حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 5889 - 2018 / 5 / 31 - 09:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من الممكن تحليل المعاني على أنها قرارات إنسانية ما يربطها بالإنسانوية و يجعلها تكتسب فضائل معرفية عديدة. فالمعاني قرارات مرتبطة بالإنسان لكنها قرارات في المستقبل ما يمكّن هذا التحليل من أن يكون أيضا ً تحليلا ً سوبر مستقبليا ً.
إنسانوية المعاني
المعنى قرار اجتماعي في المستقبل على ضوء قِيَم الصدق و ظروف النطق و الاستعمال و السياق. من هنا , المعاني قرارات اجتماعية مستقبلية و بذلك القرارات الاجتماعية تحدِّد المعاني. لكن الإنسان يتخذ القرارات الاجتماعية. على هذا الأساس الإنسان يحدِّد المعاني. هذا يرينا أنَّ هذا التحليل للمعنى يتضمن الإنسانوية التي تؤكد على محورية الوجود الإنساني و دوره الفعّال في صياغة الظواهر كدوره في صناعة المعاني. من هنا , تحليل المعنى على أنه قرار اجتماعي في المستقبل هو تحليل إنسانوي. و بما أنَّ المعاني قرارات اجتماعية في المستقبل , و علما ً بأنَّ المستقبل لم يتحقق كليا ً في الحاضر و الماضي , إذن المعاني غير مُحدَّدة بشكل كلي و بذلك تطالبنا المعاني بتحديدها ما يحرّرنا من المعاني الماضوية و يضمن دورنا الفعّال في صياغة المعاني. هكذا أيضا ً تحليل المعنى على أنه قرار اجتماعي في المستقبل يتضمن الإنسانوية التي تدعو إلى الحرية و التحرّر و تفعيل دور الإنسان كأن نتحرّر من المعاني المتكوِّنة في الماضي و نبني معان ٍ جديدة خالية من سجون المعاني الماضوية.
حل الصراع الفلسفي
ثمة نظريات مختلفة في تحليل المعنى. و تتنافس هذه النظريات و تتصارع. لكن التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي يحل هذا الصراع. بالنسبة إلى التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي , المعنى هو قرار اجتماعي في المستقبل على ضوء قِيَم الصدق و ظروف النطق و الاستعمال و السياق. هكذا يوحِّد هذا التحليل بين المذاهب الفلسفية المختلفة و المتصارعة لكونه يحلِّل معاني الكلمات و العبارات من خلال الواقع و الوقائع خارج الإنسان ( كقِيَم الصدق ) و من خلال ما هو داخل الإنسان من قدرات ( كظروف النطق و الاستعمال ) فيحل الخلاف بين تحليلات المعنى المتنوّعة و المتنافسة. و بذلك يكتسب فضيلته الكبرى في حل هذا الخلاف الفلسفي الأساسي حول كيفية تحليل المعنى ما يدعم مصداقيته. فثمة مذهب فلسفي يعرِّف المعنى من خلال الواقع خارج الإنسان كتعريفه للمعاني من خلال قِيَم الصدق بينما يوجد مذهب فلسفي آخر منافس للمذهب الأول و يعرِّف المعنى من خلال ما يرتبط بالإنسان كظروف النطق. لكن التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي للمعنى يوحِّد بين هذيْن المذهبيْن بفضل تعريفه للمعنى من خلال ما يوجد خارج الإنسان أي من خلال قِيَم الصدق و من خلال ما يرتبط بالإنسان أي ظروف النطق. و بذلك يتمكّن هذا التحليل من حل الخلاف بين المذهبيْن الفلسفييْن السابقيْن.
المذهبان الواقعي و اللاواقعي
المذهب الواقعي يعرِّف المعنى من خلال الواقع الموجود خارج الإنسان. يقدِّم الفيلسوف دونالد ديفدسون مذهبا ً واقعيا ً في المعنى فيحلِّل المعنى من خلال قِيَم الصدق. بالنسبة إليه , قِيَم الصدق تحدِّد المعاني. و قِيَم الصدق هي الظروف التي لا بد أن تتحقق لكي تكون العبارات صادقة. مثل على قِيَم الصدق هو التالي : عبارة "الثلج أبيض" صادقة إذا و فقط إذا الثلج أبيض. الآن , من منظور نظرية ديفدسون , عبارة " الثلج أبيض " تعني الثلج أبيض لأنَّ عبارة "الثلج أبيض" صادقة إذا و فقط إذا الثلج أبيض. هكذا يعرِّف ديفدسون المعنى من خلال قِيَم الصدق (1(.
لكن المذهب اللاواقعي ( ليس بالمعنى السلبي ) يعرِّف المعنى من خلال ما يرتبط بالإنسان كظروف النطق. يقدِّم الفيلسوف مايكل دوميت هذا التحليل حين يقول إنَّ ظروف النطق تحدِّد المعاني. و ظروف النطق هي الظروف التي تسمح لنا بنطق هذه العبارات أو تلك و بذلك هي الظروف التي تبرِّر النطق أو تقدِّم حججا ً تمكّننا من النطق بهذه الجُمَل أو تلك. على هذا الأساس, عبارة " الثلج أبيض " تعني الثلج أبيض لأنه توجد ظروف نطق تسمح لنا بالنطق بعبارة " الثلج أبيض " كظرف إدراك أنَّ الثلج أبيض(2) .
ثمة برهان أساسي على صدق المذهب الواقعي في المعنى ألا و هو أنه إذا تغيّرت قِيَم الصدق يتغيّر المعنى و بذلك قِيَم الصدق تحدِّد المعاني. فمثلا ً , إذا كانت عبارة " الثلج أبيض " صادقة إذا و فقط إذا الثلج أخضر , إذن عبارة " الثلج أبيض " تعني حينها الثلج أخضر بدلا ً من الثلج أبيض. هكذا مع تغيّر قِيَم الصدق تتغيّر المعاني. أما برهان أساسي على صدق المذهب اللاواقعي في المعنى فهو إذا تغيّرت ظروف النطق يتغيّر المعنى و بذلك ظروف النطق تحدِّد المعاني. مثل ذلك أنه إذا كان إدراكنا بأنّ الإنسان عاقل يسمح لنا بنطق عبارة " الثلج أبيض " بدلا ً من أية عبارة أخرى فحينها عبارة " الثلج أبيض " تعني أنَّ الإنسان عاقل بدلا ً من الثلج أبيض. لكننا وجدنا أنَّ التحليل الإنسانوي للمعنى يوحِّد بين المذهبيْن الواقعي و اللاواقعي. و بذلك الحجتان السابقتان تدعمان التحليل الإنسانوي أيضا ً لأنه يحلِّل المعاني من خلال قِيَم الصدق و ظروف النطق في آن.
من جهة أخرى , ثمة مذهب لاواقعي آخر في المعنى يعرِّف المعنى من خلال الاستعمال. يقدِّم الفيلسوف فتجنشتين هذا التحليل فيقول إنه إذا عرفنا كيفية استعمال كلمة معينة فحينئذ ٍ نعرف معناها و لذلك الاستعمال يحدِّد المعاني. و طبعا ً استعمال الكلمات و العبارات يكون في سياق معيّن ما يدل على أنَّ السياق أيضا ً يشارك في تحديد المعنى. لكن التحليل الإنسانوي يعرِّف المعنى من خلال الاستعمال و السياق بالإضافة إلى قِيَم الصدق و ظروف النطق. من هنا , الحجة السابقة على أنَّ الاستعمال يحدِّد المعاني هي أيضا ً حجة على صدق التحليل الإنسانوي. هكذا عندما وَحَّد التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي بين المذاهب الفلسفية المختلفة اكتسب فضائلها. و بعملية التوحيد هذه يتجنب هذا التحليل أيضا ً مشاكل المذاهب الفلسفية المختلفة في المعنى. فالمعاني التي من غير الممكن التعبير عنها من خلال قِيَم الصدق يُعبَّر عنها من خلال ظروف النطق و العكس صحيح ما يجنب التحليل الإنسانوي للمعنى مشاكل المذاهب الأخرى.
تجنب المشاكل الفلسفية
ينجح التحليل الإنسانوي في تجنب مشاكل المذهبيْن الواقعي و اللاواقعي. ثمة مشكلة أساسية تواجه المذهب الواقعي ألا و هي أنه لا يتمكن من التعبير عن أنَّ التحايا كتحية " مرحبا " و الأسئلة و الأوامر لها معان ٍ. هذا لأنه يقول إنَّ قِيَم الصدق تحدِّد المعاني بينما التحايا و الأسئلة و الأوامر لا تملك قِيَم صدق فلا نقول مثلا ً إنَّ "مرحبا" صادقة متى تحققت قِيَم الصدق هذه أو تلك. لكن التحليل الإنسانوي يتجنب هذه المشكلة و ينجح في التعبير عن أنَّ التحايا و الأسئلة و الأوامر لها معان ٍ. بالنسبة إلى التحليل الإنسانوي , المعاني مُحدَّدة من قبل قِيَم الصدق و ظروف النطق و الاستعمال و السياق. من هنا , من منظور التحليل الإنسانوي للمعنى , التحايا و الأسئلة و الأوامر لها معان ٍ لأنه توجد ظروف نطق تسمح لنا بالنطق بها و استعمالها كأن نكون في ظرف اللقاء مع أحد فيكون لدينا ظرف نطق يبرِّر أن نلقي التحية "مرحبا".
أما المذهب اللاواقعي في المعنى فيواجه مشكلة أساسية ألا و هي أنه توجد عبارات لها معان ٍ لكنها لم تُكتشَف بعد كالعبارات العلمية الصادقة التي لم نكتشفها بعد. لكن لكون هذه العبارات غير مُكتشَفة , إذن لا توجد ظروف نطق تسمح بنطقها و استعمالها و بذلك هي خالية من معنى بالنسبة إلى المذهب اللاواقعي القائل بأنَّ ظروف النطق تحدِّد المعاني. من جهة أخرى , التحليل الإنسانوي يتجنب هذه المشكلة لأنه يحلِّل المعاني من خلال قِيَم الصدق أيضا ً و ليس فقط من خلال ظروف النطق. من منظور التحليل الإنسانوي , تلك العبارات التي لم نكتشفها بعد لها معان ٍ رغم أنها بلا ظروف نطق و بلا استعمال لأنها تملك قِيَم صدق فهي صادقة متى طابقت الواقع و كاذبة متى لم تطابق الواقع و بذلك لها معان ٍ. هكذا يتجنب التحليل الإنسانوي هذه المشكلة. كل هذا يرينا نجاح التحليل الإنسانوي للمعنى في تجنب المشاكل الفلسفية ما يدل على صدقه.
بالإضافة إلى ذلك , بما أنَّ بالنسبة إلى التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي , المعنى قرار اجتماعي في المستقبل على ضوء قِيَم الصدق و ظروف النطق , إذن قِيَم الصدق و ظروف النطق معا ً تحدِّد المعاني. لكن قِيَم الصدق مرتبطة بما يوجد من حقائق في الواقع خارج الإنسان بينما ظروف النطق مرتبطة بنا كبشر و بما نملك من حجج للنطق. و علما ً بأنَّ المعاني مُحدَّدة بقِيَم الصدق و ظروف النطق بينما قِيَم الصدق مرتبطة بالواقع لكن ظروف النطق مرتبطة بنا , إذن المعاني مُحدَّدة بما هو في الواقع و بما هو مرتبط بنا ما يمكّن المعاني من التعبير عن الواقع خارج الإنسان و التعبير عن الإنسان و ما بداخله في آن. هكذا ينجح التحليل الإنسانوي السوبر مستقبلي في تفسير لماذا تتمكن المعاني من التعبير عن الواقع و الإنسان في الوقت عينه و لماذا المعاني بذلك مرتبطة بالضرورة بنا و بالواقع. من هنا يكتسب التحليل الإنسانوي قدرة تفسيرية أساسية ما يدل على نجاحه فصدقه. فالمعاني معبِّرة عن الواقع و عنا في آن لأنَّها مُحدَّدة من قِبَل الواقع ( المتمثل في قِيَم الصدق ) و من قِبَلنا ( ممثلا ً في ظروف النطق ).
المراجع
)1(
Donald Davidson : Inquiries into Truth and Interpretation. 2001. Second Edition. Clarendon Press.
(2)
Michael Dummett : Truth and Other Enigmas. 1978. Third Edition. Harvard University Press.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟