حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 5827 - 2018 / 3 / 26 - 02:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تتحد المعارف الإنسانية لكونها نتيجة العقل البشري الواحد المشترك بين جميع البشر. من منطلق هذا النموذج الفكري نرصد ارتباط الفيزياء المعاصرة بالتصوّف و كيفية تفسير ظاهرة التصوّف على ضوء النظريات العلمية و مضامينها.
النظريات العلمية و الظاهر و الباطن
تتنوّع النظريات العلمية الفيزيائية و تختلف في تفسير الكون و وصفه لكنها تتفق أيضا ً و تنسجم لكونها تصف مستويات مختلفة للكون نفسه. فنظرية النسبية لأينشتاين تؤكد على أنَّ قوانين الطبيعة حتمية و بذلك الكون مُحدَّد بقوانين من غير الممكن أن تُخرَق بينما نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية تصر على أنَّ قوانين الطبيعة احتمالية و ليست حتمية و بذلك الكون غير مُحدَّد كلامحددية ما إذا كان الجُسيم ( كالإلكترون ) جُسيما ً أم موجة نقيض الجُسيم. على هذا الأساس , كوننا بالذات ينقسم إلى عالَميْن هما عالَم مُحدَّد و عالَم آخر غير مُحدَّد. لكن رغم هذا الاختلاف بين النظريتيْن العلميتيْن السابقتيْن فهُما لا يعارضان بعضهما حقا ً بمعنى أنه من الممكن أن يصدقا معا ً لأنهما يصفان و يفسِّران مستوييْن أو طبقتيْن مختلفتيْن للكون نفسه. فنظرية النسبية لأينشتاين تصف و تفسِّر عالَم ما فوق الذرة بينما نظرية ميكانيكا الكمّ تصف و تفسِّر عالَم ما دون الذرة. من هنا , للكون نفسه وصفان صادقان هما وصفه على أنه مُحدَّد و وصفه على أنه غير مُحدَّد. هكذا الكون صيرورة جدلية بين المُحدَّد و اللامُحدَّد ما يفسِّر لماذا أي خطاب حق و صادق في التعبير عن الكون و الحقيقة يحتوي على المُحدَّد بحرفية معانيه الظاهرة كما يحتوي على اللامُحدَّد بمعانيه الباطنية اللاحرفية.
الآن , بما أنَّ الكون منقسم إلى كونيْن هما كون مُحدَّد و كون غير مُحدَّد , إذن من الطبيعي أن ينقسم الخطاب المُعبِّر عن الكون إلى خطابيْن هما الخطاب الظاهري المُعبِّر عن محددية الكون و الحقيقة و الخطاب الباطني المُعبِّر عن لامحددية الكون و الحقيقة. من هنا , التفسير الظاهري للعقيدة الدينية و التأويل الباطني للعقيدة الدينية نفسها نتيجتا انقسام الكون إلى كون ظاهر مُحدَّد و كون باطن غير مُحدَّد. فاختبار الكون علميا ً و فلسفيا ً على أنه منقسم إلى كون ظاهر (محكوم بالحتمية و المُحدَّدية) و كون آخر باطن ( محكوم باللاحتمية و اللامُحدَّدية ) أدى إلى نشوء التفسير الظاهري و التأويل الباطني للدين نفسه الذي من المفترض أن يعبِّر عن الحقيقة فالكون. على هذا الأساس , الفيزياء المعاصرة تمكّننا بحق من تفسير لماذا نشأت الاتجاهات المختلفة في فهم الدين كنشوء الاتجاهيْن الظاهري و الباطني.
التفسير الظاهري للدين يعتمد على سياق النص الديني من أجل تفسير معاني العبارات الدينية و دلالاتها و بذلك يرتكز على فهم النص الديني حرفيا ً فيتخذ عبارات النصوص الدينية كما هي بالضبط و لذا يصبح النص الديني مُحدَّدا ً بحرفية عباراته اللغوية و معانيها. من هنا التفسير الظاهري يطابق الكون الظاهري المُحدَّد بحتمية قوانينه الطبيعية ما يفسِّر نشوء التفسير الظاهري كنتيجة وجود الكون الظاهري نفسه. لكن التأويل الباطني للنص الديني لا يعتمد على سياق الخطاب الديني من أجل فهم النصوص الدينية و بذلك لا يتخذ عبارات الدين حرفيا ً بل يؤوِّلها على ضوء مفاهيم و معارف أخرى كالمعارف الفلسفية. و بما أنَّ التأويل الباطني للدين لا يتخذ عبارات الدين حرفيا ً , إذن من المتوقع أنه يحوِّل النص الديني إلى نص غير مُحدَّد يطالبنا بتحديده على أساس نماذج فكرية من خارج الخطاب الديني. من هنا التأويل الباطني يطابق الكون الباطني غير المُحدَّد بحتمية القوانين الطبيعية ما يفسِّر ولادة التأويل الباطني بفضل وجود الكون الباطني غير المحكوم بحتمية القوانين الطبيعية. هكذا الظاهر و الباطن في الدين نتيجتا ظاهرية و باطنية الكون.
نظرية الأوتار و التذوق الصوفي
بالنسبة إلى نظرية الأوتار العلمية , الكون أوتار و أنغامها فمع اختلاف تذبذب الأوتار تختلف مواد و طاقات الكون. تقول نظرية الأوتار إنَّ كل المواد و الطاقات في الكون نتائج تذبذب الأوتار و رقصها المتنوّع ما يمكّنها من التوحيد بين المواد و الطاقات المختلفة من خلال القول بأنَّ مواد الكون و طاقاته مجرد أنغام متنوّعة للأوتار نفسها. و بما أنَّ الكون أوتار و أنغامها , إذن الكون سمفونية موسيقية. هكذا ترسم نظرية الأوتار عالَما ً مرتكزا ً على العلم و معتمدا ً على الوتر و النغم و رقص الأوتار و موسيقاها و تؤكد على وحدة المواد و الطاقات المتنوّعة و تتضمن تفسير مواد الكون و طاقاته و نشوئها.
لكن إن صدقت نظرية الأوتار فلا عجب من أن يصوّر المتصوفة العالَم على أنه تذوق يفوق الإدراك العقلي و الحسي للبشر و أن يتبنى بعضهم الرقص الصوفي كطريقة تعبير وجودية و أن يؤمن بعض منهم بوحدة الوجود ( التي مفادها وحدة كل الموجودات في الله مع بقاء الأنا كما لدى إبن عربي ) أو وحدة الشهود ( التي مفادها وحدة كل الموجودات في الله مع فناء الأنا كما لدى الغزالي ). هذه الفرضية مجرد فرضية ممكنة مفادها أنَّ بعض المتصوفة حين اختبروا الكون من أجل معرفة الحقيقة أحسوا بموسيقاها و رقص أوتارها فتذوقوا موسيقى الأوتار ما دفعهم إلى القول بتذوق الحقيقة بدلا ً من فهمها عقليا ً أو حسيا ً ما أدى بهم أيضا ً إلى القول بوحدة الوجود أو وحدة الشهود من جراء وحدة الكون بفضل أنه مجرد أوتار و أنغامها. فبما أنَّ الكون سمفونية موسيقية , و علما ً بأننا نتذوق الموسيقى بدلا ً من أن نحلّلها عقليا ً و حسيا ً , إذن التذوق مصدر معرفة الحقيقة و اختبارها بدلاً من أن يكون العقل و الحس مصادر اختبار الحقيقة و معرفتها. هكذا اختبار الكون الموسيقي الموصوف من قبل نظرية الأوتار العلمية يؤدي إلى الاعتماد على التذوق بدلا ً من الاعتماد على العقل التحليلي و الحواس لإدراك الحقيقة و الواقع.
من المنطلق نفسه , إن كان الكون سمفونية موسيقية , و علما ً بأنه يصعب التعبير إن لم يكن يستحيل التعبير عن الموسيقى بكلمات و جُمَل لاختلاف الموسيقى عن لغتنا المعتمدة على الكلمات و الجُمَل , إذن من الطبيعي أن لا ينجح المتصوفة في التعبير اللغوي عن اختبار الكون الموسيقي ما أدى إلى فكرة عدم مقدرة التعبير عن الكشف الصوفي كما هي واردة لدى المتصوفة. من هنا , عدم مقدرة التعبير عن رحلة المتصوّف الروحية أو عن الكشف الصوفي هي نتيجة اختبار الكون على أنه سمفونية موسيقية. كل هذا يرينا أنَّ الفكر الصوفي يعتمد على اختبار الكون على أنه موسيقى و أنَّ تجربة المتصوّف للكون على أنه موسيقى أدت إلى نشوء المبادىء و الأفكار الصوفية الأساسية كفكرة عدم المقدرة على التعبير بلغاتنا عن الكشف و الرحلات الصوفية الروحية التي تحدّث عنها بعض المتصوفة.
لقد عبَّر بعض المتصوفة عن أنَّ الكون موسيقى. لذا اعتبار أنَّ التصوّف اختبر الكون على أنه موسيقى ما أدى إلى تشكيل معتقدات التصوّف الأساسية على ضوء نموذج أنَّ الكون سمفونية موسيقية هو اعتبار منطقي و حق. فمثلا ً , يقول حافظ الشيرازي : " أنا ثقب في ناي / يمُر من خلاله نَفَسُ المسيح / إستمع إلى هذه الموسيقى / أنا حفلة موسيقية من فم كل مخلوق / يُغنِّي مع جوقة غنائية لا حَدَّ لها". لكن إن كان الكون سمفونية موسيقية , إذن تشكّل كل الموجودات كينونة واحدة مُوحَّدة ( لكونها ذات طبيعة واحدة ألا و هي الموسيقى ) ما يؤدي إلى فكرة وحدة الوجود المُعبَّر عنها بِطرُق مختلفة في التصوّف. فمثلا ً , عبَّر إبن عربي عن وحدة الوجود و وحدة الأديان قائلا ً : " لقد صارَ قلبي قابلا ً كلَّ صورة ٍ / فمرعى ً لغزلان ٍ و دير ٌ لرهبان ِ / و بيتٌ لأوثان ٍ و كعبة ُ طائف ٍ / و ألواحُ توراة ٍ و مصحفُ قرآن ِ". هكذا يتحد قلب المتصوّف بكل الظواهر الطبيعية و بكل الأديان فتتحقق وحدة الوجود المتضمنة فكرة وحدة الأديان.
فناء الأنا و وهمية الكون
أما فكرة فناء الأنا الجوهرية في بعض المدارس الصوفية فهي أيضا ً نتيجة اختبار الكون على أنه أنغام أوتار. فإن كان الكون موسيقى بينما من المستحيل إدراك الموسيقى بالوعي و العقل التحليلي البشري و الإدراك الحسي المعتاد بسبب أنَّ الموسيقى مجردة و ليست كينونة ملموسة و ليست لغة بكلمات و جُمَل دالة على وقائع مادية من الممكن رؤيتها , إذن من المتوقع الوصول إلى نتيجة أنَّ الأنا بوعيها و عقلها و إدراكها الحسي كإدراكها بالنظر تمسي غير نافعة في فهم و إدراك الكون فيزول مبرر وجودها ما يحتّم نتيجة فناء الأنا. على ضوء هذه الاعتبارات , فكرة فناء الأنا الصوفية هي نتيجة اختبار الكون على أنه موسيقى مجردة.
الأنا مرتبطة بالجسد و الواقع المادييْن. لكن الموسيقى مجردة و بذلك الكون الموسيقي مجرد ما يجعل الأنا غير قادرة على القيام بوظائفها الإدراكية المعتمدة على الجسد و العقل و الواقع المادي فيؤدي لا محالة إلى عدم ضرورة وجودها ففنائها حين تختبر الكون كسمفونية موسيقية. من هنا , نظرية الأوتار العلمية التي تصوّر الكون على أنه موسيقى مجردة تفسِّر لماذا تَشَكَّل التصوّف و تبنى أقواله بالذات كالقول بفناء الأنا. هذا لأنَّ نظرية الأوتار تصف الكون على أنه سمفونية موسيقية و بذلك حين يختبر المتصوّف الكون على أنه موسيقى مجردة يزول مبرر وجود الأنا بوعيها المعتاد في عالَمنا المادي و تتوحَّد الموجودات كافة بكونها أنغام أوتار كونية ما يجعل المتصوّف يصل إلى اختباراته و أفكاره الصوفية كفناء الأنا و وحدة الوجود فيتشكَّل التصوّف ذاته.
لا يكتفي العلم بالإتحاد مع التصوّف من المنطلقات السابقة بل في علومنا الفيزيائية المعاصرة أيضا ً نظرية مثيرة تعبِّر عن بعض اتجاهات التصوّف أحسن تعبير ألا و هي نظرية أنَّ الكون وهم كما وردت مثلا ً لدى الفيزيائي ليونارد سسكيند. بالنسبة إلى هذه النظرية العلمية , معلومات الكون كامنة على سطح الكون بدلا ً من أن تكون موزّعة داخله على نقيض مما نختبر في واقعنا البشري. و بذلك , من منظور هذه النظرية العلمية , الكون وهم لأنَّ مواد و طاقات العالَم الذي نختبره من حولنا هي معلومات بينما هذه المعلومات ليست موجودة داخل الكون نفسه بل موجودة على سطح الكون و تخومه ما يناقض ما نرى من حولنا. هكذا الكون صورة هولوجرامية ثلاثية الأبعاد و بذلك الكون مجرد وهم. و لقد عبّرت بعض المدارس الصوفية عن أنَّ الكون وهم و لذا الله وحده هو الموجود الحقيقي. من هنا , تتحد فكرة وهمية الكون العلمية مع فكرة وهمية الكون الصوفية. و هذا متوقع لأنه إذا كان الكون سمفونية موسيقية و التصوّف اختبره على أنه كذلك إذن الكون كما نختبره بماديته مجرد وهم.
لقد عبَّر بعض المتصوفة عن وهمية الكون بِطرُق مختلفة. فمثلا ً , تقول رابعة العدوية : " أحبكَ حبيْن حُب الهوى / و حُبا ً لأنكَ أهلٌ لذاكَ / فأما الذي هو حُب الهوى / فشغلي بذكركَ عمن سواكَ / و أما الذي أنتَ أهلٌ لهُ / فلستُ أرى الكون حتى أراكَ ". فرابعة لا ترى الكون حتى ترى الله لأنَّ الكون الحقيقي في قلب أو عقل الله بينما الكون الذي نراه في حياتنا العقلية و الحسية فليس سوى وهم مخادع. أما جلال الدين الرومي فيعبِّر عن وهمية الكون و الوجود بالإضافة إلى معان ٍ أخرى حين يقول : " لستُ من الشرق و لستُ من الغرب ... / لستُ من الأرض و لا من الماء و لا من الهواء و لا من النار ... / مكاني هو اللامكان و أثري هو اللاأثر ...". فلا شرق و لا غرب و لا أرض و لا ماء و لا هواء و لا نار لأنَّ كل الكون وهم ما يمكّن المتصوّف من تجاوز الكون و ثنائياته الكاذبة و تخطي هذا الكون المادي المخادع و المُضلِّل للعقول و المشاعر.
الكشف الصوفي و الكشف العلمي
بناء ً على ما ورد , لا فرق بين الكشف الصوفي و الكشف العلمي فالفيزياء المعاصرة و التصوّف يشكّلان حقلا ً معرفيا ً واحدا ً. هذا لأنَّ الكشف العلمي الذي يُظهِر مثلا ً أنَّ الكون سمفونية موسيقية يؤدي إلى اختبار الكون على أنه موسيقى مجردة ما يحتِّم عدم المقدرة على التعبير عن الحقيقة أو الكشف بالعقل و الحس ما يؤدي بدوره إلى زوال الأنا بوعيها العقلي و الحسي المعتاد تماما ً كما يحدث في بعض المدارس الصوفية. من هنا , يتحد الكشف العلمي و الكشف الصوفي في حقل معرفي و وجودي واحد و تشكّل الفيزياء المعاصرة و التصوّف نموذجا ً فكريا ً واحدا ً مُوحَّدا ً. بكلام ٍ آخر , يتحد العقل الصوفي و العقل العلمي في عقل واحد منسجم العناصر و المبادىء ما يعبِّر عن وحدانية التجارب الإنسانية و وحدانية المعارف البشرية.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟