|
دنيا جديدة
منوّر نصري
الحوار المتمدن-العدد: 5867 - 2018 / 5 / 8 - 22:18
المحور:
الادب والفن
لا يتذكّر أشياء كثيرة عن ذلك اليوم. رغم أنه كان يوما غير عاديّ. كان تحوّلاً أعطى لحياته اتجاها آخر وطَعْمًا آخر وألوان أخرى. كان منعطفا لا يدري إلى أين سيأخذه... وهل سيفتح أمامه دنيا جديدة يُعجبه البقاء فيها... ويشاهد فيها ألوانا لا يعرفها... وتنشرح نفسه لرؤيتها... ويستمتع فيها بوقته الذي أصبح، شيئا فشيئا، ومنذ بعض السنوات، مُمِلاًّ وثقيلا... لآ يدري ما الذي كان ينتظره وراء ذلك المنعطف الغامض. هل كانت تنتظره محطّات يفرح فيها أم كانت تنتظِرُه طرقات مغبرّة ورحلات مضنية لن يعرف فيها غير التعب والهَوَان. كانت كلّ الاحتمالات مفتوحة. ورغم ذلك كانت رغبته في السير في المنعطف جارفة. انتفض قلْبُه عند الاقتراب من المنعطف. كانت رعشةً كبيرة عبثتْ بمشاعره وجعلتْه كالقصبة في مهبّ الرياح. أحسّ أنّه ضعيفٌ أمام المنعطف الذي انفتح له. لا يستطيع مقاومة رغبته في دخول المنعطف حتّى لو كان فيه خطرٌ على سلامته... أشياء في داخله تدفعه إلى التقدّم. وهناك أصوات خفيّة كانت تناديه وتحثّه على السيْر إلى الأمام ودخول المنعطف... ربّما كانت نفسه مشتاقة إلى شيء جديد ينفخ فيه مسرّات افتقدها منذ بعض السنوات. ربّما لم يعُدْ يطيق الرتابة التي دخلتْ في حياته فأفسدتْها ولم يبق فيها شيء يستحقّ الاهتمام. ربّما كان يرغبُ، دون وعْيٍ بذلك، في أن يحدث شيء جديد في حياته يعطيها معْنًى آخرَ ويُخرجُها من دائرة الرتابة والملل اللّذيْن تلوّنتْ بهما منذ سنوات... المنعطفُ الذي انفتح أمامه ملوّنٌ بالإغراء رغم المخاطر التي ينطوي عليها. نفسُه تدفعه إلى السّيْر فيه ونفسُه تحذّره من المخاطر التي قدْ تعترضُه فيه. وهو خائف وفي نفس الوقت متلهّف إلى معرفة ما سيؤول إليه الأمرُ بعد المغامرة التي انفتح لها الباب. لعلّ الغالبَ في توَقُّعاته هو أن تنكشفَ له مسرّاتٌ جديدة ودنيا مختلفة يستمتع فيها بألوان أخرى من المباهج والأحداث السعيدة. قلبُه يميل إلى قبول الاحتمالات الإيجابية والتغاضي عن الأفكار المتشائمة التي لا تستطيع إلاّ أن تمنعه من التقدّم. قَلْبُه يرنو إلى وَضْعٍ أفضل. ولن يستطيع الوصول إلى الأفضل بمواصلة السّيْر في الطرقات القديمة التي لم يعُدْ يجدُ فيها غيرَ الرّتابة والضّجر... مرارة الضجر الذي بدأ تدريجيّا يستقرّ في حياته تحتاج إلى أحداثٍ جديدة. ومَنْ سيصْنعُ له هذه الأحداث؟ هلْ هناك غيْرُه مَنْ يصنعُ له الأحداث الكفيلة بتغيير ألوان حياته؟ هل يوجد أناسٌ آخرون تهمّهُمْ حياتُهُ ويحزُّ في نفسهم أن تصبحَ هذه الحياةُ لا لونَ ولا طعْمَ لها، ويسْعَوْنَ إلى إدْخال المسرّات عليها ليستعيدَ حيويَّتَه وتوازُنَه وطموحه؟... لاَ أحدٌ غيرُهُ يصنعُ له الجديد... لآَ أحدٌ غيرُهُ يصنع له الأفراح... إذا كان يطمح حقّا لِصُنْعِ الفرح في حياته، فعليه أن يخوض المغامرة... دون تردّد، دون خوف من النتيجة... قدْ تضيع الفرصة نتيجة التردّد. الفرصة عندما تأتي لا تنتظر... وهلْ يَكُونُ المُنعَطف الذي انفتح أمامه فرصةً للتّحليق في فضاءاتٍ أرْحَبَ، وفي دنيا جديدة تَحْدُوهُ رغبةٌ خفيّةٌ في الدّخول إليها. كَأَنَّ الشارعَ لم يكن موجودًا. كأنّه انفتح أمامه فجأةً. رغم أنه موجودٌ كعادته... تقريبٌا كما كان منذ أن عرفَه من سنين طويلة... منذُ أن جاء ذات سنةٍ، مضى عليها الكثير، واستقرَّ في أحد المنازل الواقِعِ بعْدَ مُنْتَصَفِهِ بقليل، على اليَمِينِ، وهو عائدٌ من وسط المدينة، حيث مقرُّ عمله، وعلى اليسار، وهو خارجٌ باتجاه السّوق أوْ مقرِّ العمل. كَانَ عائدًا من العمل، على القدَميْن. كانتْ له سيارة من نوع "رينو 19" رماديّة تميل إلى اللون البُنّي، متوسّطة في عمرها. مازالتْ نظيفة نسبيّا. ولكن في أغلب الأحيان، كان يعطيها لإبنه الذي يشتغل في أطْرَفِ المدينة. كَانَ عائدًا لا يَعْلمُ فِيمَا كان يفكّرُ. أوْ لعلّهُ كان يفكّر في شيء محدّدٍ ونسيَ الآنَ ما كان يفكّر فيه... لم يكن الشارع حاضرًا في ذهنه رغم أنّه كان يسير فيه... كانَ يُمسكُ بيَدِهِ شيْئًا. يَبْدُو أنَّها بعْضُ ملابسه التي عاد بها من "المصبغة" بعد غسْلها بِـ "الشّايح". كان قدْ وضعها في كيسٍ بلاستيكيّ واسع من النّوع الذي تسْتعْملهُ مغازات بيع الملابس. لم يَعُدْ يذْكُرُ لونه. ربّما كان أسود أو أخضر... كَأَنَّ الشارعَ كان غائبًا عن ذهنه رغْم أنّه مَشَى فيه أكثر من مائة مترٍ... وفجأةً ظَهَرَ الشارعُ... ظَهَرَ بألوان أخرى... لاَ يُمْكِنُ تحْديدُها... ولكنّها أخّاذةٌ... انتفضَ قلبُه... أعْجبتْهُ ألوانُ الشارعِ في تركيبتها الجديدة... ثمّةَ ابتسامةٌ ارتسَمَتْ في داخله... ثمَّةَ فرَحٌ ناشئٌ قفَزَ في كيانِهِ... الشارعُ الخاوي الذي لمْ يكنْ يُلهمُه أيَّ شيء يتحوّلُ فجأة إلى شارعٍ يحتفلُ بألوان البهجَة... الشارع القديم تُبْعَثُ فيه روحٌ مختلفة تتوهّجُ بالمسرّة... الشارع الرَّتِيبُ يُطْرِدُ الرتابة وتنبعث منه نغْمة الحبور... الشارعُ جديدٌ، أوْ هكذا بدَا له في تلك اللحْظة... هناك فرحٌ غامضٌ أشْعَرَه أنّ الشارع جميل، ويُمْكِنُ أنْ تَحْدُثَ فيه أشياء يُحبُّها، تُلهِمُهُ مشاعر أخرى وتنْفُخُ فيه أمَلاً جديدًا... منذُ سنوات، لمْ يعدْ يتعاملُ مع الأمل... فَقَدَ الثقةَ فيه... لمْ يَعُدْ ينتَظرُ شيْئًا جديدًا يُخرِجُهُ من النّفقِ الطويلِ الذي يشعُرُ أنّه موجودٌ فيه منذُ مدّة... ثمّةَ يَأْسٌ تسرّبَ إليه على امتداد السنوات الأخيرة... هناك طوْقٌ شفّافٌ من الحزْن بدأَ يلفّه منذ مدّة... سُحبٌ من الكآبة انتشرتْ في سمائه وتلاشتْ في طيّاتها الألوان المُفْرِحة... شيْءٌ يُشبهُ البكاءَ كَانَ يعْلُو في داخله... نشيجٌ أخْرسُ كان ينبعثُ من أعماقه ويستقرّ على وجهه ليَبْسُطَ عليه غشاوةَ الحُزْنِ الرّماديّة... أحْداثُ السنوات الأخيرة كلُّهَا مُوجِعَةٌ... الوَجَعُ تغَلْغَلَ في وجْدَانهِ وَأَغْلَقَ النّوافِذَ التي كانَتْ مفْتوحة للفَرَحِ ... ولكنّ الشارعَ ظهرَ كما لم يظْهرْ من قبْلُ... ظهَرَ في ثوْبٍ جديد... حافلاً... ألوانُهُ تُنْسي الكآبةَ القديمةَ... الكآبَةَ المقيتَةَ... ظهَرَ الشارعُ... بِلاَ غُبار... بِلاَ رتَابة... تحسّنَ الأسفلْتُ الذي تنْتشرُ فيه الحُفَرُ وتُلْقى على جانبيْه بقايا موادّ البناء وأحيانا بعض أكياس الأوساخ التي تفْتَحُها القططُ فيتبعثر محتواها هنا وهناك... كأنّ الشارعَ لم يكنْ موجودًا، ثمّ ظهرَ فجأةً... في أجمل ثوبٍ رآه فيه منذُ أن استقرّ في أحدِ منازله... كأنّه يكتشفُهُ لأوّل مرّة، وينتبه إلى أنّ هذا الشارع ليْسَ كما كان يعْتقدُ، رتيبًا ومُمِلاًّ ولا يتوقّعُ فيه أحداثًا تُدْخِلُ في قلْبِهِ المسرّةَ... أطلّتْ... رآها فجأةُ أمامه، ولكنّه لا يدري من أيْن جاءتْ، وأيّ الطرق أوْصلتْها لتنبثق من أمامه... كالحُلْم... كالأمل... كالصّباح الجديد... كالليلة المقمرة... امتلأ الشارع بحضورها وقدْ كان خاويًا، مكفهرّا، يائسًا، بائسًا، يثْقُلٌ فيه الصّمتُ، وتعْبثُ في جانبيْه الرّتابةُ، ويتعكّرُ هواؤُهُ بالأوجاع والمعاناة والخصاصة المُنْبَعِثَةِ من المنازل الرَّابِضَةِ على الجانب الأيمن في بدايته، ثمّ على جانبيْه، مباشرة بعد تجاوز المؤسسة التكوينية الكبيرة الواقعة في الجانب الأيْسًرِ عند دخوله. أطلّتْ باسمةً، يانعة، رشيقةً، خفيفة، كغزالة... لمْ ينْتبهْ لوجودها إلاّ وهي قريبة منهُ... انتَبَهَ وهي تبتسمُ إليْه... كأنّه كان في غفْوةٍ وأفاقَ... لكنّه لمْ يُفقْ مذعورا كما يحْدُثُ عندما تكون الغفوةُ جميلة. بلْ أفاق من غفوةٍ مملوءة بالشّجَنِ الجاثم على النفس. أفاق ورآها تبتسمُ له... أبْصَرَهَا تتقدّم نحوه ثمّ تتوقّف أمامه وتصافحه... وجهها طافحٌ بفرحٍ افتقدَهُ من سنين... ابتسامتها بعثرتْ مشاعره وجعلتْه يبْحثُ عن كلمات تليق بالمقام... لم يجد الكلمات المناسبة منذ البداية... أحسّ أنّه لا يُحسِنُ الكلام... وأنّها تُواجه الموقفَ بأكثر اقتدارٍ... حاول أن يستجمع قدراته في التواصل مع سيّدة جميلة... سيّدة لا شقراء ولا سمراء... سيّدة بيضاء البشرة... شعرها حرير متهدّل يعزفُ موسيقى لا يعْرفُ أيْنَ سمعها، ولكنها مازالتْ عالقة بوجدانه... ابتسامتها فرْحة أطفال يوم عيد، أوْ يومَ يُلاَقُونَ أمّهاتهم بعد غياب طويل... عيناها دنيا جديدة تنفتحُ أمامه، وتدعوه بمودّة إلى دخولها والإقامة فيها، واستِطَابَةِ العيش هناك... لا طويلة ولا قصيرة... بيضاء ... وديعة... كحمامة وهي قادمة... في حضورها سحرٌ يملؤه حبورا... أحسّ أنّ البهجة تغمُرُه من مجرّدِ قدُومها نحوهُ... مازال الانبهارُ بحضورها يَعوقُهُ عن الكلام... مازال الانفعال في أشُدّه ولا يستطيعُ استرجاع هدوئه بيُسْرٍ... لكنْ لِكَيْ يستطيع التحدّثَ معها والانتعاش بكلامها، لاَبُدّ أنْ تهْدأَ نفسُهُ ويكفّ قلبُهُ عن الرّقص العنيف الصاخب وسط صدره الذي تُدَقُّ فيه طبولٌ يَبْدُو أنها تُسْمَعُ من الخارج... من المفروض أنْ لا يشعُرَ بكلّ هذا الارتباكِ لأنّه كان يعْرفُها في العمل. وقدْ سبق أنْ تحدّثَ معها بَعْضَ المرّاتِ. كان حديثا خاليًا، في معظمه، من المسائل الشخصيّة، ولمْ يكُونَا على انفرادٍ، كما هو الحال الآن. وحتّى في المرّات السابقة التي تحدّث فيها معها، ورغم أنّ الحديث شاركهما فيه آخرون، فقدْ أَحَسَّ أنّ روحًا خاصّةً كانتْ تريدُ أنْ تَجْمَعَ بيْنهما... ثمّةَ شيءٌ يعملُ في الخفاء ويسعى إلى التقريب بينهما... كانتْ نفْسُه تحدّثه بهذا من حين إلى آخرَ... والآن... وهي تخرج كالقمر الزاهي في كوْنه المظلم.... وشَعْرُهَا المتهدّل يُسافرُ به إلى أقاصي الحُلْمِ... وابتسامتها تفْتحُ له دروبَ دنْيَا جديدة تُذَكِّرُهُ بالشهقة أمام الألوان... والآن، وهي تظهرُ أمامه كأغنية مسافرة، من تلك الأغاني التي ما عَادَ يسمعها، ولكنّها عالقة في الوجدان... تبدو الآن رقيقَة، رشيقةً، هادئة، رائقةً، حمامةً، غزالةً، تأخذُهُ المشاعرُ إليْها... ويقفُ ضعيفًا أمامها كطفْلٍ يتعلّمُ الكلامَ... كطفلٍ أمام الغزالة التي يحبّها... يريدُ أن يُمسكها... لكنّه يخشى أن تهرُبَ منه ولا يستطيع إرجاعها... تخيّلها غزالة شرودًا... في مَلاَمِحِهَا ما جعله ينظر إليها كغزالة رغم أنّها لم تكن نحيفة... ولم تكن ساقاها رقيقتان. لاَحَظَ ذلك في بَنْطَلُونُهَا الفاتح الذي كانتْ ترتدي معه معطفًا أسود خفيفا وقصيرا نسبيّا... لم يَعُدْ يذْكُرُ هلِ كان المعطف مفتوح الأزرار من الأمام أوْ مغلقًا وماذا كانت ترتدي تحته... حالتُهُ النّفسيّةُ المرتبكة جعلتْهُ قليلَ الانتباهِ إلى هذه الجوانبِ... ولكن يبدو أنّها كانت ترتدي بُلُوفرًا خفيفًا يميل إلى الّلونِ الأرجوانيّ الفاتح... كلّ شيء فيها كان يجذِبُهُ إليها. ولكنّه مُتَلَعْثِمٌ، غيرُ قادِرٍ على التحكّم في مشاعره... غلبتْهُ أحاسيسه الجامحة فوجدَ نفسَه بِلاَ كلمات... لا يجدُ ما يقول... تمْلَؤُهُ الغبْطة بلقائها، ويتخبّطُ في مشاعر البهجة والاحتفال، فيفقدُ الكلمات التي تسْتحقّها. اختلط إحساسه بالفرْحة العارمة بشيء من النّكْسَةِ... أَيَكُونُ إلى هذا الحدِّ عاجزًا عن إيجاد الكلمات المناسبة التي تستجيب لانتظارات سيّدة جميلة، تعلّقتْ بها نفْسُهُ ؟ لمْ تكنْ هذه حالُه في العادة. يعرفُهُ النّاس بأنّه يُحسنُ الكلام، شفاهيّا وكتابيّا. فَمَا الذي بعْثَرَ الكلمات في رأسهِ؟ وما الذي أسْكَتَ الأشعارَ التي تعالتْ في ذهنهِ عندما ظهرتْ أمامهُ كالغزالة، كالحمامة ؟ ما الذي أسْكتَ الجِيتَارَةَ السَّكْرَى التي كانتْ تعزفُ أناشيد اللقاء البهيج ؟ كأَنَّهَا أدْرَكَتْ أنّه لا يَجِدُ الكلمات، فبادرتْهُ لتفْتَحَ مَعَهُ الحديثَ، ولِتُنْجِدَهُ بموضوع يُمْكنُ البدايَةُ منهُ ليَطُولَ اللقاءُ قليلاً. - ليس العمل وحده هو ما يجمعنا. بل يبدو أننا جيران أيضا. - لمْ أرَكِ من قبْلُ في هذأ الحَيِّ. هلْ تسكنينَ هنا ؟ - ليْس بالضّبط. فأنا أسكن هنا لضرورة العمل. - لآ أفهمُ جيّدًا. هلْ تقصدين أنّكِ ترَكْتِ مقرَّ إقامتِكِ الأصليِّ وجئْتِ هُنا من أجلِ العمل؟ - نعمْ. ولكنّني جئتُ بمفردي وتركْتُ عائلتي هناك. - وهلْ تَقْدِرِينَ على الحياة بمفردك ؟ - لستُ بمفردي. فأنا مع أبي، في منزله. - أنتِ إذنْ بَيْنَ أفراد أُسْرَتِكِ الأولَى، ولا خوْفَ عليْكِ. بلِ الخوفُ على أفرادِ أسرتِكِ الثّانية. فَهُمْ مَنْ سَيَتَعَذَّبُونَ بدونِكِ. تفتّحتْ قريحته وأصبحَ قادرا على الكلام. هي مَنْ مدّتْ له "خيط أرْيان" ليتعلّقَ به ويسيرَ على هدْيِهِ إلى برِّ الأمان... الآن أصبحتْ لديْه قوّة تسْمحُ لهُ حتّى بإنتاج الأغاني لإهدائها إليْها. زال التردّدُ والخوْفُ، وأصبَحَ الحلْمُ بين يديْه... الحلمُ في متناوله لكنْ يجبُ أنْ يعْرفَ كيْفَ يفيشُ الحلمَ... الحلْمُ لا يكونُ في المتناوَلِ كلّ يوم... لكنْ عندما ياْتي... عندما يمكن أن يُلْمسَ باليديْن، لابدّ من المحافظة عليْه حتّى لا يتبخّرَ، لأنّه لَوْ تبخّرَ، لنْ ينفعَ حتّى البكاء كالأطفال الذينَ افتقدوا أمّهاتِهمْ. كان يحبُّ أنْ يفتحَ معها حديثُا من نوع آخر. بلْ لاَبُدَّ أنْ يَبْدأَ هذا الحديثَ الآن. لنْ يجدَ فرْصةً أخرى أفضلَ من هذه تسمحُ له بالتّحدّثِ في المشاعر والمسائل العاطفيّة... كانت الكلمات تزدحم في نفسه تريدُ أن تبوحَ بما يحْدُثُ بِوِجْدَانِهِ... كانت الجيتارةُ التي سكنتْ منذُ لحظات بِسَبَبِ التلَعْثُمِ قدْ عادتْ إلى العزْفِ السّعيدِ... وعادتْ معها الأغاني السّكْرَى تلوّنُ الفضاءَ بربيع آخرَ. بادرها، بشيءٍ من الدّعابَةِ: - تبْدينَ نشِطَةً وشابّةً. لاحظْتُ ذلك في مشْيتِكِ الثَّابِتَةِ... الصِّغَرُ والجمال... رأيْتُكِ قادمةً، تمشِينَ بثباتٍ، فقُلْتُ في نفْسي: مَنْ تَكُونُ هذه الطّفلةُ التي تسيرُ كغزالة ؟ - لاَ يَغُرَّنَّكَ الصِّغَرُ الظّاهِرُ. فهو كَصِغَرِ العِنَبِ المُكَمَّشِ. - مَهْمَا قُلْتِ عَنْ نَفْسِكِ، فَأنأ أراكِ صغيرة... مازلْتِ في عنْفُوَانِكِ. - أوْلادي كِبارٌ، فِيهِمْ مَنْ هوَ في الجامعة، وفيهِمْ مَنْ هُوَ في الثّانوي والصّغيرة فيهمْ في الإعْدادي. فَكيْفَ أكونُ صغيرةً ؟ - أنتِ صغيرة في نظري. كلُّ ما فيكِ يَشْهَدُ بذلك. ابْتَسَمتْ لكَ... أسْعدتْكَ الابْتسامةُ... كُنْتَ تتمنّى في قرارة نفْسِكَ أنْ تراها دائمًا تبْتَسمُ لكَ... ولكنْ هيْهاتَ... هذه الابتسامة حالَةٌ استثنائيّةٌ في سجِلِّ أحداثِ حياتِكَ العاديّةِ... لحظةٌ خارجةٌ عنْ تاريخك الشّخصيِّ... نَغْمةٌ لاَ عِلْمَ لَكَ كيْفَ وصَلَتْ إليْكَ... جيتارةٌ عَزَفَتْ لَكَ وأنْتَ كالسَّكْرانِ لاَ تتَحَكَّمُ فِي شيْءٍ... حُلْمٌ تراءى لكَ وأَردْتَ اسْتِبْقاءَهُ لكنّهُ سَيَزُولُ... فَرْحةٌ زرَعتْ في نفْسِكَ ألْوانًا أبْهَجَتْكَ ولكنَّهَا سَتَمُرُّ. شعُرَ أنَّهَا اسْتَلْطَفَتْ كلامَهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ الأمْرُ أكثرَ من ذلكَ. قدْ تكونُ أحبّتْ ذلك الكلام. وقدْ تكونُ في حاجةٍ إليْهِ... ولكنْ هلْ تكونُ في حاجةٍ إليْه مِنْ أيِّ رَجُلٍ، أمْ منْهُ هُوَ بالذّاتِ؟... حيْرةٌ صاخبةٌ نشبَتْ فِي داخله وبعْثَرَتْ مشاعِرَهُ رغْمَ أنَّ المقامَ لاَ يَتَحمّلُ التّوقُّفَ عن الحديثِ. لاَ يُمْكِنُ أنْ يَبْقَيَا واقِفَيْن في الشارع وهُمَا صَامِتَيْنِ. - سُعِدْتُ بالالْتقاءِ بِكَ. كانتْ صُدْفةً حسنةً سمحتْ لَنَا بِمزِيدِ التّعرّفِ عنْ بَعْضنا. - هَلْ سَتُغادرينَ ؟ وبهذه السّرعة ؟ - يجبُ أنْ أذْهَبَ. حتّى المكان غير مناسب. - سوْفَ نُوَاصِلُ الحديثَ. أَلَيْسَ كذلِكَ ؟ افتَرَقَا ونفْسُهُ تتمنّى لَوْ طالَ الحديثُ... لَدَيْهِ شهْوَةٌ مكبوتَةٌ في مزيدِ الوُقوفِ معَهَا والاستماع إليْها وتَمْرير بعْض المشاعر بأُسْلوبٍ مُبَطَّنٍ وتَمَلِّي وجْهِهَا البَهيَ الطَّافِحِ بالبَهْجَةِ والطفولةِ... تتحوّلُ الشّهْوةُ في الحينِ إلى شُعورٍ بالمرارة... بالحرمان... هُناكَ صخَبٌ في نفْسه... منْ ناحيَةٍ يُحسُّ أنّ شيْئًا إيجابيّا حَصَلَ... ومنْ ناحية ثانيَةٍ، يُحسُّ أنّهُ يزْدادُ حاجةً إليْهَا... يزدادُ عطَشًا إلى وجهها أمامهُ... إلى حريرِ شَعْرِها المتهدّل... إلى الألوان الجميلة التي تمْلأُ عيْنيْهِ وهيَ تُحدِّثُهُ... سَيَعودُ إلى منْزله ونَفْسُهُ تتخبَّطُ ولاَ تفْهَمُ مَا يَحْدُثُ بِهَا... نَفْسُهُ تتلاعَبُ بها أمواجٌ شَتَّى... أمواجٌ للفرحِ القادِمِ وأخرى لليَأْسِ... ولكنْ هَلْ سَتَصمُدُ بذْرَةُ التّفاؤُل عنْدَما يَدْخُلُ إلى منزِلِهِ ويُواجِهُ المرضَ المُنْتَشِرَ في أرجائِهَا ... ويمُدَّ يَدَهُ بِحُنُوٍّ لامرأةٍ رافَقتْهُ سنينَ طويلة وكانتْ تَحْنُو عليْهِ وبادَلَهَا الحُبَّ والعَطْفَ كثيرًا... وهي الآنَ تتوجّعُ وتئنّ، وجسمُهَا يَنْخُرُهُ المرضُ... ورغم أنَّ جسْمَهَا فَانٍ ، ومَلاَمِحُهَا لمْ تعُدْ معْروفةً لِمَنْ لَمْ يُواكِبْ أطوارَ مرَضِهَا، مَازالتْ تحبُّهُ... وتنْتظرُ عوْدتَهُ من العمل... وفي أوقات الصّحوة من المُنوِّمِ الطّبّيّ، تسْألُ عنْهُ ابْنَتَهَا ... أوْ تُناديهِ باسْمِهِ لتُعْلِمَهُ أنَّهَأ غيْرُ نائمةٍ... ليَذْهبَ نحْوَهَا... ويَحنُوَ عليها.
#منوّر_نصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
امرأة افتراضية
-
نتائج البكالوريا 2015 : الواقع والتأويل - المعاهد العمومية ب
...
-
أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين وموقع المتفقدين ا
...
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|