أنس نادر
(Anas Nader)
الحوار المتمدن-العدد: 5925 - 2018 / 7 / 6 - 16:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الواقع إن ما يجعلنا نغوص في مجاهل النفس باحثين في خباياها, هو الإيمان المطلق بإن هذا الجمال والإتساق المنبثق من هذا الكون لا بد أن ينضوي في أعماقه حول حقيقة إنسانية وأخلاقية تفوق جميع الشرائع الإنسانية التي يتخيلها البشر عن العدالة المطلقة والطاقة الإنسانية الخلاقة والحرة, وإن تأثير الطاقة الإنسانية الناتجة عن التجربة والأحاسيس وخبرة الحياة والوعي المتناقلة يجسد أحد أشكال الخلود وتلخص صور الحياة المختلفة والمتشعبة بأحاسيس مركبة وغائرة بالنفس البشرية, فلا بد من وجود نظام عادل بالمعنى الأخلاقي الواعي والإنساني للوجود لكنه عصي عن الفهم والإدراك بالنسبة للبشر في المرحلة الإنسانية والحضارية الراهنة, والعدالة في هذا السياق تعني الغاية العقلية للوجود بمعنى أن السعي لبلوغ هذه الحالة هو طبيعة معنوية أصيلة في التكوين الوجودي للعالم ينبثق عنها خلال تجلياتها فيما نشعر به نحن كبشر, وبإمكاننا أن ندعوه بالجمال المطلق, أي أن هذه الحالة الجمالية الكلية حالة معنوية أصيلة في طبيعة الوجود تحدو بالعالم إلى ما هو عليه من طبائع الخلق. أو بتسمية أعمق إن الجمال المطلق هو أنانية هذا العالم, ونقصد هنا ما يقابل المعنى السيكولوجي لهذه الكلمة أي ما يشابه سعي الإنسان الطبيعي في إشباع أنانيته وتوكيد ذاته.
ولا بد أن نقر بوجود حالة معنوية للوجود, ووجودنا كمخلوقات عاقلة تستطيع الإحساس بما يحيط بها وتشعر بالإنتماء لهذا المحيط الوجودي أمر كافي للإقرار بسطوة العقل وقوة الإنتماء وجاذبية الطاقة التي تختلجنا تجاه العالم, ولكن ما طبيعة هذا الإنتماء وكيف من الممكن أن تتجلى مساعي الوجود في حالة جمالية كلية تعبر عن الطبيعة المعنوية الأصيلة التي نتدعيها.
وبطريقة ما تتمحور هذه الفكرة حول العدالة الإنسانية والمضمون الجمالي للجانب المعنوي الذي نتكلم عنه, فلا يمكن على الإطلاق أن تكون هناك ثمة طاقة وجمال معنوي أصيل في هذا العالم ويكون غير مبني على التوازن, فجميع أشكال الطاقة المادية والعضوية الذي عرفها وخبرها الإنسان تسعى بطبيعتها إلى التوازن, وحتى نحن كبشر في آليات تفكيرنا ودوافعنا وسلوكنا تسعى نفوسنا للتوازن من خلال سلوكيات تعويضية في كافة ردود أفعالنا, فإذا كان هناك ثمة طبيعة معنوية للعالم فلا بد أن تماثل قرينتها المادية في كمالها من خلال سعيها للتوازن, فهذا هو المنطق الطبيعي لصيرورة الخلق الذي نحياه, فكيف من الممكن أن نتقبل بأن هناك ثمة جانب معنوي وطاقة واعية في طبيعة العالم تعود لطبيعة جمالية مطلقة وفي نفس الوقت نرى التاريخ الإنساني مفعم بالمجازر والحروب والمكائد والنقائص التي إن دلت على شيئ فإنها تدل على العبثية المطلقة وتكون مبعث للإيمان بالعدم ومنطق فوضى الاحتمالات أكثر منه للإيمان بطاقة وقدر أخلاقي ومعنوي يسيّر هذا العالم, وهذا تساؤل مشروع لأي شخص فلا بد للإنسان أن يجد ملاذ وجودي لحياته ورمز أخلاقي يعده بحسن الختام كما يقال ويوحي له بفكرة عدالة إنسانية محتملة. وما من فكر أو فلسفة أو علم يقدم هذه الغايات, وحده الدين بمختلف شرائعه ومذاهبه على هذه الأرض هو الذي يعد الإنسان بما يصبو إليه ضياعه الوجودي الذي يجمعه ويربطه بكل صرخة في هذا العالم من ناحية ويتركه في عزلة عقله ووعيه الذي لم يعرف روعة الخلاص من ناحية أخرى.
ولكن قبل الولوج في غمار آلية العمل الممكنة للتوازن المعنوي, لا بد من التنويه أنه ليس من الممكن على الإطلاق أن تكون هناك ثمة مبادئ وأخلاقيات وشرائع وجدت أساسا من حاجات الإنسان المعنوية كالمذاهب الروحية وأشكال التدين أن تحتوي بمضمونها مجال فكري أو روحي ومعنوي يودي إلى صيغة مثالية في مضمونها الأخلاقي, فجميع التعاليم الروحية تنظر للأشياء بمنظار مباشر ويكون موقفها منها ضمن مقياس إنساني مباشر أيضا, ولا يمكن أن ترى بغير هذا المنظار, لأنه يواكب طبيعة الإنسان االواقعية وتلبي دوافعه ومطالبه وفق المعايير الأخلاقية التي أنتجها عبر ثقافته وحضارته الإنسانية, فعلى سبيل المثال إذا ارتكب أحدهم جريمة قتل, فمن الطبيعي أن يكون عقابه الموت الحتمي أو في أماكن أخرى تسلب منه حياته بالسجن المؤبد, ولكن إذا ارتكب شخص ما آخر جريمة قتل بها ألف شخص فهل سيختلف عقابه؟ بالطبع لا فعقوبة الموت هي أقصى ما يمكن أن يواجهه الإنسان, بالإضافة إلى أن هناك معايير إنسانية وحقوقية لا يمكن تجاوزها مهما بلغت جريمة الشخص من وجهة نظر الشرائع التي سنها الإنسان سواء الروحية أو القانونية. وأيضا ماذا عن الحكّام والقادة المستبدين الذين شهدهم التاريخ البشري ودمروا حضارات بأكملها وأفنوا شعوبا بأطفالها ونسائها وأسسوا لأمبروطوريات قمعية أخرت أجيال بأكملها لمئات السنين عن ركب الحضارة, وقادوا حروبا أزهقت فيها أعدادا لا تحصى من الأرواح, والأمثلة على ذلك كثيرة جدا لسنا بصدد ذكرها الآن, وإن لم يكن شخصا واحدا فدعونا نقول عددا ما من الأشخاص أو نظاما أسس له أحدهم, فهل ستجد شريعة من الشرائع مآل عادل بحقهم, بالطبع لا فأي عقاب قد يكون عادلا أو كافيا بالنسبة لهكذا خطايا مدمرة ؟!. فهذه العثرات في حياة البشر لا يدرك جدليتها إلا التاريخ وليس من الممكن النظر إليها بمنظار مباشر ولا يمكن على الإطلاق أيضا القصاص منها بالمعنى الإنتقامي الذي يتخذونه البشر بحق أنفسهم لضبط مجتمعاتهم, فالشرائع الإنسانية قاصرة على إدراك البعد المعنوي وغير المباشر بما يخص القيم المعنوية الخاصة بطبيعة وجوهر الحياة على المستوى الوجودي, وهذا طبيعي جدا فالغاية الوجودية غير ملموسة ومحسوسة وهي محض إفتراض فلسفي غير قابل للتجربة والتطبيق كما هي الحال في العلوم المادية. وبالطبع لا نستطيع تبني بعض التأويلات والتبريرات الدينية بأن في الآخرة سيحاسَب الإنسان عن خطاياه جميعها وسيعاقب بقدرها مهما بلغت آثامه, فمهما بلغت جرائمه سيعاقب بقدر الأرواح التي أزهقها, فهذا التأويل والتفسير للعدالة المطلقة غير موضوعي وغيرمنطقي أخلاقيا وإنسانيا على مستوى المجتمعات الإنسانية, فقد تجاوزت الكثير من الدول حتى الحكم بالموت بإعتباره حكم غير إنساني وليس من العدالة اتخاذ قرار بإنهاء حياة أحدهم مهما بلغت جرائمه, كما أنه يعكس عدائية ثقافة البشر ورجعية تصورها لإصلاح الشاذين عن قوانين المجتمعات المتقدمة, وبالطبع لا يمكن أن يكون الإنسان أكثر رحمة من الرموز الروحية والدينية وبالتالي هذا يبطل فرضية الحساب الديني أخلاقيا, وحتى على المستوى المعنوي أيضا فإنه تصور بدائي جدا لطبيعة العالم يعود لقدم التصور الديني للحياة والخلق الذي لم يطرأ عليه التغيير الكبير نسبة إلى القدسية التي تحظى بها النصوص الدينية إلى وقتنا الراهن وذلك كونها الملاذ الوحيد إلى الآن الذي يطرح ملاذ نفسي لمخاوف وهواجس الوجود يلقى القبول والاطمئنان من معظم البشر, فمازال التدين يستحل الصدارة للخلاص من القلق الوجودي الذي يعتري مشاعر الإنسان من حيث طبيعة نظامه الروحي والنفسي معنويا وماديا, كما أن العلوم والفلسفات ومختلف الطروح الفكرية لا يمكن أن تنافس ظاهرة التدين بسبب خصوصية هذه العلوم من حيث نخبوية الباحثين فيها وعدم امكانية رواجها في كافة شرائح المجتمعات, والأمر الأهم أنه لا وجود على الإطلاق لأي علم من العلوم أو فلسفة أو فكر على المستوى الجمعي, أي أنه لا يملك شرعية من طيف كبير من المجموعات الإنسانية وخاصة غير المثقفة أو المهتمة, فإنها تبقى حصرا على طبقة نخبوية مفكرة وليست شعبية وعامة, وهذا من أهم الأسباب الذي يُبقي العلوم النفسية والفكرية ضمن دائرة الشك والريبة وعدم اليقين وإحتمالات القدرة والطاقة الإنسانية الواعية والمدركة في التواصل والإنسجام العميق مع المضمون الجمالي والواعي للعالم المادي والمعنوي المحيط به. إذاُ وحده التدين هو الصيغة المعنوية والروحية التي يتفق عليها معظم البشر نسبة لتاريخها الطويل في توارث هذا المفهوم الثقافي الذي ينفصل عن ضغوط ومشقات الواقع ويفسر مآل ومصير الإنسان في لغة بسيطة كونها جزء تربوي من الشخصية وليست نتاج فكري أي أن القناعات الدينية تنتقل للشخص بهذه الرسوخية والإيمان كونها تعود لموروث تربوي مرتبط بتاريخ الشخصية, وليست قيم فكرية قابلة للتطور, وهذا ما يجعل أيضا من الموروث الديني أنا عليا جمعية قابلة للإسقاط على كل البشر مهما اختلفت انتماءاتهم وظروف حياتهم.
وبما يخص اختلاف ظروف وحياة البشر, فإن الإنسان لا يمكن ان يتقبل فكرة لا تهيئ له أن يرى العالم بمنطق واقعي وحقيقي يلبي حاجاته الروحية والنفسية المباشرة, فهو يشعر بالبغضاء تجاه كل ما يجلب له الألم والإنزعاج النفسي ولا يقيّم على الإطلاق تجربته الحياتية بشكل جمالي أو فني, وأي قدر يودي بظروف حياته ومعيشته بعيدا عن اللذة والمتعة يعتبره لعنة ومرحلة قاتمة من حياته, وهذا أمر طبيعي جدا لأن معظم ما يشعر به الإنسان باللذة والمتعة هي أشياء متعلقة بواقع ومنطق تكوينه العضوي والجسدي, وأهم دوافع الحياة على الإطلاق هو الدافع الجنسي الذي يلخص كل المتع وينفر من مصادر الإزعاج ومسببات الألم, فتقييم الإنسان لمجمل حياته ومساعي لذته هو تقييم جسدي كامل أو بلغة أخرى من خلال متطلبات الجسد والدوافع النفسية التي تكمن خلف ذلك, وهذا أمر تتفق عليه جميع العلوم الإنسانية, إذا لا وجود لطبيعة معنوية يقيّم بها الفرد نموذج حياته بشكل مباشر, وإذا لجأ الإنسان لتقييم حياته معنويا فإنه يقوم بذلك بعد فترة من انقضاء الحدث أو عندما تصبح الأحداث التي مر بها جزءا من الذاكرة, ومن هنا تتشكل التجربة أي ما تختزنه الذاكرة من خلاصة معنوية للتجربة, ولكنه لا يطبّق هذه التجربة المعنوية بشكل مباشر على حياته, وانما الدوافع الجسدية يكون لها الكلمة في توجهاته ورغباته المباشرة, ولذلك يعي الانسان معنى تجربته ويدركها بعد مرور الكثير من الوقت على انقضائها وذلك بسبب عدم ارتباطها بواقع الدوافع الجسدية بعد انقضائها وتحولها إلى ذاكرة, وهذا ينطبق ليس فقط على حياة الأفراد كل على حدى, بل وينطبق على التاريخ البشري كله, فعند دراسة التاريخ يمكن أن يدرك المؤرخون والدارسون في هذا المجال المعنى الخفي والرؤية القدرية والسحرية والجانب المعنوي من جدلية هذه الحضارة الانسانية والموروث الثقافي الهائل لهذه التناقضات والتباينات الإنسانية ويمكن استخلاص بعض التجارب للأجيال القادمة, أما بشكل واقعي ومباشر فإن ما يصبح تاريخ وارث انساني يكون ما ندعوه سياسة ومصالح وغايات مباشرة للبشر بمختلف فئاتهم, وكما ذكرت هذا الشكل الطبيعي لمسار الأشياء ولكن ما نود طرحه وقوله أن الإنسان غير قادر على رؤية القيمة المعنوية والحقيقة المطلقة لجوهر حياته والتي هي أعظم الغايات في تجربة وعيه وإدراكه التي من المفترض ان يعيها, وذلك ان الانسان لا يقدّر ولا يعترف على الاطلاق بالرؤية المعنوية التي تكمن فكرتها في الغاية الجمالية المطلقة لمساعي الوجود, فهو يراها غير واقعية ولا تخدم جوهر دوافعه النفسية والجسدية ومنطق الحصيلة المباشرة المرجوة مما يجري في هذا العالم, وان ما نعتقده ونريد طرحه أن هذه الغاية المعنوية والجمالية التي نتحدث عنها والتي نعجز عن إدراكها ووعيها هي القيمة الواعية والغير أنانية التي تقف وراء البعد المعنوي أو اذا شئتم البعد الروحي لهذا العالم.
وبهذا يمكن القول ان الحياة المباشرة هي عبارة عن ردود أفعال تخضع لمتطلبات ودوافع الجسد الواقعية أو القيمة الجسدية للإنسان التي لا تتصرف على اساس معنوي وانساني بالمعنى العميق والجوهري لوجوده, بل على اساس يعكس المتطلبات الواقعية لحاجاته الجسدية والنفسية المباشرة, اما القيمة المعنوية هي ما ينتج عن التجربة وتراكم الإحساسات التي تقوم بصياغة الجانب المعنوي والحسي للشخصية وتكوّن شيفرتها المعنوية الخاصة, وتكون هذه هي القيمة الجوهرية للإنسان التي تبقى وتختزن في لا شعوره مختزلة القيمة المعنوية لشخصيته. وهذا الإختزال المعنوي للشخصية يختار صورا من ذاكرة الفرد للتعبير عنها, فعندما يموت الشخص تتجلى طبيعة هذه الشخصية بأحداث معينة من الذاكرة تعبر عنها مجردة من تأثير الواقع, قد تتعلق بطفولته أو بمراحل وأحداث بسيطة ومختزلة تحرر ما هو خبيئ بأعماق النفس لصياغة توازن تجربته الإنسانية التي تقف بين الحياة والموت.
وفيما سبق ذكرنا مثال عن الحيوان وقلنا أن الحيوان ليس لديه روح كونه لا يعي ذاته وكذلك أشكال المادة الأخرى أيضا, ولكنه يخضع بصفته المادية للحالة المعنوية الغير أنانية الهيئة, وبذلك يكون مفهوم الروح هو حالة خاصة بالكائن البشري فقط, وذلك بسبب أن الإنسان مدرك لوعيه أي أنه تتجسد فيه الحالة الأنانية للوعي.
واذا ذهبنا إلى حالة الموت من هذا المنطلق, فسنرى أنه لا وجود على الإطلاق للموت بالمعنى العميق والوجودي الخارج عن نظرة الإنسان المباشرة وتقييمه المرتبط بشكل كلي بحالته الجسدية وهيئته الحيوانية, التي تسعى لإشباع حاجاتها من جهة, ومن وجهة نظره من ناحية نظامه النفسي أيضا الذي لا ينفصل كثيرا عن متطلبات هذا الجسد, فالموت بالمعنى الوجودي الذي نراه حسب ما ناقشناه وجوديا وجماليا ومعنويا, هو إنتقال الوعي في شكله من الحالة الأنانية في روح الإنسان إلى الحالة الغير أنانية في سمة الوجود,
ان قانون الإنتخاب الطبيعي الذي طرحه دارون, بدون شك فكرة خلابة حيث تصطفي الكائنات والمخلوقات بفعل الزمن والموت الذي يفسح المجال لتعاقب الأجيال, ومنه لتطورها وإصطفاء الأفضل, وهذه النظرية تعكس مساعي الجمال بطريقة واقعية وتجريبية في الحياة العامة, وتظهر سعي الوجود للكمال في طبيعة تكوينه فيما دعوناه الطبيعة المعنوية, وهذا ينطبق على أطوار الطبيعة وكافة الكائنات, وربما بإستطاعتي إستعارة فكرة هذا الطرح للدخول إلى تتمة البعد الفلسفي الذي نراه في فلسفة فنومينولوجيا الموت.
إن غريزة الموت عند الإنسان لها دور وأثر كبير في تطوير وتشكيل الأخلاقيات الإنسانية للمجتمعات. ويقول سيجموند فرويد أن هذه الغريزة في سلوك الإنسان تعود لنزعة مادة جسده بالعودة إلى أصلها المادي اللاعضوي وأن الإنسان يسعى إلى إفناء نفسه بشكل غريزي للعودة إلى الحالة الأصلية وهي المادة الجامدة, وأن الموت هو غاية كل كائن حي والحياة تسعى إلى الموت في نهاية المطاف والكائن الحي يسعى قدما نحو السكون الكامل الذي يبلغه في حالة المادة الجامدة, وقد ربط هذه بعمليات الهدم والبناء في الجسم البشري, وأن هذه الغريزة أيضا تسعى بالإنسان إلى فنائه, والمشاعر والميول النفسية كثيرة في تجسيد هذه الغريزة الهدامة كالتدمير والقسوة والكراهية وغيرها من المشاعر السلبية, وهذا ما حدا بالحضارة الإنسانية إلى الحروب وفتك بعضها بالآخر, أي نتيجة لوجود هذه الغريزة المدمرة التي تحدو بالإنسان إلى الهلاك والفناء لرده لحالة السكون المادي المطلق, ونحن لا ننفي وجود غريزة الموت ولكن بكونها تسعى برد الإنسان إلى الحالة المعنوية للخلاص من واقع الجسد كما أشرنا سابقا, وهذا من شأنه الكثير كأثر تاريخي وقدر عضوي ونفسي رافق الجنس البشري في مصيره في المراحل الأولى لتطور حضارته, فإن طبيعة هذه الحضارة مرتبطة بشكل وثيق جدا لا يقبل الفصل بالطبيعة النفسية والعضوية للكائن البشري, وخلال هذه الرحلة الحضارية تركت غريزة التدمير أثرها في نفس الإنسان بخلق نظم أخلاقية لتفادي بطشها, مما يتوجب أن يحدو بالنظام الإنساني لاحقا إلى تضخم هذه النظم الأخلاقية وبالتالي تلاشي هذه النزعة التدميرية والارتقاء إلى مرحلة إنسانية تليق بوعي الجنس البشري المتطور, ولكن هذا ترك انطباعات راسخة مليئة بالعدائية عن الموت كحالة يمر بها جميع البشر, وأصبح من العسير جدا فصل الموت كحالة طبيعية عن الرموز المفعمة بالعدائية لغريزة الموت الذي أورثها التاريخ البشري الدامي له, وهذا بالتحديد ما تحتاجه الحضارة لمعالجته نظرا للأثر التي تتركه العدائية في سلوك المجتمعات والحضارة بشكل عام.
ففي المراحل الأولى لبداية الصراع لم تكن قد تشكلت بعد القيم الأخلاقية كما نعرفها الآن, وكان الصراع من أجل البقاء على أشده ,وأخذ الموت أكثر الأشكال رعبا في عقل الإنسان و قد لاقى ما لاقى من أفكار وصور سيئة عبر التاريخ البشري وذلك بسبب رؤية الإنسان للموت من خلال نظرته للأعداء والخصوم والأشخاص الذين يكن لهم كل الكراهية والنوايا العدائية, وان الحروب في تاريخ البشرية وحضارة الإنسان قد رافقت ورسخت الصورة المشوهة والمقيتة للموت من سحق للحياة والسلام والأمن الأسري, حتى أن طقوس وشعائر الموت تتسم بالبؤس والحزن الشديد منذ أزمنة بعيدة وحتى يومنا هذا, وذلك بسبب الإرث الحضاري باقتران الموت بالعدوان وما يصيب الجسد من بلاء مريع جراء ذلك, ولا سيما في الحروب.
و يمكن أن نسقط تأنيب الضمير تجاه موت الغير على مصدر ودوافع الثأر والانتقام والتي أيضا شكلت بدورها من خلال القصص والملاحم والحروب التي لازمت مخيلتنا جراءها انطباعات عميقة وراسخة عن أذية الموت وأشكاله العدائية.
و كما ذكرت إن العنف التاريخي في حضارتنا لعب الدور الكبير في إرساء مفاهيم الموت على الصورة الحالية له, وهذا تجلى لاحقا في ثقافتنا الدينية والتربوية والاجتماعية.
و لم يختلف جلجامش في الحكايات السومرية في سعيه للأبدية عن سائر البشر منذ فجر التاريخ, فالموت كان مكملا للحياة في معظم الثقافات وله تقاليده وطقوسه, وقد تعددت رموزه في الديانات سواء الوثنية أو السماوية وكونه استمرار للثقافة والحضارة العنيفة, كان للدين وللأسف الأثر السلبي الأكبر في الوقت الراهن ولا سيما في الدول النامية ذات المرجعيات الدينية في حياتها الاجتماعية, حيث أن الرؤية للآخرة وعالم الحساب والموت مريعة جدا, فان المرء يتعذب ويرى الأهوال ويذوق العذاب الجسدي والنفسي بأسوأ صورة له, مما يشكل تهديدا أمنيا ونفسيا يرافقه بحياته جراء الخوف من الموت والإلزام القهري لأن يكون شخصا صالحا بعيدا عن المعاصي.
وبمقارنة غريزة الموت مع غريزة الحياة عند الإنسان من ناحية الرؤية الحضارية, فإن غريزة الحياة و التي تتجلى بالدافع الجنسي قد لاقت الإهتمام الكبير من الباحثين والدارسين كما أنها طبقت في أساليب التربية الحديثة في المجتمعات الغربية وأدت إلى تغيير كبير في سلوك الفرد والمجتمعات من أجل توازن نفسي وسعادة أكبر, كون الإنسان يسعى وبشكل طبيعي إلى إشباع غرائزه. والجنس هو النموذج الأول لكل سعادة, ولا يمكن للحضارة أن تتقدم في ظل الكبت والحرمان الجنسي الذي ينضوي على أعنف أشكال البغض والعنف والحسد من وجهة النظر النفسية, فأصبح إشباع غريزة الحياة جزء أساسي تربوي مرتبطا بنظام الدول وبنائها على المستوى الأخلاقي والتربوي والاجتماعي وحتى الاقتصادي فلا يستطيع حتى المربي نفسه أن يخرقه ضمن نطاق أسرته, وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه الإفراج عن غريزة الحياة وإطلاق الحرية الجنسية والعمل على تخفيض رموزها ضمن نطاق مدروس ونظام أخلاقي في المجتمع للحد من العدائية, ومنه تحرير الفكر والطاقة الإنسانية في اتجاه ايجابي من بناء الحضارة في المجتمعات الغربية, إلا أنها أنتجت أيضا ميول جارف للخصوصية والفردية والملكية والعزلة الاجتماعية التي تأخذ شكلا عدائيا ضد الحضارة كرمز اجتماعي وسلطوي.
ولا يمكن لوم الحضارة لهذا, فالسبب في ذلك برأيي يعود لإطلاق العنان لغريزة الحياة ضمن المفهوم الراسخ والسائد للموت والكف عن أي معالجة حضارية لغريزة الموت, مما سيؤدي حتما إلى العنف الحضاري كنتيجة للسعي المطلق والجارف لاشباع و إرواء غريزة الحياة المتاحة أشكالها إلى أقصى حد كردة فعل عكسية تجاه الموت الذي لم تبرأ أعماقنا من رموز بشاعته وصورته الحضارية المشوهة.
إن إعلاء رموز الضمير الأخلاقي والارتقاء بالشعور الواعي بالذنب تجاه أي عمل عدواني أمر ليس من السهولة تحقيقه وخاصة ضمن النزاعات الدولية في سبيل المال والسلطة مما يجعل القيم الأخلاقية تأخذ الطابع الغائي ذات أهداف غير حقيقية مقنعة وأصيلة بالنسبة للمجتمعات, فتأخذ هذه القيم مسار المصالح المتبادلة حسب أهداف السلطة المهيمنة, وبالنهاية لا تشعر المجتمعات بالأمان والاستقرار والرضا النفسي.
ومن الصعب جدا على الحضارة أن تعالج مفهوم الموت نظرا لعدم واقعيته كسلوك ودوافع مثلما جاء بغريزة الحياة من انفتاح على كافة المستويات التصقت ببناء المجتمع ونظامه الثقافي والمادي, كما أن المستوى الحضاري للبشرية ما زال ضمن حقبة سلطوية وعدائية تكرس الثقافة الروحية التنافرية لمفهوم الحياة على المستوى الفردي والجمعي على حد سواء.
وإذا تحدثنا ضمن السياق المادي وحسب عن فكرة وواقع الموت بعيدا عن المؤثرات الثقافية للحضارة, فيمكننا القول أن فناء المادة في أحد أشكالها هي غاية وسلوك أصيل في طبيعة مادة الكون من أجل التطور والارتقاء وهذا الفناء بطبيعته ناتج عن السمة والنزعة المعنوية للوجود للتخلص من مادته والعودة إلى حالته الأصيلة كطاقة محضة لامتناهية الصفات, وما تنوع أشكال المادة إلا انعكاس لسمة هذه الطاقة, وهذا يتجلى في أبسط أشكالها إلى أعقدها مرورا بأطوارها العضوية من أجل التطور والارتقاء. أي الصراع بين المادة والطبيعة الواعية والمعنوية المكتسبة المؤثرة فيها من أجل ارتقائها, والذي يحدو بالمادة للدمار بعد بلوغ ذروتها الأمثل في أحد أشكالها, و إن المادة لا تفنى ولا تخلق من العدم ولكنها تتحول كما هو معروف علميا. وخلال تحولها ينتج أشكال جديدة من القوى والطاقة, وهذه الطاقة الناتجة عن تحول المادة أو فنائها بخواصها الفيزيائية هي التي تحمل شيفرتها كطاقة معنوية تسعى لتطوير ذاتها من خلال طبيعتها بسعيها لشكلها الأمثل, ومن علاقات المادة المتبادلة هذه تنشأ جدلية تطورها وارتقاءها. فهذا عند إسقاطه على الإنسان فيه الكثير من القهر والكبت الذي يُنشأ ردة فعل غريزية للتدمير لشعوره الحتمي بالفناء, وهذا ما أسماه فرويد غريزة الموت والتي هي كواقع حضاري وسيلة حتمية للتطور والارتقاء بالخلق, فإن الإنسان لم يسيطر بعد على الطبيعة, وما دام أنه لم يرتقي ويتخلص من تأثير خواصها في سلوكه فإن بنية الإنسان النفسية والسلوكية تعود لأصلها في طاقة الوجود المادية, والإنسان هو انعكاس واعي للحالة الكونية, فالكون المادي يُرى بوصفه نسيجاً دينامياً من الحوادث المتعالقة؛ فكلها ينجم من خصائص الأجزاء الأخرى، والاتساق الإجمالي لتعالقاتها يعيِّن بنية النسيج برمته. إن أساس نظرية وفكرة نقاشنا تستند على إن للكون طبيعة معنوية وواعية في جوهر بنيته وتكوينه المادي ولكنها لاذاتية ولا أنانية المظهر, أو أنه ذو عقل ووعي غريزي في جوهر مادته وطبيعة طاقته يطمح للاستمرار والتطور, وأن طبيعته المعنوية من أصل مادته تماما وغير منفصلة عنها, وهذا ما يتجلى بكل أجزائه وتفاصيله, وبطبيعة البنية النفسية للإنسان الذي هو الوريث العقلي والواعي للوجود على هذه الأرض.
فبحسب اعتقادي أن الفناء أو الموت نفسه هو سلوك من طبيعة وغريزة عقل مادة الكون المعنوية من أجل تطوير عقله ومادته, حيث من خلال حياة المادة أو أي كائن أنها تبدأ بالنشوء ثم تتطور وتنمو حتى تصل للحالة الأمثل والأقوى في طبيعتها للنضال في الاستمرار, وعندما تبلغ الذروة المادية الأمثل تبدأ بالانهيار وبالفناء التدريجي باحثة عن الصيغة الأكفأ لوجودها في ذريتها المادية, فما كانت قد بلغته سوف لن يفنى وكأنه لم يكن بل سيبقى أثر تجربتها المادية في الوسط الكوني مؤثرا وفعالا كطاقة عقلية ومعنوية مكتسبة لا تقبل الفناء, أي أن هذه الطاقة العقلية والمعنوية كما أسميناها هي جزء لا يتجزأ من حياة المادة, تُخلق جراء وعي المادة خلال وجودها بعد فنائها في أحد أشكالها .
فإن الموت أو الفناء هنا سيكون استمرار للكينونة العاقلة غير أن العقل لا يعي وجوده بعد فقده لأنانيته وذاتيه بفقدان مادته أو الجسد, وكأنه انتقال من حالة النور إلى الظلمة. وبمعنى آخر إن
الموت للكائنات العاقلة هو حياة مستمرة معنويا لكنها غير محسوسة لأنه حالة وطاقة عقلية ومعنوية متوحدة غير مرتبطة بالجسد أو بمادته, وندعو الموت هنا بالحالة العقلية لأنه ذا تجربة عَقلتها مادته في زمن وجوده الحي, وهذا لن يتلاشى ويذهب مع الريح بل سيبقى كذاكرة كونية عاقلة لا تقبل الفناء في سبيل تطوير طاقته التي تأخذ شكلا ماديا في مرحلته هذه, فإن هذا الموت أو الحالة العقلية كما وصفناها هي طاقة حقيقية وذات تأثير على طيف الكون المادي. بل أن هذه الطاقة هي حالة طبيعية للحياة حتى قبل نشوء الجنس البشري بأزمنة سحيقة تُخلق نتيجة تشكل المادة وفنائها في أحد أشكالها ثم ينعكس تأثيرها المكتسب من وعي المادة خلال وجودها على المادة نفسها من أجل تطويرها, وإن هذه الطاقة العقلية والمعنوية لا تقبل الفناء على عكس ما هي عليه مادته. وهذا برأيي ما حدا بالكون عبر أزمنة من التطور المادي لبلوغ النشوء الكوني الحالي أو ما يسميه العلماء الانفجار الكوني العظيم الذي أدى إلى تكون المجرات والكواكب والنجوم وما إلى ذلك من البنية الكونية, وأسمّي حالة الفناء المادي أو الموت بأنه حياة عميقة الغاية بسبب بقائه كطاقة مؤثرة, بل أرقى أشكال الطاقة لأنها لا تملك ذاتية أو أنانية لعدم وجود وسط مادي لها وهذا ما نقصد به بالطبيعة المعنوية للكون, فإنها طاقة معنوية وعقلية لكنها دون أنانية أو غائية بحسب ادراك الإنسان لها وشعوره بها, أي أنها فقط تطمح لاستمرارها من خلال تطورها المتعاقب في تجربتها المادية لبلوغ عقلي أكمل وأمثل لطاقتها,.وإن ما ينسب لهذه العقالة من غائية وذاتية من قبل عقل الإنسان المدرك هو نتيجة لتشكل قيم أخلاقية معينة خلال تطور حضارته من جهة, وشعوره بالانتماء العقلي لطاقة واعية في هذا الوجود وما نتج عنها من ثقافات وأديان من جهة أخرى.
وما هو متوفر الآن من علوم ونظريات تجريبية في العلم الحديث, يوفر علينا الخوض في نقاشات فلسفية وجدلية عقيمة متعددة المذاهب لها تاريخ طويل في البحث والتدقيق والتفكير, ناهيك عن أنها ليست محور نقاشنا في هذا الكتاب. فإن آخر ما يقوله العلماء أنه لا وجود للمادة على الإطلاق في الوجود بل أن الكون برمته عبارة عن طاقة, وإن ما نراه ونشعر به من حولنا كمادة محسوسة هو نتيجة لإهتزازات في هذه الطاقة تشكل المادة في خواص متباينة. وإن هذا لا يتعارض نهائيا مع ما نقوله فأيا كان شكل هذه المادة في أصلها فإنه لا يغير شيء من طبيعتها وسلوكها ونزعتها في طبيعتها للصيغة الأمثل من خلال التطور العقلي بفنائها لنفسها والاحتفاظ بتجربتها كطاقة عقلية ومعنوية لا تقبل الفناء لغاية ارتقائها وبلوغها سمة عقلية سائدة, وبهذا فإن أطوار ومراحل تطور الكون بما فيه حضارة الإنسان بل وحتى تجاربه الشخصية ذات السمة الجمالية والعقلية المؤثرة هي غير فانية وزائلة بل باقية كعقالة منفردة ومؤثرة.
أما النتاج الواعي والذاتي المدرك حسيا لهذا الكون فإنها ذات نقلة نوعية للوجود الكوني نفسه بالمعنى التطوري, حيث أننا نعتقد إن العقل الغريزي الواعي اللاذاتي واللاأناني للكون ومادته, احتاج للكثير من القرون الزمنية لكي يطور المناخ الكوني لإيجاد بيئة مادية تعكس وعيه على كوكب الأرض ومن ثم الإنسان وهو الجمال المطلق للكون بمجرد أن يحيا في عالمه, وان مجموعة العواطف والأحاسيس والمدارك التي يشعر بها الإنسان هي انعكاس واضح للطبيعة المعنوية العقلية الموجودة بالمادة وخواصها بتركيبته الإنسانية المادية والفيزيائية.
إن أجسادنا وهي الصيغة الناتجة عن هذا المناخ الكوني الذي أفرز وجودنا ذو البنية الإنسانية المنسجمة مع النظام المادي بكل قوانينه وأنظمته, وهو صلة الإنسان بالعالم و اللغة الحسية وهو المادة الكونية المنسجمة والمحرضة التي تطور بنياننا العقلي, وان كل الدوافع النفسية والحسية والروحية للإنسان هي دوافع جسدية لكنها تعقل الرغبة والأصل, وهذه الرغبة الواعية هي المفهوم الروحي نفسه في ثقافته الذي يطور العقل والأداة ذات الدوافع الغير مشبعة بالاكتشاف والاستقرار والصلة بالنظام العاقل اللاذاتي واللاأناني للكون المولد والمحرض لها. إن هذه المادة الكونية العاقلة أو ما أسميناه العقل الكلي انه يطور نفسه من خلال التجربة الواعية فينا نحن الكائنات العاقلة التي تحيا وتفكر وتبدع وتحب وتتحسس الجمال والفن, وما كنا لنتوق ولنتمتع بهذا كله لولا أجسادنا نتاج هذه المرحلة الكونية, وبها تستمر حياتنا نحو تجسيد هواجسنا وأهوائنا المضطربة بما نقوم به من أفعال أوجدت هذا التاريخ الإنساني كما هو عليه اليوم من حضارات وثقافات وفنون وآداب بكل جوانبه المشرقة والمظلمة, وطوّرت هذه الفطرة العقلية التي نمتلكها كمخلوقات عاقلة من خلال هذه الرحلة الحياتية في السنوات التي نعيشها, وبهذا يطور العقل الكوني أو الطبيعة العاقلة للكون نفسه من خلال تجربتنا الحياتية, و بمعنى آخر إن كل الحضارات والثقافات والعلوم والفن والابداع والجمال الإنساني أو غير الإنساني في ما مضى أو آت سوف لن تذهب وتموت وتتلاشى بدون جدوى ما دامت مخزون ذات تجربة عقلية يطور البنية العقلية للكون من خلال تجربته الواعية, وهذا كما نعتقد
(النتيجة المنطقية والعادلة لوجودنا حيث ما من فناء لجمال ما كنا قد ألفناه).
فإن رحلة الحياة التي نعقلها هي شعورية ذاتية وأنانية لذا فإنها تسمح بالتطور العقلي الواعي لنا ومنه إلى تطور الصلة بالعلاقة الكونية والتطور الكلي, ومع نهاية الحياة تتلاشى الذات وتفقد صلتها الأنانية أو الشعور بوجودها, لكن هذا لا يلغي مخزون التجربة الذاتية في الحالة الكونية, وبهذا فإن العقل يكون الغاية والمادة تكون الوسيلة, لذا نستطيع القول إن الوعي الأناني وسيلة وجودية لتطوير الوعي الغير أناني وفق الغاية المعنوية الوجودية.
وهنا نريد أن نوضح معنى هذه الطاقة العقلية والمعنوية التي نتكلم عنها, لكي لا تأخذ بعدا شاعريا وكلاسيكيا من الناحية الفكرية
فالعقل الذي نتكلم عنه هو مجال من الطاقة الخالية من الصفات الإنسانية بعكس المعتقد به في معظم الثقافات والديانات والمخيلة البشرية التي نتجت من أصل بنيتها, بأن الإنسان قد خلق على صورة العقل الكلي, أي بالمعنى الديني صورة خالقه أي صورة الإله ,وذلك لأن الإنسان مرتبط بجسد مادي له أهواءه ومتطلباته وسلوك نفسي مستقى من طبيعة بناء حضارته وتاريخه والكثير من القيم والأخلاقيات والمعتقدات المبنية على هذا الأساس النفسي والتربوي والتاريخي أيضا والذي بنى هو بدوره نظرته للعقل والخلق على أساسها.
فحسب رؤيتنا فالطاقة الواعية والمعنوية هي مجال من الطاقة اللاذاتية واللاأنانية الغير منفصلة عن المادة وذات قوى مؤثرة لها سلوك وطبيعة خاصة وهي بنفس الوقت منفصلة عن مفاهيم الخير والأخلاقيات التي يؤمن بها البشر, فلا نستطيع وصفها بأنها طاقة خيّرة, لكن أثرها التطويري على الطبيعة والإنسان أنتج مفاهيم الخير والأخلاق في عقل الإنسان وحضارته في أحد جوانبها, فإن الوعي كمعنى مجرد لا يوصف بأنه خيّر أو شرير, بل إنه طاقة جمالية تلخص سلوك الوجود بمنأى عن مادته, وهذا ما يبرر للتاريخ قسوته ما دام نفسه ضحية لا غائية معنوية.
#أنس_نادر (هاشتاغ)
Anas_Nader#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟