حيدر سالم
الحوار المتمدن-العدد: 5787 - 2018 / 2 / 14 - 04:16
المحور:
الادب والفن
ما زال حنا مينه يعلمنا كيف نعيش ، رغم انه يقول " ولدت بالخطأ ، وعشت بالخطأ ، وكتبت بالخطأ " ، و يسخر من تعبنا الذي يراه راحة ، فهو الطوّاف في العالم ، الحلّاق و الشيّال ، العامل في الميناء ، وعلى مراكب البحر ، و أجير صيدلي ، و الصحفي ، ولذلك إنه لايولي للدراسة الاكاديمية الاهتمام ، بيد انه يرى ان التجربة الحياتية ضرورية للكاتب ، يستشهد في كتابه ( هواجس في التجربة الروائية ) بقول غوركي : " علم الاجتماع منقوشٌ على ظهري ، لان الحياة الاجتماعية التي عشتها علمتني أشياء كثيرة " . و يمضي حنا مينه ، كاتب البحر ، ليبحر بنا الى مرافئه التي عاشها ، و ذاق مرارتها وحلاوتها ، ليرينا كيف نعيش الحياة . ينادينا " أيها الادباء ؛ هاجروا بالاتجاه المعاكس ، وغادروا العاصمة كالرسامين ، حاملين عدة الشغل و الاستعداد للملاحظة و الفهم " ، و رغم انني أكره الكتاب الذين يدأبون على ملاحقة التجارب للكتابة ، فانا أفضل الكاتب النافر من الحياة لا المنغمس فيها ؛ الا انني أحب حنا مينه ، و لا أعرف لماذا ، وهو يعلمنا في حوارٍ تليفزيوني معه ، أن لا نعيش التجربة لنكتبها ، لأن هذه التجربة تكون مصطنعة ، و غايتها الكذب و التدليس .
صدرت الطبعة الاولى من مجموعته القصصية " الابنوسة البيضاء " عام 1976، ويكتب مينه في بداية الطبعة الثانية ( 1979 ) ؛ أنه نشر أقاصيصه في صحف و مجلات سورية و لبنان ، و " لكنني لم أجمعها و لن أجمعها ! " ، و كأن مينه يحاول إيصال عبثه من خلال هذه اللقطة السينمائية الرديئة ، فلو كان " فتى الميناء " ليس مهتماً للنشر ، لما بدأ كتابة ثلاث روايات دفعة واحدة بعد نجاح روايته الاولى ( المصابيح الزرق ) ، هذا الشعور ثنائي القطب غالباً ما يُرافق الكتاب فهم يعبرون عن إمتناعهم عن النشر و نفورهم منه ، لكنهم يكتبون بإستمرار ! ، بيد اننا على وفرة من الحظ لان مينه قرر النشر في النهاية .
تتضمن المجموعة عشرة أقاصيص قصيرة ، و رغم أن كلمة أقاصيص هي جمع لأُقصوصة صغيرة ، و الاصح أن نقول ، قصص قصيرة ، لان القصص التي يحتويها الكتاب طويلة بعض الشيء مثل قصة ( علبة التبغ ) ؛ لكن مينه يعبر عنها بكلمة أقاصيص ، لعله أراد التصغير للتواضع الذي جُبل عليه طبعه .
كتب مينه هذه القصص القصيرة بلغته المعهودة ، التي يستقيها من واقعه ، و يضمخها برائحة الحارة ، و عفونة الحياة ، و رياحينها ، يكتبُ مينه بدون تزويق ، تأمر أمه الطفلة التي تكتب في قصة ( رسالة من أمي ) ، أن تكتب بدون " تنويق " ؛ لمعرفتها المسبقة بابنها الذي لا يحب " التنويق " ، ضمن مينه هذه القصة في المجموعة القصصية بالرغم من بساطتها ، و هي بالاساس مكتوبة لمحاكاة لغة الام ، وطيبتها ، و بساطتها ، فنراه يحاول إلتماس هذه القطعة من البياض من خلال الكلمات التي يختارها مناسبة للايقاع ، الايقاع البسيط ، مثلا " المختار عاتب عليك " ، " جوابك على هذا السؤال جعل الفأر يلعب بعب بيت عمك " ، و يضمن بعض من الامثال داخل القصة " يا جبل ما يهزك ريح " ، و يختتمها بموال أرسلته أمه ، و بالطبع لم يقتصر تعبيره البسيط على هذه القصة ، بل في سائر القصص الاخرى ، يقول في حوار ( هذه سوسته ) داخل قصته المعنونة " كاتب " .
نفتتح المجموعة بقصة ( الأبنوسة البيضاء ) ، التي حملت المجموعة إسمها ، يتجلى مينه في هذه القصة الى ابعد نقطة من الابداع الذي يخفق في روحه ، كيف لا وهو يتحدث عن اشياء يحبها ، البحر و الغابة و الطبيعة ، و هكذا هو كلما تحدث عن الرجوع الى أحضان الطبيعة ، و الانغماس في انغامها التي سحرته ، تبدأ القصة بمشهد فيه منهدس و مدرسة و رسام ، داخل سيارة ، داخل المسار العام الذي تشملهم به الحياة ، و نشاهد مينه وهو ينط من جوف الرسام ليعبرعن احاسيسه ، و ليس عجيباً أن يكون الرسام دليلهم ، فالمهندس و المدرسة لا وقت لهم لمعرفة الدروب ، و الولوج في الغابة و الجلوس عند البحر ، فكل منهما تدهسه رتابة العمل ، و كما شاهدنا مينه وهو يهرب في رواية الياطر الى الطبيعة ، نبصره يهرب هنا ايضا ، و يصرخ " الغابة تنادي ونحن نتجاهل " ، و مينه دائما ما يخالجه الشعور بالعودة الى " الوادي الاخضر ، يدور بالاشجار ، و يقفز فوق الادغال ، و يتدحرج على العشب " ، هكذا هو يحب الشمس و رائحة البحر ، و يمشي في شوارع حياته ، و يعيشها طولا وعرضا ، " سعيدا بانفلاته ، بتشرده ، بجنونه " ، يستشعر مينه بحواسه التي نذرها للتجربة جوانب الحياة الخفية ، و يحاول الهروب من ضغط المدينة السريعة الى الطبيعة ، و يدعونا أن " نمضي عبر دروب غير مطروقة ، و في كل خطوة نكتشف مجهولا " ، و يبصر نفسه كسمكة محشورة في علبة سردين ، علبة معدنية أنتجتها مصانع المدينة ، المدينة التي اخرجه نهمها الرأسمالي من النهر ليسبح في علبة سردين ، المدينة تضغطنا جميعا ، و تزوغ أبصارنا عن الحقيقة التي حشرتها في شقوق الظلام ، لكن مينه يبصرها ملتهبة ومضيئة ، ويصرخ بنا ان لا نسبح في علبة السردين طالما النهر ينادينا ، و يصيح مينه : يا اهل مدينتنا العتيقة ، يا سكان المربعات و المستطيلات و المثلثات و جميع علب الكبريت ، اخرجوا من علبكم ، من نواويسكم و جحوركم ، اخرجوا ، و تعروا ، و اعرضوا صدوركم و رؤوسكم للشمس .
يهدي مينه قصته الثانية ( على الاكياس ) الى احدهم و قد سأله " كيف ، و متى ، بدأت الكتابة ؟ " ، و يسرد لنا مينه احداث ذلك اليوم الذي تاخر فيه والده عن الرجوع الى البيت ، و الظنون التي التهمت جميع من في البيت ، و تفكيرهم بالبضاعة التي تلفت ، ومن ثم عمله في البحر ، و الاغماء الذي داهمه ، و بعد أخذ ورد ، تحول بلمحة البصر الى كاتب في نفس المكان ، هكذا و بكل بساطة ، القصة لا تحتاج الى الكثير من التفسير ، فهي واضحة و جلية ، و يخبرنا صاحب العمل الذي كان مينه عاملا عنده ؛ أنه " بدأ الكتابة عندي على الاكياس " .
و يمضي مينه راصداً المشاكل اليومية التي تواجه الفرد العربي ، بكل واقعية و عذوبة ، فهو يرسم الشخصيات بدون زبرجة ، و لا يخيل الينا انه يرسم فرداً من الصين او من اوربا ، فكل الشخصيات عربية ، و يستعرض هموم الكاتب ( الاستاذ ياسين ) في قصة ( كاتب ) ، و هو يمنع من الدخول الى بلد ليس مكتوبا على لائحة الاسماء المسموح بالدخول اليها ، و توضع في يديه الاصفاد ، و يجلس في الحبس ، الكاتب محبوس حسب مينه في هذه القصة ، تسجنه السلطة التي لا تفرق بين كاتب و لص ، فالكل " محابيس " بالنسبة للشرطي ، و لرجال الدولة لسانهم " العطر " الذي يصرخ بالجميع " أوباش " و أولاد كلب " و " أرذال " .
مينه الحالم ، و الذي لا يكف عن احلامه ، يصورها لنا بتجلياتٍ تخفق و تنجح ، لكنها في النهاية أمنيات مسوغة لكل فرد ، ومينه منهم ، في قصة " النار " يتحدث لنا عن عمّال المطبعة ، الذين يكابدون البرد مع تساقط الثلج ، و يدافع عنهم بروحه التي حملت أعباء العمال ، بروح اشتراكية انتمى اليها ، و يقف في وجه الحديد الذي سينهال به " ابو العز " فوق وجه عدي ، أعتقد ان مينه هو نفسه عدي ، و ابو العز ، فابو العز كان عاملا معهم ، ولكنه يأبى ان يصف بجانبهم لغفة منه ، و العمال جميعا ابو العز و عدي في ان واحد ، و لذلك كان يصرخ ماركس بهم " يا عمال العالم اتحدوا " ، و تتوتر الاحداث مع الاضراب الذي يفتعله عدي بسبب البرد ، و يبدي اعتراضه على المدفأة الشكلية التي لا تلتهم الحطب ، و يقترح ان يلقمونها صناديق الخشب الموجودة في الغرفة ، و مع اعتراض ابو العز يشتد الامر ، و لكنه ينتهي بحركة درامية سخيفة بأن يرضى ابو العز باقتراحه ، و هذه الروح الدرامية كانت تشغل الادباء الذين يكتبون عن العمال ، و لكن أحوال العمّال لم تتحسن فهم عادوا لنفس عملهم ، بيد ان ابو العز اسكتهم بنفحة صغيرة لا تُعد بالنسبة لحقوقهم التي يستحقونها ، فهل كان بعض الغيث أنفع من عدمه يا مينه ؟ . و في قصة " جمرة السنديان " ينظر مينه للاشجار على هيئة رصاص ؟ و ينتظر ان يقوم الفرد العربي للاجهاز على العدو كما فعل " ابو محمد الشاغوري " عندما انتصر على " مصطو " ، لكن بندقيته معلقة على الجدار ، مقاومة العربي بعين مينه صارت للزينة ، ومرهونة للحبس في الذكريات فقط ، بيد ان امله لا ينضب ، لهذا نجده يحمل الطفل العربي الذي رآه في قصة " هذا ما بقي منه " داخل مستشفى في لندن ، يتضح فيما بعد ان الطفل فلسطيني ، و والده يعالج من مرض خبيث ، و يموت في نهاية القصة ، اذن مينه متشائم بشأن القضية العربية في ذلك الوقت ، حتى انه يرسم مشهداً سخيفا ، حينما يخرج بطل القصة و شقيق المتوفي ليحتضنان بعض في الممر و هما يبكيان ، لا اعرف لماذا اقحم مينه هذا المشهد الرتيب في هذه القصة .
أجلت الحديث عن قصة " مأساة ديمتريو " الى النهاية لانني وجدتها إخفاقة كان مينه يستطيع تجنبها ، فهو كاتب ينهل من تجاربه ، واذا كانت تجربة حب دفعته لكتابة هذه القصة فهي مصطنعة ، لم التمس فيها مينه ، لم التمس رائحة البحر و الغابة و الحنين للواقع ، فنراه يرسم المشاهد بسوريالية ، بين ديمتريو و ديمتريو وهما ينقضان على بعضهما في صراع وجودي ، بيد ان هذا الصراع مفتعل و سمج ، لم احب هذه القصة ، و انا اشاهد مينه يرسم عشرات الشموس تخرج من اصابع ديمتريو ، و لماذا عشرات الشموس ؟ كانت لوحة سوريالية منفرة بالنسبة لي .
رحم الله حنا مينه الكاتب العذب الذي علمنا ، و مازال يعلمنا .
#حيدر_سالم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟