أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مروة التجاني - نجوت لأرسم














المزيد.....

نجوت لأرسم


مروة التجاني

الحوار المتمدن-العدد: 5747 - 2018 / 1 / 4 - 16:38
المحور: الادب والفن
    



الحرب .. لاتترك متسعاً من الوقت لتجميع الذكريات ووداع من نحب بشكلٍ لائق ، تندلع فجأة فتتهدم المنازل ويتعالى الدخان والغبار ويكاد يلامس السماء لكن الأرواح وحدها هي من تصعد عالياً فتتجمع الغيوم فوق المدينة . صدمة الحرب لا تترك متسعاً لجمع بعض أغراض من نحب ، هناك تحت الأنقاض ترقد ساعة أبي ، سلاسل أمي الفضية ، لعبة أختي ، كتاب أخي ، صورة جدي وجدتي وصناديق فارغة إلا من شوقها لأرواح الذين رحلوا سريعاً . الحرب .. سرعان ما تغير وجه المدينة الجميلة وشوارعها النائمة ، بالكاد تمكنت من الخروج بمساعدة الجيران الطيبين ورجال لا أعرفهم ، لم تتمكن الأنقاض من هدم جسدي على الرغم من نحوله وصغر حجمه . وحيداً وقفت أمام المنزل المحطم ، لا دموع ، لا خوف ، فقط قليل من الدماء وكثير من التراب يغطي كامل هيئتي ، كانت منازل المدينة تتساقط كمنزلنا وحشد من الناس يتراكضون في الشوارع والبعض الآخر يحاول إنقاذ ما تبقى من الأرواح والمؤن من تحت المنازل . هكذا أخذت الحرب أسرتي الصغيرة ، أخذت أشيائنا وأغراضنا ، بعثرت صورنا وألعابنا ، أحرقت الهدوء وورد الحديقة ، سرقت الأغاني والليل الدافئ . فاجأتني الحرب وأنا في العاشرة من عمري ، لم أعرف وقتها من يحارب من ؟ بل حاولت الدخول مرة أخرى إلى الأنقاض بحثاً عن ذكرى ، أمل ، حب لم يكتمل ، حالفني الحظ وعثرت على صورة أبي ، كانت الصورة هي الشئ الوحيد الذي تمكنت من إنقاذه وكأن روحي بعثت مرتين للحياة . وحيداً عدت للشارع المسكون بالرعب والحرائق إلى أن سمعت صوت جارتنا يناديني بعنف " فادي .. فادي " ركضت نحوها ، تمسكت بها ، قبلتني والدموع تغطي وجهها ، حدثتها عن صورة أبي فتبسمت وهي التي فقدت تواً أبنائها ، حملتني وسرنا مع آخرين إلى المجهول ، عبر الطرقات وأصوات الصمت بحثنا عن مخرج من المدينة ، هكذا خرجنا دون وداع أو حقائب سفر ، بكل هذا الحزن رحلنا .

الطريق نحو مكان آمن طويل جداً ، لكن الطرق التي فتحتها الحرب كانت سريعة وواسعة حد المحيط فبين يومٍ وليلة عرفت ما اليتم ؟ أدركت في هذا العمر المبكر معنى أن تفقد الأب ، الأم ، أصدقاء الدراسة والوجوه المألوفة . كنت أسير في الطريق مع العشرات مودعاً أرض مولدي ، مدينتي التي حملت ملامحها ، ها أنا ذا أخرج منها يتيماً والبرد يكاد يفتك بي . الحرب تعلمنا ما معنى أن نفقد شيئاً وما قيمة الأشياء ، ليتني تحصلت على صندوق فارغ لأجمع فيه حاجيات أسرتي ، يا الله كم أحتاج صندوقاً للذكرى فأنا لا أثق في ذاكرة صبي في العاشرة من عمره ، الذاكرة لم تكتمل بعد ولاتزال بها كثير من المساحات التي أحتاج إلى ملئها بالصور والحكايات . يطلقون علينا ضحايا الحرب وأنا منذ اللحظات الأولى لم أعتبر نفسي ضحية ، أرفض هذا المسمى ، نحن الناجون ننظر خلفنا إلى حطام المدينة ودماء الأموات تبلل شوارعها . لم يمهلني الوقت لأشكر جارتنا على إعتنائها بي طوال الرحلة الشاقة حيث غادرتنا صوب مدينة أخرى بحثاً عن أقارب لها هناك ومن يومها لم أعرف مصيرها وماذا حلَّ بها . وحيداً ومع العشرات ممن لا أعرفهم وصلنا لأحدى المعسكرات حيث تحصلنا على مأوى وطعام ، ولأني يتيم أقمت مع أسرة في خيمة كانت بالكاد تقينا من البرد والمطر .
الصحفي الأجنبي الذي كان يتجول في المخيم لم يعرف إنه سيكون سبباً في تغيير مصيري ، كان يلتقط الصور ويتحدث مع الناس فكنت مع كثير من الأطفال ننظر إليه بإستغراب إلى أن أقترب منا وسألنا عن الأمنيات ! توالت الإجابات من الأطفال فبعضهم طلب الحلوى وآخرين كثر الطعام ، أما أنا فتمنيت الحصول على ورق وأقلام وعندما سألني الصحفي عن السبب قلت " لأرسم وجه أبي " . علمتنا الحرب أن لا مكان للأحلام لكن أمنيتي تحققت حيث تلقيت في اليوم التالي مباشرة مجموعة من الأوراق وأقلام الرسم الملونة ، منذ ذلك الحين وأنا عاكف على الرسم فيها داخل الخيمة وبعد عدد من المحاولات رسمت وجه أبي كما تخيلته وأذكره وكما حملت الصورة ملامحه ، نجحت في الرسم ومن يومها وأنا الطفل الصغير أدركت طريقي في الحياة . ها أنا ذا بعد سنوات أفتتح معرضاً بعنوان ( نجوت لأرسم ) في مدينة الضباب بعيداً عن ذكرى الحرب والموت ، ومع ذلك لم تحمل أية لوحة الملامح الحقيقية لصورة أبي .



#مروة_التجاني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فنان كازو إيشيغورو
- تيار الرومانتيكية 2
- تيار الرومانتيكية 1
- أن تكتب – مارغريت دوراس
- الرواية الأفريقية .. الكنز المكتوب
- الضحك في السجن
- ريمون كينو كاتباً الهيغلية
- وداعاً ماياكوفسكي
- في اعتزال العالم
- فكر مدام دو ستايل الأدبي
- أيام في الزنزانة
- ديستوفسكي في عيادة فرويد - تشريح المثلية المكبوتة
- كفاح المثلية الجنسية .. شكراً دافنشي
- The Coat
- اختراع العزلة
- كفاح المثلية الجنسية .. شكراً اندرية جيد
- سيمون فايل - فيلسوفة التجذر 2
- سيمون فايل - فيلسوفة التجذر 1
- المثلية الجنسية ليست جريمة
- الغرفة المزدوجة


المزيد.....




- فصل سلاف فواخرجي من نقابة فناني سوريا
- -بيت مال القدس- تقارب موضوع ترسيخ المعرفة بعناصر الثقافة الم ...
- الكوميدي الأميركي نيت بارغاتزي يقدم حفل توزيع جوائز إيمي
- نقابة الفنانين السوريين تشطب سلاف فواخرجي بسبب بشار الاسد!! ...
- -قصص تروى وتروى-.. مهرجان -أفلام السعودية- بدورته الـ11
- مناظرة افتراضية تكشف ما يحرّك حياتنا... الطباعة أم GPS؟
- معرض مسقط للكتاب يراهن على شغف القراءة في مواجهة ارتفاع الحر ...
- علاء مبارك يهاجم ممارسات فنانين مصريين
- وزير الثقافة التركي: يجب تحويل غوبكلي تبه الأثرية إلى علامة ...
- فيلم -استنساخ-.. غياب المنطق والهلع من الذكاء الاصطناعي


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مروة التجاني - نجوت لأرسم