|
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل التاسع 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5836 - 2018 / 4 / 5 - 20:20
المحور:
الادب والفن
تناهت عيناها إلى السطر الأخير من الرسالة، أينَ تم نقش تاريخ كتابتها بأرقام يُقتصر تداولها على أهل المشرق دون المغرب. مدهوشةً، تنبهت إلى أنه عامٌ تقريباً مضى، مذ مغادرة " فرهاد " إلى العاصمة الروسية. كان يوماً ربيعياً، نشرَ ظلال الظهيرة على السيارة خلال طريقها إلى المطار. لم يكد فكرُها، مشغولاً بالوساوس يومئذٍ، يتيحُ لعينيها الانتباه للمناظر الطبيعية الخلابة. سألته في شيء متكلفٍ من القلق: " أنت مدركٌ لما سيحل بك، لو أن الروس كشفوا أمرَ جواز سفرك المزور؟ ". وإنها تتذكّر جيداً رده، المبثوث في سمعها كأنه قادم من مجاهل التاريخ: " الكرديّ، قدَره أن يكون لاجئاً حتى في موطنه ". وبينما تطوي " سوسن خانم " رسالة أحد أولئك الرجال، الذين كان لكلّ منهم دوره في محطات حياتها، راحت تفكّر في جدّها. لقد تغذت من معارفه الغزيرة، خصوصاً في التاريخ. لدرجة أنها في صباها، رسمته في مخيلتها على شكل " سلوقس "، مؤسس مدينتها ـ خليفة ذي القرنين، نصف الإله. المدينة نفسها، لم تكن سوى أنثى متعددة الأقنعة كأسمائها، إباحية مثل سلالات حكامها المتأثل فيهم دمُ زنا المحارم. ولكنه اسمها الأول، " لاوتاكيا "، مَن بقيَ على لسان سكانها جيلاً جيلاً كأحد أشكال رفض الغزو الرومانيّ. فيما صاحبة الاسم راقدة في تابوت رخاميّ واحد مع ابنها، المؤسس، تسخرُ بدَورها من أولئك الغزاة بدءاً من باني إمبراطوريتهم، المتألّه، الذي فرضَ على المدينة اسمَ والدته.. اسمٌ لعنةٌ، كأنما كان عليه تقمُّصَ مصير " جوليا "، حينَ اغتيل ابنها بين ذراعيها بيد شقيقه، الطامح للسلطة والإلوهية معاً. لم يخفَ على الخانم همز كلمات الرسالة من قناتها، بشأن تكليف موظف في السفارة السورية بمراقبة كاتبها. لقد رأت في الرسالة ما هوَ أبعد من هذه المسألة المخزية، رأت فيها علاقة عاطفية لا يُرجى منها أيّ أمل في المستقبل. إنها في جلستها المريحة في الحديقة، يملأ أنفها عبق الورود، تتنفسُ أيضاً رائحة ماضي تلك العلاقة غير المثمرة. ابتسمت رغماً عن شعور الخزي، لما ذهبَ ذهنها إلى الصورة المتخيّلة لذلك الموظف السمج، مثلما التقطتها كاميرا " فرهاد "، المجازية، بمعونة الفلاشات الفكهة الطريفة. لعل مبدأ فكرة المراقبة، التي داعبت رأسها مذ حلول صديقها في موسكو، ولدت من واقعة قديمة: مطاردة ابن أخت " خدّوج " له في شوارع مراكش، لنحو أسبوعين، واضعاً يده في جيب الجلباب، المخفي خنجراً شحَذَه على جلد الحقد والغيرة. ما كانت شبهة علاقة " فرهاد " بالخالة، هيَ موضع شكوك ذلك الفتى الأخرق. بل إنه كفّ عن الملاحقة، آنَ علمَ مبتهجاً بحادثة دفاع غريمه عن " خدوج " في ساحة جامع الفنا لما تحرشَ بها أحدهم. وراء غيرة الفتى، كانت تكمنُ حكاية أخرى أكثر خطورة؛ حكاية عشقه لامرأة خاله، المرهقة بمشاعر الإثم مع كونها على الأرجح غير ملوثة بالاتصال الجسديّ. سيرة مزدوجة شبيهة، محالة إلى المطاردة، واجهت " سوسن خانم " قبل ذلك بنحو عقدٍ من الأعوام، ثمة في موسكو. وكانت قد شعرت آنئذٍ بمن يتتبع تحركاتها، سواءً في فترة المساء بعد انتهاء الدوام الدراسيّ أو أثناء العطلات. الرجل المكلف بالتجسس، وكانت ملامحه تنضحُ بنضج أعوام الثلاثين، أدرك أخيراً أنّ وجهه قد غدا مألوفاً للفتاة المُطارَدة. ولكنه لم يكن الشعورُ بالعبث، مَن جعله يتقدم يوماً إلى طاولتها في مقهى ـ بار حديقة الصداقة. كانت عندئذٍ لوحدها، ترشفُ القهوة الممزوجة بالمرطبات على عادة الروس صيفاً. أقتربَ منها حينَ كانت أعصابها في غاية التوتر، بسبب عادة أخرى أكثر تأصلاً في طبع أولئك الناس: إذ اضطرت للانتقال من طاولة إلى أخرى، مرة إثر مرة، طالما أن جميع مستخدمي المكان قرّ رأيهم على تنكيدها. عبثاً كان طلبها منهم سحبَ الستائر، تجنباً لأشعة الشمس المزعجة. وهوَ ذا " شرلوك هولمز "، يحل المشكلة ببساطة. بحركة واحدة حاسمة، سحب الستارة إلى جهة الغرب. قال لها بعدما تعارفا، متنهداً كامرأة أرملة: " رشوة صغيرة، هيَ كل ما كان رئيسهم يأملُ منكِ ! ". من لهجته، كانت قد حزرت سلفاً أنه من مواطني محافظتها، وتحديداً من الريف الجنوبيّ. بيْدَ أنه وجدَ ضرورة للتوضيح، فيما كان يحدجها بنظرة ملية من عينين تغشاهما صفرة خفيفة: " أنا من قريةٍ مختلطة، بمعنى أنّ ساكنيها هم من العلويين والنصارى الأرثوذكس.. ". وأردفَ مقهقهاً فجأة بصخب: " إنها قرية حقيرة، شيوعية على قومية سورية! ". عاد من ثمّ إلى برودة نبرته، حينَ تعيّن عليه أن يُخبرها بأنه أنهى دراساته العليا بعلوم الاقتصاد، ولكنه وجدَ عملاً مناسباً في سفارة بلده: " وظيفتي، هيأت لي فرصة التعرف بدبلوماسي كويتيّ رفيع الشأن. أنتِ تعرفينه بالطبع؛ فإنه والد صديقتك وزميلتك في الحجرة الجامعية. كلفني بمراقبتكِ، كونه يخاف عليك ويبتغي حمايتك من أيّ خطر محتمل في هذه المدينة الكبرى، المليئة بالأشخاص المنحرفين والمدمنين ". سكتَ هنيهة، قبل أن يتابع قائلاً بلهجة وقحة كأنها صادرة على لسان شخص آخر: " لعلكما عاشقان أيضاً، مع أن هذا لا علاقة له بمهمتي! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل التاسع 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 2
-
الطريق إلى الغوطة
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 3
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|