فاروق ابراهيم جامل
الحوار المتمدن-العدد: 1479 - 2006 / 3 / 4 - 10:01
المحور:
المجتمع المدني
في نشراتنا السابقة تناولنا الإيديولوجيات ومفاهيم مثل : المواطنة والليبرالية وعلاقة كل منها بواقع اجتماعي معين ، ووضحنا أهمية طبيعة هذه العلاقة .فعندما تكون علاقة الأفكار والمفاهيم بالواقع علاقة إملاء ، لإرادة ، من فوق ، على هذا الواقع ، لا يكتب لها النجاح وتنتهي بالفشل ، مهما طال الزمن . أمّا إذا كانت نتاج لواقع معين وتعبير عن استجابة لهذا الواقع ، تكون طبيعتها تــلـقـاء ، وبهذا تثبت وتترسخ أكثر مع مرور الزمن . في هذا العدد نتناول مفهوم العلمانية وعلاقتها بالواقع الاجتماعي المعين .
يعود الجذر التاريخي لدلالة مفردة علماني إلى فترة القرون الوسطى في أوربا . تأسست معظم الجامعات الشهيرة حالياً في أوربا ، منذ القرن الرابع عشر والخامس عشر ، أي قبل تشكل الدولة القومية في أوربا . الكنيسة هي التي أسست الجامعات لأنها كانت تدير شؤون الدين والدنيا . كان الأسقف أو رئيس الأساقفة هو الذي يؤسس الجامعة لتدريس مختلف المواضيع المتعلقة بالدين . وكان القساوسة أو الرهبان ، الذين يُدرّسون هذه المواد ، ينتسبون إلى أبرشية الأسقف أو رئيس الأساقفة الذي أسس الجامعة ، وعندما يأتي راهب أو قس ليُـدرِّس في جامعة لا ينتسب إلى أبرشيتها تطلق عليه مفردة علماني . بعد ذلك توسعت دلالة علماني لتُطلَق على الذين يُدرِّسون في الجامعات مواداً لا تتعلق بالدين ، كالطب والقانون وغيرها ، وكذلك لم يكونوا قساوسة أو رهباناً. كما أسلفنا، إنّ الكنيسة كانت تهيمن على كلّ شيء ، منذ القرن الثامن ( ينطبق زمنياً على القرن الثاني الهجري / المحرر ) عندما تأسست الإمبراطورية الرومانية المقدسة . أثناء طقوس تتويج شارلمان ، أول ملوك هذه الإمبراطورية، كان البابا، حينها، حاضراً هذه الطقوس ومسح بيده على رأس شارلمان وبارك تأسيس الإمبراطورية تلك . تذكر بعض المصادر التاريخية ، أنّ شارلمان نفسه قد تفاجأ بمباركة البابا لإمبراطوريته ، وبهذا الاسم . وقد دامت هذه الإمبراطورية حوالي أحد عشر قرناً وحكمت معظم أجزاء أوربا حتى القرن الثامن عشر . كانت سلطة الكنيسة ، وعلى رأسها البابا ، لها الهيمنة الأساسية على شؤون الدين والدنيا ، أي سلطة الروح والسياسة ، وكان الملوك ، الذين ظهروا في معـظم دول أوربا ، في القرون الوسطى ، أقل مرتبة من البابا . وكانت مخالفة البابا تعد معصية ، وكان العديد من ملوك أوربا يجثون أمام البابا ويقبلون يده ، يطلبون غفرانه ، عندما كانوا يقومون بأمـرٍ لا يرضى عليه البابا . ولكن سلطة الكنيسة بدأت تضعف بعد القرن السادس عشر . فبعـد صعود شرائح البرجوازية وقيادتها لتغيرات نوعية في الاقتصاد والمجتمع ، وقيادة ثورتين سياسيتين : في بريطانـيا ( أواخـر القرن 17 ) وفي فرنسا ( أواخر القرن 18 ) ، سحبت سلطة السياسة من الكنيسة، عقب هذين الحدثين التاريخيين ، وصارت سلطتها تقتصر على روح الفرد باختياره ، وليس إملاءً .
بعد هذا التاريخ توسعت دلالة مفردة علماني وعلمانية، وأصبحت تعني فصل سُلطة السياسة ( أي الدولة) عن سلطة الروح ( أي الدين)، وهذا لا يعني مطلقـاً معاداة أو محاربة الدولة للدين، كما يفهمها البعض في بلداننا العربية، ويوسع بعضهم دلالتها ليقول أنها تعني الإلحاد والكفر . إذن ، العلمانية والعلماني دلالات مفردة تطورت ، تاريخياً ، في المجتمعات الأوربية ، خلال عدة قرون . هنا نسأل ، هل أنّ المضمون ، الأساسي ، لدلالة مفردة العلمانية ، له علاقة بالتطورات التاريخية ، التي مرت بها الدولة الإسلامية، منذ ظهورها في القرن السابع حتى الآن ؟ الجواب : كلاّ . إنّ الدولة الإسلامية ، بعد وفاة الرسول محمد (ص)، كانت تُحكم من قبل خلفاء الرسول ، الذين كانوا يلقبون بأمير المؤمنين . قد نقول ، أنّ هذا اللقب ، كان ينطبق على فترة الخلفاء الراشدين ، التي كان عمرها حوالي ثلاثون سنة ، أي كانت السلطة الروحية والسياسية بيد الخليفة ، مع أنّ هذه الفترة فيها خلاف كبير بين الفرق والطوائف الإسلامية ، ولكننا نحن بمنأى عن الخوض في هذا الأمر ، وما نريد أنْ نقوله أنّ معظم الفرق الإسلامية تقر بأنّ خلفاء الدول الإسلامية ، الأموية والعباسية والعثمانية ، كانوا يلقبون بأمير المؤمنين من ناحية الشكل ، وأمّا المضمون فتركوه للعلماء والفقهاء من رجال الدين . أي أن حكام هذه الدول الإسلامية كانت سلطتهم الأساسية في السياسة ، وسلطة الروح ، المتضمنة في اللقب ، شكل يمنح السلطة السياسية قوة . كانت سلطة الفقهاء والعلماء ، عموماً ، تابع لسلطة السياسة ، أي الدولة . كان خلفاء المسلمين ملوكاً وارثين ، تشبهوا بملوك الفرس وبيزنطة ، وهذا الأمر يناقض أبسط مبادئ الإسلام ؛ هذا يعني أنّ التطور التاريخي ، للدول الإسلامية ، يدلّ على أنّ سلطة الروح ، أي الدين ، كمضمون ، كانت مفصولة عن سلطة السياسة ، أي الدولة . عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة ، منتصف عشرينات القرن الماضي ، تمت الإشارة في الدستور ، لهذه الدولة الحديثة، على أنّ الإسلام دين الدولة الرسمي. ولم يكن هناك أية إشارة إلى الشريعة وما يخالف أحكامها وثوابتها . معظم قوانين الدولة الملكية كانت وضعية . ما عدا تلك التي تتعلق بالأموال الشخصية . هذا يعني أن الملكية الحديثة ، كانت أمينة لتراث الحكم في الدول الإسلامية ، وهو إضفاء شكل الدين على الحكم والحاكم ، وترك مضمون الدين للعلماء والفقهاء من رجال الدين على اختلاف طوائفهم . وهكذا كان الحال في دولة مصر الحديثة وفي معظم الدول العربية الإسلامية الحديثة، عدا اختلاف بسيط في السعودية، حيث أضيف إلى الشكل إطلاق لقب خادم الحرمين الشريفين على الملك السعودي ، والإدعاء بتطبيق الشريعة ، أيضاً على مستوى الشكل .
الأخوان المسلمون ، بقيادة ( حسن البنا ) هم أول من طرحوا ، في النصف الأول من القرن الماضي ، مسألة إقامة نظام إسلامي على أساس الحاكمية وتطبيق الشريعة الإسلامية ؛ وتفرّع من الإخوان ، عدة فصائل ، إسلامية ، في معظم البلدان الإسلامية ، أكثر من الإخوان تشدداً .
لكن ، جميع هذه الأطروحات ، عندما طُبّـقَت على مستوى الواقع ، لم يُكتب لها النجاح ؛ مثل تجربة السودان وأفغانستان ، وتجربة الجزائر التي وئـدت في المهد . فشلت هذه التجارب الإسلامية لأنها تريد أنْ تعود إلى فترة دامت حوالي ثلاثون سنة من تاريخ الدولة الإسلامية ( التي دامت حوالي اثنا عشر قرناً). وفترة الثلاثين سنة هذه ، كما ذكرنا، فيها خلاف كبير بين الفرق والطوائف الإسلامية ، كل منها يؤكد على فترة حكم بضعة سنوات من هذه الفترة .
هل هناك أيّ منطق من هذه العودة ؟ قد يقول البعض أنّ التجربة الإيرانية قد نجحت واستمرت ؛ ولكن هذه التجربة عكست علاقة الدولة بالدين، التي كانت سائـدة في الدول الإسلامية السابقة . التجربة الإيرانية أعطت شكل السلطة السياسية للدولة ، المتمثل برئيس الجمهورية ( المنتخب ديمقراطياً ) وحصرت مضمون السلطة السياسية ، إلى جانب السلطة الروحية ، في الحوزة ، بقيادة الفـقـيه ( الغير منتخب ديمقراطياً ) ؛ وهذا الخـلل الأساسي في التجربة ، والذي يتعارض مع الواقع ، سيقوض هذه التجربة بمرور الزمن ، لأنّّ الإمـلاء فيها أكثر بكثير من الاختيار والتلقاء .
ما نريد أن نخلص له ، هو أن مفهوم علمانية ظهر في المجتمعات الأوربية في القرن الثامن والتاسع عشر ، ليعـني فــصل السلــطة السياسية ( الدولة ) عن السلطة الروحية ( الدين ) ، بعد أن كانت السلطتين ، ولعدة قرون ، تحت السيطرة التامة من قبل الكنيسة ، المتمثلة في البابا وأتباعه من رؤساء الأساقفة ، والأساقفة والقساوسة والرهبان ، المنتشرين في كافة أنحاء أوربا . أما بالنسبة لتراث نظام الحكم ، في دولنا الإسلامي ، فكما ذكرنا ، وفصلنا، فإنّ المضمون الأساسي لسلطة السياسة ( الدولة ) كان مفصولاً عن سلطة الروح (الدين) منذ عدة قرون ، وعلى هذا الأساس نحن لسنا بحاجة إلى استيراد مفهوم العلمانية من أوربا، لأنـه مطبق لدينا عملياً منذ زمن بعيد ؛ ونحن لم نعاني ، عبر تاريخنا ، من سلطة رجال الدين ، لأنّ هؤلاء كانوا إمّا تابعون للحكام وإمّا ناءون بأنفسهم بعيداً عن الحكام ويفضلون العزلة ، خشية شطط الحكام الـمستبدين ، الذي كانوا يسخّرون شكل الدين لاضطهاد شعوبهم ، وضمناً رجال الدين .
نحن قد نستورد مفاهيم مثل الديمقراطية والليبرالية والمواطنة من تجربة أوربا ، ونحاول أن نوفر تربة صالحة لنموها ، وهي المجتمع المدني ، وليس في هذا أي عيب ، طالما أننا نستورد تسعون بالمائة من مستلزمات حياتنا . ولكن مفهوم العلمانية هذا ، اكتشفه مكاننا المسلمون منذ عدة قرون ، ولكن لم يطبقوه لصالح الشعب ، كما كان الأمر في أوربا ، بل للحفاظ على مصالحهم في الاستبداد بكل مدلولات هذه المفردة ؛ أي كان هناك خلل في تطبيق مضمون المفهوم ، وليس في عدم معرفته . وعلينا الآن ، فقط أن نصحح تطبيقه ، ونبعد السلطة السياسية (الدولة) التي تعني الدنيا ، بمحاسنها ومفاسدها ، نبعدها عن السلطة الروحية (الدين) الذي هو أمر جليل نخشى عليه أن يتلوث بمفاسد الدنيا ( الدولة ) .
#فاروق_ابراهيم_جامل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟