|
إلِكْترا: الفصل الثالث 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5866 - 2018 / 5 / 7 - 00:41
المحور:
الادب والفن
عند افتراقها عن المرافقة، وعلى مألوف عادتها كلّ مرة، استلّت " سوسن خانم " قبلة من شفتيها. عادةً، كانت تشعر برعدة في داخلها لحظة مسّها للشفاه الممتلئة، الشهوانية. إلا هذه المرة، حيث ضغطت بقوة على فم الفتاة وكأنما بغيَة معاقبته على ما تفوّه به قبل قليل. إذ كانت قد ألمعت لمسلك " رفيق "، فيما أصابعها تتغلغل في شعر رأس الفتاة الكثيف والناعم: " ذلك العراقيّ.. أعني، صهر العائلة.. إنه لم يرفع نظره عنك، غير عابئ بمشاعر امرأته. كم هوَ فاجرٌ، وقح! ". ظلت المرافقة صامتة، تقود السيارة، ولو أنّ عينيها اليقظتين تألقتا بما يُشبه الرضا. فاستمرت معلّمتها بالكلام، مغتاظة بعض الشيء. قالت متضاحكة بتكلّف، بعدما قرصت أذن الفتاة بحركة مداعبة: " يبدو أنه تمتّع في خلال السهرة بمرأى جمالٍ مغربيّ، غير ما عرفه حتى الآن.. " " أكان يعرفُ عديداً من الفتيات، هنا في مراكش؟ " " نعم، فتيات ساقطات.. " " كيفَ اقترنت به تلك المرأة إذاً، وهيَ فضلاً عن غناها ما تفتأ شابّة؟ "، تساءلت المرافقة بنبرة استطلاع أكثر منها ريبةً. على الرغم من ذلك، استعرّ حنق الخانم. أجابتها وهيَ تروز سحنتها بنظرة متفحّصة: " إنها غنية، نعم. ولكن مالها حصلت عليه من مغامرة سابقة مع عجوز فرنسيّ، أنجبت منه ابنة. مع أنّ ثمة شبهة، بكون الابنة نتيجة علاقة الأم بالعراقيّ.. ". ثم سكتت كي لا تشغل مرافقتها، التي أعطت إشارة توقف للانعطاف نحو الشارع الفرعيّ المتصل بمسكنها. وكانت " زين " قد أطلقت ضحكة خفيفة، تعليقاً على جملة مخدومتها الأخيرة. وهيَ ذي تعود للتساؤل، بينما تتابع بعينيها حركة الطريق: " مغامرة فعلاً، هذه المرأة. بل إنها بالفعل ساقطة، لو أنها حقيقية تلك الشبهة ؟". بقيَ الاستياء ظاهراً على ملامح الخانم، مثلما انعكس ذلك في عينيّ مرافقتها. تحركت هذه الأخيرة لتدلف من السيارة، فيما قبعت الأخرى هامدة مع فكرها. إلا أنها خرجت عن صمتها، قائلة فيما يدها تشد على معصم الفتاة، المكتنز كقرص الشهد: " سنتكلم عن الموضوع مفصلاً فيما بعد، فإلى اللقاء غداً ". صورة ذلك الرجل، كانت ترتسمُ ظلاً أسود على الصفحات البيض لدفتر المذكرات. كانت الخادمة قد لاحظت تكدّر مزاج سيّدتها، مذ وضعت فنجان قهوة الصباح على منضدة الكتابة. بدَورها، انتبهت الخانم لحركات " للّا عيّوش " العصبية وكذا لأثر الدمع في عينيها المكحلتين. أدركت أنّ الأمرَ يتعلق بزيارتها للفيللا ليلة أمس، وأنها منزعجة لحرمانها من فرصة مرافقتها كي تلتقي " خَجيْ "؛ حبيبتها الصغيرة، التي أرضعتها من حليب ثديها وكانت تعدّها بمثابة ابنة. على أنها صرفتها بسرعة، بعدما شفّت حركاتها وهيئتها عن رغبةٍ بالسؤال عن الصغيرة. لم يكن ثمة مزاجٌ لفتح حديثٍ كهذا، مثيرٍ لمكامن النفس. دود الذكريات، كان عندئذٍ يستعد للزحف من بستان الذهن إلى إسفلت الواقع، لينتحرَ واحداً بأثر الآخر تحت عجلات الزمن. كانت " خدّوج "، الخطيبة السابقة للعراقيّ، صبية جميلة سمراء. فضلاً عن ذلك، تمتعت بميزة كونها الابنة الصغرى للأسرة، ما أنعكسَ على تربيتها ومسلكها وشخصيتها. بحَسَب الصورة، المنقولة عن مذكرات " شيرين "، كانت فتاة مدللة منطلقة محبة لمباهج الحياة. وبالوسع القول، في التالي، أنها كانت سهلة المنال. خطبتها لذلك الرجل، التي كانت أشبه بصفقة تجارية، ربما هيَ سببُ إفسادها. ثم جاء حدثُ فضّ عقد القران، ليبلبل كيانها بشدّة ويسلّمها للمرض النفسيّ. قد يقال بشأن تلك المذكرات، أنها غلت غلواً كبيراً في تقييمها لابنة الأسرة المحسنة، خصوصاً أن " شيرين " أقامت تحت سقفهم لنحو شهرين لا غير. ولكنّ النطفة بالرغم من دقّة حجمها، تُعطي حياةً كاملة. مع كلّ الضجة، المصاحبة لحضور ابنة أخيها ( المفقودة الأثر زمناً )، بقيت " خدّوج " ملتزمة عزلة حجرتها في الدور الثاني من الفيللا. هنالك، كانت تحتضنُ في سريرها حبيبتَها وسميّتها، المستغرقة في النوم. قبل قليلٍ من مقدم أختها غير الشقيقة، " خولة "، ظهرت هيَ على غرّة عند إطار باب الصالة وكانت تتنفس بعسر. ظلت برهة مترددة، تتطلع من موقفها إلى الضيفتين وقد لاحت نظراتها قلقة نوعاً. إلى أن أخرجتها الأم من حالة الذهول، حينَ دعتها إلى التقدم لتحية ابنة أختها. هذه المسكينة، كانت هيَ كذلك ذاهلة عمّن حولها وكأنها لا تنفكّ غير مُدركة لما حاقَ من تغيّر في حياتها خلال هذا اليوم. احتضنتها خالتها الصغيرة في غمرة الدموع والتنهدات، ثم تركتها كي تجلسَ بالقرب من الأم. اتخذ " رفيق " مظهراً أكثر وداعة بحضور من أوقع بها أذى لا يُجَبّر، حتى ولقد رشقها بنظرةٍ تفيضُ حناناً. وها هي قرينته تنهض من مكانها برشاقة عجزها المترنح، متوجهة إلى ابنة خالتها كي تقبلها. " أختي الصغيرة، وأعز الناس لقلبي! "، ابتدأت بالقول ضاغطةً إلى وجنتها الكفَّ الممدودة لمصافحتها. تعبيرٌ بريء، طفوليّ، ارتسم عندئذٍ على سحنة " الأخت الصغيرة ". عادت الأخرى، الملولة، للقول بحماسة: " رفيق، أقترح عليّ للتو أن نقوم برحلة إلى أوريكا في خلال العطلة؛ فما هوَ رأيك؟ ستأتين معنا بكل تأكيد، حتى نطارد القردة في الجبل على عادتنا في الصغر! ". في الأثناء، كانت " سوسن خانم " تراقب هذه " التمثيلية السخيفة " ـ على حدّ تعبيرها الساخر لاحقاً، آنَ استعادته مع مرافقتها. وكنا قد تركنا " سوسن خانم " في حجرة المرسم، تملي ذكرياتها على الورق. ثلاث ساعات على الأثر، وكانت قد أضحت خلف طاولة مكتبها العريضة، المنحوت خشبها الفاخر بصنعة ومهارة شقيق " زين " الكبير. وكانت هذه الأخيرة ثمة، يوحي فنجان القهوة في يدها بجدّة حضورها. بادرتها معلّمتها بالقول: " لقد اتصلت بي سميّة تلك، لتدعوني لمرافقتهم إلى أوريكا ". رنت إليها الفتاة بعينيها الصافيتين، منفرجة الثغر عن بسمةٍ بضة. فأردفت الخانم، قائلة بنبرة فيها شيءٌ من الحنق: " يقيناً، إنّ رفيق ما جال بباله فكرة الرحلة إلا وهوَ مؤمل منها بصيدٍ ثمين ". بالرغم من كلام مخدومتها المكشوف، احتفظت " زين " بملامح البراءة؛ ولو أنّ اختلاجة هيّنة طرأت على بسمتها الخالدة. نفذ صبرُ الخانم أخيراً، فسألت المرافقة ونبرتها تعلو رويداً: " لِمَ لا تتكلمين؟ أنت مدعوة أيضاً للرحلة.. بل ولعلك هدف هذه الرحلة..! " " أرجوك، سوسن خانم "، قاطعتها الفتاة فجأة وقد شحبَ لونُ سحنتها. امتدت نظرة الخانم المدهوشة من خلال المنضدة، المعكوسة فيها صورتها، لترتفع نحو الفتاة. ولكنها استمرت في إكمال جملتها المبتورة، وقد كسا الامتعاض صوتها: " كنتُ أقول، أنّ ذلك الفاجر المأفون خطط للرحلة من أجلك أنت. لئن كان تعبيري صريحاً، أو فظاً، فليسَ في نيّتي الاعتذار! " " لا أطلبُ اعتذاراً. أريد فقط تفسيراً لما تحيطينني به من شكوك مذ ليلة البارحة؟ "، قالت الفتاة مع ابتسامتها الآيلة للذبول. وإذا الإجابة ضحكة مجلجلة، جعلت مطلقتها تتأرجح في كرسيها الجلديّ الوثير. لفرط براءة " زين "، فإنها سايرت تلك الضحكة المستهترة. بعد وهلة صمت، استعادت مخدومتها نبرتها الجدية، الهادئة على أيّ حال: " سنلبّي الدعوة إذاً، ونقبل التحدي! ويلٌ لذلك الماضي في غيه بثقةٍ لا حدود لها، لأنني سأزرع فيها أشواكاً جديدة تنمو على مهل وتسبب له المزيدَ من الألم! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 3
-
سماءٌ منشقّة
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 2
-
إلِكْترا: الفصل الثالث 1
-
هيتشكوك المصريّ؛ مقاربة لأحد أفلامه
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 5
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 4
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 3
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 2
-
إلِكْترا: الفصل الثاني 1
-
إلِكْترا: الفصل الأول 5
-
إلِكْترا: الفصل الأول 4
-
إلِكْترا: الفصل الأول 3
-
إلِكْترا: الفصل الأول 2
-
إلكِتْرا: الفصل الأول 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل العاشر 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل العاشر 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل العاشر 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل العاشر 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل العاشر 1
المزيد.....
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|