تدخل عليهم سافرة الوجه متزيّنة وكان هذا على خلاف عادتها إذ كانت قبلئذ متمسّكة بالحجاب الشّديد على طريقة النّساء في زمانها، وكأنّها أرادت بعملها هذا أن تنسخ حكما من أحكام الشّريعة هو تحريم التّبرّج الذي نزل به القرآن." وقيل إنّ ممّا جاء في خطبتها: " ... ومزقوا هذا الحجاب الحاضر بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالاعمال، وتقاسموهن في الافعال واصلوهن بعد السلوة واخرجوهن من الخلوة الى الجلوة، فماهن الا زهرة الحياة الدنيا..." (علي الوردي، هكذا قتلوا قرّة العين).
قتلت قرّة العين في نطاق الحملة التي شنّت على البابيّين، فقيل خنقت ثمّ أحرقت جثّتها، وقيل إنّ الشّاه أمر بإلقائها في بئر، ثمّ ألقيت فوقها حجارة ضخمة وهيل عليها التّراب... ونسيت عمليّة التّحديث الجذرّ الذي أتت بها الدّعوة البهائيّة، فهي لا تذكر في الحديث عن النّهضة وروّادها، سرعانما اعتبرت فرقة هامشيّة غير معترف بشرعيّة وجودها.
*وفي القرن العشرين عندما عادت هدى شعراوي (ت1947) إلى مصر عقب ثورة 1919، واستقبلها جمع من النّساء بميناء الإسكندريّة نزعت نقابها لتلوّح لهنّ به، ثمّ ألقت به في البحر قبل أن تنزل إلى الشّاطئ.
*في الانتفاضة التي عمّت البحرين سنة 1965، أحرقت المتظاهرات العباءة السّوداء رمز العزل والميز الجنسيّ.
*وإلى اليوم يتواصل شيء من معركة السّفور هذه في يوم 6 نوفمبر 1990، أثناء المظاهرة التي قامت بها حوالي خمسين امرأة سعوديّة مطالبة بحقّ اقتيادهنّ السّيّارات، تخلّصت بعض المتظاهرات السّعوديّات من عباءاتهنّ الفضفاضة، ولذلك اتّهمن بالتّذرّع بقيادة السّيّارات من أجل التّبرّج وترك لباس الإسلام.
وفيما انهار الحجاب بالمعنى الفضائيّ المؤسّسيّ، وخرجت النّساء من عزلتهنّ البيتيّة، فأخذ عدد النّساء العاملات يتزايد، وعدد المتعلّمات يتضاعف، تأكّد مفهوم الحجاب بمعنى الغطاء، وظهرت مركّبات لباسيّة تسمّى بـ: "اللّباس الشّرعيّ" أو الزّيّ الإسلاميّ، وهي تنقسم في رأينا إلى قسمين أساسيّين:
1- الحجب التي تغطّي كامل جسد المرأة، وهي في الغالب امتداد لأثواب تقليديّة هي النّقاب أو البرقع بأشكالهما المختلفة، والعباءات الفضفاضة السّوداء كما في مدن الخليج. هذه الحجب الكاملة هي التي يدعو إليها الوهّابيّون السّعوديّون ويدعو إليها الدّاعية الباكستانيّ أبو الأعلى المودوديّ. ولكنّنا نجد دعوة إليها في الكثير من مواقع الأنترنيت، منها موقع WWW. MUTTAQUN.COM
2- ما يسمّى بالخمار، وهو غطاء للرّأس والنّحر دون الوجه، يسدل على ثوب فضفاض. وهو الذي يحظى بتأييد شيوخ الإفتاء من السّلفيّين والسّلفيّين الجدد. فهم يدعون عموما إلى تغطية كامل جسد المرأة باستثناء الوجه والكفّين، شريطة أن يكون الوجه بلا زينة. والخمار مختلف في الشّكل واللّون وطريقة الاستعمال والوظيفة عن الحجب التّقليديّة التي انحسر نطاق استعمالها كثيرا (كالسّفساري والحايك بتونس والملاية بالجزائر...). إنّها حجب "معولمة"، عابرة للقارّات والأقطار، موحّدة بين المسلمات في شتّى البلدان.
نزل حاجز الحجاب، ولكن انتشرت هذه الحجب في كلّ مكان، فهل انتهى عهد الحريم أم لم ينته؟ هل هناك شيء من المجال البيتيّ يبسط ظلاله على الفضاء العموميّ؟ أيّ شعارات غريبة تقولها لنا هذه الأجساد المفرطة الدّلالة؟ أيّ صيغة اجتماعيّة للعلاقة بين المذكّر والمؤنّث تريد ترسيخها؟
أمّا المتنقّبات المتّشحات بالعباءات السّوداء فإنّ وضعيّتهنّ أصبحت وجها من وجوه اللاّمعقول الذي يسري في حياتنا اليوميّة. فلا وجه لهنّ يميّزهنّ بين النّاس، بل لا وجه لهنّ يجعلهنّ من النّاس، فقد قيل إنّ كلمة إنسان مشتقّة في العربيّة من الأنس، وهو في أحد أهمّ معانيه الظّهور، ولذلك تقابل العربيّة بين الإنس والجنّ على اعتبار أنّ الإنس سمّوا "إنسا" لأنّهم يظهرون، والجنّ سمّوا "جنّا" من الجنون وهو الخفاء. فأيّ منزلة باعثة على الجنون لنساء يكنّ إنسيّات في بيوتهنّ، ويتحوّلن إلى أشباح نهاريّة سوداء، جنّيّات ممحوّة في الفضاءات العامّة؟ لا يملكن الحقّ.. في الوجه؟
أمّا حاملات الخمار فلهنّ وجوه تميّزهنّ عن النّاس وتجعلهنّ من النّاس، ولكنّهنّ مع ذلك يحملن علامات تدلّ على المنع، أو على الشّطب، بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة : المشطوب هو ما ألغي وما بقي قائما مع ذلك بإلغائه أو رغم إلغائه. المشطوب مخفيّ ولكنّه ظاهر من حيث هو مخفيّ، ظاهر باعتباره يجب أن يخفى. فما دلالات هذا المنع، أو الشّطب الاجتماعيّة والسّياسيّة، وما هو المشهد المدينيّ الذي ينجرّ عنه؟ هل ننتقل من عهد المرأة المحجوبة إلى عهد آخر، هو عهد المرأة المشطوبة؟ من الحريم البيتيّ إلى الحريم المتنقّل؟ الملاحظ على أيّة حال هو أنّ الدّعوات التي ظهرت في الثّمانينات مطالبة بعودة المرأة إلى البيت لم تنجح، ولكن نجحت إلى حدّ ما الدّعوات الملحّة إلى الخمار.
1- يذكّر هذا الحجب بخطورة جسد المرأة، فهو مصدر إشعاعات دنيويّة فاسدة، مصدر فتنة، والفتنة هي كلّ ما يشغل عن الدّين، كلّ ما يفرّق بين ثنائيّ اللّه والرّجل، خليفته في الأرض. يشير الحجاب مهما كان شكله إلى ضرورة حجب الجسد الأنثويّ قدر المستطاع، ويشير في الوقت نفسه إلى أنّ المرأة جنس أوّلا وقبل كلّ شيء، قبل أن تكون مواطنة أو إنسانا أو شخصا أو جسدا يرفض التّحدّد، أو يبني أنوثته كما يريد، خارج الأنماط الجندريّة المعطاة سلفا. هذه الحجب تكرّس تبعا لذلك قسمة قديمة دعّمت السّلطة الفحوليّة : الرّجل عاقل والمرأة جميلة. ولعلّنا نحتاج اليوم إلى استلهام تجربة جاك درّيدا في تفكيك "مركزيّة-اللّوقوس-القضيب" ويقصد به أنّ آليّات التّفكير الميتافيزيقيّ هي في الوقت نفسه آليّات إقصاء للمختلف ودعم لسيطرة الرّجل على المرأة. فقول الأرسوزيّ في "الأمّة والأسرة": "عقل المرأة في جمالها وجمال الرّجل في عقله(الأمّة والأسرة، ص310) ينبني على وجهة نظر فحوليّة، ولكنّه ينبني في الوقت نفسه على ثنائيّة ميتافيزيقيّة قديمة متجدّدة هي ثنائيّة: المعقول/المحسوس، بحيث يكون الرّجل "معقولا" بالأحرى وتكون المرأة جسدا محسوسا بالأحرى. وإزاء هذا المنطق الذي يلغي الكائن العاقل في المرأة ويلغي الكائن الجميل في الرّجل، يجب أن نغيّر وجهة النّظر، فنذكّر بأنّ الجسد الرّجوليّ ليس بأقلّ جمالا أو فتنة من الجسد النّسائيّ، والمرأة ليست بأقلّ عقلا من الرّجل.
2/لا يمكن أن ننظر إلى الخمر (جمع خمار) بمعزل عن اللّحى (جمع لحية). فاللّحية تعدّ محدّدا للذّكورة له علاقة ما بمبدإ القوامة، لأنّ من الآراء التّفسيريّة ما يجعل اللّحية سببا من أسباب قوامة الرّجال على النّساء، ولذلك يكره نتفها وتعدّ "زينة الرّجال".
تنتشر الخمر واللّحى تعبيرا صامتا عن مشروع مجتمعيّ لعلّ أهمّ ما فيه هو أنّه ردّ فعل على امّحاء الفواصل بين النّوعين الاجتماعيّين وتحرّر الأجساد النّسائيّة من حجبها. وبذلك تكون وظيفة الخمار التّمييزيّة قد تغيّرت من التّمييز بين الحرائر والإماء إلى التّمييز بين النّساء والرّجال في عصر أخذت فيه الفوارق الجندريّة تضطرب وتمّحي.
3/ رغم أنّ النّساء المحجوبات العاملات أو المتعلّمات تخلّصن من الحجاب باعتباره حاجزا فضائيّا، فإنّ ما سمّي بالزّيّ الإسلاميّ يؤول إلى إعادة الحواجز بين الجنسين، يتجلّى ذلك في رفض المصافحة بين الرّجال والنّساء، ورفض الخلوة بغير المحارم، أو في نوع من الاختلاط دون اختلاط... وهو ما يؤكّد الهوّة التي تشطر المجتمع، وتعوق علاقات الصّداقة والزّمالة والاشتراك في المواطنة. ثمّ إنّ هوس الحجب ومنع الاختلاط يفترض لدى الرّجل هشاشة قصوى تتنافى مع مبادئ المسؤوليّة والكرامة. تتحوّل النّساء إلى آلات لإنتاج الفتنة أو إلى فريسات ممكنة للرّجال، ويتحوّل الرّجال إلى كائنات بهيميّة يجب أن تمنع، أن تكفّ أيديها بالأحكام الفقهيّة لا بالوازع العقليّ. الرّجال حسب هذا التّصوّر المهووس بالجنس وبمنعه كائنات مستعدّة للإنعاض وللانقضاض على كلّ جزء من جسد أنثويّ يرى أو يلمس.
4/ الحجب منع، يذكّر بأنّ هذه المرأة حريم، محرّم لمسها والنّظر إليها من غير ذوي المحارم. فهناك شيء من "الأحوال الشّخصيّة" يسري في المدينة، خارج المجال الشّخصيّ. ونعلم أنّ كتلة الأحوال الشّخصيّة هي أقوى حصن من حصون نظام الفحولة لأنّها الضّمان الوحيد لبقاء الأدوار الجندريّة التّقليديّة، بما أنّ القوانين العربيّة تظلّ متمسّكة بفكرة قوامة الرّجل على المرأة، ورئاسته الأسرة، وتظلّ مهووسة بفكرة الشّرف القديمة، وفكرة ملكيّة الزّوج زوجته، وفكرة حفظ الأنساب الأبويّة، وحفظ الانتساب إلى جنسيّة الأب..إلخ رغم كلّ الجهود المبذولة في سبيل تحقيق المساواة، ورغم أنّ أغلب الدّساتير العربيّة تنصّ على هذه المساواة بين الرّجل والمرأة.
وجود علامات الأحوال الشّخصيّة في الفضاء العموميّ تجسّد أزمة العموميّ ذاته، أزمة السّياسيّ ذاته، بما أنّها ترمز إلى التّداخل بين الخاصّ والعامّ، وتدلّ على أنّ الفضاء العامّ رجع الصّدى للفضاء الخاصّ، فكلاهما لم يتخلّص من علاقات الهيمنة الأبويّة. في الدّاخل رجال وحريم، رئيس ومرؤوس، وفي الخارج أيضا.
هذا ما تقوله وتفترضه الرّؤوس النّسائيّة المحجّبة وما يقابلها من رؤوس ملتحية وجباه معلّمة تنتشر في فضاءات المدن العربيّة. ولكنّ ما تشهده المدن العربيّة أيضا هو انتشار ثقافة الحجاب مع انحسار الأصوات المنادية بالسّفور. إذا كنت تتجوّل في شوارع القاهرة، التي شهدت ظهور أقدم حركة نسائيّة في العالم العربيّ، اعترضتك في كلّ مكان عبارة "الحجاب قبل الحساب"، وإذا امتطيت سيّارة تاكسي استمعت إلى فتاوى الشّيوخ في مضارّ التّبرّج، وفي أنّ أكثر أهل النّار من النّساء. إذا قرأت الصّحف العربيّة طالعتك من حين إلى آخر أخبار "الفناّنات المصريّات" المعتزلات" اللاّتي تركن الفنّ ولبسن الخمار ولزمن بيوتهنّ. إذا اتّجهت إلى أكثر الفضائيّات العربيّة رواجا، وجدت شيوخ الإفتاء يبعثون الحياة في فقه متكلّس ويجيبون عن الأسئلة المتهاطلة عليهم من جماهير حائرة متعطّشة إلى آباء رمزيّين يهتدون بهم، إذا دخلت أيّ مكتبة وجدت كتاب "تلبيس إبليس" وكتاب "أحكام النّساء" لابن الجوزيّ، ووجدت معهما كتبا من قبيل "كبائر النّساء وصغائرهنّ وهفواتهنّ"، و"نداء إلى أختي المسلمة"...إلخ. هذيان حجب المرأة يملأ المدن العربيّة.
ويمكن أن نتساءل : لماذا تتكرّر الثّورات ويتكرّر العود على البدء، لماذا يتواصل اعتبار الحجاب راية للأمّة؟ لماذا تبادر النّساء في كلّ مكان إلى وضع أجسادهنّ في أقفاص ملابس تحدّ من حركتهنّ ومن جمالهنّ؟ هل هي العبوديّة المختارة والاستكانة إلى القيود المريحة؟ هل هو الفراغ السّياسي في بلدان يقول عنها "تقرير التّنمية الإنمائيّة العربيّة" لعام 2002 الصّادر عن صندوق برنامج التّنمية أنّ "النّاس فيها كانوا الأقلّ استمتاعا بالحرّيّة على صعيد العالم في التّسعينات الأخيرة"؟ هل هو انتشار الأمّيّة، بما أنّ نفس التّقرير يقول إنّ عدد الأمّيّين من البالغين العرب يصل إلى 65 مليونا ثلثاهما من النّساء؟ هل هي حمّى الخوف من ضياع الأديان، بعد أن انكشف مخفيّها ولامفكّرها؟ هل هو وجه ما يسمّيه فرويد بـ "الإله المظلم" LE DIEU OBSCUR، يطلّ طالبا المزيد من التّضحية دافعا إلى المزيد من التّأثّم ؟ بين الأحجبة التي مزّقت والأحجبة التي أعيدت، ما الذي وقع، أو ما الذي لم يقع؟
العوامل الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة التي تؤدّي إلى حجب المرأة مختلفة، والأطراف الذين ينظّمون هذا الحجب متعدّدون، إلاّ أنّني أفضّل التّركيز على الإشكال التّأويليّ الذي تطرحه علينا اليوم مسألة الحجاب. سأجيب بالأحرى على سؤال "ما الذي لم يقع؟" لأذكّر بالمعركة المؤجّلة دائما : معركة الحرّيّة باعتبارها في الوقت نفسه معركة الفتح الحقيقيّ والجذريّ لأبواب الاجتهاد.
توجد في صلب المؤسّسة الإسلاميّة تركيبة فحوليّة –تيولوجيّة-سياسيّة لا يمكن أن ننكرها وأن نتجاهلها رافعين شعار "الإسلام كرّم المرأة"، كما لا يمكن أن ننكر وجودها في الأديان السّماويّة الأخرى في صياغاتها القديمة كما يفعل رافعو الشّعار المقابل: "الإسلام عدوّ المرأة". لا يمكن أن ننكر اليوم أنّ مبدأ "القوامة" وما ترتّب عنه من وضعيّة دونيّة للمرأة هو أساس هذه التّركيبة، وأساس العلاقات بين الرّجال والمرأة كما تبنيها المنظومة الفقهيّة. إلاّ أنّ العائق الذي يحول دون تحسين وضعيّة المرأة وتحسين النّظر إليها ليس كامنا في هذه التّركيبة في حدّ ذاتها، أو في صياغتها الإسلاميّة في حدّ ذاتها، بل في عدم فتح إمكانيّات التّخلّص منها، بحيث أنّها بقيت بدوالّها الكبرى ونصوصها، بل وتمّ تجديدها، وتحوّلت إلى هذيان جماعيّ منتشر على نطاق موسّع. إنّنا نذهب إلى أنّ هذه التّركيبة الفحوليّة-التّيولوجيّة-السّياسيّة ليست نظاما من الأحكام والقوانين الدّينيّة فحسب، بل قوّة فاعلة، قوّة منع وشطب، وتوسيع لرقعة المنع والشّطب، ومقاومة للمقاومة، مصنع لإنتاج الخوف من المرأة باعتبارها فتنة تفرّق بين المؤمن وربّه. إنّها تقاوم الزّمن وتوجد داخل الأحكام الفقهيّة ولكنّها توجد أيضا إلى جانبها أو خارجها، لأنّ التّيولوجيّ مكوّن من مكوّنات هذه التّركيبة، جزء منها وليس كلاّ. فلا توجد آية قرآنيّة تفرض النّقاب الذي يغطّي كامل وجه المرأة، وإن وجدت آيات تدعو الحجب وتغطية شعر الرّأس، ولا توجد نصوص تمنع النّساء من اقتياد السّيّارات، إنّما يوجد هذا الهوس الفحوليّ الدينيّ المكتسح الذي يمعن في إبعاد المرأة عن الفضاء العامّ ويمعن في اعتبارها مصدر فتنة وفوضى.
فالسّلفيّون قد فرضوا أنفسهم مديرين للمقدّس، وسارعوا منذ العشرينات من القرن الماضي إلى إعادة إغلاق أبواب الاجتهاد بعد أن شرع في فتحها، وسارعوا إلى تفسيق قاسم أمين والطّاهر الحدّاد ومطالبة المرأة بالعودة إلى البيت للقيام بأدوارها التّقليديّة. وظهر في الثّمانينات سلفيّون جدد استعادوا التّركيبة الفحوليّة، إلاّ أنّهم طوّروها وأرادوا الظّهور بمظهر المعتدلين، ووضعوا أقنعة ماهويّة جديدة تغطّي إيديولوجيا الهيمنة الذّكوريّة. فعوض أن يذكّروا بمبدإ القوامة وبأفضليّة الرّجل على المرأة أنتولوجيّا، لجؤوا إلى تبريرات بيولوجيّة عن طبيعة المرأة، ربّما لأنّ التّبريرات التّيولوجيّة المحض التي كانت لامفكّرا فيها تعرّضت إلى هزّات عنيفة، وأصبحت غير مقنعة. لنتأمّل مثلا ما جاء في "فتاوى" متولّي شعراوي من حجج جديدة للدّفاع على الحجاب، إلاّ أنّها قديمة في الوقت نفسه، فهي تكشف عن اختزاله المرأة في الأنثى واختزاله الزّوج أو الرّجل في الذّكر أو الفحل كما تكشف عن احتقاره للمرأة التي تصل إلى سنّ اليأس: يقول: "على الفتاة التي تزعم أنّ الدّين يحجّر عليها في لباسها وفي زينتها وفي حياتها أن تعلم جيّدا كيف أراد الدّين أن يؤمّن شيخوختها في الهرم وعند سنّ اليأس إذ أنّ أوّل صدمة تقع في كيان المرأة عند سنّ اليأس عندما تنقطع عنها الدّورة الشّهريّة، وفي هذه الأوقات، وفي هذه الأوقات الحرجة لمّا تذوي نضارة المرأة ويخبو جمالها نراها محتاجة إلى عطف زوجها وحنانه وبرّه وهي ضعيفة مسكينة، كثيرة التّفكير في المصير المؤلم من ناحية أخرى لأنّها لم تعد تشبع غرائز الزّوج... إذا لم تعد تصلح لإثارة غرائز الزّوج وهي ليست في مستوى الإهاجة ونزل إلى الشّارع فرأى فتاة في خير عمرها، وفي كامل زينتها ورونقها جرت شهوته إلى غمار المقارنة بين ما ينظر في الشّارع وما يراه في البيت وبين هذا وذاك، تتكالب عليه الهموم والحسرات، ولا نعتقد أنّ هذه المقارنة ستسرّ أيّ امرأة". ويصل احتقار الشّعراوي للمرأة التي وصلت إلى سنّ اليأس بعد أن كانت "متبرّجة"، يصل إلى حدّ قوله : "والذي كان يتمنّى أن يحظى بنظرة واحدة لو رآها لبصق عليها."
لا تكاد توجد اليوم ثقافة سفور وفكّ للحجب، وثقافة تحرّر تطالب بحقّ السّيادة على الجسد، حقّ كلّ إنسان في أن يكون جميلا ويظهر في مظهر جميل، حقّ الوجوه والأجساد في أن تتحرّر من عقال الأنماط الجماعيّة المفروضة على كلّ الأفراد. أمّا هذه السّلفيّة التي تخرج القديم في أثواب جديدة فيمثّلها المفتون الشّعبيّين، كما تمثّلها الهيئات الدّينيّة الرّسميّة، وهي التي تفتح أمامها أبواب الفضائيّات العربيّة، وهي التي تملأ السّوق بكتب تنشر ثقافة شعبيّة أخلاقيّة تكرّس هذيان العودة إلى عهد الصّفاء الأوّل. إنّها لا تمثّل خطرا سياسيّا على الأنظمة العربيّة القائمة، طالما لم تدْع إلى التّمرّد أو إلى الإصلاح السّياسيّ، وطالما تقدّم الفتاوى السّياسيّة التي تطلب منها لطمأنة للجماهير أو لطمأنة الرّأي العامّ العالميّ، ولكنّها تمثّل عائقا دون الوعي بقضيّة المرأة، عائقا دون تحرّر أجساد ونفوس الرّجال والنّساء. والمهمّ أنّها هي التي تعوق فتح أبواب الاجتهاد وتتسبّب في مهازل حضاريّة متكرّرة.
فمسألة حجب المرأة ليست إلاّ واحدة من كوكبة المهازل التي نعيشها اليوم : مهازل التّكفير والاتّهام بالرّدّة، ومهازل رجم أجساد الضّعفاء، ومهازل مصادرة الأدب والفنّ ومهازل التّشبّث بأحكام صنعها الفقهاء لمجتمعات تفصلنا عنها مئات السّنين.
ولا نرى سبيلا إلى الخلاص من هذه المهازل دون القيام بإصلاح تيولوجيّ عميق يخلّصنا من اعتبار القرآن نصّا تشريعيّا متضمّنا لقائمة ثابتة من الأحكام، ويمكّنا من التّمييز بين الشّريعة الإسلاميّة والمنظومة الفقهيّة المتآكلة. ويمكن أن ينبع هذا الإصلاح من إمكانيّات وفتوحات نجدها في النّصّ المقدّس ذاته، وسأكتفي بعرضها دون تحليلها :
1/ يميّز القرآن نفسه بين "الكتاب" و"أمّ الكتاب"، فأمّ الكتاب هو الكتاب الإلهيّ المطلق الذي لا يمتلك أحد حقيقته، وهو غير الكتاب بالمعنى الحديث للكلمة، وغير المصحف المتداول بين المسلمين. وتجد من القدامى من لا يعتبر القرآن إملاء من عند اللّه، بل من يرى أنّ "جبريل إنّما نزل بالمعاني خاصّة ، وأنّه (ص) علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب". (السّيوطيّ، الإتقان في علوم القرآن، م1/ج1/126) فلا أحد يمكن أن يدّعي معرفة "كلام اللّه" على وجه اليقين، ولا أحد يمكنه أن يحتجّ بكلّ وثوقيّة بـ"النّصّ الصّريح". ولعلّ تحيين هذه الاعتبارات أو التّذكير بها من شأنه أن يسهّل انتقال المسلمين من نظريّة تأويليّة عتيقة تقوم على "اكتشاف" معنى النّصّ وامتلاك حقيقته إلى نظريّة تأويليّة تفتح باب تناثر المعاني كما تفتح عمليّا باب اتّخاذ القرارات التّأويليّة الملائمة للعصر ولطموحات أهله.
2/ محمّد خاتم الأنبياء في التّصوّر الإسلاميّ، ويمكن أن نستغلّ مفهوم ختم النّبوّة على نحو محمّد إقبال(ت 1938) فنعتبر النّبوّة تلغي ذاتها مع الرّسالة المحمّديّة عندما تعلن عن نهايتها، وتبشّر بنضج الإنسان وقدرته على التّعويل على نفسه وقدرته على تقرير مصيره.
3/ لا بدّ من تعويض التّقنيات الفقهيّة التي تعتمد على الاستقراء والقياس لاستخراج الأحكام من القرآن أو من سنّة الرّسول والصّحابة باستلهام "المقاصد" القيميّة والتّعاليم الكبرى وبمراعاة تطوّر الواقع، واختيار ما في القرآن نفسه من مبادئ قيميّة يمكن أن تصمد في وجه الزّمن : احترام النّفس البشريّة وحسن المعاشرة وعدم الإكراه في الدّين. ويمكن أن نذكّر بوصيّة النّبيّ بالنّساء قبيل وفاته، وكأنّه شعر، رغم كلّ شيء، بالحيف المنجرّ عن التّسلّط الرّجاليّ : "آخر ما وصّى به رسول اللّه (ص) ثلاث كان يتكلّم بهم حتّى تلجلج لسانه وخفي كلامه : جعل يقول : الصّلاة الصّلاة وما ملكت أيمانكم لا تكلّفوهم ما لا يطيقون. اللّه اللّه في النّساء فإنّهنّ عوان في أيديكم-يعني أسراء-أخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه". فعوض أن نتشبّث بالأحكام التي فرضتها طبيعة العلاقات الاجتماعيّة في المجتمعات القديمة، يمكن أن ننطلق ممّا قد نجده في النّصوص الدّينيّة من توق إلى العدالة والحرّيّة، ومن ممكنات في التّأويل تمّ إقصاؤها من أجل بناء المجتمع التّراتبيّ وترسيخ مؤسّسات الدّولة النّاشئة.
توجد اليوم في شتّى أرجاء العالم الإسلاميّ أصوات تدعو إلى مثل هذا الإصلاح الدّينيّ الحقيقيّ، أصوات لا تجامل الفكر السّلفيّ ولا تخلّ بأيّ حقّ من حقوق الإنسان، بل تبشّر ربّما بظهور أشكال أخرى من التّديّن تساوي بين الرّجل والمرأة، وتؤمن بحرية المعتقد وتفصل بين السّياسة والدّين، ولكنّها تظلّ أصواتا فرديّة ومهمّشة مؤسّسيّا، لا تكاد تقف في وجه الثّقافة السّلفيّة المكتسحة، رغم أنّها، أي تلك الأصوات، لا تدعو إلى ترك الدّين بل تدعو المسلمين إلى عيش تديّنهم على نحو آخر يحرّرهم من هوس الإقصاء وأوهام العودة إلى الأصل.
لا يكفي أن نناهض حجب المرأة وتكفير المثقّفين، لا بدّ أن نناهض الفكر الذي ينتج الحَجب والتّكفير، لا يكفي أن ندعو إلى فتح أبواب الاجتهاد، لا بدّ أن نُقبل فعليّا على إنتاج شروط فتح أبواب الاجتهاد، فهي أبواب الحرّيّة الإنسانيّة.
معركة الهيمنة الاستعماريّة الأمريكيّة والصّهيونيّة لا بدّ أن نواصل خوضها لفضح أقنعتها المتجدّدة، ولكن لا يمكن أن نؤجّل إلى الأبد معركة تحرّرنا من مكبّلاتنا الخاصّة، ولا يمكن أن نستمرّ في مجاملة الأعداء القابعين داخل نفوسنا.
إيلاف خاص