|
بعد خمسة عشر عاما على رحيله إلياس مرقص بين التأسي واستشراف للمستقبل
نضال درويش
الحوار المتمدن-العدد: 1477 - 2006 / 3 / 2 - 10:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعلمنا تاريخ الفلسفة، أن الفكر الفلسفي، ليس واحدا من تلك الوقائع الثابتة، التي إذا أمكن الاهتداء إليها مرة، قيض لها أن تستمر في الوجود أبدا. فهذا الفكر يوضع باستمرار موضع الاستفهام من جديد ، و هو باستمرار عرضة لخطر الضياع في صيغ تريد تثبيته ، فلا تفلح إلا في خيانته ذلك لأن الفلسفة تنشأ و تتطور و تنبعث في الجدل ، فهي لا تستطيع أن تعيد النظر في مسائل قديمة بنفس العبارات ، فقوام الفلسفة السعي الدؤوب وراء الحقيقة ، و ذلك العمل و الجهاد المستمر ضد أوثانها و حقائقها المزعومة . فمنذ الحضارات اليونانية القديمة غدت الثقافة الفلسفية و تاريخها ضروريان لكل فرديريد أ يلج مجال التفلسف . و تراجع هاجس الفلاسفة في أن تكون أفكارهم بداية ليس قبلها بداية ، لصالح التموضع ضمن تطور الأفكار التي يتشكل منها تاريخ الفلسفة . فالإنسان لا يكون فيلسوفا إلا من حيث يفكر في القضايا المطروحة عليه و على عصره و مجتمعه ، تكون ركيزة للعودة إلى غيره من الفلاسفة ، و البحث من خلال عناصر فلسفاتهم عن كل ما يمكن أن يساعده على التفكير في القضايا التي يكون قد اختار أن يجعل منها موضوعا لبحثه . و ذلك لمحاولة معالجتها و الإجابة عن استفهاماتها ، هذه السمة هي التي تمنح الثقافة الفلسفية حركية و تضفي عليها قيمة عملية . فعلى الرغم من هاجس الفلسفة الدائم للإفلات من التاريخ ، من الديالكتيك ، من الحدث في الواقع ، إلا أنها نادرا ما تتجدد و تنفي ذاتها باستمرار إلا من خلال تأملها لقضايا الإنسان المعاصرة لها . فليس خارج هذا الإطار تعامل إلياس مرقص ، مع هذا النمط من التفكير ، مستلهما بذلك كل الفلاسفة ، من أجل الإسهام في تأسيس العقلانية في الفكر العربي ، و ذلك لتجاوز واقع الفوات و التأخر التاريخي ، منطلقه أن لا أحد خارج النظر ، خارج المعرفة ، خارج النقد . من هنا يوجه القارئ في فكر إلياس مرقص ، كما يقول جاد الكريم الجباعي ، عناصر عقلانية مستمدة من الفلسفة اليونانية ، و العربية – الإسلامية ، و الأوروبية الوسيطة و الحديثة و المعاصرة ، و توجهه بشكل خاص عناصر ديكارتيه ، و كنطية ، وهيغلية ، و ماركسية ، لكنها بوصفها كذلك ، لا تعدو كونها عناصر مختلفة و متخالفة . أصالته و تفردّه و ذاتيته ( الاستقلال مع الفكر ، أو الفكر الحر ، المستقل الذاتية هو الحرية ) ، تكمن في موجهة هذه العناصر بعضها ببعض ، و محاكمة كل منها في محكمة الآخرين و في محكمة الواقع و التاريخ ، أي محكمة العقل ، و إعادة بنائها و دمجها في منظومة فكرية بنسيج عقلي متماسك و متلاحم منهجا و رؤية ، و ليس ذلك فحسب ، بل تكمن أصالته و تفردّه و ذاتيته في إطلاله على المناطق المختلفة التي يقيمها المنطق ( الرياضيات ، الفيزياء ، الاقتصاد و التاريخ و علم الاجتماع .......) من خلال ثقافته الموسوعية و سعيه الدائب إلى " تثقيف عقله " و التقدم باستمرار في معرفة الحقيقة تبعا للمنهج الذي اتخذه لنفسه في الفكر و العمل ، و جعل كل واحد من هذه المناطق ( جمع منطق ) شاهدا على الآخرين من أجل معرفة أوثق بالمنطق العقلي الكليّ الشامل ، و الحكم لكافة المناطق بوصفها أجزاءه ، ففي نظره " المنطق العقلي العام ، الديالكتيك ، هو الماهية الحقيقية لسائر المناطق و إلا فلا عقل و لا منطق " . فالفلسفة بالنسبة له تعني ، أولا ، نظرية المعرفة " التي هي شيء واحد من كلمات ثلاث " المنطق ، الجدل ، الغنوزيولوجيا ( نظرية المعرفة ) المادية ( لينين ) . و كل المادية الجدلية .....إلخ بحسابات مرقص قبيحة بدون الثالوث الآنف ، فالأيديولوجية الماركسية ليست ، بوصفها كذلك ، حاملة الحق و الحقيقة ، و الأيديولوجيا البرجوازية حاملة بالضرورة الباطل ( الخطأ) . و كمعرفة الماركسية تصيب و تخطئ و حين تترك أساسها ، أي الثالوث ( منطق ، جدل ، نظرية معرفة ) فهي تخطئ على الطالع و النازل ، وحين نمسك هذا الأساس يمكن أن نخطئ فرعيا ، و أن نصحح الخطأ بمبدأ المراجعة الأزلي ، فالأساس صحيح ، هناك خطأ لأن هناك معرفة ، فالخطأ ليس خارج مملكة الفكر . و تعني الفلسفة، ثانيا، بالنسبة لمرقص ، تصورٌ للإنسان و تاريخه و مصائره ، و ثمة عند كل الفلاسفة تصور للإنسان و التاريخ و مصائره . و لكن هناك تصور و تصور : فتصور يساهم في " تأبيد " القائم و يبرره و يعيد إنتاجه بحكم مصالحه من ذلك . من هنا يمكن القول بأن الكتابة الفلسفية العربية بعد أن كانت صدى باهتا و من مواقع متأخرة و مفوته و تابعة للخطاب الفلسفي و للمدارس و المذاهب الفلسفية الغربية ، شهدت مع إلياس مرقص و عبد الله العروي و محمد أركون ....تحولا و انعطافا ، و ذلك بالسعي الدائب و المنفتح ، إلى إعادة الخلق و الابتكار ، و بعدة فلسفية رفيعة ، في ضوء شروط و متطلبات اللحظة العربية ، محاولين بذلك فتح المجال أمام تكوين هوية فلسفية تبتكر عقلانيتها التي تصنع من خلالها حقيقتها ، فتتغير بذلك العلاقة بينها و بين الغير ، و تصنع بذلك استقلاليتها ، أي صناعة هذا الاستقلال مرتبطة بالعلاقة الجدلية بين النظر و اللحظة . من هنا كان وسواس إلياس مرقص من أجل التأصيل النظري و إصلاح الفلسفة العربية التي كان يعتبرها الخطوة الأولى و البدوة الأساس التي تشكل العتلة لتجاوز التأخر و الشقاء العربي. و المتتبع لنتاج مرقص الفكري يمكن أن يلاحظ بأنه بدأ سياسيا و انتهى فيلسوفا بالمعنى الآنف ، و علاقته بنتاج عبد الله العروي ( الأيديولوجيا العربية المعاصرة ، العرب و الفكر التاريخي ) من أهم العوامل التي أسهمت بهذه الانعطافة . ففي المرحلة الأولى قبل 1970 حيث انحصر جلّ نتاجه في قراءة الماركسية على ضوء حاجات الواقع العربي , وتبرز بذلك مواقفه من اجل الوحدة و الديمقراطية والتقدم ــــ وانتقد بذلك الأيديولوجيا القومية التقليدية و الرومانسية و ذلك من أجل إعادة تأسيس المنظومة القومية ، و بلورة وعي وحدوي ديمقراطي ، من خلال منهجية النقد و التفنيد لنصوص و مواقف الآخرين ، و يضع بالنتيجة مبادئه و مواقفه المضادة و المغايرة ، هذا ما فله مثلا مع مؤلفات ساطع الحصري . و انتقد أيضا الماركسية الستالينية و نموذجها العربي ، و تحديدا تأويلها الاقتصادوي للماركسية ، و تمذهبها و تمركسها أي تخندقها ، و تحويلها ماركس و إنجلز و لينين إلى آلهة، فيفقد بذلك كلُ منهم صفته و هويته كعالم و مناضل ، بإبعاد الاشتراط البشري عنه . و يفقد هذا النموذج كل إمكانيات التشخيص و الاستشراف . و كان نقد ، مرقص ، هذا محاولة في سبيل تبيئة مفاهيم الماركسية في المناخ العربي ، و إبعاد الصنمية عن أطروحاتها الرئيسية ، لتساهم بشكل مستمر في مقاربة جدل الواقع و تشخيصه من أجل استشراف المستقبل ، و لعل الترجمات العديدة التي قام بها للعديد من النصوص الفلسفية الماركسية تدل بصورة مباشرة على جهوده الهامة في باب تأصيل النظر الفلسفي في الفكر العربي المعاصر . أما المرحلة الثانية حيث انتقل إلى موقع ثان ، يمكن أن نختزله في صيغة العقلانية الحديثة و الجدل آنتي – وضعوية ، حيث تركزت هذه المرحلة على إعادة قراءة الماركسية في ضوء الفكر الإنساني ، وقامت بالتالي على قراءة هذا الفكر قراءة فلسفية تُبرز خطوطه و مساراته و تلاوينه ، و تراه في ضوء الراهن الإنساني ، و خاصة منه الواقع العربي – الفكري و العملي . أي إنه جمع بشكل خلاق و متناغم و متسق بين النقد السياسي و النقد الفكري ، مع حضور المضمون الأيديولوجي في نقده ، و في مرحلة النضج الفكري و تعمقه و تجذره ، كان النقد السياسوي و الأيديولوجي يتراجعان و يخضعان للمراقة العقلانية و المنهجية ، ليظهر التوازن بين هذه المستويات ( الفكري – السياسي – الأيديولوجي ) بحكم منطقها الداخلي و الضمني المشترك ، و هو الديالكتيك و النزوع الأصيل إلى ربط الفكر بالواقع . فالفكر عنده ان صعودا و ارتقاء ، و دائما الصعود على هذا المستوى هو نزول إلى مستوى الجذر و الأساسات ، و إلى معقولية الواقع ، و التأسيس على مبادئ قابلة للبسط و الإنماء في جميع الاتجاهات و إلى ما لا نهاية . على هذا " فلا هو الفيلسوف المنقطع إلى التأمل يحل الواقع في الفكر المجرد ، و لا هو ذلك المتحزب المتمذهب المنصرف إلى " النضال " يحل الواقع في الأيديولوجيا " ، حيث من الخطأ أن نتصور الفلسفة شيئا ما يحلق في الأعالي و ليس قائما في الأساس مع الإنسان ، مع العمل و المعرفة . فأي فلسفة دون قضايا حية تعالجها تبقى جوفاء ، هامشية ، تشد إلى الوراء ، أي ( الفلسفة للفلسفة و حسب ) للتأمل فقط دون أي مسعى تغييري ، و الفلسفة الحيّة القابلة للتطور المستمر ، يجب أن تكون تفسيرية / تغييرية ، و من هنا نجد عند إلياس مرقص أن الحقيقة السياسية بلا جذرها الفلسفي ، بوصفها الحقيقة الواقعية ، هي باطلة ، و تقود إلى الاستبداد . بالتالي كان في الفكر و السياسة ، بمعناها الأعمق و الأشمل ، تجسيدا ، على نحو نادر المثال ، لوحدة الفكر والعمل ببعديهما : الاجتماعي – السياسي و الأخلاقي ، مؤسسا بذلك مع عدد من المفكرين العرب لمشروع عقلنة المجتمع و تحديثه . منطلقه الأساسي : وعي الذات من أجل وعي الواقع ، و استقلال الوجدان و جهاد المعرفة ، و طرح المسائل و السعي إلى الإجابة عليها ، مؤكدا على خيار الجذرية و الراديكالية ، حيث لا فائدة من الذهاب إلى فروع و حقول من دون الأصول و الأساسات ، و لا سبيل إلى تحقيق الاتصال و الاندماج بين الفكر العربي و الشعب دون التجرد و الاستقلال ( الذاتية بالمعنى الخلاق ) ، مؤكدا أن الفكر لا يصنع التاريخ ، و لكن ليس من تاريخ ممكن من دون الفكر الذي يعي أنه فكر . أما في الواقع العربي الذي يترجم فيه هذا الواقع عن نفسه ببؤس في الفكر ، أي أن الداء لم يعد محصورا بالظواهر المطلوب تغييرها بل طال أداة هذا التغيير و عتلته بالذات ، بالتلازم مع تربع الرأسمالية بصورتها الطرفية المرتكزة على العلاقات الكونية و العالمية الاستقطابية ، التي تترك مرتسمات أكثر قبحا على الواقع الاجتماعي ، و يتجلى الفصام الثقافي بأسوأ صوره ، حيث نرى الطائفية في إهاب القومية ، التقليدية في ثنايا الماركسية ، الماضوية في أساس الاشتراكية ، المعتقد الديني و القبليات في قناع الإلحاد و الديالكتيك . لذلك فالفكر العربي تحت الهيمنة ، أي أنه قلما يكون فكرا ،هذا ما أكده إلياس مرقص ، لذا فهو بعيد عن الواقع و الشعب ، و بسبب من طرح القضية بهذه المنهجية ، دخل إلياس مرقص في الموضوع ، في الإشكال ، في الراهن ، في منطق و عقل الواقع ، بإيمانه بشيء اسمه المعرفة ، بهدف اسمه الحقيقة ، بتوجه و مسيرة هما سعي وراء الحقيقة ، بل جهاد في النفس و العقل من أجل الحق ( الحقيقة ) . لحظة البدء هذه تبدأ على صعيد الفكر و الروح ، هذا هو الصفر حامل اللانهاية ، الصحيفة البيضاء بتعبير فرانسيس بيكون ، " أنا أفكر " بدوة ديكارت ، فكل الفلاسفة و العلماء الفاتحين بدأوا من هذا " الصفر " ، و ذلك على عكس عديد من المثقفين و المفكرين العرب الذين يلهثون وراء النتائج دون جذورها ، فيجترون المقولات دون فعل ، لأنهم يريدون " معرفة " و علما دون جهاد ، و كونا دون تكون ، و مجتمعا دون اجتماع ، و وحدة دون تعدد ، و هوية دون اختلاف ....... و إن العمل من أجل مشروع إعادة تأسيس العقلانية في الفكر العربي و إعادة بناء الوعي العربي و الارتقاء به من حالة التأخر و الفوات و الشقاء إلى مستوى العصر ، هو عمل و فكر في المبادئ و الأساسيات التي يجب أن تكون موضع نظر و مناظرة بين المهتمين العرب ، لأن كل ما يأتي بعد هذه البداية هو تابع و لاحق ، ، و هذا تأكيد لقول عبد الله العروي " بأنه لكل بداية بداية " من هنا كان الحقل المعرفي الذي يتحرك فيه الفكر العربي و الذي يتكون من نوع واحد و " منسجم " من " المادة المعرفية " و بالتالي من الجهاز التفكيري : ( مفاهيم ، تصورات ، منطلقات ، منهج ، رؤية .....المهيمن عليه مضمون أيديولوجي ) هو موضوع بحث و نقد لـ إلياس مرقص . و هذه أبرز التمايزات التي يتميز بها نتاجه الفكري ، لأنه بالإضافة إلى اهتمامه يـ " الأطروحات " التي ينتجها الفكر العربي ، توجه إلى منهجية التفكير التي تبنت هذه الأطروحات ، أي " الفعل العقلي " اللاشعوري الذي يؤسسها . لأنه يعي تماما بأن نقد الأطروحات مع إغفال الأساس المعرفي الذي تقوم عليه هو نقد أيديولوجي للأيديولوجيا ، و بالتالي لا يمكن أن ينتج سوى أيديولوجيا أكثر ارتكاسا ، تعيد إنتاج تظاهرات الواقع ، أما نقد منهجية الإنتاج النظري أي " الفعل العقلي " هو وحده الذي يمكن أن يكتسي المشروعية و الموضوعية العلمية التي يمكن من خلالها تجاوز المناطحة العنيدة و التخبط المجاني في صراعات قروسطية ، و مساهماته النظرية في هذا الموضوع التي كانت نتاج جهاده المستمر ، خير دليل على هذه المنهجية المتمايزة في المقاربة و البحث ، التي انخرط فيها ناقدا بالمعنى الخلاق للكلمة ، أي ، أيضا ، مساهمته في التأسيس لمشروع إصلاح الفلسفة بإهابها العربي التي لا يمكن الانطلاق به إلا من خلال قطيعة معرفية مع الوعي العربي السائد ، و زحزحته من مواقعه الذي تخندق به ، و ذلك بتحقيق جملة من الانتقالات :
1- الانتقال من الوجودية إلى الفكرية من عنصر الوجود إلى عنصر الفكر :
في ساحة الفكر العربي يجب خوض هذه المعركة : معركة الفكر و المفهوم ضد أشباح الحس و الوجود و الجوهر ، الآتية إلينا من ماض سحيق ، و من حاضر متأخر و مفوّت ، في إيطار العالمية البربرية . هذا التوليف التاريخي الاستثنائي الذي كان عاملا أساسيا في شقاء الفكر و تحوله إلى حالة يصفها إلياس مرقص بأنها " الفقه " حيث يخيل إليه – هذا الفكر – بأنه يرى العالم في أفكاره ، و منذ ذلك الحين يخيل إليه بأن أفكاره هي الواقع . و إذا ما ناقض الواقع الفكرة فإن الواقع هو الذي يوضع في خانة اللاعقل و الخطأ و الضلال . فتدعي كلماته معرفة كل شيء و تفسير كل شيء ، و أنها تحيل إلى ظواهر فعلية ، و هي مفرطة في الواقعية ، و تجسدت و اكتسبت الصفة المادية و حلت محل الأشياء ، التي كانت وظيفتها الدلالة عليها ، واتخذت الشكل الطيفي ، الشبيه بالحي ، حيث تفرض نفسها كوقائع و تخفي الأشياء الواقعية ، و خيل إليه أيضا بأن المقولات الكبرى و السائدة : طبيعة ، روح ، اشتراكية ، مادة ، وعي ، رأسمالية ، ....، هي كلمات معلومة و بديهية و اكتسبت فضيلة وضعتها خارج الزمان ، و تحولت إلى أصنام و آلهة تتقاتل بواسطة بشر بديلين . ( و نسينا التحذير اليوناني العريق : احذروا ، الكلمات السائدة أصعب الكلمات ، التي ليست أشياء – أصنام – آلهة ) فهو – الفكر العربي – غارق بالنتيجة تحت هاجس الماهية الجوهرية ، المادية أو الروحية . و مذهبه و تصوره للواقع على أنه هو عالم الماهيات الجوهرية ، أي أنه يشتغل بعنصر الجوهر ، الماهية ، مادة ، كتلة ، كم ، و هذا يحيل إلى استنفاد الواقع بمقولة الوجود الفيزيقية ، و يتحول الواقع إلى ميكانيكيا أشياء ، و العالم إلى " موضوع " مجرد ، مادة للمعالجة بأيدي الذاتوية الثورية ، التي تعتقد أنها مالكة القوانين و حائزة الآلية ، فيتصور هذا الفكر أن المفردات اللغوية هي جواهر مفردة موجودة تحت و ليس فوق ، فهو بذلك لا يتبع الضلال الذي أسسه أفلاطون ( المثالية الفلسفية ) بل غارق في ماقبل أفلاطون ، في اللافكرية ، في عالم الأشباح ، في الفكر الرمزي – الشيئي و الخليط المدرحي ( مادة – روح ) . إنه دون الفهم ، و دون الرؤية : فهو يرى مُثلُه مباشرة في الواقع ، إذن هو لا يرى . و بكلام آخر فإن الوعي العربي السائد الذي يرفع لواء الوجودية ضد الفكر ، الـ " أنا موجود " ضد الـ " أنا أفكر " ، يعرف أصل الفكر و يؤكد دوره و أهميته و لكن لا يعرف طريقة ذهابه إلى الواقع . فيبدأ ، و يعتقد أنه يبدأ ، من الواقع فينتهي به الأمر إلى تبخيره ( تبديده ) في مجردة أثيرية يسميها " القانون " أو " الجوهر . حيث تراوده الحاجة إلى إيجاد واقع عياني إزاء نظريات الفهم المجردة ، نظريات الفهم الذي لا يعلم ، أو يستطيع المضي من عمومياته غير المحددة إلى التحديد ، و إلى الخاص – الحاجة ، إلى إحلال هذا الواقع محل إمكانيات محض ، و إلى برهنة كل الأشياء من دون الخروج من ميدان المنتهي ، و من الطريقة القابلة لأن تطبق عليه ، قد أنتجت التجربيوية – الدوغمائية ، الذي يؤمن بتعاريفه و فرضياته و بواقعية محتواهن على تمثيلاتهن ، و يفترض معه بلوغ : النفس ، العالم ، الله . و ينطلق من مبدأ: ألا و هو أن من بين تأكيدين متعارضين اثنين أحدهما حق بالضرورة ،الآخر باطل بالضرورة . فوثنية الروح تقيم شيئية المعرفة .
و قضية إلياس مرقص لم تكن مع هذا المناخ بل ضده ، و ضد هذا الفقه الذي يتصور أنه فكر . انطلاقته بأن الفكر الحقيقي يبدأ من " الصفر " و كل ما عداه تابع ...ناتج ، فيبدأ بالمقولات الأكثر أساسية : الروح ، الوجدان ، الوعي . التي يقابلها، في المنطق، مقولات: الكائن، الواقع، الطبيعة ( بما فيها المجتمع ). ركيزته في ذلك " الصحيفة البيضاء " الـ " أنا أفكر " " الرأس " و مقابله العالم . مبدؤه التجرد المطلق الذي يؤسس طريق التجريد، هذا الذي يعني أنه تجريد وحدٌّ و مفهوم . هذه بدايته في تأسيس معرفة تريد إرشاد العمل .
فأكد وراء لينين ، بأنه يجب رفع لواء الاشتراط الفلسفي الأول ، و هو الوعي بأننا نعمل بالمفاهيم ، كل البشر يعملون بالمفاهيم . هذه النقطة يجب أن ترفع إلى وعي كامل و صارم . و الفكر يسقط إذا لم يبدأ بهذا الاشتراط. فحين أحذف " المفهوم " حين أتعامل مع الكلمات كأنها أشياء ، أو كأنها كلمات دون الإشارة إلى أنها كلمات ، فإن الذي أحذفه هو الفكر ، أحذف الفكر مبدأ لعملية المعرفة التي هي معرفة الواقع .
فالكلمات رموز بدائل عن الفكر أو المفاهيم، إنها ألفاظ، حدود. إنها " مفردات " و المفردة اللغوية ليست كائنا مفردا بل " عكسه " إنها تعبر عن كلي عام ، " في اللغة لا يوجد إلا الكلي " ( أرسطو ) . فالكلمة تعبر عن و معنى ، و بما أنها ليست شيئا كائنا مفردا ، لذا يكون لها أكثر من معنى ، و اتجاه و قصد ، فالمعنى المحدد محكوم بعلاقة الكلمة مع الكلمات ، أو لنقل مع المقابلات أو التعارضات . المعنى المحدد يحدده سياق محدد ، و هذا السياق لا يستنفد اتجاهات الكلمة التي يمكن أن تتخذ معنى مغايرا في سياق مغاير ، ثمة فرق و فروق بين لغة و لغة . و عليه تكون المقابلة الكبرى هي الفكر/ الواقع بتوسط اللغة و كلماتها ...فالقضية أولا بحسب إلياس مرقص قضية لغوية – فلسفية ، فيجب الذهاب من الكلمات إلى المفاهيم ، و من اللغة إلى الفكر . و هذا يؤسس للانتقال من الشيئية ، من الوثنية في الفكر و المعرفة ، من عنصر : الجوهر ، الماهية ، المادة ، الكتلة ، الكم ، إلى العنصر الأساسي و الرئيسي : العلاقة ، العقل ، الشكل ، الروح . إلى الواقع كجملة و " كل " حي، و العالم ذات و حياة . بالتالي تُحيل فكرة الواقع الصحيحة إلى منطق، إلى عقل، هو منطق و عقل الواقع، إلى مجتمع وعالم و إنتاج و طبيعة و تاريخ، من دون ذلك لا تاريخ و لا تقدم . إن الواقع و كل معرفة الواقع تسقط إذا ما سمح لفكرة " المادة " أو ما شابهها أن تبسط نفسها على فكرة " الواقع " الذي لا ينحل في الواقع الفيزيقي . أما مقولة المادة التي تشيأت و تحولت إلى : طاولة ، كتاب ....إلخ ، في الوعي العربي السائد، فهي مفهوم عالي التجريد " المادة ، كمادة ، محض إبداع من الفكر و تجريد خالص "(‘نجلز ) فهي تعني أن الواقع القائم بتمامه خارج الرأس، و لا يجوز أن تعطي أيّة مسلّمة أو مصادرة ضمنية، لا سيّما مسلّمة تلغي أو تخفّض المنطق في حرب علة " المثالية " باسم "مادية " ملتبسة و باطلة، و بالتالي يكف أن يكون الديالكتيك منطق المادة الداخلية و منطق الفكر، ويتحول إلى صفة مضافة إلى المادية من الخارج .
لأنه من دون فهم وحدة المثالي و الواقعي في علاقة الفكر / الواقع، و إمكان تحول أحدهما إلى الآخر، لا يمكن فهم الديالكتيك وقانونه الأساسي وحدة وصراع الأضداد . أي علم القوانين العامة لحركة الواقع و حركة الفكر، الذي هو الشكل الاجتماعي الضروري لحركة المادة، لأنه نتاج الدماغ، أي إنتاج المادة الواعية لذاتها، كما يقول ماركس، و الفكر انعكاس نوعي للواقع لأنه يتضمن بعض الانحرافات عن الواقع و بعض التبسيط له، و ذلك بسبب الفروق الضرورية الملازمة بين الذات الفاعلة العارفة وموضوع الفعل والمعرفة، لأننا لا نستطيع أ، نعكس الواقع المتحرك دون أن نقطع ما هو مستمر، وأن نميت ما هو حي، ودون أن نعزل ما لا يوجد إلا بانتمائه إلى الكل، ودون أن نترجم إلى مقياس ما هو كيفية، أي أننا بالتجريد نبتعد عن الموضوع، و لكن لكي نلم فيما بعد إلماما تاما . فالمجموع اللامتناهي للمفاهيم العامة و القوانين يعطي الملموس بتمامه، و إنجليز آتيا من هيغل ومن قيورباخ يعلن مبدأ المقاربة اللامتناهية، اقتراب الفكر إلى الوجود، فالفكر يستطيع أن ينشئ صورة أمينة عن العالم .
فالمعرفة إعادة إنتاج للواقع بالفكر، إنشاء وبناء لصورته بعملية المفاهيم، أي بتحويل مادة الحدس و التمثل إلى مفاهيم . و المقصود بالمعرفة، هو المعرفة النظرية، الفكر النظري، العلم، أي الفلسفة أو العلم، وأنّ هذا الفكر بحصر المعنى هو أحد أشكال تملك الإنسان للعالم ، لعالمه، الشكل النوعي المميز عن أشكال أخرى للتملك هي " الفن والدين والروح العملية " . أما الواقع فهو باق خارج الرأس على حاله كما كان قبل عملية فكره ومعرفته، ما دام الرأس يفعل فعلا نظريا . الفكر في المعرفة حركة، حركة الفكر هي انفكار الحركة الواقعية في رأس الإنسان . العياني المفكور، صورة الواقع الأخيرة، الأمينة، المترابطة والحيّة، هي حاصل بناء فكري، نهاية وغاية عملية صعود الفكر إلى الواقع، الذي هو العالم المادي المتمايز . هذا ما قاله ماركس في أهم ما كتبه عن الطريقة . هيغل و أفلاطون ينالان حقهما و التجريبية تنال حقها، يمكن القول : إن قمة النظر القديم أفلاطون و أرسطو و قمة النظر الحديث هيغل و ماركس .
ويتابع إلياس مرقص الخطّ، المسار، في رفع لواء المثالية وإعادة الاعتبار لها، فهي الفكرية والفكرانية والمثالية من خلال جهاده للتوفيق توفيقا خلاّقا وجوهريا بين المثالية والمادية في تركيب أعلى يكون نقدا للواقع، وفي الوقت نفسه تحقيقا للنقد أو للفكر. فالديالكتيك في نموه وتطوره التاريخي من هيراقليطس إلى هيغل و ماركس، يتماثل و يتهاوى مع العقلانية في كل نتاجه الفكري، وهذا ذروة العقلانية في فكره ورؤيته. أي تبنيه لتصور، ولطريقة، هي في موقع النقيض من التجريبية-الدوغمائية، والوضعوية العلموية . المنتشرة عندنا والمهيمنة على الساحة الفكرية، و المزدهرة فوق أساس من الوجودية واللاعقل، والذي يضع " حجر الأساس " لتجاوز الاستنقاع الفكري الذي يتمايز به الوعي العربي السائد، والتأسيس لفكر ومعرفة جديرين لعمل تاريخي راهن وملح يحتاجه الوضع العربي بكل مساحاته .
2- الانتقال من " العقل السليم " إلى العقل
في مرحلة الاستنقاع والانتكاس والهزائم المتكررة والإشكاليات التي يعيشها المجتمع العربي بكل مساحاته، تصبح ملامح المستقبل أكثر قبحا وسوداوية. وانسداد كل أفق جديد ممكن أمام الخروج من هذه الأزمة التي تمس كل المساحات كما تمس الاستقرار الروحي و النفسي لمجتمع فقد كل عناصر توازنه. هذا الواقع المأزوم تاريخيا، ولد فكرا مأزوما، مأخوذا بأزمته باستمرار في خوض المعارك، بأسلحة الماضي، إنه فكر مسيّج برموز الماضي وطقوس، وموتاه، وبالتالي فهو خارج الزمن، خارج التاريخ، بحكم احتقاره المستمرّ، للحاضر لصالح المبالغة بشأن الماضي ( مفهوم العصر الذهبي ) أو ( المستقبل )، ويثابر على الخوض في نزعاته القديمة التي تملك رغبة عميقة في إنكار الإخفاق التاريخي، وتطمين الكرامة الذاتية المهددة بالفقدان، حيث يسقط على ذاته وتراثه محمودات ومثلنة أو كملنة . ويضل الاستقرار في نظرته التقديسية إلى ذاته وتراثه وتاريخه . ويدفع كل ذلك الإمعان في الخطأ والتشدد والتعصب والانغلاق والتطرف في اليقين بامتلاك الحقيقة . وترتكز هذه العقلية أساسا على ثنائية ضدية حادة هي: نظام من الإيمان أو العقائد، ونظام من اللاإيمان واللاعقائد، وبكلمة أكثر وضوحا، فإن هذه العقلية ترتبط بشدة وصرامة بمجموعة من المبادئ والعقائد تخلع على مقولاتها صفة المعلومات الصحيحة والحقيقة المطلقة، وترفض بالشدة والصرامة نفسها مجموعة أخرى، وتعتبرها لاغية لا معنى لها، لذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه، أو المستحيل التفكير فيه، ومع مرور الزمن وتتابع الأجيال تتراكم هذه المساحات المعتمة وتتحول إلى هيئة لا مفكّر فيها، ويتشكل الخيال الجماعي من خلال هذه البنية المعرفية، ويسيطر على قطاعات واسعة من الناس، وتشكل قوة كبرى يصعب اختراقها ..وتفرض نوعا من " الحقائق السوسيولوجيا " التي تمنع ظهور الحقائق الحقيقية : التاريخية والعلمية أو الفلسفية . وتمارس هذه العقلية، من خلال علاقتها بالواقع، دورها وظائفيا عن طريق الهضم والتمثل: أي أنها تعيد تأويل الوقائع " المنحرفة " أو المضادة لها لكي تصبح مطابقة لمبادئها الأساسية . كما أنها تمارس دورها عن طريق التقليص و التضييق : أي تجنب كل شيء أو كل منبه أو حافز يزعزع ويشكك بها، بحكم امتلاكها الحق و الحقيقة . ويقسر الواقع على إطاعة حقائقه، وإذا امتلك السلطة، يرهبه، يبتره، ويعذبه، ويرفض تعقده، وتنوعه، وصدفه، وعشوائيته، لأنها تفتح ثغرة فيه، وتكشف استبداده، وهذا حال الساحة السياسية عندنا . فهذا التعقيل لا يهدد النظريات والأيديولوجيات فقط، فهو عامل في حياتنا اليومية ، وأن لكل " عقله السليم " وباطله المبدئي، لا أحد خارج القاعدة البشرية والاشتراط البشري، فليس فقط دوغمائية الأشياء هي أساس هذه القاعدة العامة، بل العلوم نفسها تنتج هي أيضا " عقلها السليم الوثني " . فمن نظارة غاليله إلى المقرب اللاسلكي ، من العدسة المكبره إلى المجاهر الإلكترونية، رأينا انبثاق مجرات وينابيع موجات كهربائية سماوية، وثقوب سوداء، وخلية، وجزئية، وذرة، وشاردة ... كل واحد من هذه التجليات قلب رؤية الإنسان إلى العالم محولا عقلانية قديمة إلى تعقل محدود . هذا الضلال النابع من ضرورات المعرفة و العمل و الحياة . ولكن هذا الضلال في تخفيض العقل إلى تعقل ( فرويد ) " العقل السليم " يأخذ في الساحة العربية حالات أكثر مرضية وهذانية، ويتجلى الابتعاد عن معقولية الواقع بأسوأ صوره، فينتصب فوق الوقائع ويصبح متفوقا عليها. فكلمة ( العقل ) يجب أن تحيل مباشرة إلى الواقع العام، إلى هذا المجموع خارج الرأس، فثمة للعالم عقل، معقولية، عقالة، ولذلك ثمة للإنسان عقل، وذهن الإنسان يصير عقلا بقدر ما يقترب من عقل الواقع، وهذا اعتراف مبدئي درءا لتطرف الذاتوية واستبدادها. وتأسيسا لعقلانية منفتحة عبر الحوار مع الخبرة، ومع العالم الخارجي بصورة أوسع، تفترض دائما، أن معرفتنا لم تكتمل وأن جديدا سيأتي لتعديلها. فكما يقول إلياس مرقص : إن تاريخ كل الفتوحات هو نقيض للعقل السليم بالعقل، سواء كان الناقض و المنقوض استعملا المصطلحات الآنفة الذكر أم لا .
من العمليات الصغيرة التي كانت قوام الانتقال الطويل من " قتل الإنسان والتهامه" إلى أسره واستعباده، من القطف والصيد إلى الزرع والتربية، إقامة الحضارات النهرية الكبرى، اختراع الكتابة، اختراع الدولاب،...اختراع الأبجدية...تجريدة فيتاغور...علم الهندسة...علم الميكانك ...عملية الخوارزمي...ابن حزم...ابن رشد ...كوبرنيك، لافوازي، آدم سميث ( الشغل المجرد ) إلخ . كلهم نقضوا " العقل السليم "بالعقل، المكتشف لعلاقات الدنيا ومعقولية الواقع. هذا يعني أن النضال ضد " العقل السليم " جزء من الجهد العقلاني الذي يسعى إلى ترجمة تعقيد الواقع، فالعقلانية هي في خدمة العامل و الحوار مع الواقع. إن أبرز معاني العقل لغويا هو " الربط والحجر والنهي "، " يتجلى بهذه الدلالة العقل العملي " الذي " يعقل نفسه ويمنعها عن التصرف على مقتضى الطباع " فالعقل ضد الطبع، أي التصرف غير العشوائي المترابط، فالعقل طاقة ربطية علائقية تفيد شرطيا السلوك، وتحدد مجال الموضوعات عن طريق علاقاتها .." ز نلاحظ أن مفهوم العقل في اللغة العربية، وبالتالي في الفكر العربي، يرتبط أساس بالسلوك والأخلاق، أما في الثقافة اليونانية والأوروبية الحديثة والمعاصرة فيرتب " بإدراك الأسباب " أي المعرفة . ففكرة العقل كما يرى إلياس مرقص، في أشكال لفظية وفكرية مختلفة، هي فكرة سيدة، أو الفكرة السيدة في تاريخ الفلسفة و العلم ( الفلسفة تنويعة كبيرة على العقل، سمفونية متناغمة ومتعارضة على لحن العقل ) . هيراقليطس " اللوغوس" أو " العقل الكوني " ..أناكساجوراس" النوس " " العقل الذي ينظم كل شيء، وأنه العله لجميع الأشياء " أي العقل يحكم العالم، وفكرة" النوس" كانت وراء الثورة السقراطية، أي الفلسفة السقراطية، التي تأسست عليها فلسفة كل من أفلاطون وأرسطو، كان التصور اليوناني الأرسطي هو " إدراك الأسباب "، ديكارت " أنا أشك، أنا موجود " أعاد تأسيس العقلانية الحديثة وأرسى دعائمها، وبلغت أوجها مع سبينوزا بشكل يجعلها تستجيب ليس فقط للروح العملية ولمقتضيات التجربة، بل بصورة تجعلها تفلت من خطر الشك الذي زرعه فيها هيوم حينما طرح مشكلة السببية، مشكلة العقل ذاته .
بعد ذلك ظهرت الحاجة ليس فقط إلى تأكيد التطابق بين العقل ونظام الطبيعة، بل أيضا إلى المصالحة بين الحقيقة العلمية و الحقيقة الفلسفية وذلك إنقاذا لوحدة الحقيقة ووحدة العقل معا. هذه المهمة أراد كانط أن يضطلع بها من خلال سعيه إلى إعادة بناء العلاقة بين العقل ونظام الطبيعة على أساس العل في عصره، العلم الرياضي والطبيعي، إلى أن بلغت العقلانية الغربية أعلى قمتها مع هيغل قبل الماركسية: لقد أحل العقل محل التاريخ وأحل التاريخ محل العقل بأن " أعطى للتاريخ معنى وللعقل حركة"، فأصبح التطابق بين العقل ونظام الطبيعة لا مجرد مسألة منطقية كما كان الشأن من قبل، بل أصبح مسألة صيرورة ومصير، مسألة "واقع" يتحقق عبر التاريخ .
ويكشف العقل الهيغلي عن نفسه في ثلاث صور، هي ثلاث لحظات ضرورية في سيرورة تطور الفكر وتطور المعرفة الواعية ذاتها، والقادرة على تجاوز حدودها باستمرار، هذه السيرورة، هي بالأحرى، ديالكتيكية تسير وفق إقاع ثلاثي، إيجاب، سلب، تركيب، هذه الصور هي: 1. الوعي المباشر( استقلال الذات عن الموضوع، وحيادها إزاءه. إنها لحظة الإيجاب ). 2. الوعي الذاتي: وهو اتضاح حقيقة أن الموضوع هو الذات، إذن انهيار الاستقلال وهذه لحظة السلب أو النفي الأولى. 3. العقل: أي مرحلة اتحاد الموضوع مع الذات واختلافه عنها في آن، وهي لحظة التركيب أو نفي النفي، العقل هو قوة النفي، السلب، لا تاريخ ولا تقدم من دون نفي النفي الخلاق. لحظة التركيب التي تضع التلازم الضروري بين العقل والتاريخ. فالهيغلية بذل تكون قد دشنت مفهوما جديدا للعقلانية يتماثل مع الموضوعية و الواقعية، التاريخانية في إطار الكلية الشمولية الكونية: أي التفكير والعمل وفق المنهج الديالكتي. وتجلى العقل خالصا في المنطق، والمنطق الجدلي ونظرية المعرفة.
في الهيغلية العقل هو عقل الواقع، عقل الكون، وكذلك في الماركسية ذروة العقلانية الحديثة. ولكن تمايز الماركسية في استحالة الفصل بين المنهج الجدلي و الفلسفة والأيديولوجيا والمذهب الاقتصادي، ثمة تناغم وانسجام. فالمنهج الماركسي الديالكتيك ليس شيئا خارجا بالنسبة لموضوعه، بل هو ديالكتيك الموضوع ذاته، وهنا تكمن ثوريتها، فالثورية سمة الديالكتيك، قبل أن تكون سمة الأيديولوجيا والأشواق البشرية. من هنا وضعت الماركسية حدا لجميع التصورات عن الحقيقة المطلقة والأوضاع الاجتماعية الخالدة، فليس ثمة، بالنسبة إليها، شيء مطلق ومقدس ونهائي، أي العقل السليم منقوضا باستمرار.
مشروع الماركسية التاريخي يتلخص في تحقيق الفلسفة في العالم، في عقل العالم، وحذف استلاب الإنسان بكافة أشكاله المقدسة وغير المقدسة، حيث تنطلق جدلية العلاقة بين الوعي والوجود، وبين الذات و الموضوع ،ووحدتهما في الممارسة الحية ( البراكسيس ) لحظة التوسط الديالكتي بين الفكر والواقع أو لحظة التركيب ونفي النفي، نقطة انطلاق التاريخ وصيرورة العالم والمعرفة. فبدون العمل، العمل والإنتاج، شرط الوجود الإنساني، ليس ثمة فكر ولا حاجة لأي فكر، من هنا يتحدد لدى ماركس مفهوم العقل بمهوم العمل، والنشاط العملي، الممارسة( البراكسيس ) فاعلية الإنسان الحيّة والهادفة.أي يمكن القول : إن ماركس قد صاغ مفهوما جديدا للعقل أو الفكر هو: العقل-العمل، وأنشأ بالتالي مفهوما جديدا للعقلانية، لأنها، أي العقلانية، تستمد معناها، ومقوماتها، شكلها ومضمونها، من المعنى الذي نعطيه للعقل.
وإلياس مرقص شأنه شأن، الفلاسفة العقلانيين، عارض ونقض "العقل السليم" بالعقل، ولكي نعمل على تأسيس العقلانية في الفكر العربي، يقتضي أولا: حسب مرقص، دراسة لمقولة " العقل" أو " عقل" من دون الـ التعريف، وإبراز مقولة الفكر وتوابعها ولا سيما " المفهوم " ومقولة " الشكل"، والدخول في نقد الكلام وعلم الكلام ضد حبّ الكلام ووصف الكلام، ففي نظره: للعقل معارضات كثيرة، الكلمة "عقل" تفهم وتحدد بمعارضاتها، بعلاقاتها في السياق، ولكن السياق الأهم هو المعارضة، فثمة العقل إزاء الحس أو التجربة أو الخبرة، وإزاء التجربة العلمية التي هي امتداد مباشر للعقل وسلاح للفكر، وثمة العقل إزاء الشعور والشعر والعاطفة. العقل مع الفكر مع المنطق والرياضة. العقل إزاء "الخيال "، العقل هو نفسه خيال لكن ليس الخيال الحسي العجائبي الخرافي، بل هو الخيال مكتشف علاقات الأشياء، عقل الكون. ولكن العقل إزاء الشعور والشعر والعاطفة والخيال والحس.....إلخ لا يعني طرد هؤلاء وإقصائهم، بل يعني إقامة معارضات محددة مفهومة، إنه جلاء أمور الروح، أمور العمل والتملّك. أي أن العلاقة بالعقل ليست شفافة إلى الحد الذي يتوهم العقلانيون الحداثيون، وهذه المساحات التي كانت في خانة الضلال والرذيلة والبعيدة عن مجال البحث والسؤال، يجب اقتحامها واختراقها، وهذا يفسح المجال لتعامل جديد مع العقل، والتأسيس لعقلانية تحارب باستمرار " العقل السليم" ليس بوصفه العدو الخارجي الذي يتخذ قناع العقل فحسب، بل أيضا، وخاصة، بوصفه العدو الداخلي الذي يصنع آلهته ويعبدها تحت أغطية مختلفة. أي التأسي لعقلانية تمارس الفعالية النقدية على ذاتها بالدرجة الأولى وبصورة مستمرة، وتخضع للشك والفحص والنقد، سائر الأفكار. وذلك من أجل مطابقة الفكر لعقل الواقع، بما هو جدلي متغير ومتحول وإمكاني واحتمالي.
لذلك يضع إلياس مرقص للعقل والعقلانية ثلاثة مبادئ : أولا: ليس في الوجود، مقابل الفكر، شيئان متماثلان ومتهاويان متساويان. كل الأشياء مختلفة( واقعية الفردي وكونه خارج الوعي ومستقلا عنه )، كل الأشياء مختلفة في الوجود، والفكر إدراك هويات المختلفات في كل الاتجاهات وإلى ما لا نهاية. كل الأشياء مختلفة، وكل الأشياء متشابهة ( لا اختلاف بلا تشلبه )، متهاوية، هكذا المبدأ، ووظيفة الفكر فك التشابك وإعراب الأشكال ( في بداية علم الظاهرات ليس لدينا سوى الفكر مع الهوية إزاء الوجود مع الاختلاف. ثانيا: لا تغير بلا التغاير، ولا تغير بلا اختلاف. اختلاف أفراد النوع أساس للتغير والتطور، وشرط مطبق لظهور أنواع جديدة. ثالثا: لا تاريخ ولا تقدم بلا تفاوت، لولا التفاوت لما كان أي تقدم ، أي تاريخ، أي ارتقاء للبشرية، المجتمع البشري مجتمع الاختلاف والتفاوت، فالحياة تفردن والإنسان ذروة التفردن.
يمكن أن نلاحظ في نتاج إلياس مرقص الفكري، العناصر العقلانية المبثوثة في تاريخ الفلسفة، حيث قرأ هذا التاريخ- الفكر الإنساني – قراءة مزدوجة، التي تشكل الماركسية محور هذه القراءة وركيزته، قرأ الماركسية مسلحا بالتراث النقدي، ساعده على قراءة غير متمذهبة وغير أيديولوجية، كما قرأ تاريخ الفلسفة وخاصة كنط وهيغل قراءة ماركسية. هذه المنهجية في القراءة جعلته يطابق بين العقلانية والديالكتيك، مأخوذا في تطوره التاريخي من هيراقليطس إلى ماركس، قرأ الماركسية بوصفها فلسفة عقلانية أولا، وإن عقلانيتها وثوريتها في آن تكمنان في طابعها النقدي الذي هو ضمان تجديدها وتطرها المستمر.
هذه الرؤية للعقل والعقلانية هي أساس، وجذر، وذروة مشروع إلياس مرقص في سعيه لتأسيس العقلانية، ضد أوثان وضلالات وحقائق الوعي العربي السائد و"عقله السليم " وسعيه إلى فكرة العقل الأعلى الفلسفية و الهيغلية اللوغوس و الـ VERNUNFT .
3- الانتقال من فكرة الثورة إلى فكرة التقدم والتاريخ والتاريخية
إن الوعي العربي الذي يرفع لواء الوجودية ضد الفكرية، الـ " أنا موجود " ضد الـ " أنا أفكر " والغارق تحت هاجس الماهية الجوهرية، مذهبه وتصوره للواقع على أنه عالم الماهيات والجواهر. ويتعامل مع المفردات اللغوية كأشياء وأشباح موجودة أمامه، ويختار أن يعيش في بعضها بحكم تمثلها للخير المطلق ضد بعضها الآخر بوضعها في خانة الرذيلة والشر المطلق. ونتيجة المرحلة التاريخية التي مرّ بها المجتمع العربي وظاهرة الاستقلالات الوطنية، وتنامي الفكر الكفاحي ، حول " الثورة " وتوابعها العنصرية" الشعب" "الجماهير" "الطبقة العاملة" ... إلى كعبة مارس فيها طقوس العبادة، التي ساهمت في تغطية وتبرير كل الويلات والأخطاء والجرائم ، وأسست لتنامي الأنظمة الشمولية الاستبدادية وتكريسها . والتقدم يضحى به على مذبح " الثورة" مثلما " التاريخ" يضحى به لصالح " طبيعة" انحطت في الوعي العربي إلى "فطرة" ، في هذا الوعي السائد" الثورة" تتبادل الارتباط مع " الشيء" ومع الحدث : إنها جزء مميز وتمتاز به النظرة الشيئية إلى الواقع، في النظرة الحديثة أو الإحداثية إلى التاريخ، وهما وجهان للتصور الشيئي – الرمزي للواقع والعالم، الذي يقتل فكرة التقدم ويعيش من دونها و"يستغني" بالثورة عن التقدم ، بدلا من أن تقوم فكرة الثورة على أساس فكرة التقدم . فكثرة الحركة لا تصنع تقدما، وليس تابعا لها. في الواقع الاجتماعي والتاريخي يمكن أن تكون " الحركة " كبيرة ( حروب، ثورات انتفاضات، مقاومات...) بدون أن يكون هناك تقدم ، بل يمكن أن تكون هناك ثورات كبيرة جدا ومنتصرة من دون أن تؤدي إلى أي تقدم حقيقي. أما في الوعي العربي السائد الذي يخلد، يقدسن، يصنع أصنامه ويعبدها، فيقول ثورة ويجيش الكلمة ويقدسها، ويضعها في خانة الخير المطلق، ويتهم كل من يخدش هذا المقدس بكل توصيفات الابتذال والخيانة والرجعية والعمالة، وتحول خطابها الثوراوي إلى خطاب آخروي يعلن فيه نهاية الزمان، نهاية التاريخ، الدنية السعيدة، المجتمع المتناغم واكتمال سياسي، حل نهائي، مستقبل مشرق. وبذلك أسس إلى مجتمع استبداد وعسف وامتهان لقيم المجتمع المدني. لأنه لا يبدأ من " الصفر"، بأن الثورة، الأمة، الاشتراكية، الوحدة،.......كلها كلمات هذا أولا، من دون أي تضمين إضافي ثانيا، هي بنت التاريخ، أي أنها لا تنافس الله سبحانه وتعالى. وبعد ذلك، السياق الذي يورد فيه المفهوم يبعث فيه الحياة، أي يجب القيام بالجرد وإقامة الحد، وإعادة الكلمات إلى حقيقتها، إلى وظيفتها: فكر، مفاهيم، للابتعاد عن ترميزها وتقديسها، وإخضاعها لحركة التاريخ، حيث يمثل المفهوم لحظة معرفية، وبما أنه تتنازعه مذاهب واقعانية شتى وإنه بالتالي ، - وإن كان معلوما، وبقدر ما كان معلوما كمعطى- يستلزم تصويبا علميا تقوم به الفاكرة لتجعل العلم يتقد من خلال تكديس المعارف الصحيحة المتصوبة بالاختيار النقدي. لغويا كلمة " ثورة" مستمدة من ثار ، يثور. وهي تحمل معنى مباشرا يعبر عن جانب مهم من كل ثورة: ثار ، هب، انتفض، حي من بين عناصر " الثورة" فكرة الغضب، ثورة أو صورة غضب، فكرة الهوى والآلام والجموع Passion غير "طبيعي" ( رغم أنف الوعي السائد الذي يحب الثورة من أجل الثورة ) ، فالثورات كثيرة في تاريخ البشرية الطويل ، ولكن التقدم نادر. فلإيهام الذي يحيط معنى الثورة، هو الذي يسمح بإعطائها مفاهيم عديدة. ويرجع ذلك إلى تعدد الأشكال الثورية وإلى طبيعة المظاهر الاجتماعية التي يسودها تعقيد كبير. والمنظرون غالبا ما تختل آراؤهم في فحصهم للثورات التي طبعت التاريخ بطابعها، وحول تاريخ بدايات الثورات ونهاياتها، والأحداث التاريخية التي اصطلح على تسميتها بالثورات " الحقيقية "، وحول أشد الوجوه حسما في قيام الثورات، وبالتالي حول تلاحم الأسباب، ونتيجة لذلك، فإن معظم " نظريات الثورة" هي نظريات جزئية تحاول تفسير انهيار الدولة أو سبب أنبثاء المؤسسات الجديدة، أو توضيح خصائص المجموعات المتصارعة على السلطة. مع الثورة الفرنسية 1789 م أصبحت تدل كلمة " الثورة " على معنى إعادة تنظيم كاملة للمجتمع، وليس على معارضة الطغيان فقط، أي بدأت تأخذ معناها المعاصر. وينكشف معنى الثورة عند ماركس بتغير علاقات الملكية والإنتاج ، أي أن الثورة هي سمة الديالكتيك ، حيث تكون الحياة الموجودة فقدت قدرتها وكل كرامتها وأصبحت محض سلبية ، فتظهر الحاجة إلى أن يتجاوز هذا التناقض . وعند منعطف القرن ، انتقل مركز الاهتمام من التغيير المؤسسي في حد ذاته إلى الميول السيكولوجية الكامنة وراء العنف السياسي، ويتمثل بامتياز بآراء دوركهايم وفرويد وفيبر، " فالنظريات الحالية في الثورة تلح، اليوم، على التنوع، وهي تستعمل ، مستندة إلى عدد كبير من الحالات والمسائل، تفسيرا متعددة الأسباب، وهي تبين تنوع المنازعات الثورية والنتائج بموجب الفروق في الضغوط العسكرية، والفروق في استقلال النخب و الفلاحين والمضطهدين ، وتنوع موارد الدولة والتطور الاقتصادي والديموغرافي الطويل الأجل والفروق في النمو الاقتصادي داخل الدول المتنافسة في الاقتصاد الدولي" . فهناك ثورة وثورة ، ثورة تؤسس لاستبداد تحت غطاء المساواة والخلاص وتبشيره بمجتمع متصالح مع ذاته، متناغم، وتتحول إلى ضرب من سيف مسلط على أعناق الناس، فكل ثورة لا تؤسس لتقدم فهي ثورة استبداد وانحلال . لذا الثورة تقوم على صعيدين متماسكين، صعيد النقض والتدمير، وصعيد البناء باسم بدأ جديد، وكل ثورة تتضمن بين يقيناتها فكرة عودة ورجوع إلى مبدأ مجرد، إلى كل حقيقي، رجوع من فوق مرحلة ، تراجع عن شيء حاصل إلى ما "قبل " . فالثورة الإيجابية فعلا بحسب مرقص تضع أساسا لتقدم، وفي هذه الحالة تكون الثورة درجة أساسية على سلم التاريخ الذاهب إلى أمام. والثورة الواعية، هي التي تعي موقعها في مسار التاريخ كتقدم. لذلك يؤكد إلياس مرقص، الفرق بين الثورة-التحول، وبين الثورة-الانتفاضة الشعبية، بأن الأولى لا تنجم عن الثانية، وشتان ما بين هذه وتلك. فلا الثورة النيوليتية مع ظهور الأرياف ( القرى، الزراعة، القمح، تدجين الحيوان، ) ولا ثورة ظهور الحضارات ( حضارة بحصر المعنى، أو المدنية) انتهاء إلى اليونان وروما والمجتمع الرًَّّقيّ مع شعب الأحرار، ولا ثورة ظهور أوروبا- عالم الإقطاعية الجديد( الذي أنضاف إلى العوالم الحضارية السابقة في الشرق والجنوب) هي ثورة بشر طبقية، ثورة كادحين، انتفاضة جماهير كادحة ، أو أي شيء من هذا النوع. إن أول ثورة اجتماعية منتصرة في التاريخ هي الثورة البرجوازية، وهي ذات طابع شعبي دوما، لكنها الثورة البرجوازية قطعا. وهنا، وهنا فقط، الانتفاضات كانت جزءا حيويا وناجعا في " الثورة- التحول" في ثورة نمو وتقدم دائمة، بدأت منذ قرون. ثورة، تقدم، نمو أيضا ، أنهار من الدماء، هذه الفاتورة التي يجب أن تدفع، يجب الاعتراف بهذه العلاقة وعلى كل المستويات ، لا يوجد حل نهائي للمشكلة الاجتماعية، هناك دائما إمكانية تراجع وفشل وخراب وتفكك، وبعث لخمائر عدم المساواة والإخضاع التي تتطلب دفع فواتير جديدة ونضال مستمر، أي لا خلاص نهائي في هذا العالم ، وستبقى الأرض، أرض الإنسان ألشاقي، لا يوجد على الأرض فردوس مفقود يجب أن نستعيده، ولا فردوس مستقبلي يجب بناؤه، لا توجد نهاية للتاريخ ولا أرض موعودة. وهذا لا يبخس النفس " الخلاصي" أو " القيامي" الذي يرافقها ويلازمها بطبيعة الحال، لأنه لا يمكن أن تقوم ثورة وأن تنتصر بدونه، ولكن ما كان لها جدوى لو كانت هذه الثورة سوى " قيامية " أو " خلاصية " لو ضحت بالوعي لصالح " الرؤيا" لو كان جوهرها العودة إلى " فردوس مفقود " خرافي .
إلياس رقص يرفع لواء التقدم أولا، الإنسان أولا، أما خصي الشعوب تحت غطاء الثورة وتوابعها، كما هو سائد في الوضع العربي، فهو أساس لانتحارها وتراجعها وتبعيتها، فيتبنى الموقف الماركسي ، لا ثورة بلا تقدم وتقدمية محورها الإنسان في ظل الحق و القانون ، فالثورة الحقيقية تكسر قيودا على التقدم، هذا سبب، وغاية، ونتيجة في مفهوم الثورة، أي أنه دائرة مغلقة، مفهوميه، في جملة التاريخ الكونية، أي الثورة حلقة في تاريخ، هو تقدم، والتاريخ البشري يتمثل في جانبه الأهم كتقدم، فكرة التقدم كما يقول إلياس مرقص تختلف عن الصيرورة، التغير، التحول، التطور...فكرة التقدم تفترض ذهابا إلى الأمام، تغير نحو " الأرقى" وتتضمن فكرة التدرج. لا أستطيع أن أصل غايتي وهدفي ورغبتي بـ دفعة واحدة بقفزة، و القفزة في البسط الأفقي ليست قفزة شاقولية نحو السماء، وهذا ينتهي إلى سقوط ووقوع على الأرض ، أما الصيرورة، التغير، التحول، التطور...ليس لها مبدئيا- هذا التضمن، وهذا التفريق ووضع الحد والجرد ضروريا لتجاوز الخلط الذي يتميز به الوعي العربي السائد، فليس كل تغير تقدما، وكلمة " تحول" تعني من حال إلى حال، وكلمة " تطور" تعني الانتقال من طور إلى طور، " فمفهوم التقدم معلوم كتوجه عام، لكن من حيث فرادتها العلمية يحمل خصوصية، ويعتبر محمولة المعرفي المتخصص مختلفا عن محمولة المعرفي الشائع( المقولة مقابل المقولة) ، إذن مفهوم التقدم معلوم يستلزم المزيد من العلم و العالمية " . التقدم عكسه التراجع، التقهقر، أما الصيرورة والتغيير والحركة، فعكسها الوجود أو الكينونة الثابتة، السكون، الركود. أي أن مفهوم التقدم لا يلغي الصيرورة-فكرة ولادة وفناء كل الأشياء- بل هو واحد من وجوه الصيرورة ووجه غير يقيني منها، فالصيرورة مفهوم ضارب في القدم، ورئيسي في كل الحضارات الشرقية، بالمقابل التقدم حديث في القاموس المفهومي الغربي و المفترض في العربية المعاصرة. ففكرة التقدم هي إحدى الأفكار المركزية للحضارة الغربية التي لها عناصر آتية من بعيد في الزمان والمكان. التي ارتبطت بفكرة الإنسان و التاريخ. فحسب تعبير ج.ب.بوردي هي " تركيب للماضي وانبثاق للمستقبل" إنها بنية ادراكية وفكرية. وعلى الرغم من أننا ننزع إلى التفكير بأن فكرة التقدم حديثة حصرا، فإن هذه الفكرة موجودة بوضوح في فكر اليونان وروما القديمتين، كما لدى أوائل المسيحيين. وقد تحدث كل من بروتاغوراس وأفلاطون وزينون وسينيل ولوكريس عن صعود الإنسانية منذ الأزمنة البدائية نحو معرفة متزايدة في ميدان الفنون. وكانوا، فضلا عن ذلك يؤكدون بثبات أن هذا التقدم يجب أن يستمر في المستقبل ، خلال " آلاف القرون" .
وكان للقديس أوغسطين إسهامات كبيرة في التأسيس لفكرة التقدم الحديثة ، وذلك في إقامته زمنية خطية، أي تأكيده على وجود " قبل " و "بعد " واختلاف البعد عن القبل، وتأكيده بالتاي على فكرة " المستقبل " ، أي الخروج من التصور الدائري و الدوراني الذي هو تصور شرقي ( صيني- هندي إلخ ) ويوناني على حد سواء. أي التقدم فكرة ضرورية واستحالة الإفلات منه، فلا يقتصر الأمر على أن معارف الإنسان، الدينية أو الزمنية، قد تقدمت مرورا بمراحل مختلفة، بل إن مثل هذا التقدم كان أيضا " ضروريا" . وهو ضروري لأن الله، إذ خلق الإنسان، زوده بالقدرة المناسبة، وأن جزءا كبيرا من فلسفة التقدم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يكن سوى علمنة للحمة القديس المسيحية، وقد نقلت عقول نافذة، مثل ليبنتز وكانط وكوندورسية وهيغل وكونت وماركس، إلى الحداثة الرؤية الأوغسطينية للجنس البشري، فريد ومتقد من جهة، ولإطار زمني يحمل عصرا واحدا لكل البشرية، رؤية للصراعات كمحرك للتقدم ن وتصوره أخيرا لضرورة وضع بانوراما- لمجمل النمو من جهة أخرى. أي أنه إضافة إلى المرتكزات الفلسفية اليونانية لفكرة " التقدم والتاريخ" يؤكد إلياس مرقص على ركائزها اللاهوتية، في " دين الإله الواحد" فالإنسان مستخلف ومسؤول في الأرض، وأن العلينة ( الله فوق، الله هو الصمد ) أساس الترخنة و العلمنة: الدنيا دنيا، لها تاريخ، والتاريخ دراما وتقدم، قابلية العالم للتحسن " إذن حققنا عملا كبيرا، لكن الله أكبر، إنه دائما أكبر: ثمة عمل ينتظرنا لنعمله نحن واللاحقون، حي على الفلاح " . هذا قول ألماني شعبي معبر. أي فكرة التقدم سلطنة في عصر الصمود والجهاد وصارت أساسا لفكرة التاريخ، أي أن التقدم أو التصور التقدي للتاريخ الإنساني ووعي التاريخ كدراما وكمأساة ( حروب، جرائم، ...) لم يستخدم ضد فكرة التقدم، كممكن، كواجب، كواقع. هكذا يمثل الفكر الأوروبي في زمنه الأعظم. أما العصر التالي- البرجوازي المستقر والبرجوازي المأزوم- بسّط التقدم وابتذله أو ألغاه، وتبنى " الرجوع الأبدي" وتبنى فكرة " العرق" اللاتاريخية. وفي القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين مع جرائم كبيرة وأزمات متنوعة، التقدم يوضع في السؤال، الطعن: وهذا حقه واستحقاقه، أي أن هناك تقدم وتقدم، فالتقدم يتضمن نقيضه الذي هو التقهقر، وأن التقهقر ، أحيانا، يتحول إلى قوة طاغية على التقدم الذي ساهم في تسببه: نحن نرى أن النمو لا يفعل شيئا سوى الامتصاص، ويحمل خلفا ليس هو، فقط، تخلف مدن الصفيح وازدياد الأفواه والبطالة وفقدان الجذور، بل هو، أيضا، في قلب الدائرة النامية اقتصاديا نعته: تخلف ثقافي، أخلاقي، وجداني،...أي كل تقدم جزئي، مؤقت وينتج، بالإضافة إلى ذلك، فسادا واختلالا للتنظيم، أي تراجعا. فمفهوم" التقدم" هو خارج مساحة المقدس، أي أنه موضع سؤال ونقد ومراجعة، هذا أمر لا غنى عنه، وأن تطرح وتستبعد هذه المراجعة تحت أي حجة، فهذا تعويض ديماغوجي، أنه الهلاك الذي يفعل فينا، ولكن خارج التقدم لا حياة لنا ولشعوب العالم الثالث، وكل " ثورة " لا تؤسس لتقدم إنما هي ثورة تأخر وانحلال. فالتقدم مقولة واضحة لحد كاف كما يقول إلياس مرقص، وأنها جيدة التأسيس، ومسألة ومسائل، وإذا كان هذا يحيل إلى أن التقدم خير مبدئي، إلا أنه لا يعني أنه إله الخير، وعلينا أن نعبده ونركن إليه، فهناك تقدم إلى الهاوية، فالبشرية اليوم ، ولسوء الحظ، لا تضحي برفاه الحاضر من أجل مستقبل الأبناء والأحفاد، لقد استعارت رأسمالها من الأجيال القادمة دون أن تعيده إليهم، والرأسمال هو الأرض الحيّة النظيفة وثرواتها، أي أن التقدم" الإنتاجية " ( قدرة الإنسان الإنتاجية ) وبأقصى من قوة نمو التدميرية، أي نمو قدرة الإنسان على تدمير عالمه وذاته، فكل تقدم نهاية، لأنه لا يوجد تقدم مكتسب نهائيا ولا تقدم لا يكون إلا تقدما ، أي تقدما دون نقيض وظل، وكل تقدم معرض لأن بفسد، " فإن النجوم، كالأحياء، موعودة بالموت " . أما في الوعي العربي السائد الذي يمتنع عن العمل بالمفاهيم وامتناعه عن المبدأ : الفكر، ويتحول إلى معمل لصناعة الأوثان والأصنام يعبد بعضها ويرجم الأخرى، وتضحيته بـ"التاريخ" لصالح " طبيعة " انحطت إلى " فطرة " خارج التاريخ ، ويريد ثورة بلا تقدم، مجتمع بدون أفراد مختلفين، ديمقراطية بلا ديمقراطيين " تغيير بلا تغاير، تاريخ بلا تفاوت، أسس للتطرف الأيديولوجي والاحتقان الاجتماعي والاستبداد السياسي . والإنسان العاقل والصانع، كائن الوعي و( الوجدان ) والاجتماع والتاريخ خارج النظر، على ركيزة هذه البنية المعرفية تصبح فكرة التقدم فكرة مبهمة وخاطئة وغير مبررة. وجهاد إلياس مرقص المستمر كان ضد هذا المناخ، وضد الثورية التي أكلت المؤسسات والإنسان، ضد ديمقراطية وطن واحد ورأي واحد ولون واحد، وحزب واحد، وضد الدولة التي تأكل المجتمع، وأكد على النقيض من ذلك أن الاختلاف قوام الوجود، وحرب الهوية ضد الاختلاف ، حرب ضد الوجود، حرب نوع من المثلنة ساقط ضد الواقع، موقف استبداد وإرهاب وإعدام...وأن اجتماع الإنسان ليس طبيعة أصلية في الإنسان، بل هو فتح تاريخي جهادي على الذات، البشرية الأولى تميزت بقتل الإنسان للإنسان وأكله" الإنسان ذئب للإنسان " هذه ظاهرة عامة يجمع على حقيقتها العلماء، والانتقال من " قتل الإنسان والتهامه" إلى أسره واستعباده، إنه انطلاقة التاريخ: الإنسان يخرج من الهمجية من الحالة الغابية أو البرية، والتاريخ تاريخ الشغل( شرط وجود الإنسان ) مع البودية ، تاريخ الشغل العبدي، الرق والقنانة، وصولا إلى العمل الحر المأجور أو " العبودية الأجيرة " حسب مصطلح ماركس، التاريخ مع التقدم والارتقاء، لم يكن إلى الآن سوى " ما قبل تاريخ " . لا تاريخ ولا تقدم من دون التفاوت والاختلاف، هذا من المبادئ الأساسية للعقل والعقلانية التي ينطلق منها إلياس مرقص، فالمجتمع البشري مجتمع الاختلاف والتفاوت، مجتمع الطبقات بالمعنى الواسع للكلمة، الملكية وأضدادها وصولا إلى الملكية الخاصة، ذروة التاريخ( أو ما قبل التاريخ بمعنى ماركس ) ، فالتفاوت ( مع الملكية الخاصة والطبقات ) والتقدم تؤمان في التاريخ، وعلى هذه القضية الأساسية يتفق ماركس وروسو وتوماس ولينين وآدم سميث وريكاردو وهيغل ( وذلك بخلاف مت يتصوره أناس كثيرون عندنا ) لولا التفاوت، لولا اللامساواة ، لولا الطبقات بمعنى واسع، لولا بطر الأغنياء وتجارة الترف العالمية لما كان معنا هذا المشهد الكبير : تقدم البشرية. فقابين الذي قتل أخاه هابيل قال منذ ذلك الزمن البعيد : " ليس هناك من عدالة ولا قضاة" . هذه اللوحة يجب أن توعى، أن ترفع، أن تكون أساس، وجذر، ومشروع، في انتقال الوعي العربي، وبالتالي السياسة العربية والمجتمع العربي ، إلى مستوى العصر، ويتحول إلى ذات فاعلة وقادرة ، بدل أن يكون سمادا للتاريخ .
4- الانتقال من المنهج الوضعي إلى المنهج الجدلي
ما زال أغلب المثقفين العرب يقرءون حسب منطقين: القسم الأكبر حسب المنطق التقليدي السلفي ، والقسم الباقي حسب المنطق الانتقائي، والاثنين يوصلان إلى حذف العمق التاريخي وإلى العجز عن إدراك الواقع كما هو ، وبالتالي تفتح الأبواب على مصراعيها للمؤثرات الخارجية التي تؤسس للتبعية وعلى كل المستويات، وهي تبعية لا تخدش فقط الكرامة الوطني/القومية والمصالح المادية، بل تعني كذلك تعميق واستمرار التأخر التاريخي، " فتتحول أصداء التقدم العلمي والتكنولوجي إلى أيديولوجيا علموية، ونزعة تكنوقراطية تتعايشان مع التقليد وتتقاطعان معه في المنهج والرؤية، وتتعايشان ، كذلك ، مع الاستبداد السياسي وتضفيان عليه بعضا من " مشروعية" ويشيعان مناخا وضعيا يساهم في تجميد الحاضر ما وسعه ذلك . واعتبارا من السبعينات من مسيرة إلياس مرقص الفكرية أخذ يتعامل مع هذه القضية وضد هذا المناخ – الوضعي- وحاول " إيصاله " إلى القارئ والإفصاح عنه ، داعيا المفكرين للوقوف عليه : تفنيدا أو تأييدا وتصحيحا. فبين إعادة إنتاج المجتمع ( استبداد، تأخر، فوات، تبعية ) وتجاوز هذه الحالة لمواكبة المجتمعات المتقدمة والرقي والعصرنة والكونية... ، يتحول دور المثقف والثقافة إلى دور وازن، ولأهمية هذا الدور، دعا إلياس مرقص المثقفين العرب إلى ضرورة الاختيار من المنطلق والركيزة، وذلك أيا كان ميدان المثقف وعمله، وبالتالي خطابه إلى الناس ، إما الجدل وإما الوضعانية والعلموية وإلخ ، وهو بالتلازم : إما الديمقراطية وإما الليبرالية، إما الماركسية وإما الاقتصادوية والميكانيكية والتجريبية الدوغمائية و " كره الميتافيزيقة " وبطبيعة الحال، كما يقول مرقص ، وحده الجدل، ينصف الفكر الوضعي الإيجابي، ووحده الموقف الديمقراطي ينصف الليبرالية، فضد قبول العالم وضد نفيه المزعوم ثمة موقف روحي وفكري واجب وهو النفي الإيجابي للعالم. أما مصطلح " الوضعية" المعبر عن المناخ الذي يعيش فيه الفكر العربي السائد، فهو يلخص " الفلسفة الوضعية " وهو تعبير استعمله أوغست كونت رائد هذا المذهب لتعريف نظامه في إعادة بناء تاريخ المعرفة العلمية. إلا أن كونت ليس أول من تبنى الأفكار التي اعترف بها، منذ ذلك الحين بوصفها مكون للوضعية. فأصل الآراء التي يطورها، موجودة في فلسفة الأنوار الفرنسية، بل وقبلها. ويمكن أن يقال إن هيوم أول وضعي حقيقي باستناده إلى خبرية منطقية فالخبرية تقع، بالفعل في معظم تصورات الوضعية، بما فيها تصور كونت، على الرغم من تنوع الصور التي اتخذتها الخبرية داخل الوضعية. والخبرية تدعي أن النظرية الوحيدة لضان الصحة العلمية لمعرفة ما، هي إقامتها على الملاحظة، أو بصورة أعم، على الخبرة. وهذه الأطروحة متصلة، في وضعية كونت، بأطروحتين أخربتين : فهو يقوم، أولا، بتحليل نمو العلوم لدعم أطروحة وحدة العلوم : فيمكن جمع كل العلوم الطبيعية والاجتماعية في منظومة معرفية وحيدة، لأنه لا توجد فروق جوهرية بينها، بل درجات مختلفة في تقدمها نحو الأمثل، الأعلى الوضعي، مثل اكتشاف قوانين ثابتة للطبيعة تخضع لها كل الظواهر. وفضلا عن ذلك، فلأن جهود كونت لإنجاز توحيد منظومة العلوم التجريبية، بتأسيسه علم الاجتماع، تعود بأصلها إلى أطروحة ثانية تنصب على الممارسة وهي: إن المعرفة العلمية توفر الأساس الضروري لضبط الطبيعة والمجتمع.
وبالاستناد إلى تلك المبادئ الأساسية يتابع في بلورة وضعيته ومذهبه من خلال عرضه للمراحل التي مرت بها البشرية والفكر البشري. 1. الحالة اللاهوتية ( أو اللاهوت العسكري) حيث الفكر البشري يعلل ظاهرات الطبيعة تعليلا خياليا وخارقا، أسباب الظاهرات هي الأرواح 2. الحالة الميتافيزيقية، الماورائية أو الغيبية، هي " تعديل" للحالة الأولى، فالإنسان يعلل الظاهرات بقوى مجردة. 3. أخيرا بعد جهد طويل، يبلغ الإنسان الحالة الوضعية( أو المرحلة الوضعية الصناعية) أي الإيجابية التي هي قطع، أو قطيعة مع الحالة السابقة، هنا البشرية تخلو عن البحث عن الأسباب ( تخلو عن التعليل أو التفسير ) وتكتفي باكتشاف القوانين التي تحكم الواقع والوقائع، وذلك بالملاحظة والمحاكمة. هنا أوغست كونت يؤسس للخروج من التاريخ.
وقد بدا هذا للكثيرين، وما يزال يبدو للبعض، كأنه خاتمة وتتويج لتطور أوروبا وتقدم فكرها. وطالما أوروبا هي النموذج الذي يحتذي به المتأخرون والمتخلفون، لذلك عليهم هم أيضا الانتقال إلى الإيجابية، فهناك لهاث وراء " النتائج " التي ليس فيها فلسفة، الفلسفة الميتافيزيقية، اللاهوت...إلخ. هذا الماضي الأوروبي العريق لا يعنينا، أوروبا الجهاد خارج المعرفة، أوروبا الواصلة، التكنولوجيا والتقنية والليبرالية البرجوازية شكلت لنا عامل اندهاش وتأخر وتبعية. فالمحيط الثقافي العربي ، بالإضافة إلى تبعيته يلون بسماته كل المناهج والمذاهب والمدارس الفلسفية الوافدة بشكل أو آخر. من جمع الفكر العربي وضعوية أوغست كونت مع وضعوية تقليدية، فيتبنى العلموية" مجردة ومضافا إليها المجاز و" الخيال" و" الشعر" ...إلخ. فاليوم كما بالأمس الفلسفة مطرودة من الفكر والوعي عند أنصار " الدين والعلم" وعند أنصار " المعرفة" سواء بسواء. من هنا نشاهد الجناح الإسلامي، وتماشيا مع المناخ، يعلن بأن الإسلام دين الإيجابية والواقعية والعقل، ويطرح بالنتيجة النزعة الوضعية" تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله. وانتقال إلياس مرقص من نقد الماركسية كآنتي- اقتصادوية إلى نقد الماركسية كآنت- وضعية، بسبب من تعمق وعيه وتجذره، وذلك لأن الماركسية ورغم نسبها الهيغلي ومشروعها الذي يعانق البشرية، والتي لم تدخل الساحة العربية إلا متأخرا، كانت أيضا تحت تأثير المناخ الوضعي، فبين هذه الماركسية الذاهبة إلى الأمام، وبين الخط الذي دشنه أوغست كونت تعاطف ماهوي ضد اللاهوت والحالة اللاهوتية، ضد " الميتافيزيقية " أو " المثالية" مع العلوم والتقدم، وتحولت الماركسية إلى " نظرية علمية" و" فلسفة علمية" حاكمة على العلوم؟ هذه الفلسفة تستغني عن كلمة " مفهوم" وعن تأكيدات لينين" المادة مفهوم"و " المادة مفهوم فلسفي" ألغت مقولة" الحياة" الفلسفية، وأكدت نسبها إلى علم البيولوجيا، خفضت- ما عدا استثناءات قليلة- العقل إلى الفهم والمحاكمة، واستغنت عن النفي، فكرة وكلمة، ولم تع وحدة المنطق والجدل، تصورت هذه الوحدة، في صيغة" المنطق الجدلي" الملتبسة والذاهبة ضد المنطق بما أنه منطق الشكل والحد والمفهوم، ألغت نظرية المعرفة، وتحت سلطان " المادية " و " المسألة الفلسفية العليا" انتكست إلى ما قبل كانط إلى ما قبل التقد، شطّبط على أفلاطون وهيغل والفلسفة، تصرفت بمقولات المادة والسببية والماهية والجوهر وكأنه لم يكن هناك بركلي وهيوم وكانط ولافوازييه وآدم سميث، وتحولت أيضا من القتال الأيديولوجي، الضروري والحيوي، ضد الخصم والخصوم، بتمامها إلى أيديولوجيا، إلى آلة حرب، ففقدت صفتها كمرشد للعمل، واختارت ديكارت المصيّر " ماديا" وألغت لحظة الصفر الديكارتية التي تشكل منعطف كل فلسفة حقيقية" أنا أشك أنا أفكر إذن أنا كائن، أي أنا كائن كنفس مفكرة أولا"، الوعي الماركسي العام يستغني عن هذه المثالية ، ويأخذ على هذا المنطق صلته بالعقيدة المسيحية ، ويتبنى – ضد وكبديل عنه- المنطق التجريبي المادي" أنا أحس / أرى الأشياء / العالم الخارجي" وتنسى الزوج المفهومي الماركسي: مادة/فكر، طبيعة/ روح، وصلته بالثنائية للدين التوحيدي: مادة/روح، جسد/ نفس. أي كل هذا الذي يخلط العلم الحقيقي و" العلموية" ، كل هذا الذي يرفض وحدة أو هوية المعرفة النظرية المفهومية وأساسها الفلسفي .
هذا المجموع الذهني مسخّر بشكل طبيعي في خدمة الذاتوية، الإرادوية، المثالية. المثالية الضلال التي يجب أن تدان، مذهب هذيان الهدف، وجنون الإرادة الذاتية على ظهر الواقع، أي منطق الواقع وذاتيته وحياته، هذا الضلال الذي يحذر منه إلياس مرقص وخصوصا من التزم بوجوب تغيير العالم، ويؤكد بأن هذا الخطر يهدد الثوري الماركسي مرتين، فالماركسية تقدم له ( وكثير ما يشاء) كل ما يحتاجه من غطاءات لذاتيته الحميمة ومثاليته الصارخة: " المادبة" "الموضوعية" " القوانين" ، " العلمية" الواقع ينحط إلى " مادة" للتحريك والملاعبة على يد ، على ذات تعتقد أنها مالكة القوانين وحائزة الآلهة . ويصبح عمل الثوري وكأنه مماثل لعمل الإسكافي في حانوته، ولعمل عالم الكيمياء في مختبرة، هذه الماركسية، ماركسية بديلة، ماركسية مضادة، ماركسية المناخ الوضعي. هذه الماركسية كانت موضوع جهاده المستمر، وأعلن الجهاد عليها، وعلى النقيض من إرادويتها وجموحها، ويؤكد أن مفهوم المادة لا يمكن أن يشير إلى مفهوم الواقع، وذلك مهما وسعناها" وأنضجناها مفهوميا" لأن فكرة الواقع، بخلاف مفهوم المادة، تؤشر على منطق، على تاريخ ليس هو فكرة" الحركة" ، وبالتالي العمل الثوري ليس " موضوع" مادة. بل مجتمع وعالم، هذا الموضوع ذات وحياة وعقل، فالعالم له منطق، منطقه هو،" فكرة مكر العقل" الله" مفتاح فلسفة التاريخ الهيغلية وهو العاصم المبدئي عن الذاتوية و الإرادوية، المطلق لا ينحل في نسبيات التاريخ، في" أحزاب" البشر وغاياتهم، ثمة نفي أو سلب، فالمطلق والنسبي ليسا شيئين، لا النسبي شيء ولا المطلق عفريت، المطلق والنسبي مفهومان وحدّان، المطلق حد، يحد النسبي، ومن ليس عنده المطلق يحول نسبيه إلى مطلق، وهذه صورة من صور الاستبداد الأكثر تطرفا، وتعبير صارخ عن ذاتوية وإرادوية تنسى غدر الزمان ومكره، وهذه صورة معبره تماما عن المناخ الفكري العربي الذي يمتلك الحق والحقيقة، والآخر يمتلك الشر والضلال، وهذا يؤسس لاستبداد السياسة وصمت الشعوب.
ومن أجل هذه القضية، التي هي قضية تاريخنا الأخير والراهن، يؤكد إلياس مرقص، بأنه على المثقف أن ينتقل من "عنصر" وضعانيته الفلسفية إلى عنصر الجدل، وإذا كان ثمة " تعريف" أول يجب أن يعطى عن الجدل، فهو جهاد المعرفة، الذي يوازيه_ في الدين- جهاد النفس، الإيمان/ التصوف، فليس ثمة مستوى فكري-ذهني إلا وهو مرتكز في " اللاوعي" على مستوى روحي – نفسي. هذا الانتقال، أساس من أجل إنجاز مشروع لتجاوز واقع التأخر والفوات. أي أن هناك تعارضا أوليا يجب أن يوعى من مناخين ومذهبين وموقفين هما: الوتر المحبب لدى الوعي العربي السائد الذي يلتقي بالواقعية في الأدب، والحيادية، والانتهازية في السياسة، والعدمية في الأخلاق والتبرير على المستوى الفكري. ونتيجة لغياب الجدل( الديالكتيك) عن اعتماله في الوعي العربي يساهم، هذا الغياب، في شدّ الوعي _ الوعي السائد- إلى المذهب الوضعي والاستمرار في سياديته وسيادة التأخر والشقاء، وعندما يؤكد إلياس مرقص على ضرورة الانتقال الآنف الذكر يعي تماما بأنه لا يمكن القيام بعمل تاريخي، راهن، وواجب، إلا على أساس الانتقال إلى الجدل، لذلك يكثف إلياس مرقص التعارضات الموجودة بين المذهبين: 1- المذهب الوضعي بحكم العنوان، المذهب الإيجابي ( الواقعي، الفعلي)، المفيد( النافع) ، الأكيد ( اليقيني ) الواضح( الدقيق، المضبوط) ، أما الجدل بحكم التعريف، هو جدل النفي، السلب، وثوريته، هذه هي ثورية الواقع، قبل الأيديولوجيات، وهي ثورية هيغل، سبينوزا، هيوم، ماركس...والاقدمين، فالجدل هو الفكر والعقل والمعرفة، صفة" الإنسان العاقل والصانع" قبل أن يكون اختراعا من هيغل وماركس أو هيراقليطس وأرسطو، وسلسلة لا حصر لها من الفلاسفة على امتداد ثلاثة آلاف من السنين. في المنهج الجدلي، الكون( العالم المادي، عالم الأشياء: الطبيعة، المجتمع، وأيضا الفكر) مترابط وليس تراكما لظواهر عرضية.. وهو في حركة، تغير، صيرورة،هذه الحركة ليست حركة تكرارية بل هي تطور، نمو، تقدم( التكرار جزء، وجه.. التراجع، الانتكاس، جزء ، وجه) . التغيير كميا وكيفيا. إذن يولد جديد ويموت قديم، هناك قفزات تقطع التطور التدرج( ترتبط به، تنبع منه)، هناك انقطاعات في التواصل، كل شيء نسبي، متغير( إذن تجريد الحركة مطلق) ومنبع هذه الحركة، الصيرورة دافعها، محركه هو صراع الضدين، التناقض، أي كل شيء يحيل في ذاته إلى نفيه، سلبه، هذا السلبي هو أيضا إيجابي، النافي واضح، أي ما يتناقض لا ينحل في الصفر، إلى عدم مجرد، بل هو جوهريا إلى نفي محتواه الخاص، أي النتيجة تحتوي جوهريا على الذي نتج عنه، ولكن أعلى أغنى، لأنه اغتنى بنفيه. هذا هو النفي المدمر- المنشئ الذي فيه الخلق، العصب المحرك للواقع( وللمعرفة). فالديالكتيك هو جبر ( علم جبرالثورة)( لينين) . هذه اللحظة الخالقة، المحركة، تتحول في الوعي العربي إلى لحظة استبداد وإقصاء، وطرد، والماركسية عندنا أسقطت النفي واكتفت بفكرة " التناقض" الذي انخفض إلى فكرة " الصراع" أو المكاونة" أو " التكاون" ومرقص يرفع اللواء بأنه لا جدوى في " تكاون" غير مؤسس على" تكون".
2- التاريخية الكونتية والسبنسرية والستالينية، هي فكرة التقدم الخطي، من الحالة اللاهوتية إلى الحالة الميتافيزيقية، وأخيرا لحالة الوضعية الإيجابية ( مذهب كونت) والفكر البرجوازي الغالب المرتبط بالفلسفة الوضعية، والنظرة الفيللوجية، يدرس التاريخ وكأنه محكوم بفكرة التقدم المستمر في اتجاه محدد، وثابت، ومعروف سلفا. وأن المجتمع البرجوازي- بمعنى ما- هو المجتمع الطبقي الأزلي نافيا صفته التاريخية. وبسبب من نزعته الوضعوية العلموية يستبعد عند قراءته التاريخ الجانب غير المكتوب، وغير الحضري، وغير النخبوي للحياة الاجتماعية والثقافية، واحتقاره لدور الخيال والمخيال أو الأسطورة- بالمعنى الأنتربولوجي للكلمة – في صنع التاريخ، والفعل في ميوله. وحتى الوعي الماركسي السائد، والمساجل ضد الفكر البرجوازي، ركز جهده ضد أن يكون المجتمع البرجوازي هو المجتمع الطبقي الأزلي باسم التاريخية، وذلك بما يتناسب وأهدافه ومشاريعه. ولم يهتم تماما بالفهم الخطي للتاريخ. فتبناه شكلا وغير محتواه . ( تتطور البشريه عند الستالينستية ) ونتيجة لعلاقة الفكر العربي بهذا المناخ ، ومن موقع التبعية والاشترار لمقولات المنهج الوضعي التعسفية التي تساهم في اغتيال منطق وعقل الواقع لم تتجاوز نظرته للتاريخ الفهم الوضعي له. فعند ماركس لا يوجد تاريخ إلا لأنه يوجد منطق. الجدل عند مرقص كما عند ماركس ( هيغل – لينين) شكل ، تشكل، تغير أشكال، تشكيله، انحلال أشكال وتشكيلات، وحلول غيرها محلها،تعاقب- في الزمان ، " التاريخ تنويعة على الأشكال". مع تطور دائري وفكرة الدائرة ، والدوران ، ونفي النفي، وهذا جزء من فكرة المنطق ذاتها." فمادية" فلسفية بلا الدائرة: هذا هراء، " جدلية " فلسفية بلا الدائرة: هراء، تاريخية تقدم حقيقي بلا " الدائرة" هذا هراء. فالطبيعة دائرة، تاريخها دائرة، وفكرة الثورة كجانب مهم منها تحمل فكرة" الرجوع"إلى بدء . ففكرة الدائرة رئيسية في فكر هيغل، وماركس، وانجلز، ولينين، وهي كمذهب مادي، كمذهب جدلي سواء بسواء، وهي في الأصل فكرة شرقية عامة ولكن أيضا، بعد ذلك يونانية وأوروبية، قديمة ووسيطة وحديثة " ، فالتاريخ دوائر وتقدم، هذا منطقه، والعصر الإيجابي الذي استغنى عن فكرة الدائرة ، عن المنطق، أسس لفكرة" نهاية التاريخ" . 3- من أبرز مواصفات المذهب الوضعي هو كره للمجرد، وهذا الكره يسلطن اليوم في عقل ولغة الفكر العربي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. تحت غطاء الواقعية " والواقعية الثورية" لأن "التجريد" يوضع في خانة اللاواقعي واللاعلمي، أي المبتعد كليا عن الواقع. ولعل الإلهين السيدين في القاموس المانوي للوضعانية هما " الواقع" ( في باب آلهة الخير و النور) و" التجريد" ( في باب آلهة الشر والظلام)، فيصبح المبدأ الأساسي لكل فكر يعي نفسه كفكر، بأن كل الكلمات هي مجردات وكليات في ساحة اللامفكر فيه، ويصبحون بعيدين عن فهم عملية التجريد، والتجرد التي هي لب التقدم البشري ، فبدونها لا عمق ، لا كونية. وإلياس مرقص يستعرض هذا اللحن، بأن الإنسان القديم ، في الثورة النيوليتية، جرد وتجرد، استوعى وتوجدن،حسب وهندس وجبر، فصل المنفعه والواقع والعمل والمعرفة إلى مباشر وغير مباشر، الإنسان العاقل والصانع رياضي، جابر وحاسب ومهندس، هذه هي القاعدة، الأس لكل بسط ولكل تاريخ.فقد يتراءى للوهلة الأولى، بأننا عند التجريد، نبتعد عن الموضوعات والظواهر. أما في حقيقة الأمر ، فإن هذا المدخل يسمح، بالتعمق في سبر أغوارها، فالتجريد يتيح فرز مؤثرات الموضوع الجوهرية الرئيسية ورصدها في صورها" البحته" ، بالتجرد عن شتى التأثيرات الثانوية، فنقف بذلك على قانونيات تطور الموضوع ونستعيده في كامل كليته وعيانيته، أي أننا لا نستطيع الاستغناء عن الأفكار( التجريد) من أجل ترجمة الواقع: فنحن نحتاج من أجل بلوغ المشخص إلى المرور بتجريد الفكرة ، ولكن لنحذر فالفكرة التي تصلنا بالواقع هي في الوقت نفسه ما يمنعنا من الاتصال به. فمبدأ الجدل هو العمل الواعي بالمفاهيم، هذا هو الاشتراط الفلسفي الأول . وعلم المنطق( حسب هيغل ولينين) ينطلق من مفاهيم مجردة كلية مستهدفة في نهاية المسير، الواقع كجملة عيانية ، لينين يقول: إن التجريد، حين يكون جديا ، فلسفيا، علميا، هو اقتراب من الواقع وليس ابتعاد عنه. فحسب الجدل: المقولة لا تقوم إلا بنقيضها الديالكتي، فالعام لا يقوم إلا بالخاص والفردي ، والكلي لا يوجد إلا بالجزئي ، والمطلق لا يوجد إلا بالنسبي، والمجرد لا يكون إلا بالمشخص . 4- الوضعية ضد الفلسفة: كان الجواب على المسألة الفلسفية الأساسية هو العامل الأول في انقسام الفلسفة إلى تيارين رئيسيين، بين أن تعطي الأولوية للطبيعة، للمادة، للفيزياء، للعلم الخارجي، وأن يعتبر الشعور والذهن والإحساس والنفس...إلخ العنصر الثانوي، أما الوضعيون فهم يصورون كافة المشكلات الفلسفية التي اشتغلت بها الفلسفة على مر القرون( بما فيها مسألة علاقة الفكر بالوجود) مشكلات مختلفة وعقيمة، فعلى الفلسفة ، في رأيهم، ألا تخرج عن إطار المعرفة الإيجابية" الوضعية" ، عن إطار معطيات العلم التجريبية، وهذه المحاولة حماقة " للارتقاء فوق" المادية والمثالية و التعالي على هذا التعارض" الباطل" وإيجاد " خط ثالث" في الفلسفة، فهم في الفلسفة كما يقول لينين" حزب الوسط الحقير الذي يخلط في كل مسألة بين الاتجاهين المادي و المثالي، وليست محاولة التخلص من هذين التيارين الأساسيين في الفلسفة سوى" تدجين توفيقي". فرغم موقفها الرافض للفلسفة ولمصطلح "فلسفة" نفسه ، إلا أنها استعملت وطرحت نفسها كفلسفة( وضعوية أو إيجابية) بوضوح وقوة، وأعلنت نفسها فلسفة علمية ضد اللاهوت وضد الميتافيزيقيا، الماورائية الغيبية، وتبنت شعار نيوتن: " أيتها الفيزياء أحذري الميتافيزيقيا" ولملمت مواد فلسفتها وآليات مذهبها من كتب التعليم المدرسي ، ولنقل من الرخص في الفلسفة، وتصورت أنها ترتقي بمصادر الفلسفة ( التجريبية العظمى و العقلانية وهيوم وسان سيمون) إلى المستوى العلمي، وكان هذا سقوطا من عل وخصيا لهذه لمصادر العظيمة، وأطاحت في رأسها بالفلسفة وبالعلوم. والعلم بالنسبة لها معني فقط بوصف الروابط الخارجية بين الظواهر، والكشف عن التشابه الخارجي بينها، وعن تسلسلها. وبدأت بإصدار النواهي والتحريمات على المعرفة العلمية بوضعها في الميتافيزيقيا، المعنية هي بنقدها والعمل من موقع النقيض، فطردت فكرة السببية والعلية والتعليل، واعتبرتها فكرة قديمة، بالية ميتافيزيقية ولا علمية،علم البيولوجيا يجب أن لا يتعدى الأنسجة والأعضاء، الخلية تجريد ميتافيزيقي. معرفة بنية المادة ميتافيزيقيا،، محاولة معرفة العناصر ( بمعنى علم الكيمياء) التي تتألف منها الكواكب والنجوم ميتافيزيقيا، علم السوسيولوجيا يجب أن لا يتعدى العائلة، طرد دراسة أصل أو منشأ المجتمعات، حساب الاحتمالات وتحليل النهايات الصغرى ميتافيزيقيا، تطبيق الرياضيات في البيولوجيا ميتافيزيقيا....إلخ كل هذا رجم في الغيب ، ومحال وعبث، لأنه يناقض ويثقب " العقل السليم" العلمي،وبما أن العلم المباشر موضوعا بوصفه محك الحقيقة، فستكون الأعمال الأكثر ظلما والأكثر لا أخلاقية مبررة، وتمنح الخصوصي وجودا مطلقا ومستقلا،تفهمه على أنه ليس ذا علاقة إلا مع نفسه، فتقيم الخصوصي ضد الكلي والمفرد بآن معا وبالتلازم، وإن الوعي في هذا اليقين ليس سوى الأنا( Moi ) المحض، بمفردات أخرى أنا ( Je ) أنا هنا كمحض هذا، والموضوع ليس إلا محض ذاك، أي معرفة دون توسط( فكر، لغة) أي يفصل العنصر المباشر والعنصر الوسيط في المعرفة، ويحمل كلا منها وجودا مستقلا ومطلقا، فينكشف هذا اليقين بوصفه الأكثر تجريا والأكثر فقرا.
عند ماركس، العقل ضد المباشر، العقل توسط، ليس هناك معرفة دون توسط ، والحقيقة دائما تكمن في ما وراء المحسوس والمباشر. هذا منطق ومسار التاريخ. وإن كل مذهب لا يرتكز على هذا المبدأ هو مذهب أحمق. الذرة، القية، سرعة الضء...كلها في الماوراء. بتعبير آخر: "الطبيعة" " الواقع" " الموجود" " الكائن" ...إلخ هذا- كل منه- ينشطر حتما إلى اثنين بتعبير مرقص: الظاهر وما وراء الظاهر، هذا الشطر هو الفكر، الجدل الساعي والجاهد لمعرفة الواقع والحقيقة. إنه قوام كل معرفة بشرية وبشكل خاص المعرفة العلمية. فيقول مرقص: " العقل عقلان، عقل قوامه الجوهري الفكرة الاحتمالية واللامتناهية مع سيغما وإبسيلون. وعقل بدون هاتين الفكرتين، عقل قوامه ضدّهما، عقل كامل وتام ن أشياء وأعداد إيجابية ومحاكمات إيجابية، هذا العقل، لا عقل، هو لا يصلح اليوم حتى للحياة العملية اليومية". فالعملية الفلسفية الفكرية، تباعد، تفصل، تكبر، تكبر الهوّة، بين الوجود المادي المتخلف والتباين والفكر الذي يريد معرفة الوجود، أي فتحه، ( فليس من باب الصدفة أن جميع العلماء الفاتحين هم بمعنى ما فلاسفة). وتقيم " المطلق أساس للنسبي" " المطلق عنصر الفلسفة مثلما الماء عنصر السمك" و "الله أساسا للعالم" بلغة الدين ، إذا البداية لتحسين العلم، يجب مغادرة يابسة الوضعانية. هذا ليس معناه لا للموقف الوضعي أو الإيجابي كما يؤكد مرقص ، بل معناه أن الموقف الوضعي له أساس خارج ذاته، له موقع كبير و" طويل إلى ما لا نهاية" لكن بين حدين قطبيين، ولا يجوز أن يتحول إلى مذهب، لا يجب أن يكون فلسفة، لا يجوز أن يكون مذهبا وعقيدة ودينا يتصور نفسه عاصما وواقيا ضد الشمولية والتوتارية، ويجهل توتاريته هو،والجدل هو مذهب إقامة الحدّ، المبدأ، على هذه التوتارية الخاصة والعامة، سواء بسواء.
5- الانتقال من الليبرالية إلى الديمقراطية :
الليبرالية كتصور للسياسة والإنسانية ألهمت كثيرا من الحركات السياسية في أوروبا والبلدان المتأثرة بالثقافة الأوروبية خلال القرون الأربع الأخيرة، ونظرا لسيادتها في السياسة الغربية، بدا من المستحيل أحيانا تعريفها ومقاربتها كمنظومة معرفية دن معاينتها بالحضارة الأوروبية في كليتها، والتي يمكن أن نلاحظ عناصر منها عند الفلاسفة السابقين كسقراط ، وديمقريطس أو لوكريس، ولكن " ليبراليتهم" ليست الليبرالية بالمعنى الحديث للمصطلح، حيث اتخذ تصورا متنوعة، خلال التاريخ وحسب الأمكنة، وبموجب الظروف.ففي العالم العربي وفدت الليبرالية مع التغلغل الغربي السياسي والثقافي على حد سوا، وشهد بذلك الواقع نشأة ثلاث مدارس أساسية " تتبنى" الفكر الليبرالي والقيم الغربية، في رؤيته، وبأن تجاوز التخلف والوصول إلى مصاف أوروبا الواصلة والغازية والقوية، هو بالانفتاح على كل التأثيرات الخارجية القادمة مع الرياح الشمالية. أولا: مدرسة العلمانية الإسلامية وهي المدرسة التي تبنت شعاري " التحديث" و" العلمنة" وتبلورت حولها مصطلحات " المسلمون العلمانيون" أو " العلمانية الإسلامية". ثانيا: المدرسة المنادية" بالتغريب" و " العلمنة" والرافضة لروح التوفيق الإسلامي، وفي اتجاه أكثر جذرية من الاتجاه الأول. ثالثا: المدرسة القومية الداعية إلى القومية العربية والوحدة العربية. فرغم الاختلافات إلى حد ما بالرؤى والمضمون الأيديولوجي إلا أنها تتقارب في مطلب تجاوز الحال المتأخرة. وهي ذات منهجية واحدة في طرح متشابك الحلقات، وذلك بالتقدم والاستقلال والوحدة العربية" التلقائي والحتمي" إذا ما خطى خطوات أوروبا الواصلة. وهذا يؤكد بأنهم لم يستطيعوا استيعاب " الطابع التاريخي" للمنهج الليبرالي نفسه وبالتالي فهم الطابع التاريخي للتجربة الأوروبية ، وهذه إشكالية معرفية قبل أن تكون إشكالية " "أيديولوجية"، فأوروبا حين كانت تنهض بمشروعها الحضاري ، لم تكن هناك قوى خارجية تعيق هذا المشروع، على العكس ، احتاجت أوروبا نفسها إلى أن تكون قوة قامعة ومعوقة لشعوب الأطراف، كي ينجح مشروعها الحضاري بقيمه الليبرالية. فأوروبا الاستعمار ، الاحتكار، النهب، العسكر، الاقتصاد المستقطب، الخلاعة، خيانة المبادئ، والقيم التي قامت عليه الثورة الأوروبية، المبنية على أساس فلسفة الأنوار ( الحرية، الإخاء، المساواة) وابتعاد أوروبا تنظيميا عن لب المذهب الليبرالي، وفكريا في ثورة ضد أصول المذهب ذاته... من هنا كانت الازدواجية الليبرالية السمة البارزة في الغرب. فمنذ البداية كانت تحارب على اتجاهين، حيث مثلت مصالح البرجوازية التجارية والصناعية وصراعها ضد الحكم المطلق ومؤسساته التقليدية، كما حاولت الحد من أي مطالب ديمقراطية واسعة النطاق بعيدة المدى، من جانب الراديكالية البرجوازية الصغيرة "وجماهير العوام". من هنا يفترض التمييز بين الليبرالية كمضمون، وينوه بها ماركس وهي فلسفة القرن الثامن عشر، والليبرالية كنظرية وكمنهج فكري سياسي، والتي أصبحت عقبة في وجه الطبقات والشعوب المستبعدة وتحولها إلى نظرية تبريرية في القرن التاسع عشر والعشرين، الواعية بأسسها المنهجية. وتحاول البرجوازية العالمية تصدير هذه الأيديولوجية تحت مبدأ لا ثقافة برجوازية من دون طبقة برجوازية، ولا يمكن تعميم الثقافة البرجوازية إلا بتعميم نمط الإنسان البرجوازي. وهذا يساهم بصد أبواب المستقبل أمام الشعوب المضطهدة، ويطالبها بالتأني والخضوع للقوانين الحديدية، ورغم ادعاء الأيديولوجية الليبرالية القائمة بالفعل بأنها عالمية الآفاق بتناسبها مع عالمية النظام الاقتصادي والسياسي الذي تقوم عليه، إلا أن الأسس التي تقوم عليه تساهم في إعادة إنتاج الاستقطاب وتعميقه بكافة أشكاله، وفي تمويه الاستلاب الاقتصادي . أي أن التغييرات التي عرفتها الرأسمالية، رافقتها في بناها الفوقية دون أن تتخلى عن جوهر بنيتها، كما كشفها ماركس، وإن الطرح الليبرالي الدارج يقوم على ثلاث مسلمات بحسب سير أمين . المسلمة الأولى: أن السوق يعبر عن عقلانية اقتصادية بذاتها تقع خارج أي إطار اجتماعي محدد . وهذه المسلمة الخاطئة ليست إلا التعبير عن الاستلاب اقتصادي الذي يشكل جوهر ومضمون المشروعية الأيديولوجية للرأسمالية، فالبطالة والاستقطاب الملازم للتطور العالمي، والهدر البيئي، هي مظاهر عن لا عقلانية ، هذا النظام الرأسمالي القائم بالفعل هذه الظاهرة السلبية إذا هي فعلا نتائج ضرورية " للسوق" ، وبالتالي فإن " عقلانية السوق" تعيد إنتاج " لا عقلانية النظام الاجتماعي على الدوام". المسلمة الثانية: الطبيعة القابلة للتبدل في العلاقة رأسمالية= ديمقراطية، وديمقراطية= رأسمالية. وهنا نجد أنفسنا أمام خديعة مكشوفة، فتاريخيا الديمقراطية الغربية كانت مقتصرة على الحقل السياسي بحدود ما، في حين أن الإدارة الاقتصادية تبقى قائمة على مبادئ لا ديمقراطية، مبادئ الملكية الخاصة والتنافس. أي أن نمط الإنتاج الرأسمالي لا يطلب الديمقراطية بذاته، حتى ولو أن القمع الذي يحدده قد أصبح مقنّعا بالاستلاب الاقتصادي الذي يعيش في المجتمع كله. المسلمة الثالثة: إن انفتاح النظام العالمي ، يشكل تضييقا ولكنه تضييق لا مفر منه، وهذا الشرط الضروري لأي "تقدم"، والافتراض النظري المستتر هنا هو أن أي "تطور" بالأساس مرتبط بالتكيفات الداخلية، والخاصة بكل مجتمع، لأن الاندماج في الاقتصاد العالمي بوصفه عالما مؤاتيا مفترضا. وهذه الأطروحة يكذبها تاريخ خمسة قرون من التوسع الرأسمالي. بالإضافة إلى تقديمها مذهبا عالميا"مبتورا"، فـ " الليبرالية" تدعو إلى تحرير التبادل التجاري، وحركة رؤوس الأموال، لا تجرؤ على فتح أبواب هجرة العمل على مصرعيها. فتظل إذا " ليبرالية مبتورة أصلا" وعاجزة- لهذا السبب بالتحيد- عن تحقيق الهدف الذي تعلنه، لأن قانون القيمة العالمي الذي يعمل في هذه الشروط لا يمكنه إلا أن ينتج ويعيد إنتاج الاستقطاب، أي التناقض بين المركز والأطراف، الذي يخلق بدوره استقطابا اجتماعيا داخليا يتمظهر في ظواهر عديدة، مثل التفاوت المتزايد في توزيع الدخل والتهميش الاجتماعي وأزمة الديمقراطية، ويكون الشعور العام باستفحال اللاعدل شعورا مطابقا للواقع.
ففي وضعية التبعية كيف ما كان نوعه، ينتج تطور عكسي، وتقهقر قطاعي في المجتمع، حيث يتقدم أو يتغير بعض قطاعاته، في حين أن قطاعات أخرى لا تبقى على حالها كما يتبادر إلى ذهن المرء ، بل ترجع عضويا وضروريا إلى مراحل تخطتها في الماضي ، ويتحول إلى مجتمع مشتت في ذاته، مقطوعة فيه علائق التسبب، فالقاعدة الاقتصادية تتوزع إلى مجالات متفاوتة والفئات الاجتماعية ترتبط بقواعد اقتصادية مختلفة، والأيديولوجيا تنتمي إلى أصول تاريخية متنافرة. فالأيديولوجيا تكون متأخرة بالنسبة للهيئة الاجتماعية، وهذه تكون متأخرة بالنسبة للقاعدة الاقتصادية، لأن في ظل النظام الرأس مالي يكون التفاوت بين قاعدة المجتمع المسيطر، وقاعدة المجتمع المسيطر عليه، مضاعفا في الميدان المجتمعي، ومضاعفا بشكل أكثر في المجال الأيديولوجي. فالتحديثة والتقليدية ليستا إلا ركنا من أركان هذا النظام القائم اجتماعيا على التفاوت واللامساواة، ويعكس في الفكر العربي، بالدرجة الأولى، الاختلاف بين سلطتين مرجعيتين، بين زمنين ثقافيين، وبين حقلين أيديولوجيين لا شيء يربط بينهما، فالسلفي يفكر داخل الحقل الأيديولوجي العربي الإسلامي القديم وضمن إشكاليته، والليبرالي العربي( والماركسي العربي) يفكر داخل حقل معرفي أيديولوجي أوروبي وضمن إشكاليته، إذن، فالصراع بين السلفية والليبرالية أو بينهما وبين الماركسية في الساحة العربية يجب أن ينظر إليه أولا وقبل كل شيء على أنه نتيجة عدم وجود سلطة معرفية واحدة، ويبقى النموذج السلف، سواء أكان التراث، أو الفكر المعاصر أو شيئا منهما، حينما يتخذ أصلا سلفا يصبح سلطة مرجعية ضاغطة قاهرة تحتوي الذات احتواء يفقدها شخصيتها، ويتحول خطابها إلى خطاب وعي مستلب. من هنا يبقى الخطاب العربي السائد، خطاب انتقائي، توفيقي، متناقض، محكوم ب"سلف" والانتقائية تؤبد التأخر الأيديولوجي، رمز سيطرة آخذة في التوطد وباتجاه عكسي، إن الهيمنة التي تخلق التأخر تؤيد الانتقائية. ولا تنجو الماركسية من هذا القانون: " قانون جبر في الثورة، يصبح حسابيا في الركود". فقسم من الفكر العربي الحالي، يقيم وثنية أصالة، وقسم يقيم وثنية حداثة، فكلاهما وثنية وكلاهما نفي للإنسان. وهذا ضمان لاستمرار الفكر التقليدي، لأنه عنوان استمرار قطاع تقليدي متقلب، وهذا يخول البرجوازية الصغيرة التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى كمبرادورية لكي تلعب دور القيادة في الثقافة وفي السياسة ، والتي تعمل بعد ذلك على تعميق الازدواجية في سياستها التعليمية، لإنتاج العناصر الأكثر استعدادا هنا لخيانة الشعب وللانتهازية بالتكيف مع العصر الرأسمالي، وتعتبر نفسها في خدمة " الدولة " ( أيا كانت تلك الدولة) أي في خدمة النخبة السياسية، التي يتسع نفوذها من خلال تحكمها بالدولة، بواسطة أجهزتها القمعية، وهي لا تعمل على( ولا ترغب في، ولا تهدف إلى، ولا ترى مصلحة لها في ) تغليب الفكر العصري على الفكر التقليدي، وإخراجه من حدود المعمل والمكتب والمتجر إلى ميدان السياسي العام. فسياسيا، الليبرالية هي موقف اعتراف بنخبة، بطبقة، بمثقفين وأحزاب، بدائرة حديثة من مجتمعنا. أي بشكل من أشكال " شعب الله المختار" حديث و" أيديولوجي". وكنخبوية من السهل أن تنقلب هذه الليبرالية إلى فاشستية، وعرقية، عاجزة أمام تدهور الأوضاع وأزمة الفقر المتزايد للغالبية. فالنخبة العربية لم يتجاوز وعيها الديمقراطي حدود الليبرالية البرجوازية البحتة، ومن موقع مجتمع متأخر ومفوت ومستباح. وهذا لا يضعنا في موقع الرافض الكلي للتراث الليبرالي باعتباره مواكبا وحليفا للاستعمار وبالتالي المساهمة مع قطاع كبير من المثقفين العرب في تقوية الجانب التقليدي، وكل ما هو عتيق ونيف في ذهننا وسلوكنا ومجتمعنا، وهنا تكمن مسؤولية المثقف في استمرار التأخر الفكري وبالتالي تخلف السياسة وبالنتيجة المجتمع في بلادنا. والياس مرقص، خلال مسيرته الفكرية، كان في موقع الناقد لكلتا الرؤيتين المعاصرة بإهابها السربوني ، والأصالة بإهابها الأزهري ، واللتان تساهمان معا في استمرار التأخر و التبعية، لذلك أكد بأن الليبرالية التي يفترض تجاوزها بالمفهوم الهيغلي للتجاوز، لها ما لها ، وعليها ما عليها. وأنها مرحلة تاريخية ومنطقية، وهي ليست الشيطان المطلق، الذي يقابله الخير المطلق. ويمكن أن نستعين بياسين الحافظ في إلقاء الضوء على الجوهر الأيديولوجي لليبرالية التي يفترض أن تكون الأساس المنطقي لنقيضها الدياليكيتيكي: الديمقراطية" فهي منظومة الأفكار والقيم والمبادئ التي تكونت في الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وهي تشكل أساس المجتمع الحديث والفكر الحديث. من هنا تعتبر العقلانية الحديثة ممثلة بـ" فلسفة الأنوار" التي جاءت نقيضا مطلقا للتقليد، وبالتالي هي الليبرالية على الصعيد المعرفي ، التي تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة، سواء في الطبيعة أم المجتمع، بواسطة العقل وحده وتحت رقابة التجربة. فكانت على النقيض من الأيديولوجية الوسطوية: فضد فكرة الما وراء ، أكدت على موضوعية الطبيعة، والمادة، ..وضد الوحي والميتافيزيقيا، أكدت على العقلانية والعلم ..وضد الاستبداد، أكدت على الحرية.. وضد حق الفرد وامتصاصه في المجموع أكدت على أولوية الفرد.. وضد الزهد وفكرة الخطيئة أكدت السعادة.أي أنها ابعد وأشمل بكثير من مجرد دعوة إلى حرية المشروع الاقتصادي، بل يمكن القول أن موقفها على الصعيد الاقتصادي ، مجرد تظاهرة فرعية من تظاهرات موقفها الأساسي و الشمولي... فكل هذه المبادئ والقيم ارتدت طابعا مفتوحا دائما للبشرية، ورست في أساس المجتمعات في مختلف أطرها السياسية " . أي أن مشروع البناء الديمقراطي الوطني هو مشروع قهر التأخر التاريخي والانفكاك من أسر الهيمنة الأمبريالية..هذا المشروع يبقى رهنا باستيعاب الليبرالية وتمثل هذا" البعد والأعمق من البرجوازية" من دون المرور بمرحلة ليبرالية، فالديمقراطية هي التجاوز الديالكتيكي لليبرالية لأنها كما يقول مرقص هي الليبرالية + مفهوم الشعب. هذا على النقيض من الوعي العربي السائد ورؤيته التوليتارية الشمولية، التي تعمل على تذويب الفرد في الجماعة، فتلغي فرادته وحريته واستقلاله، وذلك تحت جملة من المقولات والعناوين والعقائد، دينية، وطنية، شعبية، طبقية، ثورية، حزبية، طائفية، عشائرية.........التي هي حرب الهوية ضد الاختلاف، حرب ضد الوجود، حرب نوع من المثالية ساقط ضد الواقع، حيث تقطع الخاص عن العام وتحول خاصها إلى عام ومطلق. لأنه كما يقول مرقص إذا ما ألغينا الأفراد وأكدنا الهوية ( الطبقة، الأمة، الحزب.....إلخ) لن يكون لدينا أي تطور،ولن يكون لدينا سوى" جوهر" وهمي ( للأمة...إلخ) الذي هو انتصار " للفكر" على الواقع،"الدولة" علة المجتمع، الهوية على الاختلاف، القيادة على الحزب والدولة، الفرد القائد على الناس، " السماء" على الأرض. وإذا نكوص إلى ضرب من سديمية قطيعية ، قوامها علاقة الراعي والرعية، السلطان والعبد، سديمية قطيعية ، تقيم الاستبداد الذي ليس سوى لحمة وهمية لوحدة المجتمع والأمة، وإن مجتمع الاستبداد واللحمة والوحدة الوهمية، يعيش وهم الحرية في حرية الوهم، ووهم التقدم بتقدم الوهم. فالمجتمع، قبل كل شي آخر ، هو مجتمع أفراد ، والأمة هي امة الأفراد ، والا لا معنى ولا معقولية ، فالبسط والنمو والتطور لكل 1، أي لكل فرد ، هو شرط أساس في البسط والنمو والتطور والحر للجميع ، المجتمع والأمة يكونان كما يكون أفرادهما ، وإلغاء حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم تحت شعارات ، الاشتراكية الثورة ،الوحدة ، النصر ، إنما هو إلغاء لحرية المجتمع واستقلاله وذاتيته ، والإلغاء ليس إلغاء وجود الأفراد ، بل بهذا الإلغاء ، تلغى العلاقات التي تشكل جوهره وماهيته وتنتج حالة من التناثر الاجتماعي ونزعة الخلاص الفردي والانتهازية والوصولية وتفشي الرشوة والفساد الاجتماعي والخلقي . من هنا فعندما يطرح الياس مرقص مشروع الوحدة الوطنية ، يعتبر الخطوة الأولى باتجاه توقعه هو الاعتراف بوجود التعدد والاختلاف وبـ"أنا" كل مواطن وتمايزها لان فقدان ال"أنا أفكر" هو سبب ضياع ال"نحن" وتبديدها ، حيث يعتبر الأمة وفاقا وتوافقا ،أو معية الأمة موافقة ، وهي لا تفرض شيئا على أفرادها . انتم أحرار في حياتكم ، في إنشاء ما تشاءون من أحزاب معارضة ولكن تحت القانون والحق . وبعد ذلك، وبعد ذلك فقط، توجد أكثرية وأقلية. أي إن مفهوم الأمة عند مرقص مؤسس على مفهوم الديمقراطية بكل منطوياته المعرفية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بما هي حقوق الإنسان ، حقوق المواطن ، نسبية الحقيقة فكرة الأكثرية الانتخابية الحرة التشكلية ، إذا حق الاجتماع وحق تشكل الجماعة بلا لبس ، وهذا لا يستوي إلا بالاعتراف بالاختلاف والمغايرة الذي هو قوام الوجود . فهو جزء اولي وبسيط في التصور الديمقراطي للعالم والسياسي ، ميدان مصائر الناس مع التاريخ ، أي انه ثمة تصور ديمقراطي . فالديمقراطية عند مرقص ، تصور ، فلسفة مذهب نظر طريقة فكر ، احترام للواقع ، للمجتمع ، للناس ، لفهم الناس وعقلهم ومذهبهم . هذا الاحترام شرط المعرفة، والمعرفة شرط النقد والتغيير. أي جدلية العلاقة بين الذات و الموضوع، بين الإنسان العاقل والصانع والمنتج، وعالمه الطبيعي والاجتماعي موضوع العمل والمعرفة، بين الفكر والواقع بتوسط العمل والإنتاج هذا هو ديالكتيك الانتقال من الضرورة العمياء إلى وعيها، أي إلى الحرية. أي أن الديمقراطية هي شكل لممارسة الحرية في المجتمع والدولة. شرط أن لا تتوب عن فكرة الدولة، فكرة السلطة أو الحكم الحسية. فتتصور ضمنيا أو صراحة أن الحرية ضد الدولة و الدولة ضد الحرية، وكأننا" نجهل أن الإنسان أكثر حرية دوما في ظل دولة مع قانون منه في ظل " شريعة الغاب". الحالة الهيمنة التي هي خطر قائم وراهن دوما. نجهل أن من أهم وظائف الدولة والقانون حماية الفرد، المواطن، الرعية، من" الجهور". نجهل أن الجماعة هي جماعة بشرية، أفراد مختلفون وانه من دون ذلك ومن دون هذا الاعتراف الأولي والدائم لا مجال لقيام قانون أو لوجود شورى ولا مجال أن نتصور مجتمعا بشريا أو مدنيا أيضا من دون خلافا وصراعات ونزاعات ، فالدولة حسب هيغل" هي الحد الثالث الأتيقيا والروح، حيث يحصل التوحيد الهائل للاستقلال الذاتي الفردي والماهوية العامة، حق الدولة إذا أعلى من حق الدرجات الأخرى أنه الحرية في شكلها الأكثر عيانية، التي ليست خاضعة إلا لأعلى حقيقة مطلقة للروح الكلي". لا ديمقراطية بلا دولة، ولا ديمقراطية ع اللادولة. لأن اللادولة هي دولة( بالجمع) الفوضى والعف والاستبداد. هي المخلوطة دول، طبقات، طوائف، قبائل، أحزاب...إلخ. ولكن لا دولة ديمقراطية إذا لم تكن أولا " دولة حق " أي هذا يعني أولا سمو القانون، الأساس المنطقي للديمقراطية. المثقف العربي النموذجي لم يفهم هذه القضية في يوم من الأيام، كأنه يريد الديمقراطية لنفسه، ديمقراطية بدون قاعدة جماهرية، بلا " دولة حق وقانون" ، يريد نهضة دون عقل ناهض، وأساسها مجموع الأمة،من هنا يتحدد التمايز في المشروع الديمقراطي البديل الذي أسهم في إرساء أسسه ، إلياس مرقص مع غيره من المفكرين العرب المتمايزين. فالديمقراطية( الليبرالية+ مفهوم الشعب) التي تحذف الليبرالية، تكف عن كونها الديمقراطية، وتتحول إلى ديمقراطية المقاس، شكلية مفقرة، ومخصية، لا تعدو كونها أيديولوجيا تخفي حقيقة الدولة التدخلية والسلطة الأوليغارشية، وتبرر الاستبداد والاستغلال القائمين، وتحفظ على أوضاع التأخر والتبعية القائمين.
5- الانتقال من الأخلاق في خدمة السياسة إلى السياسة في خدمة الأخلاق
شكل البعد الأخلاقي أحد الأبعاد الأكثر حضورا في منظومة إلياس مرقص الفكرية، حيث أخذت تتشكل في مساره الفكري/ الفلسفي ثلاثيته الحاضرة بكثافة في نتاجه/ الفكر- السياسة- الأخلاق/،فللموقف السياسي ركيزة معرفية وأخرى أخلاقية ، وإلا ثمة لعب بمصائر الناس . ففي النظام الرأسمالي يغترب الإنسان عن نفسه، وهو انخلاع يؤدي إلى التشيؤ، لأن الرأسمال والسلعة والعمل المأجور هي التعبير الموضوعي عن علاقات الوجود، التي لايكون الإنسان المنتج والمستهلك فيها" عند ذاته" ( بالمعنى الهيغلي) أو حرا. فالآلة ذات القدرة العجيبة على تقصير زمن العمل الإنساني، وعلى جعله أكثر مردودا،تقود إلى الجوع وفيض العمل ( البطالة). كما أن قوى الملكية تصير بدورها ومن خلال لعبة غريبة للقدر، مصادر للحرمان. وتبدو انتصارات الفن وكأن ثمنها هو خسارة الطباع. إن الإنسانية تصير سيدة في الطبيعة، لكن الإنسان يصبح عبدا للإنسان ، أو عبدا لوضاعته الخاصة( ماركس). لا يكفي قصد التصرف لخير ما من أجل أن يسهم العمل الجاري فيه فعليا، ولكن الأسوأ عندنا يحدد حب الإنسانية " عامة" انعداما متزايدا في الاهتمام بالناس ويسمح باللعب بالآخرين من أجل الأهداف والشعارات التي يفترض أن تكون خيرا بالمطلق ويؤدي إلى أقصى اللاإنسانية. ويأخذ حب الإنسانية الشكل الأكثر استبدادا وقبحا عندما يقوم بالحذف الجسدي لكل الذين يعترضون طريقه. النيات تبرر الأعمال، الغاية تبرر الوسيلة، " الديمقراطية" تبرر الاستبداد، التحرر يبرر السجود.. هذه الصفحة فتحها ميكيافيلي( ق 16، عصر النهضة) في تاريخ الفكر والوعي، وأسس لاستقلال السياسة عن المبادئ، الذي أدى إلى تلوع الضمير، الأخلاق، وطرد الإنسان من دائرة الاهتمام. في العالم العربي هذه الصفحة عي السائدة، في الوعي العربي السائد ( لاسيما السياسي منه) ويتم إعادة قراءتها وإنتاجه بأشكال مختلفة وبلون تفردن المنطقة. فقد استولى المجال السياسي بما هو مجال للسلطة وحسب( وليس مجالا منصبا على جملة العلاقات الاجتماعية) استولى على المجال الأخلاقي الذي غدا ، لهذا السبب، المجال الوحيد المرتبط بجملة العلاقات الاجتماعية، وبالتالي المجال الحقيقي للفرد وللهيئة المجتمعية. السياسة في خدمة الراعي، والرعية مطرودة تجتر شقاءها واستلابها، وهذا مرتكز أساسي في " اللاعقلانية في السياسة العربية" التي قادت إلى الانهيار العربي( فكري-سياسي-مجتمعي-اقتصادي) فالغايات، المبادئ، الأهداف تنسى، تهمل، في حين الوسائل تعمل بالفعل، باتجاه آخر. وبهذا الإهمال للمبادئ والغايات تحولت الوسائل إلى " غايات" جديدة أو تنتج غايات وأهداف تناسبها، وبالتالي قبول لاأخلاقية الوسائل إن كانت تحقق ما تدعيه الغايات العليا التي تهم مصلحة جماع الأمة ( الوحدة العربية، التنمية، الاشتراكية...) والتي يعتقد أنها تستمد أخلاقيتها من صفتها هذه. هذه" الثورية" التي تتلاعب بالبشر، تخدعهم، تستغلهم، تلغي الأخلاق، تحيدها، تنفيها خارج النظر. وهذا – حسب مرقص- ما يتعارض مع أبسط أسس النظر التي تعيد إنتاج " خلق الله" مع الزحف على البطون و" شعب الله المختار" مع مزيد من البطر، لأن الفقر في الفكر والغنى في الأوهام السياسية يسهمان في جر الشعوب إلى المآسي والكوارث، " فطريق جهنم معبدة بالنوايا الحسنة" . فمسألة الثقافة لا يمكن إخلاؤها. الثقافة، الأخلاق، الروح، الثقافة ليست الأيديولوجيا، ولا يحوز السماح لأية أيديولوجيا أن تنوب عن الروح، عن الضمير، عن الوعي، وإلا كان اغتيالا للعقل وللروح وللوجدان، ضميرا ووعيا، وإزاءه الوجود. بالتالي نكون في نظرية المعرفة وهي تعي جذرها الروحي. البشرية" الآن" وصلت إلى مفترق طرق، إما مزيد من الهمجية والبربرية والسقوط، وإما أن يكون الإنسان غاية وهدفا. أي أصبح الظرف ملحا كي تطوى صفحة المآسي والكوارث، صفحة ميكافيلي، وقد التقط مرقص هذا التمفصل التاريخي، العقل، الإنسان، الأخلاق... الأخلاق فوق السياسة، السياسة في خدمة الأخلاق، ولكي ينجح المسعى السياسي، يجب أن يكون أخلاقيا في وسائله كما يكون أخلاقيا في غاياته لكي لا ينفصل عن مكوناته التي هي: المعرفة بحاجات الإنسان وشروط تحرره. " فحسب الواقع: الغاية تصير وسيلة والوسيلة تصير غاية، السياسة ليست مملكة النوايا، ثمة مسار، منطق، سببية، نتوجية، موضوعية،، الوسيلة سبب ينتج نتيجة، ينتج ناتجا لا هدفا وغاية، هذا وهذا وحده مبرر " الفكر ( المعرفة) من وجهة نظر الإنسان والسياسة والتاريخ" ثمة تجانس، فكلاهما – الوسيلة والغاية – من عمل الإنسان . فالغاية تكون معطاة في الوسيلة التي تعززها من جانبها، في الأمر الأخلاقي الطريق تبدأ من الخطوة الأولى، أي يفترض اختيار الوسائل المتفقة مع الغايات، كما يفترض إنضاج الوسائل بطريقة تؤدي إلى نتائج تتفق بدورها مع هذه الغايات. أما شعار " الوحدة ومزيد من التفتت، وديمقراطية ومزيد من السجون" فهذا جدير بالمراجعة، أي أن الياس مرقص في انشغاله بالحيز الأخلاقي يؤكد على التداخل بين الحقول( السياسية، المعرفية، الأخلاقية ) في الحقل الإنساني مهما كانت طبيعته. الأخلاق عند إلياس مرقص هي تكثيف للموقف المعرفي والعملي، وتعبير عنهما على صعيد علاقتهما بقيم وسلوك الفرد في المجتمع. أي يساهم في تشكيل ثقب في مساحة غائيات العلم التي لم يتم التفكير فيها. وهو مارس الطعن والتشكيك بهذه الغايات، على عكس السائد في الساحة العربية، الذي يعطي للعلم قيمة عليا مستقلة بلا غايات وأهداف، ويؤكد بأنه لا حدود للعقل، لا تابو، لا محرم، العلم كلي القدرة. ولكن أيضا العلم يبقى أعمى فيما يتعلق بذاته، إنه لا يفهم أسباب عله ولا نتائجه، فالعلم هو حده القادر على إطعام مليارات الناس، ويحمل أيضا وعودا فاحشة ويزيد من أخطار الإبادة والاستعباد ، منذ الطاقة النووية وحتى المعالجة البيوكيميائية للأدمغة والمورثات. أي أنه لم يعد العلم – الحقيقة الطلقة، العلم- الحل، العلم- المنارة، العلم- الدليل، كما كان في نهاية القرن الماضي، إنه الآن العلم المسألة. فموقف مرقص من هذه المسالة واضح من خلال ربطه بين المعرفة بما هي مسعى نحو الحقيقة الهاربة باستمرار وبين المعيارية الأخلاقية، وذلك تأسيسا لفعل أخلاقي مطابق للعقل، من هنا تعريفه للجدل بأنه " جهاد المعرفة " الذي شرطه " جهاد النفس " ، " الجهاد الأكبر " ضد النفس الأمارة بالسوء . والذي لا يمكن بلوغ هذا الجهاد إلا من خلال منظومة معرفية تقر : إن المطلق فوق النسبي أولا ، والمطلق في النسبي ثانيا" . تكمن ضرورة المطلق بأنه يشكل حدا" للنسبي ، حدا" لجموع النسبي واستبداده وتطرفه لكي لا يؤكد نفسه كمطلق . وهذا جزء من قصة البشرية في القرن العشرين. الله وحده الذي يمكن أن يدمج القول بالفعل " كن فيكون "، هو وحده العالم، العارف، العالي.... أما في ملكوت البشر فهناك سعي نحو المعرفة، نحو التعالي، نحو الحقيقة..... لا أحد يمتلكها، لا أحد معيارا" للوطنية والالتزام بقضايا الأمة.... الخطأ والظلال من مزايا الاشتراط البشري ، هكذا كل البشر ماركس ، سقراط ، هيكل ...... الياس مرقص .... فالله خافض لآلهة البشر في التاريخ والسياسة ، الله فوق أصنامنا . الله الخالق والإنسان صانع العالم ، ويواجه الدنيا بالعمل شرط تحسين العالم . وهذا موقف أخلاقي بامتياز . الإنسان وحده القادر على تخطي الحالة الإستلابية لإنسانيته الحقيقية بجهوده الشخصية ، وهو شرط أقامة مملكة الحرية الإنسانية التي هي في الوقت نفسه مملكة الأخلاق المنفتحة والحرة . هناك علاقة ، لا انفكاك فيها ، بين اتساع مساحة المسؤولية والحرية والأخلاق ، فليس هناك تباين في أتساع مساحة كل من هذه الحقول ، فتضيق بالجملة وتتوسع أيضا" بالجملة . لذلك يكتسب مشروع تجاوز هذا الضيق المخيف في الواقع العربي الشمولية الجذرية .لأنه في زمن الاحتضار تتعمق مظاهر التأخر التاريخي الذي يشكل بنية لها نظامها وعلاقاتها المحلية والدولية، بنية ليست سكونية. إنما يعاد إنتاجها من جديد بما يلائم حاجات الهيمنة الامبريالية وأنظمة الاستبداد في المنطقة ، وتتجلى مظاهر هذه البنية في التأخر الأيديولوجي ، والسياسي، الاقتصادي، الاجتماعي.... والتصدي لبؤس هذا الواقع يتطلب امتلاك وعي كوني ، تاريخي، وعصري، يطابق حاجات التغيير التاريخي، وهذا يتطلب القطيعة المعرفية والمنهجية مع وعي الهزيمة والاستبداد والتأخر، والعمل من أجل هذا المشروع هو عمل في الأساسات وفي الجذور، والعمل في الأساس هنا هو انفتاح على المستقبل. وإلياس مرقص بذهنه القلق ووعيه الموسوعي وجهاده المستمر،" التقط" الراهن وميوله واحتياجاته"التقط" الإشكال وتداخلاته، وعليه توجه إلى الأساس، ومن الأساس من لحظة" الصفر" حامل اللانهاية، من الصحيفة البيضاء" من " أنا أشك ، أنا أفكر". في بناء الوعي الذاتي النقدي المستقل، على أساس العقلانية المستفادة من تطور الفكر الإنساني، للعمل من أجل إعادة تأسيس العقلانية في الفكر العربي، العقلانية القادرة على الذهاب إلى عمق ومنطق وعقل الواقع، منطق مرقص في ذلك وعي الذات من أجل وعي الواقع، واستقلال الوجدان، وجهاد المعرفة، وطرح المسائل، ومحاولة الإجابة عليها، فبدون التجرّد والاستقلال( الذاتية بالمعنى الخلاق) لا يمكن تحقيق الاتصال والاندماج بين الفكر والشعب ... وهو يؤكد أن الفكر لا يصنع التاريخ ولكن ليس من تاريخ ممكن من دون الفكر الذي يعي أنه فكر، وهذه هي بدايته في التأسيس لمعرفة تريد إرشاد عمل راهن، وواجب لتجاوز حال التأخر التاريخي والفوات. وإلا فإن قوى الاستغباء والاستعباد والإفناء ستكون الأسرع في جرنا إلى مزيد من المآسي والكوارث.
المصادر والمراجع :
1. إلياس مرقص: الماركسية في عصرنا دار الطليعة 1969 2. إلياس مرقص: الماركسية والشرق دار الطليعة 1968 3. إلياس مرقص: نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري دار الطليعة 1966 4. إلياس مرقص( رودنسن-توما) في الإمة والمسألة القومية دار الحقيقة 1971 5. إلياس مرقص:المذهب الجدلي والذهب الوضعي 6. إلياس مرقص:العقلانية والتقدم منشورات المجلس القومي للثقافة 1992 7. إلياس مرقص: مجلة الواقع أعداد 1-2-3-4-5 8. إلياس مرقص: " العبودية" ترجمة إلياس مرقص دار الحصاد 1994 9. إلياس مرقص:ترجمة مختارات الجزء1/2 لهيغل دار الطليعة1978 10- عبد الله العروي : الأيديولوجيا العربية العاصرة دار الحقيقة 1970 11- عبد الله العروي :العرب والفكر التاريخي دار الحقيقة 12- عبد الله العروي :أزمة المثقفين العرب 13- عبد الله العروي :ثقافتنا في ضوء التاريخ المركز الثقافي العربي ط2 1988 14-ياسين الحافظ: التجربة التاريخية الفيتنامية دار الطليعة 1976 15- سمير أمين:بعض قضايا للمستقبل دار الفارابي 1990 16- محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي مركز الإنماء العربي 1986 17 – محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة معاصرة مركز الإنماء العربي 1987 18- محمد عابد الجابري: تكوين العل العربي مركز دراسات الوحدة العربية 1986 19-محمد عابد الجابري: نحن والتراث المركز الثقافي العربي1986 20- قاموس الفكر السياسي مجموعة من المختصين ترجمة أنطون حمصي ( ج 1-2 ) منشورات وزارة الثقافة بدمشق 21- إدغار موران: " مقدمات للخروج من القرن العشرين" ترجمة أنطون حمصي منشورات وزارة الثقافة بدمشق 22- إميل برهييه: " تاريخ الفلسفة" 7 أجزاء ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة 1982 23- جاد الكريم الجباعي: " النظام المرابي العالمي( حدود الديمقراطية في النظام العالمي) دار المستقبل 1991 24- جاد الكريم الجباعي: " العقلانية في فكر إلياس مرقص " مجلة قضايا وشهادات العدد( 5 ) 1992 25 ميشيل كيلو: " الأخلاق في منظور إلياس مرقص" مجلة الوحدة العدد 98 لعام 1992 26- جاد الكريم الجباعي: " المثق العربي وتجديد الفكر القومي، المسألة القومية عند إلياس مرقص" مجلة الوحدة العدد 98 لعام 992 27- كمال عبد اللطيف: " تجديد الكتابة الفلسفية العربية في نقد الواقعية " مجلة الوحدة العدد 98 لعام 1992
#نضال_درويش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحوار العربي الكردي
-
من أجل علماني أكثر انفتاحا
-
الرياح تعصف عندما تمر من الفجوات
-
المجتمع المدني بين التهميش و التجييش - الساحة السورية نموذجا
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|