عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5859 - 2018 / 4 / 29 - 03:24
المحور:
الادب والفن
من مذكرات جندي على ساتر الحجابات....ح1
أزيز القصف المتبادل لم يتوقف هذا اليوم... منذ الصباح أشعر بقشعريرة تعتري جسدي كلما هز المكان أنفجار قريب أو بعيد.... حاولت أن أشغل نفسي بأشياء تافهة لعلي أنسى هذا الوجوم الذي ركبني مبكرا كالعادة، لا أستطيع أن أنزع خوذتي الثقيلة من رأسي ولا أستطيع حتى رؤية الجوار.. هناك حشائش وأوراد جميلة نبتت بعد أن غمر الدشت فيض من مطر أذار كأنه لوحة جميلة تلعن قبائح الإنسان، الأحادية المنصوبة أمام الموضع تماما تتكفل بكل حركة لتنهيها في مهدها.... السؤال الوحيد لماذا أنا هنا وماذا دعاني أن أسلم روحي لموت قادم في أي لحظة، بالتأكيد ليس حب الوطن ولا أنتظر مكافأة أو وسام على بطولتي، أنا هنا مثل كلب أجرب يخاف أن تفترسه بقية القطيع السائب.... لذا فعدت إلى مكاني أرقب أي حركة من أتجاه العدو وأحاول أن أبدو طبيعيا أمام رفاقي المتعبين.... حاولت أن أكفر بالمقدسات أو أشتم أولئك الجالسون على بعد مئات الكيلومترات ببزاتهم الخاكية أو لزيتونية المؤنقة.... تذكرت أمي وأنا صغير قالت لا تشتم أحد أبدا، فالشتيمة تتحول إلى طائر خرافي يبحث عن قبر أبيك الذي لم تشاهده ليصب عليه اللعنات... الأجدى أن أحفظ لأبي معروفه القديم حين تركنا مبكرا ولم يؤجل غزوته المشؤومة تلك الليلة...
أنتهت مناوبتي عند الرابعة عصرا وحل زميلي حواس في الواجب، برغم كثرة الضجيج الغير مسموح به عسكريا هنا في موضعنا لكنه لا يتردد في إحداث المزيد منه وكأنه ولد في ساعة سعد في ليلة سعد في شهر سعد، حواس المولع بحكايات (الحديثات) ومغامراته التي ينسجها دوما من خياله الخصب بلا حدود معقوله، يستمر في مهمته الوحيدة أن يزرع البسمه في وجوه لا ترغب أن تبتسم وهي تنتظر الموت في كل ثانية، كان له أخ سقط شهيدا في معركة شرق البصرة في منطقة السيطرة المحروقة، يتذكره أحيانا فيبكي قليلا ثم يتحول لعادته السيئة في دغدغة مشاعرنا بحكايات الجنس الفاضح، وسطواته المتكررة على زوجة عريف الشرطة جارهم، كانت عاقر لا تنجب وكأنها صخرة صماء وتلح عليه أن يهبها ولد فتفترش المكان له ليمارس معها بشروطها، يقول أنها جاوزت الأربعين وما زالت تتأمل أن تحبل ولو بنصف ولد، لم يبقى شاب ولا رجل في المنطقة إلا جربت خصوبته وفي كل مرة تلعن راهي زوجها الذي لا يفعل شيئا حتى تتمكن من إنجاب طفل.
كان معنا في الحضيرة الأستاذ سعد الذي لا يسمح لأحد منا أن نناديه بـ (أمر حضيرتي) كما هو معروف في الضبط العسكري، فهو يقول أنه مذ أن ولد كانا أستاذا في كل شيء، قرأ لهيجل وماركس ونتشه وأدغار ألن بو وديستوفسكي والزيات وجبران خليل جبران، كان مولعا بكتابة القصص القصيرة فهو والدفتر ذي المئتي ورقة رفاق حتى في أشد حالاتنا أهتزازا ورعبا، وحتى في الليالي المظلمة حيث لا نور ولا ضياء في الموضع يحدث ويتحدث عن إشكالية المادة والفناء، كان لا يؤمن بحياة أخرى ويكرر مقولته التي حفظناها جميعا (إن المدافع المنصوبة أمامنا ليست هي المسؤولة عن قتلنا، من يقتلنا هم من يحلموا بالكوابيس القاتلة في قبورهم الآن، إنه التأريخ يا أصدقائي فقد مات لأنه يحمل كل فايروسات الفناء فكان ضحية لنفسه ونحن ضحايا لحكاياته البائسة)، البعض منا يبتسم في سره ويرى في سعد نصف مجنون في وسط مجموعة غالبها بلا عقل.
ملازم كريم أمر الفصيل قصير دميم متكبر ومتعجرف يزورنا في أوقات متأخره كل ليلتين ليتأكد من جاهزيتنا للدفاع عن الموضع، صحيح أنه أبن ريف ولا غرابة أن نراه يتنقل بين حضائر الفصيل وكأنه يتنقل في قريته اللأمنه لكننا نجده أحيانا أشبه بفأر حين يتم تمشيط المنطقة بالرشاشات من الجانب الأخر، حواس يقول عنه أنه شبيه بالكلب الخنيث، وسعد يصفه مثل بومة تخشى بريق المدافع لأنه يفقد فيها توازنه، كان أكثر ما يكره أحد في فصيله هو أنا قالها بصراحة، أنه يكره جدا أصحاب الشهادات العليا فقد كره كل معلميه ومدرسيه حتى عمه الذي درسه في أعدادية الصناعة قبل أن يتخرج ويلتحق بالجيش كان يمثل له عار، لم أشأ أن أدخل في نقاش معه لأنني أعرف النتيجة سلفا، سألني مره هل تحزن لو سمعت أنني أستشهدت هنا أو في مكان أخر، سكت حين سمع جوابي وكنت خائفا أن يفهمني بصورة خاطئة (أنا أحزن على كل إنسان يقتل حتى لو كان من الجانب الأخر من خط النار، الإنسان بضاعة الله فحرام أن تباع بالمجان).
حواس وسعد نقيضان أجتمعا في مكان لا يقبل التناقض فكلنا حالة واحدة أمام الموت والمأساة التي لا تفرق بين مثقف وجاهل، صحيح أن حواس بقلبه الطفولي قد لا يفهم الحياة بالصورة التي يراها سعد، لكنه أيضا يملك مشروعا يناضل من أجل أن لا يرحل قبل أن يرى ثماره في الواقع، البعض يرهن معرفته بما يعرف ويظن أن من غير الجائز أن نتناقض في أمور جدلية هي في الأساس محل أختلاف، في ليلة من ليالي شهر نيسان كنا معا نحن الثلاثة في الواجب والأنذار (ج) لجميع القطعات، كانت الأوامر مشددة أن لا يترك أحد منا موضعه إلا شهيد أو حاصد أرواح، لأول مره أرى الخوف في عيون سعد وحواس خوف من حالة ليست غريبة ولكنها توحي لنا أن أحدنا وربما نحن الثلاثة سنكون أبطالها المهزومين كأشلاء أو أسارى تقتادنا قلوب لا ترحم، نحسب الدقائق ونقيس الحالة بشدة القصف المتبادل بين القطعات، حقل الألغام الذي كان أمامنا ومن حولنا يتفجر أحيانا بسقوط قذائف تائهة ربما أنها رميت بغير تصويب فقط لتمشيطها وتهيئتها للأقتحام.
نحن في الموضع المتقدم ستة أشخاص كلنا تحت هم النجاة من القدر المحتم، يفرحنا أن يصبح الصباح دون أن نضطر لتوديع أحد أو نودع رفيق في رحلة لا عودة مؤكدة، فقد تبدلت الوجوه لأكثر من مرة ولعدة أسباب الغالب فيها أن عدونا لا يرحم كما لا يرحمنا من وضعنا كبش فداء، نحن هنا لأجل أن نموت لا شيء أخر يجمعنا أو يفرقنا غير رصاصة أو شظية أو ربما قذيفة مدفع تحصدنا حصدا من خلف أو من أمام، ما زال الليل يطوي دقائقه غير مستعجل ولا أبه بأحلامنا الصغيرة ولا حتى بذكرياتنا المعتقة، ننسج معه حكايات شتى من الخوف والترقب والرهبة، وأحيانا نتلو آيات من القرآن نحصن أنفسنا بها لعل الله يتذكر أن له ودائع تستوجب عليه أن يرعاها، لذا ترانا في كثير من الأحيان ومن خلال فتحات الرمي ننظر للسماء نناشدها أن تمر النيران بعيدا عنا فنحن (خطية) كما يقول زميلي حواس.
إنقشع ظلام تلك الليلة وما زال القصف المتبادل يطيح بفرحتنا بشروق الشمس من جديد ونحن أحياء، كنا مرهقين تماما فالنعاس أخذ منا وطرا والخوف المستمر من هجمة محتملة ما زال يقض علينا قدرتنا على النوم بالتناوب، الليلة الفائتة لم يأت نائب عريف حسن المكلف بتوزيع الأرزاق والإعاشة..... وعلينا تدبر أمرنا طوال هذا النهار بما موجود، الماء هو أكثر ما نحتاجه بإلحاح مع تصاعد حرارة الشمس والغبار الذي سد أنوفنا وحولنا كأفراد من الهنود الحمر، قليل من الصمون الذي يشبه أحجار منحوته لا يمكن أبتلاعه بدون ماء أو قليلا من الشاي، لدينا خيار وطماطة وبصل وبعض المؤنة يمكننا أن نجتهد في تدبر أمرها حتى قدوم الليلة القادمة، صناديق الأرزاق المعلبة مركونة على جانب وقد شاركنا فيها بعض الفئران والحشرات الأليفة، ويظن حواس أن معنا في الملجأ حيه تتناول منه وقت ما تشاء، لذا فأخر ما كنا نفكر به أن نتناول المعلبات والبسكت المخزون خوفا من التسمم أو إزعاج الحية التي قد تغدر بأحدنا دون أن ننتبه لذلك.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟