|
الحياه من خلف كتاب
اوليفيا سيد
الحوار المتمدن-العدد: 5805 - 2018 / 3 / 4 - 21:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سئل العقاد يوما عن مدى حبه للكتب فآجاب: "إني أحب الكتاب لأن حياة و احدة لا تكفيني، ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين، ولكنه بزاد الفكر و الشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد.. أنا لا أحب الكتب لأنى زاهد فى الحياة، بل لأن حياة واحدة لا تكفينى".
وأنا أتفق مع مقولة ورأى العقاد فى الكتب، فالكتب تتح لنا أن نحيا أكثر من حياة بشرط الا تفقدنا متعة معرفة الحياة، والا تفقدنا مشاهدة المطر خلف النوافذ الزجاجية متعة الرقص تحت المطر.
كنت أتأمل تلك الفكرة حتى عدت بذاكرتى واسترجعت جزءا من رواية " بعد الغروب"، لمحمد عبد الحليم عبد الله، حيث الحياة ليست جزءا من محاضرة او فصلا فى كتاب او عامودا فى مجلة.. يرد هذا الحديث على لسان احد ابطال الرواية:
"كنت وأنا في مثل سنك شغوفا بالقراءة حتى ظننت أن الحياة عدة محاضرات يطالعها المرء فيعرف كيف يحيا حياته ، ولكني فجعت في خيالي هذا يوم ولجت أبواب العمل فأدركت اني كنت أتعلم السباحة على رمل أو حصير".
فالحياة خلف كتاب عبارة عن نظريات.. والحياة الحقيقية نظريات أيضا لكن تم تطبيقها والاستدلال بنتائج بعد عدة محاولات. معنى آخر عبر عنه الكاتب نيكوس كازانتزاكيس - وان اختلفت الصيغة والتشبيه - فى رواية " زوربا اليونانى"، حيث يلتقى الشاب المثقف، الغارق فى الكتب حتى أذنيه "باسيل" بالرجل الأمى "زوربا".. يستعين المثقف بزوربا ليعمل معه فى منجم الفحم الذى يملكه والده، وتنشأ بينهما صداقة يتعلم منه الكثير عن الحياة وفن عيشها.
وفى حوار بينهما على لسان زوربا: "ما فائدة كتبك اللعينة اذا!.. ماذا تقول لك كتبك"؟ باسيل: انهم يخبروننى عن معاناة الرجال الذين لا يستطيعون الإجابة على أسئلة مثل أسئلتك. زوربا: أبصق على معاناتهم. عندك كل شئ ماعدا شئ واحد.. الجنون، الرجل يحتاج شئ من الجنون وإلا لن يستطيع ان يجرؤ على قطع الحبل وان يصبح حرا.
كان باسيل اجبن من الإقدام على أى محاولة للنجاح او للحياة، فى حين كان زوربا شجاعا يجرب ويعيد التجربة -حتى وان فشلت- يكفيه شرف المحاولة.
تنتهى الرواية بتعليم زوربا الرقص لباسيل، فى واحد من أشهر مشاهد السينما العالمية لرقصة زوربا " انتونى كوين" مع باسيل "آلان باتيس".. ليعلمه زوربا نوع آخر من الحياة لم تعلمها له كتبه.
ان الحياة وفنون عيشها لن تعرفها وانت جالس خلف المكتب، لن تفهمها وانت مسدل ستائر غرفة معتمة تطالع كتابا وتمسك البايب فى فمك مدعيا العلم بالأشياء، لن تعرف الحياة الا اذا شمرت عن ساعديك ونهلت منها، لن تعشها وانت منعزل فى عالم يختلط فيه الحبر بالأوراق.. ان مكانك خارج الصورة وانت تشاهدها داخل إطار يختلف عن وجودك داخلها ممثلا جزءا منها داخل الإطار، ان دورك كمتفرج يختلف عن دورك كمشارك.. الحياة داخل الكتب وفوق الأوراق غير الحياة فى الشوارع والطرقات، غير الحياة فى المساجد والكنائس او حتى داخل البارات.
وفى نفس سياق الحديث عن الحياة من منظور المتفرج والمشارك، من منظور من يشاهد البحر وهو جالس عند شاطئ رحب يتأمل البحر والسماء ويعجب لبديع الصنع، ومن داخل البحر يصارع الأمواج بين لحظة يتمسك فيها بالأمل فى النجاة وأخرى يفقد فيها أى أمل فى الحياة.
فى فيلم " القاهرة ٣٠" المأخوذ عن رواية "القاهرة الجديدة" للأديب نجيب محفوظ، كان "على طه" يؤمن بمبادئ ثورية جامدة كالقوالب الجاهزة، كتب وشعارات وقلب يخفق بحب "إحسان شحاتة" الفتاة الفقيرة التى لا تقرأ ولا تؤمن بما يؤمن به.. ربما ساهم الفيلم بشكل كبير فى ايضاح مضمون الرواية بفضل اخراج صلاح أبوسيف وسيناريو وحوار على الزرقانى.
كان على طه دائما ثائرا يتحدث عن المجتمع، عن حتمية الاصلاح، يحدثها عما تخبره به كتبه الجامدة، لا عما تخبره به الحياة.. حتى احتجت عليه احسان يوما، معاتبة: "مجتمع ايه يا على، انت دايما تفكر بالطريقة دى!.. أكلمك عن غادة الكاميليا تكلمنى عن المجتمع، أكلمك عن نفسى وعن مشاكلى تكلمنى عن المجتمع، وكل اللى بسمعه منك ان المجتمع لازم يتغير.. سيب المجتمع شوية وحس بآلام الناس، بالبنى آدم نفسه، حاول تعرف أد ايه بيتعذب وأد ايه بيتألم".
اذا فالحياة ليست معادلة كيميائة فى كتب الكيمياء، ليست مسائل حسابية وكسور وجذور فى كتب الرياضيات، ليست علما من علوم الفيزياء ولا تعاش من خلف زجاج، ولا تخضع لنظريات بل تعاش وتصقل بالتجارب والخبرات.
اقرأ كثيرا .. فالحياة دون كتبا لا تطاق، لكن لا تدع حياتك تضيق عليها ولا تجد متسعا لأن تعشها، عش داخل الكتب ولكن لا تنس أن تعش خارجها.
"الذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة ستكون لديه دوماً فكرة خاطئة عن الموت".. ليو تولستوي.
#اوليفيا_سيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقفة مع النفس
-
قاضي المحكمة وقاضي البلاج
-
مغادرة لم تفض الحضور
-
تزوجت مسيحيا
-
وش سجون
-
مصر اليوم فى عيد
-
كم من يهوذا على هذه الأرض
-
الرجل فتنة وعورة!
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|