أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - طاقة الرمزي والعقلانية الرثة















المزيد.....

طاقة الرمزي والعقلانية الرثة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1484 - 2006 / 3 / 9 - 11:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


اعتقد كثيرون أنه رصدوا مفارقات حادة بين هياج مسلمين ضد رسوم كاريكاتيرية تُعرّض بنبي الإسلام وبين صمتهم على اعتداءات أميركية وإسرائيلية على ما يفترض أنها مصالحهم الحقيقية، الأشد مساسا بأوطانهم ومستقبلهم. فهم لم يتظاهروا حين غزا الأميركيون العراق، وهم لا يحتجون على اعتداءات إسرائيل المتكررة على الفلسطينيين، وهم يتعايشون مع وجود أميركي عسكري مباشر في أكثر دولهم. بينما احتجوا بعنف وأحرقوا سفارات في دمشق، وكادوا يتسببون بفتنة أهلية في لبنان.. على ما لم يكلفهم قطرة دم واحدة.
بيد أن الانتقادات هذه تخفق في فهم دينامية الرمزي وطاقته التعبوية والتحريضية الهائلة، بالخصوص في مجتمعات لا تجد اليوم سندا لذاتيتها في غير الدين. وقد جاءت "حرب المساجد" العراقية لتضيء بجلاء ما خفي في أزمة الرسوم الكاريكاتيرية الدانمركية. لقد كشفت "حرب المساجد" عنف الطاقة المذخورة في الرمزي، وهي طاقة تفوق ما يمكن أن يترتب على قتل أو الاعتداء على ممتلكات مئات المواطنين الشيعة. ويشير رد أطراف شيعية بمهاجمة مساجد سنية يشير إلى إدراك سديد لموقع الإيذاء الحقيقي. فالرمزي بالرمزي، والمقدس بالمقدس. و يتصل هذا "القانون" بحال مجتمع لم يتمكن من بناء ذاتية وطنية تطابق الدولة، ولا من إعادة تنظيم علاقته بالمقدس بما يجعل منه حيزا من حيزات الهوية، لا حيزها الأبرز، إن لم يكن الوحيد، كما هو الحال الآن.
وليس في أمر العنف ذاك سر صوفي ولا لغز مستحيل الإيضاح، إلا للعقلانية الميكانيكية ذاتها، الشائعة في أوساط ثقافية عربية، لطالما منعها العثور على الحقيقة من البحث عنها. إذ يعلم الشيعة العراقيون أن من ينسف مرقدا لإمامين مقدسين إنما يرفع الغطاء عن حرمة كل شيعي، أو يصدر حكم إعدام رمزي جماعيا على "أتباع أهل البيت".
فحياة الناس، كأفراد وكجماعة مذهبية، محمية أو مغلفة بما يمنحه المقدس من حصانة وحرمة. وإنه لانكشاف لا يطاق، أو عري مخز، أن يتم رفع هذا الغطاء أو الاستهتار به. إن حواضن المقدس، من مساجد وحسينيات وأضرحة، هي الأسوار المعنوية التي تحمي الجماعة الشيعية، كشخص اعتباري، تماما كما كانت الأسوار المادية تحمي المدينة وحيوات أفرادها في أزمنة خالية، وتماما كما تقوم الدولة الوطنية الحديثة بتقديم حماية متساوية لحقوق مواطنيها وعقائدهم وحرياتهم.
ليس مقام الإمامين في سامراء، إذاً، لُبْنا وترابا وقبة ذهبية؛ إنه واحد من أهم تجسيدات الحرمة الشيعية، وثالث الأماكن الشيعية المقدسة في العراق على قول بعض العارفين.
وقد يذكر السوريون أن الرئيس الراحل حافظ الأسد اعتذر مرة واحدة من مواطنيه إثر قيام ميليشيات مرتبطة بشقيقه رفعت بنزع الحجب بالقوة عن رؤوس نساء في دمشق في خريف عام 1981. معلوم أن المرأة المحجبة تشعر أنها مكشوفة، بل عارية، أي منتهكة ومستباحة، إذا جردت من حجابها. وهو ما أدركه الرئيس السابق، رغم أنه لم يقصر، من جهة أخرى، في ضرب أي اعتراض على حكمه، ما تسبب في كلف بشرية ومادية هائلة. السلطة هنا تحرص على عدم خدش هوية دينية، بالضبط كي تتمكن من عزل وسحق أية تعبيرات سياسية عنها. مفضلة ذلك على استيعاب تنوع التعبيرات السياسية الذي كان يمكن أن يساعد على تحول الدولة إلى حاضن وحيد للذاتية الوطنية.
مثل ذلك كان ينطبق على الرسوم الكاريكاتيرية الدانمركية. فهي إذ تقبّح المقدس الإسلامي، تخفض مرتبة المسلمين الإنسانية والسياسية، وتنتهك حرمتهم، وتتوقع منهم أن يذعنوا للحكم عليهم بأنهم سلالة إرهابية. ومن المرجح أنه لو كان الاحتجاج الدبلوماسي لدول إسلامية مؤثرا، ولو واجهه رئيس الوزراء الدانمركي بدرجة أقل من الغطرسة والتعصب، لما جرت الاحتجاجات التي شهدنا، أو لما أخذت شكلا منفلتا.
ولم يخف على الأميركيين المغزى الرمزي لهجمات 11 أيلول الإرهابية. لقد أرد منفذوها أن يعلنوا أن أميركا بالكامل مباحة لهم، وأنهم لا يعترفون لأي شيء فيها بحرمة واعتبار. كان ضرب البرجين بمثابة نزع لحجاب الولايات المتحدة أو تعرية لها. ولكانت الولايات المتحدة عانت من هوان لا نهاية له لو أنها لم تبادر إلى الثأر لنفسها وتعمل على سحق أعداءها. ولعل غزوها للعراق متصل بأن ضرب دولة ضعيفة مثل أفغانستان ومنظمة شبحية مثل القاعدة لا يحقق الإشباع الرمزي الكافي لاستعادة الهيبة والثقة بالنفس (هذا مستوى من مستويات التفسير بالطبع، ليس وحيدا ولا يغني عن غيره). ولنيل مثل هذا الإشباع تعرضت عشرات المساجد السنية للهجوم. فأي منها لا يحوز من الرمزية ما يحوزه مقام سامراء الشيعي، ولا يروي الظمأ إلى تدنيس معادل.
على أن المقدس الأميركي، خلافا لمقدسات العراقيين والمسلمين، دنيوي وعمومي، لا يخص الدولة وحدها، بل يتعرف فيه مواطنوها جميعا على ما يوحدهم.
معلوم كذلك أن من يبادرون إلى حرق أعلام دولة ما، إنما يعلنون أنهم لا يعترفون بأية حرمة لها، وأنه يستبيحونها رمزيا. وماديا إن استطاعوا.
لا يُنكر، في جميع الحالات، أن المقدس موضوع استثمار سياسي ومعنوي من قبل سلطات ونخب، تضع في المقام الأول تحكمها بالجمهور وهيمنتها عليه وحفاظها على سلطتها وامتيازاتها. غير أنها لا تنجح في ذلك إلا بمقدار ما لا يجد الجمهور تحققا لذاتيته في غير إيمانه الديني.
إن العقلانية البسيطة، ذات الأصول الوضعانية أو الماركسية، هي وريثة ما عرف تاريخيا باسم المادية الميكانيكية في تاريخ عصر التنوير الفرنسي. وهي، بالمناسبة، مادية الموسوعيين من أمثال ديدرو ودولباخ وهلفثيوس ولامتري وغيرهم. وهي كذلك من أبرز نقاط ضعف تراث عصر التنوير، وقد ورثتها الماركسية دون تعديل. لذلك قلما تمكنت من فهم تظاهرات الرمزي.
وتجد هذه العقلانية المنقرضة في الغرب شيوعا اليوم في أوساط مثقفين وناشطين عربا، يفترض أنهم يساريون أو علمانيون أو علمويون.
والواقع أن ينسجم مع العقلانية الفقيرة والرثة هذه استحسان رفع الحجب بالقوة عن رؤوس النساء، وتدمير المشاهد المقدسة، والهزء بمؤسسي الأديان، وحرق أعلام الدول، وليس فقط التقليل من شأنها. وهو بالفعل، أعني الاستحسان، ما ينقاد إليه رهط من عقلانيين أرثاث، لا يفتقرون إلى التعصب، ولا ينقص بعضهم الارتباط بمصالح وامتيازات وشبكات مجزية من الشراكات الرمزية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطغيان والواقعية النفسانية
- حداثتنا الفكرية: قومية ألمانية، علمانية فرنسية، اشتراكية روس ...
- إلى المثقفين اللبنانيين: تعالوا زوروا سوريا!
- الأقليات غير موجودة في سوريا، لكن إحصاء الطوائف ممكن!
- حوار حول السياسة والثقافة في سوريا
- تقويم نقاش أزور: من صراع القيم إلى نقد السياق المؤسسي
- ضد التكريس
- فلسطين وإسرائيل: اختيار شراكة مفروضة!
- صورتان لمفهوم الأمن الوطني السوري: مقاربة نقدية
- سوريا ولبنان: تاريخ هويتين أم هوية تاريخين؟
- تخطيط لمراحل العلاقة العربية الغربية بعد الحرب العالمية الثا ...
- الامبريالية، الشمولية، السلفية؛ وماذا بعد؟
- غياث حبّاب
- عام سوري قصير ومليء!
- ريجيم، نظام، سلطة: تعليق لغوي سياسي
- عودة الولايات المتحدة عن «الثورية الطفولية» إلى سياسة أكثر و ...
- في أزمة الدكتاتوريات ومستقبل العمل الديمقراطي
- مغزى سياسة -شارع ضد شارع-
- الوطنية السورية: طرح المشكلة
- من أجل جبهة ثقافية ضد الموت


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - طاقة الرمزي والعقلانية الرثة