يحيى نوح مجذاب
الحوار المتمدن-العدد: 5802 - 2018 / 3 / 1 - 19:43
المحور:
الادب والفن
السرداب
السرداب كان عميقاً، فقد لفّ أكثر من مرة في رحلة الهبوط نحو الأسفل ليبحث له عن فسحة مكان مناسبة كي يركن فيها مركبته في هذا المرآب الكبير عديد الطوابق، والفتى البنغلاديشي بلهجة عربية مهدّمة هداه إلى الطريق وأشر إليه بكفه السمراء يمنة ويسرة أماماً وخلفاً حتى يضبط حركته في قيادة مركبته ويتجه بها إلى المكان الصحيح ويُجنِّبها الارتطام بالجدار الكونكريتي الصلد الذي يجلس عليه السقف الهائل الوزن، المرتفع نحو الأعلى.
رؤوس سوداء متقاربة تتحرك بأنساق متباينة يكتظ بها الطريق الممتد بين بنايات طوى عليها الزمن وأخرى أحدثتها سَعة اليد ويُسر الحال وخطة جني المكاسب التي لا تنضب في زمن لا قيمة فيه إلاّ لرأس المال. الشاغلون الرئيسون في هذه البقعة من خريطة المدينة منذ بضعة عقود، رجالاً ونساءاً امتهنوا مداواة المرضى بالرُقى أولاً ثم بخلطات العشب والأزاهير التي لا تؤتِ أُكلها على الغالب، وهي ليست بأكثر نجاعة من كيمياء الطب وخلطات الصيادلة بلعاً وزرقاً وسبراً لأغوار الأحشاء التي امتدت هي الأخرى لتكون وريثة الماضي وسيدة الحاضر بلا منازع.
أرجله كلّت من المسير وضرْب الأرض، فحذائه الثقيل لم يعد كافياً لاستيعاب الأقدام الآخذة بالتمدد والضخامة كلما طال زمنه في ذرْع الشوارع والدروب الطويلة. القياسات المألوفة في سني صباه لم تعد تجدي نفعاً عندما شاخ الجسد وتورمت الأرجل مع كل خطوة يطأ فيها التراب وأرصفة الشوارع وقيرها الممتد نحو النهر الغائض بعد أن غادرته المياه بتعاقب شِحاح المواسم.
الألبسة المصنوعة من نُسُج الألياف الصناعية رغم بهرجتها واكتساحها الأسواق ليست بذات بال بمعايير الجودة ومستوياتها العليا التي مازال يعشقها ذوقه الراقي، غير أن شحة المعروض، وبهظ الأثمان، مالا به إلى القبول بما هو أدنى ليدفع قائمة الحساب ويضع مقتنياته في كيس نايلون ملوّن ويعود من حيث أتى وقبل أن تلطم خدّاه برودة الساعات الأخيرة من شفق الليل المقبل.
رحلته الوجيزة على قصرها كانت له اختباراً سريعاً لقوة تحمُّلِه في خريف العمر المُنضوي وراء النجوم الآفلة.
#يحيى_نوح_مجذاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟