|
الشعرُ والحياة
حنان قصبي
الحوار المتمدن-العدد: 5767 - 2018 / 1 / 24 - 23:28
المحور:
الادب والفن
إن التفكير في الشعر هو بمعنى من المعاني الاحتماءُ بظلاله. فليس الشعرُ هو الكلامُ الموزون الذي تَطرَبُ له الآذان فقط، وإنما هو أيضا الفكرُ العميق الذي يعبر عن قلق النفس في الوجود. يُثير الشعرُ الإعجابَ واللامبالاة في نفس الوقت. فهو إما فكرٌ عميق يكاد يتخذ صفة التفلسف، وإما انطباعات وتلاعب بالألفاظ. (بالنسبة للشعر كفكر عميق: يمكن أن نذكر كأمثلة شعرَ المعرّي والمتنبي، وشعر الصوفيّة مثل الحَلاج والبَسْطامي، والجُنَيْد وابن الفارِض...). لم يتوقف الشعر عن التساؤل عن نفسه وعن ماهيته وعن معناه وعن هدفه، وهذا ما تدلّ عليه أهمية النقاشات المختلفة حول الجملة الشعرية والصورة الشعرية والرؤية الشعرية والانزياح في الشعر والالتزام والحِياد والرمز وتوظيف الأسطورة، ونقاشات حول التجديد والتقليد وأشكال بناء القصيدة ودور التفعيلة في التعبير الشعري... يهدف الشعر (خاصة في مفهومه الحديث) إلى "تنقية وتنظيف التعبير اللغوي" (حسب تعبير الشاعر والمفكر الفرنسي بول ڤ---اليري Paul Valéry). فإذا كانت الفلسفة تصنعُ وتحدد المفاهيم فإن الشعر يتخذُ المقاطعَ اللغوية موضوعا له لتحديد علاقتنا بالواقع وبالذات وباللغة. فالشعر هو الذهابُ إلى ما يتجاوز لغة التداول اليومية. إنه تجديد مستمر للعلاقة الحميمية باللغة. لذلك يفرضُ علينا الشعرُ يقظةً ذهنية وعاطفية، ويدفعُنا إلى السفر في المستقبل دون قطعِ علاقتنا بالماضي الذي يسكننا (نقرأ اليوم محمود درويش والمتنبي، ونزار قباني وامرُؤُ القيس). يقول نيتشه في هذا الصدد: "يرغب الشعراء في التخفيف من عبء الحياة على الإنسان، ولتحقيق ذلك يُغفِلون الحاضر الصعب، أو يزيّنونه بألوان جديدة اعتمادا على ضوء يقتبسونه من الماضي". ولأن الشعر بحثٌ عن الجديد فلقد ارتبط بالإلهام واختراق آفاق المستقبل (المعري، المتنبي، رامبو Rimbaud، بودلير Baudelaire، أﭘولينير Apollinaire ...). وارتبط أيضا بالموهبة التي لا يُنتظرُ منها ربحا أو تحقيقَ مصلحة بالمعنى النفعي للكلمة، ارتبط بموهبة التنبؤ التي تُجهل مصادرها. (لذلك تمّتْ شيطنَةُ نوع من الشعر، وتمّ ربطُه بالغواية والتيه). إن الشعر هو حالةُ استقبال نفسية ووجدانية وعقلية خاصة، لا تخضعُ لأسباب مُحدّدة، إنه يشبهُ تجربةً تتمُ خارج قوانين الطبيعة وخارج قوانين النفس البشرية. لكن الإلهام والموهبة لا يعنيان أن الشعر هو قول منفلتٌ من كل تحديد. فالفيلسوف هايدجر Heidegger يقول: "أنْ يكونَ المرءُ شاعرا، يعني أن يقول كل ما يقوله بمِقدارٍ"، أي أن يملك أداةَ قِياس يقيسُ بواسطتها ما يقولُه، أي أن يقيس َ بها "ما بين السماء والأرض، أي ما بين أحداث الحياة اليومية البسيطة وآفاق الإنسان المطلقة". والشعر من جهة أخرى هو عملية "قطع وتقطيع" مستمرة، وكأن القصيدة "كُتِبتْ بِسكين" (حسب الشاعر كريستيان ﭘريجون Christian Prigent). وفي هذا الصدد يقول الشاعر الفرنسي ميشال ديغي Michel Deguy: "لِـكتابةِ مَقطعٍ شِعري، يجب اللجوء لعدة عمليات هي التحطيم والتكسير والإضعاف والتليين ووضع الحدّ ورسم الحافة...". لقد ابتعدنا كثيرا عن تعريف ابن سينا للشعر الذي جاء فيه: "الشعر كلام مُخيّل مؤلّف من أقوال ذواتِ إيقاعات متساوية، متكررة على وزنها، ومتشابهةِ حروفِ الخواتيم". ونجد نفس التعريف عند الفارابي وابن رشد، فكلهم يركزون على التخييل والمحاكاة والوزن في تعريف الشعر. لكننا لم نبتعد عن تجربة كبار الشعراء القدامى الذين ارتبطت تجربتهم الشعرية بالتفكير في الوجود والحياة الإنسانية. يقول صلاح عبد الصبور: "إن أبا العلاء المعرّي عندي هو ثلاثة أرباع الشعر العربي، والربع الباقي يتقاسمه أبو نواس وابن الرومي والمتنبي وغيرهم...". ويجب التذكير بالخلاف الأساسي الموجود منذ أفلاطون ما بين الفلسفة والشعر. فالفيلسوف يبحث عن الحقيقة انطلاقا مما هو موجود فعلا، أما الشاعر فيهتم بالظاهر المتغير. وهذا ما شرحه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألن باديو Alain Badieu الذي قال: "الفيلسوف يبرهن، أما الشاعر فلا يبرهن، وإنما يُظهِرُ الأشياء ويُبرزُها لنراها". لكن الشاعر الألماني نوفاليس Novalis قال: "الشعر هو مفتاح الفلسفة وهو هدفها ومعناها". ويعتبرُ الفيلسوف الألماني هايدجر الشعرَ (مُجَسّداً في شعر هولْدِرْلين Holdlrin) خلاصَ البشرية من أزمة العقل الفلسفي وسيطرة التقنية. ولا يمكن التفكير في الشعر دون التفكير في القراءات المتعددة التي تتوخى دراسته مثل: القراءة التاريخية، والانطباعية، والإيديولوجية، والنفسية، والموضوعية... ودون التفكير أيضا في شخصيات شعرية بارزة مثل: نازِك الملائكة، وبَدْر شاكِرْ السّيّاب، وعبد الوهاب البَياتي، وأحمد عبد المعطي حِجازي، وأمَل دُنـْقُـلْ، وسميح القاسم، وأُنسي الحاج، ويوسف الخال، وعبد الله راجِع، ومحمد بنيس، وعبد اللطيف اللعبي... ودون التفكير على وجه الخصوص في: أدونيس، ومحمود درويش، ونزار قباني.
#حنان_قصبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهمية مفهوم الكونية في فكر اليسار - فيفيك شِبير ترجمة حنان ق
...
-
الأساس السياسي-الاقتصادي للمناهج التربوية ودورها في الفشل ال
...
-
مبدأ المناصفة أو صراع الخصوصية والكونية؟
-
مَاركس كما يَتَخيلُه فوكو حول السلطة والمجتمع - مارتن كيكوري
...
-
علاقة منهج الغزالي بمنهج ديكارت هل هي علاقة توافق أم علاقة س
...
-
الإسلام والعلمانية - بْرِسِيللا فورنييه ترجمة حنان قصبي
-
كارل بوبر ومعايير العلمية - جوينيي باتريك ترجمة حنان قصبي
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|