|
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5796 - 2018 / 2 / 23 - 03:22
المحور:
الادب والفن
المُضيف، كان فعلاً قد أستيقظ قبلها في هذا الصباح الألق، المُورَّد بشمس الربيع المبكر. ما لبثت " سوسن خانم " أن دعته، من خلال المرافقة، ليشرب معها القهوة على شرفة غرفة النوم. تأخرَ بعضَ الوقت في تلبية دعوتها، وكان على المرافقة أن تعيدَ تسخين القهوة. ما عتمَ أن ظهرَ على مدخل الشرفة، وهوَ بسروالٍ رصاصيّ اللون، منتفخ الجانبين، مع قميص خفيف ناصع البياض. قدمت له الخانم فنجان القهوة، وقد راقها أن تتصرفَ على هذا النحو كأنها في مسكنها الخاص. ذلك فكّرت فيه حينئذٍ، وأنه سيجعل علاقتها أكثر وديّة بالرسام الفرنسيّ. في الآونة الأخيرة، كانت قد فقدت صداقة العديد من المنتمين للوسط الراقي: الأميرة، كانت ولا شك وراء الأمر ولسببٍ يمتّ بالدرجة الأولى إلى غيرة نسائية سخيفة. حادثة مقتل " مسيو غوستاف "، جاءت كالغوث للمرأة الحقود كي تشحذ ألسنةَ السوء. ألا إنّ الخانمَ، قلقةً متوجّسة، لتتوقع في قادم الأيام المزيد من التنغيص على صعيد العمل أيضاً. الرسام العجوز، جلسَ بمواجهتها في صمت وقد شملت الكآبة هيئته، حال من هم في مثل سنّه. سبقَ أن لاحظت " سوسن خانم " جدّها على المنوال ذاته، عندما كان يفيق صباحاً من نومه. كان الجدّ لا يفعل شيئاً إذاك، أكثر من رمي بصره خلال الحقول المترامية الأطراف. من ناحيتها، دأبت على الاعتقاد بأنه كان يفكّر بأراضيه، المُغتصبة من لدُن من كان يدعوهم بازدراء " أولاد المرابعين ". ذات مرة، وكانت بعدُ صبيّة صغيرة، تكلّم شقيقها الكبير أمام الجدّ عن فيلمٍ سينمائيّ محليّ: " إنهم يعرضونه منذ عدة أشهر في الصالة المملوكة من قبل الدولة، وذلك نكاية بأهل السنّة ". فعلّق جدّه بالقول: " كيفَ لا، وبطل الفيلم يجسّد دورَ ربّهم المعبود. هذا مَن يُصَوَّر بوصفه شخصاً خارق الشجاعة، وفوق ذلك، بطلاً وطنياً قارعَ الفرنسيين والإقطاع؛ هذا لم يكن يعدو عن كونه قاطعَ طريق. لقد رأيته بأم عيني، ثمة في ساحة الشيخ ضاهر، وكان قد تبوّل في سرواله بمجرّد أن وقعَ نظره على حبلَ المشنقة! ". فيما بعد، جازَ للخانم أن تعلمَ، بأنّ جدّها قد خلط بين " سليمان المرشد "، المدّعي الربوبية، وبين رجل علويّ آخر من مصياف يُسمى " بوعلي شاهين ".
* كلّ هذا فكّرت فيه السيّدة السورية، حينَ كانت على الشرفة تشرب القهوة مع الرسام الفرنسيّ. لعله مظهر كآبته، مَن أنتقل إليها فجعل تلك الذكريات ترفرف فوق رأسها. وكانت قد عَزَت كآبته، في الوهلة الأولى، إلى جلوسها على كرسيّ اعتاد أن يرى حبيبته عليه كلّ صباح في ماضي حياته، الآفل. بغيةَ إخراجه من حالة الإشفاق على الذات، شاءت أن تشير بيدها نحوَ حديقة الورود، المستلقية برخاء تحت أنظارهما: " يقيناً، أنني كنتُ سأندم لو غادرتُ أمس ليلاً ولم أمتّع عينيّ بهذا المنظر الرائع "، قالتها متبسّمة دونَ أن تنظر إليه. أجابها، وكأنه بدَوره يكلّم شخصاً آخر: " بالرغم من سهري إلى ساعة متأخرة ليلاً، كان لي الأرقُ بالمرصاد. على أنني سأعوض ذلك في القيلولة، كما أفعل كل يوم تقريباً ". ألتفتت نحوه لتلمسَ يده، وقد تجلّى على وجهها المُشرق آياتُ الود والتعاطف. حملقَ فيها بعينين غائرتين، مبادلاً إياها الابتسام بشيء من الخجل. ما لبث أن قال، وكأنما يستدرك ما فاته من كياسة في كلامه: " يسرّني أنك لم تندمي على البقاء لدينا، وأن حديقتنا حازت إعجابك. على أنّ هذا ليسَ كل شيء. فالمناظر الساحرة حقاً، كما ذكرت لك بالأمس، يمكن رؤيتها خارجَ المنزل " " حتماً سنراها، بعد تناولنا الفطور. مرافقتي، لن تتأخر في دعوتنا إلى مائدتكم السخية "، قالت له وهيَ تنقر على مسند كرسيها بأصابعها الجميلة، المحلاة بخاتم ذهبيّ مرصّع بحجرٍ كريم يمتّ للون عينيها. كذلك كان مسلكها، عندَ انشغال فكرها في أمرٍ ملحّ. لقد حصلت من المسيو، ليلة أمس، على وعدٍ بحمل " فرهاد " على مكالمتها من أجل عودته إلى العمل. ولكن بقيَ الجانب الأهم من مهمتها، هنا في الضاحية؛ ألا وهوَ إقناع " الشريفة " بأن تتنازل لها عن رعاية طفلتها. لن يكون الأمرُ غريباً عن المرافقة السابقة، كونها الوحيدة من علمت بحَبَل سيّدتها، الكاذب، وكلّ ما يتصل بهذه الحكاية: الخانم كانت بحاجة إلى الطفلة، طالما أنها تبغي الاحتفاظ بالشركة العائدة لطليقها الكويتيّ والذي سبقَ أن حظتْ منه بتوكيل يجيز لها التصرف فيها. بعد طلاقها منه مؤخراً، كانت خشيتها قائمة على احتمال رفعه دعوى لاسترداد الشركة بما لديه من نفوذ. أما لو عَلِمَ بأنها أنجبت له طفلة من صلبه ـ كذا ـ فإنّ الوضعَ يمكن أن يختلف تماماً.
* رشفَ المسيو من فنجانه، بعدما أضاف للقهوة القليلَ من الحليب. وإذا به يسألها بشكل غير متوقع عن آخر أخبار حرب الخليج، كما لو أنه كان يقرأ أفكارها. إلا أنّ الخانم استبعدت هكذا أمر، طالما أن الرجل لم يسألها مرة قط عن خصوصيات حياتها الزوجية، المنقضية. قالت تجيبُ سؤاله: " الحرب، صدمت العالم العربيّ من غير شك. مثلما أنها أدت إلى صدع كبير بين الأنظمة الحاكمة، بل وبين بعضها وشعبه. ربما أنتَ تدرك ما أعنيه، بشأن أحوال البلد هنا، إذ أدى تضامن مواطنيه مع العراق إلى شبه عصيان عام؟ ". رمى العجوز بصره إلى منظر الحديقة، يستمد منه المضاء اللازم لحرية القول: " نعم، أدرك ذلك. ولو أنني أخالفك رأيكِ، بكون انتفاضة دجنبر على علاقة بالأوضاع الخارجية أكثر منها الداخلية " " يَحضرني هنا قول أحدهم بُعيدَ غزو الكويت، بأنّ اختيار عز الدين العراقي لمنصب الوزير الأول إنما جاءَ لإرضاء المواطنين، المتعاطفين مع صدّام حسين " " إنّ المرء، بطبيعة الحال، يستطيعُ تأويلَ صُدَفِ الحياة بما يتناسب مع أيّ حالة في راهن يومه. على أنني، بالرغم من كوني مواطناً، أشعر بالقلق من نغمة العداء للغرب المتصاعدة بحدّة على خلفية الحرب " " ولأنني أعتبرك كذلك، أي مواطناً مغربياً، أصارحكَ بأن الغربَ مسئولٌ عن تدمير العراق خدمةً للدولة العبرية "، قالت لمضيفها وقد شعت ابتسامة متخابثة على شفتيها. حملق فيها برهةً، كما لو أنه يود انتقاءَ فكرةٍ مناسبة من رأسه. ثم ما لبثَ أن بادلها الابتسامَ بذات الحذق، قبل أن يفاجئها بالقول: " أتعلمين أنها كانت يهودية، امرأتي الراحلة؟ بيْدَ أنها كانت تضيقُ كلّ الضيق، ما لو ذكّرها أحدهم بيهوديتها. وإنك يا سيّدتي، تذكّرينني بها من هذه الناحية ". الجملة الأخيرة، جعلت ابتسامتها تذوي كما يجري لوردة دهمتها على غرّة عاصفة ثلجية. تساءلت بنبرة يشوبها الدهشة: " أيّ ناحية، تعني..؟ ". كمألوف عادته، لم يُجب فوراً. راحَ يراقبُ جانبَ وجهها، وقد أنتبه إليه بحسّ الفنان: بدا له مثالياً، كبروفيل للوحة يفكّر بإنجازها. فيما مضى، استخدم العديدَ من النساء كنماذج لرسومه. كنّ بأغلبهن شابّات قرويات على شيء من السذاجة مظهراً، فيما أعماقهن يصدى فيها قهقهةُ الدهاء. إحداهن، كانت المرأة الماكرة نفسها، المحتلة مساحة كبيرة من فكر " سوسن خانم ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهاوية
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 5
-
أدباء ورهبان 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 2
-
أدباء ورهبان 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 1
-
أدباء ورهبان 2
المزيد.....
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|