|
نظرية المؤامرة
محمد بن زكري
الحوار المتمدن-العدد: 5771 - 2018 / 1 / 29 - 19:00
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
في مراكز الدراسات و البحوث ، الإنسانية و الاجتماعية و الاقتصادية و الستراتيجية ، التي تمارس أنشطتها (العلمية) ، تحت مختلف الشعارات و الأسماء ، بتمويلٍ متعدد المصادر ، يعود جزء منه إلى دعم مقدم من الشركات الكبرى ، و التي تدار بالتنسيق مع وزارات الخارجية و الأجهزة الاستخبارية ، بعواصم دول الراسمالية المركزية ، لخدمة مصالح تلك الدول (معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ، و مركز كارنيجي للشرق الأوسط / نموذجا) ؛ لا تتوقف آلة تشكيل و توجيه الرأي العام - الغربية - عن إنتاج و إطلاق مصطلحات ، سياسية واجتماعية واقتصادية ، تخفي من الانحياز و التزييف ، طيّ صياغاتها ، غير ما تبديه من الموضوعية و زعم استجلاء الحقائق ، في قراءة معطيات الواقع و استخلاص النتائج و المؤشرات . وبحِرَفية عالية ، يتم تسويق المصطلح المفخخ و الترويج له ، عبر وسائط الميديا و تكنولوجيا الاتصالات و مواقع التواصل الجماعي ، حتى يستقر المصطلح في الأذهان ، بفعل التداول و التكرار الاستعمالي المستمر ، تطبيقا عمليا لفكرة غوبلز : اكذب اكذب اكذب .. حتى تصدّق أنت نفسك كذبتك . وقد شاع لدينا في دول الأطراف مصطلح : نظرية المؤامرة (Theory of conspiracy) ، حتى صار كثير من المشتغلين بقضايا الشأن العام و الحراكيين السياسيين و الاجتماعيين ، يستخدمونه في مناظراتهم السياسية و سجالاتهم الإعلامية ، و في تناولهم النقدي لأفكار الآخرين و آرائهم ، على قاعدة المعارضة و الاختلاف ، و خاصة فيما يتصل بالعلاقة - غير المتكافئة - مع دول المركز في نظام العولمة الراسمالية ؛ دون تحسُّب ، أو دون إدراك لما ينطوي عليه المصطلح من إيحاء بترك الأحداث مثار علامات الاستفهام ، تمضي إلى غاياتها ، كما أراد لها متخذو القرار السياسي في دوائر الحكم بالغرب الراسمالي ، وكما رسمه علماء وخبراء صناعة الرأي العام ، في مختبرات الدراسات و البحوث النفسية و الاجتماعية ، و في غرف المداولات السرية بوكالات الاستخبارات المتخصصة ، فلا شيء يترك للصدفة في السياسات الخارجية و العلاقات الدولية ، لنظم الديمقراطيات النيابية (المتقدمة) ، و إلا ربما تعرضت الحكومات للمساءلة و الإسقاط و المتابعة القانونية ، بتهم التقصير و سوء الإدارة و الإضرار بالمصلحة العامة و خيانة الأمانة . و مع التسليم بأنه من حق الدول كافة ، بل من أوجب واجباتها ، أن تخطط و تنفذ سياساتها الخارجية ، بما يضمن حماية مصالح أوطانها و تحقيق مطالب و تطلعات شعوبها ؛ فإنه لَغافل هو أو مستغفَل ، في دول الأطراف و نظم الاقتصادات التابعة ، من تنطوي عليه اللعبة ، فينخدع باللهجة الساخرة (المفتعلة) ، التي يتحدث بها بعضهم عما يسمونه (نظرية المؤامرة) ، ذهابا إلى إنكار وجود ما يمكن - من وجهة نظر غير محايدة - اعتباره مؤامرة ، هي ليست في الواقع إلا تدابير دفاعية استباقية و خططا حمائية ، في سياقات صراع المصالح بين دول الاقتصادات الراسمالية المركزية ، كما يبدو ذلك واضحا في السياسات ، التي تهدف إلى إحكام قبضة الاحتكارات الراسمالية - الأميركية خصوصا - العابرة للقوميات ، على الأسواق وعلى مصادر المواد الأولية عبر العالم ؛ مدعومة بترسانة عسكرية مرعبة ، بالتوازي مع ترسانة إعلامية شديدة السطوة . وغافل هو أو مستغفَل ، من يظن أن قوى الاستغلال والسيطرة والاستبداد الدولي ، المتجسدة في الراسمالية المعولمة - بقيادة الإمبريالية الأميركية - معنية حقا بالديمقراطية و حقوق الإنسان في دول الأطراف ، و خاصة منها دول الاقتصادات الريعية التابعة ؛ فالديمقراطية و حقوق الإنسان ، هي آخر ما تهتم له الولايات المتحدة و بقية دول (العالم الحر) ، إذا ما تعلق الأمر بدولٍ (حليفة) منقطعة الصلة بالديمقراطية ، من طراز مملكة آل سعود و مشيخات الخليج الفارسي ، حيث يغطي البترودولار على كل انتهاكات القانون الدولي و حقوق الإنسان . بل إنه حتى في دول مراكز النمط الراسمالي و معاقل الليبرالية الجديدة ، كثيرا ما سجلت الوقائع على الأرض و على صفحات التاريخ ، أن كل دعاوى الديمقراطية و حقوق الإنسان ، سرعان ما تسقط في الاختبار ، عندما يجد النظام نفسه وجها لوجه مع الحركات الاحتجاجية و المطلبية للجماهير المغبونة اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا ، كما حدث في المواجهة البوليسية العنيفة ، التي اعتمدتها إدارة باراك أوباما ، لقمع متظاهري حركة احتلوا وول ستريت في نيويورك . على أنّ أميركا و باقي دول الليبرالية الجديدة ، التي تسمي نفسها العالم الحر ، لا تكف عن استغلال مبادئ الديمقراطية و حقوق الإنسان ، كورقة للابتزاز و الضغط و تبرير التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ، حتى إن الأمر قد يصل إلى تغيير النظم بالقوة . و الشواهد الحية على (المؤامرة) ، في منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا ، و في أميركا الجنوبية ، ليست خافية على أحد . وغافل هو أو مستغفَل ، من يحسن الظن بأميركا ولو للحظة واحدة ، و هي صاحبة التاريخ الملطخ بدماء الشعوب ؛ بدءً من الإبادات الجماعية و التطهير العرقي لشعوب الهنود الحمر (كما سماهم الغزاة الأنغلوساكسون) ، مرورا بجرائمها ضد الإنسانية في الحرب على فيتنام ، و مؤامراتها لقلب نظم الحكم الديمقراطية ، بتدبير الانقلابات العسكرية ، كما فعلت في إيران (حكومة محمد مصدق) و في تشيلي (حكومة سلفادور الليندي) و في فنزويلا (حكومة هوغو تشافيز) .. على سبيل المثال لا الحصر ، و ليس انتهاء إلى مؤامرتها السافرة لغزو و تدمير و نهب العراق ، إعمالا لشريعة الغاب ، خارج القانون الدولي ، باختلاق أكذوبة أسلحة الدمار الشامل ؛ التي أطلقها الجنرال كولن باول وزير خارجية جورج بوش الصغير ، في خطابه الشهير أمام مجلس الأمن الدولي ، يوم 5 فبراير 2003 . ثم زكاها رئيس وزراء بريطانيا العظمى توني بلير ، بادعائه أن النظام العراقي قادر على نشر أسلحة الدمار الشامل خلال 45 دقيقة ؛ ليعود الاثنان - بعد عدة سنوات - فيعتذران عن الكذبة (الغربية) المخزية ، التي دمروا بها العراق تدميرا شاملا . فكيف إذن يستقيم لأميركا ، بكل إرثها التآمري ، أن تكون راعية للسلام و الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم ، أو ألّا تكون هي من يدير الأحداث التي تعصف الآن بدول و شعوب منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا ، في سياق تداعيات ما أطلق عليه الإعلام الغربي اسم ثورات الربيع العربي ، لاستيلاد مشروع الشرق الأوسط الجديد (أو الكبير) ، من رحم الفوضى الخلاقة ؟! و إذا كان ما جرى و يجري في ليبيا ، منذ أن ركب الغرب - بقيادة أميركا - ظهر انتفاضة فبراير الشعبوية ، ليس سلسلة من تدابير تدوير الفوضى و إدارة الأزمة .. تآمريّاً ، لاستنزاف الأرصدة و الفوائض المالية الليبية ، بواسطة أدوات محلية هشة متعاونة مع الأجنبي ، من أصحاب الذمم الخرِبة الفاسدين ، الذين وصلوا إلى السلطة ، في ظروف الفراغ الهائل عقِب سقوط النظام السابق ؛ فماذا عسى أن تكون المؤامرة إذن ؟! لقد بات من نافل القول أن حكومات نظم الراسمالية المركزية الغربية ، هي من تدير الأزمة المفتعلة في ليبيا ؛ فأميركا - و مِن ورائها بريطانيا و فرنسا و إيطاليا - هي من مكنت لما يسمى تيار الإسلام السياسي في ليبيا ، على قاعدة تقاطع المصالح السياسية و الاقتصادية (دون أن نغفل في ذلك دور التخلف الاجتماعي و هيمنة الأيديولوجيا الدينية على العقول ، كعامل مساعد) . و هي من حالت و لا زالت تحُول دون إعادة بناء جيش نظامي بعقيدة قتالية وطنية ، لفائدة بقاء الميليشيات المسلحة و إحكام سيطرتها على عاصمة الدولة الليبية . و هي من كانت وراء اتفاق الصخيرات (المفخخ) و فرض سلطة موالية للغرب على الشعب الليبي . بل إنها - و بصورة فجة و مباشرة ، تقطع الشك باليقين - هي من عملت و تعمل بكل الوسائل على فرض شخص بذاته و عينه على رأس السلطة التنفيذية في ليبيا ؛ خدمة لمصالح النظم الراسمالية الغربية ، على حساب مصلحة ليبيا و شعبها . و حكومات الدول الغربية - بزعامة الامبريالية الأميركية - لا تخفي نواياها التآمرية ، لتحويل ليبيا إلى وطن بديل للمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين ، الذين وصفهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب بـ " الحثالة " . فكيف لنا بعد كل هذا و كثير غيره ، أن نبتلع طُعم مصطلح (نظرية المؤامرة) ، نفيا لحضورها في شتى أشكال العلاقة غير المتكافئة ، بين دول المركز و دول الأطراف ؛ ارتباطا عضويا بنظام العولمة الراسمالية ؟ و من أين لمنظري الليبرالية الجديدة ، أن يوهمونا ، كما لو كنا أغرارا ، بأن ماما أميركا يمكن أن تكون - ولو للحظة واحدة - الأم تيريزا ؛ اللهم إلا أن تتغير طبائع الأشياء ، لتنقلب إلى أضدادها ، فتتحول الحدأة إلى عصفور كناري !؟ إن المؤامرة ، ليست نظرية ، بل هي واقع يتحرك على الأرض (اقتصاديا وسياسيا وعسكريا) ، ولا ينكر وجودها إلا من لا يرى أو لا يريد أن يرى ، سواء بحسن نية أم بسوئها . و هي تمتد من مكاتب حكومة العالم في وول ستريت بنيويورك ، إلى مكاتب رؤساء الدول و رؤساء الوزارات و رؤساء الأحزاب السياسية و رؤساء الغرف التجارية .. في نظم الاقتصادات الريعية و الراسمالية الطفيلية التابعة . و إن الترويج الإعلامي الواسع والمكثف لمصطلح (نظرية المؤامرة) ، على اعتبار أن فكرة المؤامرة ليست أكثر من وهم أو هاجس (مَرَضيّ) ؛ إنما يتم بهدف تزييف الوعي و غسيل الأدمغة و تضليل الناس ، و للتغطية على مخططات وسياسات الاستحواذ على ثروات ومقدرات الشعوب و الدول (المخلّفة) . هذا أولا ، أما ثانيا ، فهو دليل على مدى الرعب الذي ينتاب قوى الاستغلال والاستبداد ، الدولية والمحلية ؛ جرّاء يقظة الشعوب و الجماهير ، ضحايا سياسات الهيمنة و التسلط و الإفقار المنظم و تقسيم العمل ، ضمن نمط الإنتاج الراسمالي المعولم ، مع نمو الوعي بالأساس المادي لبؤسها التاريخي ؛ ما يطرح احتمال نضوج الظروف الموضوعية للثورة الاجتماعية في بؤرة ما ، قد تمتد في كل الاتجاهات ، لتكتسح مراكز النمط نفسها . ومن ثَم نستطيع نفهم مبعث الترويج لمصطلح (نظرية المؤامرة) من باب الانتقاص و التهوين و السخرية ؛ ذهابا إلى نفي أو استبعاد أي وجود للمؤامرة ، و كأننا نعيش في يوتوبيا عولمية ؛ هو ليس في حد ذاته إلا شكلا من أشكال المؤامرة ، و صبّا للماء في طاحونتها الدوارة ، أو هو في أحسن الافتراضات وقوع في شَرَكها المنصوب للغافلين و أصحاب النوايا الطيبة . و النوايا الطيبة غالبا ما تقود أصحابها إلى الجحيم .
#محمد_بن_زكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما يصبح اللقّاق و النصّاب و النشّال حكاما
-
شمولية التحرر استجابةً لتحدي شمولية الاستبداد
-
دعوة إلى ثورة شعبية / اجتماعية ، يدعمها الجيش الوطني
-
نانّا تالا
-
التمييز (العنصري) في المجتمع الليبي
-
السلفية .. أيديولوجيا التشرنق في الماضي التعيس
-
فاضت كؤوسُها فكفّ الشرِّ أو الطوفان
-
ليبيا تغرق في البحر الميت
-
لماذا و إلى أين حربهم التاريخية على المرأة ؟
-
هوغو تشافيز و أضاليل الليبراليين الجدد
-
انتهت اللعبة ، فلماذا لا يرحلون ؟!
-
هوامش على الأحداث الليبية
-
قد تكون المرأة أشد ذكورية
-
الحج إلى (إله الشمس) في عرفة
-
الصيام عن كل ما هو جميل و نبيل
-
الصيام عبادة عابرة للديانات
-
هل نسيتم - وين الناتو ؟ - يا ثوار الناتو ؟!
-
إبن رشد (Averroes) و ولّادة وإيزابيلا
-
البروتستانت الإنجليز و (البروتستانت) الأعراب
-
المؤتمر الداعشي العام يصدر قانون حد الرجم
المزيد.....
-
وصول سجناء فلسطينيين مفرج عنهم إلى الضفة.. ونقل بعضهم للمستش
...
-
أول تعليق من نتنياهو بعد إطلاق سراح 3 رهائن جدد من غزة
-
سوريا.. قتلى وجرحى بانفجار سيارة مفخخة قرب -دوار السفينة- وس
...
-
المرشح الرئاسي في رومانيا يؤكد أن سياسات كييف تؤجج الصراع
-
السودان.. مئات القتلى والجرحى إثر قصف لبعض الأحياء وسوق صابر
...
-
القائد العام للقوات الأوكرانية يشير إلى ضعف التدريب النفسي ل
...
-
موسكو: من المثير للاستياء أن غوتيريش لم يذكر خسائر الاتحاد ا
...
-
محكمة بريطانية تسمح بمراجعة قرار الحكومة بيع مكونات لمقاتلات
...
-
فيديو: هكذا سلمت حماس الرهينة الأمريكي الإسرائيلي كيث سيغل ف
...
-
دراسة دولية: اتكال ألمانيا على نجاحاتها السابقة أوقعها في مأ
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|