|
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 5
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5806 - 2018 / 3 / 5 - 09:21
المحور:
الادب والفن
عوضاً عن إفراغ ما لديها من هموم، كان على السيّدة السورية أن تعودَ من الضاحية مثقلةً بالمزيد منها. ليسَ أمر الطفلة حَسْب، ما يمكن التفكير فيه بهذا الشأن. عليها كان، فوق ذلك، أن تتعهدَ رعاية باقي أفراد أسرة مرافقتها السابقة. إبّان وجودها ثمة ظهراً، في المسكن المفعم بعبق الندّ وعَرَق الجسد، فكّرت أكثر من مرة بالهرب والتخلّي عن الصفقة. المنظرُ الرث لاستسلام " الشريفة "، أخجلها وأربكها، حتى أنّ شيمة الشهامة كادت أن تسيطر عليها. ولكنّ مبررات المساومة الغاشمة، كانت ترفرف فوق ضميرها دونما وَجَل ـ فعلُ العصافير مع فزاعة الحقول. هوّن عليها، ولا غرو، ما أبدته غريمتها من استهتارٍ بأمر فلذتَيْ كبدها: الصغير المسكين " ميمو "، شبه المتخلّف عقلياً، لم يعُد سرُّهُ خافياً على " سوسن خانم " على أثر قراءتها لاحقاً للمزيد من صفحات المخطوطة. وكانت هيَ بنفسها، قد هيأت كلّ ما يلزم لعملية إخفاء النَسَب الشرعيّ لأخته " خَجيْ "، وذلك بمعونة المال والنفوذ. لم تكن نسخةُ المخطوطة الأصل، هيَ التي وقعت بيَد الخانم في خضمّ تلك الملابسات المخزية. إنها معلومةٌ ثمينة، بالنسبة لضميرها؛ لوخزته آنئذٍ فيما يخصّ عملها المشين بحق حُرمة منزل " مسيو جاك ". لقد توصّلت " للّا عيّوش " إلى هذه المعلومة، في يومٍ أسبق وعلى لسان مَن باعَ امرأة " فرهاد " لقاء حفنة أوراق مالية. ويبدو أنّ " الشريفة " كانت قد أوقعت نفسها في هفوة فادحة، قبل أن تَعْمَدَ لجعل أوراق المخطوطة غذاءً لموقد المطبخ. إذ شاءت عرض الأوراق أمامَ أنظار والدتها، قائلةً: " إنها مذكرات مسيو غوستاف. لقد سرقتها من درج مكتب قرينته، هنالك في الرياض. الكَاوري القذر..! لقد أنتهكَ كلّ ستر بما ذكره عنّا "، دمدمت من بين أسنانها مشدّدةً على المفردة الأخيرة. ما لم يطرأ على خاطرها ذلك اليوم، أن الوالدة ستُهرع إلى " الكَاوري " الآخر، كي تُفضي له بأمر المخطوطة. ولعل الرسام الفرنسيّ كافأ أيضاً المرأةَ الجشعة بمبلغٍ مُجزٍ، حينَ حملت إليه في ذات اليوم نسخةً عن المخطوطة صوَّرتها سراً بجهاز فوتوكوبي.
* الطفلة تغفو في سريرها المتحرّك، ممتلئة الجوف بحليبٍ من ضرع لا يتصل بدمها. مرضعتها، " للّا عيّوش "، كانت قد رضخت على مضض للعبء الأكثر جدّة. لقد وضعت السيّدة السورية مرافقتها أمام الأمر الواقع، معتبرةً ذلك جزءاً مكملاً للمهمة المُنجَزة، المعلومة: " لا أرغبُ برؤية امرأة غريبة هنا. كذلك يجب أن تضعي في الحسبان، أنّ الطفلة يمكن أن تُفطمَ في القريب العاجل كون عُمرها قد قاربَ الأربعة أشهر ". والدُ الطفلة، من جانبه، لم يُبدِ سعادته علناً بوجودها في كنف " سوسن خانم ".. اللهم سوى لحظة وقوع عينه عليها وهيَ في سيارة الرانج روفر، التي أتت بها تواً من الضاحية. عللت الخانمُ مشاعرَه بالإحالة إلى نفسيةٍ متعَبة، متأثرة بفترة الإقامة في تلك الضاحية المنحوسة. على الرغم من أنه يُشبهها لناحية الطبع المتكتّم، ولكنّ الخمر أطلقَ لسانه أكثر من مرة خلال سهرة اليوم. مكاشفاته، بيّنت أشياء أخرى غير عذاب المعاناة تحت سقف " الشريفة ". مثل مخدومته سواءً بسواء ( ولو أنّ الهدفَ مختلفٌ بالطبع )، كان " فرهاد " قد بذل كل ما بوسعه من جهد لانتزاع الطفلة من أمها. لم يكن من عزاء له ثمة في الضاحية، وهوَ فنان الرسم والكلمة، سوى شحذ حسّه المرهف بذلك الأمل. " في سبيل غايتي المأمولة، أرهقتُها بتحقيقاتٍ مُطوّلة خلال خلواتنا "، قالها متمعّناً في عينيّ الخانم، اللامعتين من أثر الشراب. ثم استأنفَ القولَ بشيء من الحيوية: " ذلك أنّ كل مشكلة، بل ومسائل حياتنا جميعاً، قد نسجتها الذاكرة بخيوط خفية سرّانية. فما علينا، لو أردنا تعريةَ نَفْسِ إنسان، سوى أن نحلّ ذلك النسيج ". هزّت رأسها، دلالةً على الإعجاب بالفكرة. وفي محاولةٍ منها لمعرفة ما يعلمه عن مصير المخطوطة، رمت نحوه هذا الطُعم: " لا يسعني إلا القول، أنها امرأة داهية ذاتَ مكرٍ وإخبات. أعتقدُ لو أنها حظيت بمَلَكَة البيان والبلاغة، لكان بمقدورنا انتظار سيرة حياتها كما كان أمرُ مذكرات مسيو غوستاف ". في سبيل إضفاء المزيد من المتعة على جلستهما، المتسمة بالود والتصالح، كان على المضيفة أن تضيفَ زجاجة خمر أخرى إلى المنضدة السخية، المحتفية بالمشهيات والفاكهة والنّقل.
* الشاب ذو الوجه المتعب والشاحب، المنزوي زمناً في عزلته، بدا لها أكثر حذراً حينَ أجاب: " إنها كذلك، فعلاً.. أعني، بشأن تنويهكِ بخصلة خبثها ومكرها ودهائها. تلكم هيَ موهبتها الحقيقية ". ثم أستدركَ وعلى شفتيه الرقيقتين ابتسامته الساخرة: " ومَن يدري، لعلّني أعفيها يوماً من مشقة تأليف سيرة حياتها ". تجاهلَ إذاً إشارتها الموارَبة عن مصير المخطوطة، هارباً إلى الدعابة كما يفعل كثيرون في مواقف مشابهة. الغريب، أنّ قرينته امتنعت أيضاً فيما مضى عن إجابة الخانم عما لو كانت على معرفة بمصير مخطوطة أخرى، سجّلتها الراحلة " شيرين " لما كانت في سجن التوقيف: " من خلال تدقيق المحامي ( المُكلّف آنذاك من قبلي بالدفاع عن قضية شيرين )، فإنّ المخطوطة قد اختفت وأنكرت الشرطة أيّ معرفة بأمرها؟ ". لقد ردت عليها " الشريفة " بنبرة عدائية غير متوقعة: " ما أعرفه، أنّ عملك التجاريّ لم يكن له علاقة يوماً بنشر الكتب! ". في الأثناء، كان " فرهاد " يواصل حديثه بنبرة أقرب إلى مثيلتها لدى السكارى. انتبهت إليه لما أسمى امرأته بوصفها عشيقة لا زوجة، وليقارنها من ثمّ بها هيَ؛ " سوسن خانم ". ألقت إليه نظرةَ إنكار، قبل أن تستردها بعدما لحظت حالته الرثة: " رباه، إنه قد يثير فضيحة ما لم يأوي إلى فراشه في الحال ". حاولت مقاطعته بلطف، بيْدَ أنه استمر في تجديفه: " لم أنظر إليها قبلاً.. أقصد، قبل مسألة اللوحة داخل اللوحة! بلى، كنتُ أنظر إليها بإشفاق كما يفعل المحسنون مع شخص متسوّل. الماكرة الخبيثة، استطاعت على ذلك النحو خداعي مع كونها متزوجة. فلما حبلت مني، فإنني تناسيتُ ماضيها الملوّث بالزنا والدم.. ". سكتَ على غرّة، كأنما أفاق على نفسه. وما لبثَ أن أطلق ضحكةً لا تقلّ طيشاً عن هذيانه. استمرّ على صمته هنيهة أخرى، لحين أن فارق الأحمر سحنته. قال بلهجة اعتذار: " أنتِ سألتِني عن ابنتي..؟ أجل، عبثاً كانت محاولاتي، الهادفة إلى حمل أمها على الاقتناع بكونها غير صالحة لتربيتها. وأعترفُ، بأنني لم أكن وقتئذٍ أقلّ منها أنانية. على أيّ حال، حُلّت المعضلة تلقائياً ولم يكن لكلينا فيها يد ". أسبوع على الأثر، وكان على " سوسن خانم " أن تستعيدَ الجملة الأخيرة، المختتم بها الشابُ التعس هذيانه. إذاك، علمت عبْرَ مكالمة نادرة مع شقيقها الكبير، المقيم في دولة خليجية، أنه تمكن من التواصل مع طليقها والوصول إلى اتفاقٍ يرضي الطرفين. بموجب الاتفاق، تحتفظ هيَ بالشركة كما لو أنها بمثابة مؤخر صداقها. أما بخصوص " طفلتهما "، فإنّ الدبلوماسيّ الكويتيّ المخضرم أصرّ كلّ الإصرار على إنكار بنوّتها.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 1
-
المطعم
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 2
-
الهاوية
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 2
المزيد.....
-
العراق ينعى المخرج محمـد شكــري جميــل
-
لماذا قد يتطلب فيلم السيرة الذاتية لمايكل جاكسون إعادة التصو
...
-
مهرجان -سورفا- في بلغاريا: احتفالات تقليدية تجمع بين الثقافة
...
-
الأردن.. عرض فيلم -ضخم- عن الجزائر أثار ضجة كبيرة ومنعت السل
...
-
محمد شكري جميل.. أيقونة السينما العراقية يرحل تاركا إرثا خال
...
-
إخلاء سبيل المخرج المصري عمر زهران في قضية خيانة
-
صيحات استهجان ضد وزيرة الثقافة في مهرجان يوتيبوري السينمائي
...
-
جائزة الكتاب العربي تحكّم الأعمال المشاركة بدورتها الثانية
-
للكلاب فقط.. عرض سينمائي يستضيف عشرات الحيوانات على مقاعد حم
...
-
أغنية روسية تدفع البرلمان الأوروبي للتحرك!
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|