|
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5832 - 2018 / 3 / 31 - 18:31
المحور:
الادب والفن
مراراً فكّرَ فيما بعد، خلال عودته بسفينة الركاب إلى المغرب، تحيطه بادية لا نهائية من المياه، بتلك المصادفة المتيحة له التعرّف على سليلة العائلة المالكة. هاتفٌ غامض، ألحّ عليه أيضاً بأنّ " الأميرة " سيكون لها شأنٌ في حياته مستقبلاً. إنما في أيام لقاءاتهما الباريسية، لم يطرأ له هكذا خاطر بطبيعة الحال. بل إنه لم يأخذ الفتاة بجدية كبيرة، بغض النظر عن إعجابه بشخصيتها وثقافتها. ضايقه منها آنذاك حَسْب، ما وجده فيها من صراحة تكاد أن تكون جارحة. أحال مسلكها إلى كونها من طبقة أرقى، اعتادت من الآخرين، في موطنها على الأقل، أن يقفوا أمامها برؤوس مطأطئة. ألم تقل بصراحتها القاسية، أثناء انفرادها به في بهو الفندق، أنها تنتمي لثقافة السيّد والعبد؟ على أنّ " الأميرة " لم تخلُ بحال من الأحوال، من نقاط ضعف. وعلى سبيل المثال، علاقتها الملتبسة مع " لويس ". ربما يمكن تعليل ذلك، بكون إرادتها قد رُهِنَت طوعاً لإنسانٍ أنساها أيَّ اعتباراتٍ تتعارضُ مع الحب. حتى فكرها المتنوّر، المحتار بين الليبرالية والراديكالية، ليسَ بالوسع عزله عن علاقتها تلك. وقد أتيحَ لبطل قصتنا، الذي تحتفظ ذاكرته جيداً بأقوال صديقه، ملاحظة جريان بعضها على لسان صاحبة المقام الملوكيّ. ولكن نبرتها كانت ترنّ بنغمة مستخِفّة، في كلّ مرة يُسقط فيها صديقها آراءه على واقع المغرب. في بادئ الأمر، أعتقدَ أن مرد ذلك يعود لطريقة " لويس "، الطريفة الهازلة، في طرح المواضيع الجدية. ثم أسعفه لاحقاً بعدُ المسافة والزمن، كي يعيد التفكيرَ بمسلك الفتاة على ضوء الذاكرة المتوهّج بصوَر الأحياء والأموات. إذاك، كان يخط كلماته على دفتر مذكرات لا على ورق رسائل مثلما ألِفَ فعله سابقاً في حياة والدته. وكان " لويس " قد بزغَ على غرة، هنالك عند مدخل بهو الفندق، مثل شمس صبيحة يوم الرحلة الموعودة. ابتسمت الفتاة له، فيما كانت تتمتمُ مذكّرةً جليسها بطلبها: " ستفاتحه بالموضوع، حينَ تكونا لوحدكما "، قالتها بجملة عجولة مقتضبة. ثم ما لبثت أن استقبلت صديقها بالأحضان والقبلات، موضحةً أنها قدمت قبله بقليل من الوقت. جلسَ " لويس " بجانبها، فيما كانت ما تفتأ تتلوى بنعومة. فكّرَ صديقهما عندئذٍ، بأنها حركاتُ حيّة مرقطة، مجلوبة من الأطلس بهدف الفرجة في ساحة جامع الفنا. هذا المجاز، أنتقل إلى مراتب الواقع حينَ شاءَ حبيبُ الفتاة أن يعرّضَ بملابسها ساخراً: " عبثاً أناقتكِ الشرقية، لأنها ستتلوث حتماً أثناء تجوالنا في حقول الريف. إنها تجعلكِ صورةً من مليكك، الذي يتبختر الآنَ في دروب مزرعته بالبروفانس، محشواً كفطيرة ببذة بيير كاردان! ". أزعجها كلامه، فبقيَ من أثر ابتسامتها تكشيرةٌ باردة. استدارت إلى الناحية المطلة على الشارع، مع احتفاظها بالصمت. شعورها بالإهانة، بدا أنه رمزيّ أكثر منه شخصيّ. " لا أرى من داعٍ، سوى التمثيل، للحنق من كلامي في كلّ مرةٍ أتعرّض فيها أمام الآخرين لذكر ملكيتكم المطلقة "، خاطبَ صديقته وكأنه يتحدث مع نفسه. التفتت إليه بسرعة، مصدومة ولا غرو من الاهانة الجديدة، لتقول بانفعال غريبٍ عن طبعها المتحفظ: " تمثيل؟ أنتَ من يتكلم عن التمثيل! ". راحَ " لويس " يحدجُ الفتاة بنظرة ثابتة، قبل أن يبادر بالرد: " بلى، أعرفُ عم أتكلم. يخيل إليّ أنك تمثلين دورَ امرأة مثقفة تجدّفُ بأمور الدين في المقاهي، وما أن تعود إلى منزلها حتى تسقط على سجادة الصلاة طالبةً المغفرة من ربها ". قالها ثم ما عتمَ أن أطلق قهقهةَ طفلٍ مُشاغب، دأبَ على مناكدة أقرانه. أمام هذه الكلمات الجارحة، التي قيلت بلهجة طبيعية، أنبرى صديقهما للتدخل خشيةً من تطوّر النقاش إلى مشادة. ذكّرَ المشاغبَ بكونه شاعراً قبل أي اعتبار آخر، وأنه لا يرى جدوى من تجاوز خطوط الأدب تحتَ أيّ حجة: " الشاعر، عليه التعبير عن موقف أخلاقيّ من مشاكل العالم دونما أن يتلوث بقذارة السياسة ". على دهشته، هزّ " لويس " رأسَه موافقاً. لقد بدأ على ما يبدو في استعادة زمام نفسه، وهذا أيضاً من مفارقات شخصيته. قال كالمعتذر، متجنباً النظرَ إلى فتاته: " عليّ أن أشاطركَ الرأي، وإلا أصبحتُ ظهيراً لأولئك البائسين، المؤمنين بنظرية الواقعية الاشتراكية ". واستطردَ متوجهّاً هذه المرة بكلامه إلى الفتاة، مُداعباً: " فلا جناحَ عليّ، ما لو لوثت صديقتنا ثوبَها الثمين في بساتين الريف! ". بَهرت حديقةُ الرسام " مونيه "، الفتاةَ المولّعة بفنه. وعلى وجه الخصوص بركة الزنابق، وكانت قد سبقت لها أن رأتها في نسخ من رسومه. أما الآنَ، فأتيحَ لها معاينة نفس الرسوم بنسخها الأصلية، وكانت تحتل بأحجامها العملاقة جدرانَ المحترف الثالث، الثاوي على طرف الحديقة. بالنسبة لصديقيها الفرنسيين، فلم يكن ثمة متعة لديهما في إعادة زيارة المكان. للمصادفة، كان هنالك احتفالية بمناسبة مرور مائة عام على إنجاز الرسام لوحته " انطباع "، التي أعطت اسمها للمذهب الفنيّ الأكثر رسوخاً خلال القرن التاسع عشر. أغلب زوار فيللا الفنان الانطباعيّ، كانوا من السياح الأمريكان واليابانيين. هؤلاء الأخيرين، تصاعد نقيقهم السعيد قدّام " المجموعة اليابانية "؛ وهيَ رسومٌ اقتناها الفنان ووزعها في حجرات النوم، علاوة على صالة السفرة، المرقّشة جدرانها وموجوداتها بلون الليمون الأصفر. ومن الحديقة، أنتقل الأصدقاء الثلاثة إلى مقهى قريب كي يصيبوا شيئاً من الطعام. الشمسُ، في هذه الظهيرة الحارّة، جعلت الطبيعة احتفالاً آخر، مُطنباً بتغريد الطيور وحفيف الأشجار وخرير السواقي وأزيز الهوام والزيزان. من بعيد، وصل لسمعه صدى نهيق حمار ( ربما أختلط عليه مع صهيل فرسٍ؟ )، فتخيّل نفسه في أحد دروب ضاحية " الغزوة "، المتربة المغبرّة. آه من ذكرى " نفيسة "، المُشفقة على ذلك الحيوان! كان من المقرر أن يتجهوا بعدئذٍ إلى مزرعة الأسرة مشياً على الأقدام، كونها تبعد حوالي أربع كيلومترات عن " جيفرني ". على أنهم غيروا رأيهم أخيراً، بالنظر لما عانوه من تعبٍ أثناء تفقُدهم آثارَ أبي الانطباعية. لحُسن حظهم، أن حافلة كبيرة كانت على وشك الانطلاق عند الموقف الكائن على مقربة من الباب الخارجيّ لحديقة الفنان. وجدَ نفسه بلا رفقة، كون الركاب قلة في العادة. فيما جلسَ صديقاه على مقعد أمامه مباشرةً، يتبادلان القبلات كزوج طير " عاشق معشوق ". راديو الحافلة، كان يذيع أغانٍ فاترة باللغة الانكليزية سرعان ما جلبت نعاسَ الركاب الآخرين. السائق، ما لبثَ أن أدار محرك الراديو على الموجة المحلية كي يستمع لنشرة الأخبار. النبأ الأول في مقدمة النشرة، لم يكن سوى مقاطعَ من بيان للخارجية الفرنسية: " تعقيباً على محاولة اغتيال العاهل المغربيّ، عن طريق استهداف طائرته في أجواء العاصمة الملكية، تؤكد مصادر استخباراتنا على ضلوع قادة كبار في الجيش بانقلابٍ عسكريّ محتمل.. ". على الأثر، قفزت " الأميرة " من مكانها، هاتفةً بنبرة من يقاوم كابوساً: " كيفَ ذلك، وجلالة الملك يقضي الآنَ إجازته الصيفية في الجنوب الفرنسيّ؟ ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 2
-
الطريق إلى الغوطة
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السابع 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 1
-
المطعم
المزيد.....
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|