|
الأمّ و الابن
نوميديا جرّوفي
الحوار المتمدن-العدد: 5891 - 2018 / 6 / 2 - 03:39
المحور:
الادب والفن
( قصّة قصيرة)
هكذا أرادت أن يكون العنوان.. في آخر سفراتي أنا و رفيق الدرب لتونس، و في مطار قرطاج و نحن عائدان صادفتها،كنت أسجل أمتعتي لآخذ تذكرتي بعد أن سبقني لأنه كان قبلي. جاءتني سيدة موقرة و طلبت مساعدتي: - مرحبا يا ابنتي - مرحبا - ممكن أطلب خدمة؟ - بكلّ تأكيد،أنا في الخدمة يا خالة - أرجوك أن تهتمّي بهذه العجوز و تحملي عنها حقيبتها حتى تركب الطائرة،فهي لوحدها و مريضة و أخشى عليها، حتى أنها لا بطيئة في المشي. - تأمرين يا خالة،هي معي منذ الآن أهتمّ بها حتّى تصل لأهلها، لا تقلقي، هي بمثابة جدّتي. - ألف ألف شكر لك يا ابنتي - العفو - رحلة سعيدة و رافقتكم السلامة - شكرا لك.. وداعا
و هكذا صار،حملت أمتعتها و أمسكتها من يدها، و دخلنا صالة الإنتظار. و أنا أدردش مع زوجي كنتُ أقرأ ملامحها الحزينة،و تحيط بها كآبة. حاولت أن أخرجها من عزلتها فسألتها:
- هل تحتاجين شيء يا خالة؟ - لا شيء يا ابنتي، أنت تُقدّمين لي أكبر خدمة باهتمامك هذا، لا ينقصني شيء.. و لا أعرف كيف أكافئك.. قاطعتها ،قائلة:
- لا تُكرّري كلامك هذا أرجوك،فأنا لم أفعل شيء، و هذا واجب عليّ،فأنت بمثابة جدّتي.. أطال الله في عمرك.. هل كنت في سياحة أم زيارة أقارب؟ - كنت عند صديقة للعائلة ،تلك التي تحدثت معك، كنت مريضة و هي اهتمت بي و عالجني أحد أبنائها بصفته طبيب، و أنا عائدة حيث لا بيت لي، حيث التيه و الشّرود من جديد، أنا كلاجئة كل يوم في بيت.. - كيف؟ أليس لديك بيت؟ - كان عندي، و أنا بدونه الآن .. طُردت منه للشارع و أنا في عمر السادس و الثمانين. - يا الله، من طردك؟ و كيف يجرؤ؟ و هو ملكك؟ - آه للدنيا!! هو ابني و حشاشة كبدي من رماني في الشارع؟ - ماذا؟ لماذا ؟ هل فقد عقله؟ سأقصّ عليك السبب يا ابنتي:
- كنت في عزّي و كرامتي قبل وفاة زوجي بسنتين، فقد كنت ملكة،كان المرحوم يُحبني جدا، تزوجنا عن قصة حب و هو يكبرني بثلاثين عاما، لم أشعر بفارق العمر يوما،كان يقدسني.،اشترينا شقة من أربعة غرف وأرادها باسمي، لكنّي رفضت هذه الفكرة، فسجلها باسمه و عشنا في رغد حتى رزقنا بابنة و ابن، فرحنا يهما، فقد كانا ثمرة حبّنا. ربّيتهما أحسن تربية ،تعبت لأجلهما و تعذبت ليصلا للمكانة التي هما عليها الآن. قبل أن يفارق زوجي الحياة بذلك المرض العضال ، السرطان الذي سلب حياة الكثيرين،سجل البيت باسمهما معا، حتى يكون عادلا بينهما و بعد أشهر قليلة غادرنا للأبد حيث لا عودة. فقدت رفيق دربي و زوجي و حبيبي و أظلمت الدنيا في عيني.فقدت سندي في الحياة تزوجت ابنتي و غادرت لبيتها، و تزوج ابني بعدها و جلب زوجته للبيت. قالت لي ابنتي يوما:
- تعالي معي يا ماما، تعيشين معي و زوجي..لكني رفضت و قلت: - دعيني حيث أشتم رائحة والدك، فأنا مرتاحة لا ينقصني شيء. - حسنا،مثلما تريدين ماما، عيشي في القسم الذي كتبه لي المرحوم بابا،فأنا لا أحتاجه و هو ملكك الآن لكن شاءت الأقدار، أن يأتي يوم و يرميني ابني في الشارع مع حزمة من ثيابي بسبب زوجته،قائلا: - اذهبي .. غادري.. و اخرجي من بيتي فقد ضقت ذرعا بك.. - كيف تطردني من بيتي؟ - إنه بيتي الآن.. لم يعد بيتك. أخذني بالقوة و رماني خارجا في ظلمة الليل ثم أغلق الباب.
لا أنسى ذلك اليوم،أمضيته مسهدة في مدخل العمارة وسط برد الشتاء. انتظرت الصباح بفارغ الصبر،و سافرت عند ابنتي، هي الوحيدة التي تهتم بي، و قد ارسلتني لأتعالج و أغير الجوّ قليلا. أتعرفين؟ تمنيت أن أموت في بيتي حيث عشت أروع أيام حياتي مع زوجي.. لكن... و أجهشت بالبكاء... جعلتني أبكي و أنا أرى دموعها في هذا العمر. لعنت ابنها العاق الذي رماها و جعلها حزينة لما تبقى لها من عمر.. إيه لهذا العاق الذي نسي ما فعلت هي لأجله ليصبح رجلا .كيف نسي أن هذه التي تبكي أمامي تملك الجنة تحت أقدامها. نسي سهرها عليه و هو طفل. نسي أن سخطها و غضبها سيجعله يدفع الثمن باهضا مستقبلا. رماها و هي في أمسّ الحاجة الآن لرعايته لها كما رعته يوما. مسحت دموعها و حضنتها و أنا أقبّل رأسها حتى هدأت،ثم غادنا و أنا أمسكها حتى أجلستها في الطائرة .كنت أراقبها من بعيد لو احتاجت شيئا. بقيت و زوجي متأسفين لمآلها و هي في آخر العمر بتلك الدموع التي أدمت قلبينا. عند وصولنا ، حملنا أمتعتها حتى أوصلناها لابنتها،فشكرتنا، و حضنتني بقوة و هي تودعنا شاكرة.. و لا أنسى تلك الدمعة المتحجرة في حدقتيها. وعدتها بأنّني سأكتبها ، و ها أنا قد كتبتها.
( مطار قرطاج 03.05.2018)
#نوميديا_جرّوفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هاتف على أوتار قلبي 1
-
قراءة في قصيدة (سبايكر) للشاعر و الناقد هاتف بشبوش من ديوان
...
-
في مطعم أبولو
-
وشمُ حبّ لذيذ
-
الزّوج الحبيب
-
حوار مع الفنّان التشكيلي مهدي السماوي.
-
من هم الأمازيغ وما أصل تسميتهم؟
-
سخافة قدر
-
سنتيْنِ
-
قُبَلٌ في الشوارع
-
الحزب الشيوعي العراقي في ميلاده الرابع و الثمانين من تأسيسه.
...
-
بشبوشية الهوى و المنتمى
-
صدمة
-
الأحمر يليق بك يا عفرين
-
فساد
-
ديوان -نساء- للشاعر و الناقد هاتف بشبوش.
-
مسك شعر
-
مطعم طُمْ طُمْ
-
الكتاب النقدي (نحوت ورقية) للشاعر و الناقد السماوي هاتف بشبو
...
-
مقهى الياسمين
المزيد.....
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
-
هل أصلح صناع فيلم -بضع ساعات في يوم ما- أخطاء الرواية؟
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|