|
الخرافة المسيحية والعقل
طوني سماحة
الحوار المتمدن-العدد: 5729 - 2017 / 12 / 16 - 21:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"هم أغبياء، يعيشون في عالم الخرافة والاساطير، وضعوا العقل جانبا وانصرفوا للإيمان بأوهام وأحلام أقل ما يقال فيها أنها صبيانية. لا يؤمنون بالعلم، لا يريدون أن يروا النور. إنهم مثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمل كيلا ترى الحقيقة". هي ذي عينة مما يطالعنا هنا وهناك من تهكم واستهزاء بالمؤمنين. لست هنا بوارد الدفاع عن الايمان عامة، لكنني سوف أتوقف عند الإيمان المسيحي.
لا يا سادتي، لسنا أغبياء. لدينا عقول تفكر، وفلاسفة تدرس، وأقلام تكتب. إن كان البعض منا قبل الإيمان إثر اختبار روحي عميق، إلا أن البعض الآخر درس التاريخ والجغرافيا والآثار والثقافات والفلسفة ليبني عليها إيمانه. تعرض الايمان المسيحي خلال المائتي سنة الماضيتين لهجمات عنيفة فكرية وعلمية وفلسفية كيما تقوض أركانه، لكنه ما زال ثابتا يملأ احتياجات الكثيرين روحيا وفكريا ونفسيا وما زال علم الدفاعيات (Apologetics) يصد الهجوم ويعرّي الفكر المضاد، حتى أنه في الخمسين السنة الأخيرة انتقل من الدفاع الى الهجوم. وما على القارئ سوى ان يتابع بعض المناظرات، على سبيل المثال مناظرات ريتشارد دوكينغ مع عالم الرياضيات جون لينوكس ((John Lennox أو (الفيلسوف المسيحي وليم كريغ لين (William Lane Craig) ليكتشف ان الايمان المسيحي مبني على المنطق والفكر والبحث.
لا يا سادتي، المؤمن المسيحي ليس غبيا، بل هو ملم بآخر ما توصل اليه العلم ويحلله ويخضعه للفكر والتمحيص. المؤمن المسيحي مطلع على علم الآثار، ومنقب في كتب التاريخ، ودارس للجغرافيا وقارئ للفلسفة، ومحلل للفكر. هو مدرس رياضيات وفيزياء أو شاعر أو مثقف شأنه شأن الآخرين الذين نجد بينهم العالم والمثقف كما الأمي والعامي.
"المؤمن المسيحي غبي كونه يؤمن بأسطورة الخلق". وهل الخلق أسطورة؟ أليس الخلق حقيقة؟ ألسنا نخلق ونبدع كل يوم اختراعا وشعرا وكتابة وفكرا وبناء ونجارة وهندسة؟ ألا يأخذ الانسان مما يجده في الطبيعة من تراب وخشب ومعدن وبترول لينفخ فيها من إبداعه وعبقريته وخياله وفكره وينتج منها بالتالي سيارة وطائرة وبيتا ومدرسة وروبوتا حتى أنه بالتالي يكاد يخلق منها كائنا حيا؟ أيعقل أن يظن عقل متزن أنه بإمكان الخشب والحديد والماء التراب وغيرها أن يتجمع لينتج عنه إبداعا لولا نفحة الابداع التي ينفخها الانسان فهيا؟ أليس من البديهي أن تكون الخليقة نتيجة عمل الخلق؟ أو ليس من البديهي أن يكون للمخلوق خالق؟ كل تلك أسئلة يتعثر عندها الملحد، فتراه يرتمي في أحضان نظرية أرسطو أن الكون أزلي والمادة أزلية. وهنا السقطة الاولى.
يدعي أعداء الايمان أن كل ما يبشرون به مبني على العلم التجريبي. تفضلوا سادتي، إشرحوا لنا كيف يستطيع العلم التجريبي أن يبرهن على أزلية الكون؟ إشرحوا لنا كيفية نشأة الحياة من العدم بناء على العلم التجريبي. تفضلوا إئتونا بالمادة وضعوها تحت المجهر وراقبوها كيما تثبتون لنا نشأة الكون. معظم العلماء اليوم يتجهون للقبول بنظرية الخلق تحت مسمى البيغ بانغ (Big Bang). لكن البيغ بانغ تثبت مقولة الخلق بدل أن تضربها. فبحسب هذه النظرية، في لحظة من الزمن انفجرت كتلة من الطاقة لا تتعدى ربما حجم الذرة وتمددت في لحظات قليلة لتملأ الكون. أليس هذا سادتي خلق؟
"المسيحيون أغبياء لأنهم يؤمنون بأن الله خلق الكون. إن كان الله قد خلق الكون، ترى من خلق الله؟ ومن خلق خالق الله؟ ومن خلق خالق خالق الله؟" سؤال أقل ما يقال فيه أنه ساذج؟ سؤال كان أول من طرحه برتراند راسل (Bertrand Russel 1790-1872 ) وأعاد طرحه الملحدون الجدد ريتشارد دوكينغ وآدم فيليبس وغيرهم. عندما نطرح هذا السؤال نفترض بديهيا ان الخالق خاضع لقوانين عملية الخلق، لكن، وحسب المنطق، على الخالق ان يكون خارج أو فوقه وليس بالضرورة جزأ من مادة الخلق. كما أنه ليس من المطلوب أن يكون البناء في البنّاء أو منه، كذلك لا أستطيع أن أفرض على الخالق أن يكون في الخلق أو منه أو أن يخضع لقوانينه. لذلك عندما قدمت اليهودية وبعدها المسيحية صورة الله للإنسان، وصفته بالأزلي (مزمور 20:2)، الكلي القدرة والمعرفة () والكائن الروحي غير الخاضع لقوانين المادة (يوحنا 4: 24). لا يا سادتي، أن يؤمن الانسان بخالق ليس غباء، بل تفضلوا واشرحوا لنا كيف وجدت المادة من دون خالق وكيف انفجرت الحياة من العدم، على خلاف القوانين الطبيعية التي تفرض ان يكون لكل سبب مسبب ؟
"المسيحي متخلف لأنه يؤمن بالميلاد العذراوي". إن أخذنا الميلاد العذراوي وأخرجناه من إطاره الثقافي واللاهوتي والايماني والتاريخي يكون دون شك خرافة. لكن الميلاد العذراوي منسجم مع تاريخه وثقافته وقيمه وفكره. لم يأت الميلاد العذراوي من فراغ لينافس الايمان الهندوسي او الفارسي او الكنعاني او الاغريقي وغيره، ولا لكي ينقل عنهم أساطيرهم وبطولات آلهتهم. بل هو ابن بيئته، ولد فكرا في المجتع اليهودي: وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: "هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ" (أشعيا 7: 14)، أي ما معناه "الله معنا" (متى 23:1). الميلاد العذراوي يأتي في سياق تاريخي لكي يحكي أجمل قصة سطرتها الاقلام وروتها الكتب: "إنسان ساقط، يتمرغ في أوحال الخطيئة والفشل والعار. إنسان جائع (روحيا)، يتضور جوعا ويموت عطشا. إنسان يدميه الشوك ويسحقه الصخر ويقتله السم. إنسان محبط الى درجة اليأس، يعيش في الظلام. فجأة يشع عليه في العتمة نور. نجم يسطع في الليل (ليل الميلاد وليل البشرية)، يحمل رسالة للرعاة والبسطاء من الناس "المجد لله في العلى وعلى الارض السلام وفي الناس المسرة". رسالة يرفضها هيرودوس وملوك الارض وعظماؤها. رسالة خلاص، خلاص من الخطيئة والدينونة. رسالة انتصار، انتصار على الشر والموت، رسالة قيامة، قيامة من القبر "أين شوكتك يا موت، أين غلبتك يا هاوية؟ (1 كو 55:15). رسالة لا يمكن ان تتحقق إلا بتجسد الله: يصير الله انسانا منا ومثلنا، يجتاز رحلة الموت والشقاء والدموع عنا لينقلنا الى البر والسلام والحياة. إن كان الانسان المعاصر يشكك بالميلاد العذراوي، إلا أن الطب على عتبة تحقيقه إن صحت توقعات الاطباء. قرأت مرة أن الطب سوف يمكنه بالمستقبل استنساخ الانسان من خلاياه ونجح الى حد ما كما كان الحال مع النعجة دولي. وأذكر هنا، أنا كنا في غداء عمل، وتبجحت زميلتي المثلية أن النساء بعد اليوم لم يعدن بحاجة للرجل للحمل مع تطور الاساليب العلمية. سادتي، إن كان الانسان يستطيع بتقدمه العلمي ان يحقق ميلادا عذراويا، فما بالك بالله إن كان الله موجودا (والعقل والمنطق يقولان لي ان الله موجود)
"المؤمن المسيحي غبي لأنه يؤمن بالمعجزات. هو يؤمن ان المسيح أقام الموتى وشفى المرضى وكثر الخبز". نعم سادتي، نحن نؤمن المعجزات. وجودي معجزة. تحول نطفة في رحم الام الى رضيع معجزة، إن لم تكن معجزة المعجزات. موت بذرة في الارض وتحولها الى نبتة معجزة. نوم الشجرة في الشتاء ويقظتها في الربيع كيما تثمر معجزة. حياتنا بتفاصيلها اليومية مجموعة من المعجزات التي تتكرر كل يوم، لكن لماذا لا نؤمن بها أنها معجزات؟ لأننا وببساطة شديدة اعتدنا على رؤيتها تتكرر أمامنا يوميا. لذلك لم نعد نرى ما يبدعه الانسان المعاصر على انه معجزات.
لا يا سادتي، لسنا مؤمنين بخرافات. لسنا نأتي بأساطير كيما نرددها. نحن نبحث شأننا شأنكم، نقارن، نحلل، ندرس، نفكر. لكن الفرق بيننا وبينكم أننا لا نرى الامور من الزاوية التي تنظرون منها. إيماننا عاقل، يبني، يشفي الانسان من داء الخطيئة، يشبعه روحيا، يصالحه مع ذاته ومع خالقه، يعطيه أملا وقيامة، يعطيه فرحا، يعطي حياته معنى وهدفا. فالحياة للمؤمن المسيحي ليست مجرد وجود عشوائي غير عاقل او هادف. الحياة للمسيحي تبدأ بالحب وتنتهي بالحب.
#طوني_سماحة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على خطى يسوع-12- الأعمى
-
على خطى يسوع-11- من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر أولا
-
شبهة وردود 3- المسيح الارهابي
-
على خطى يسوع-10- الرغيف
-
على خطى يسوع-9- أسكت أيها البحر، إهدئي أيتها ا لريح
-
سارق الحساء
-
شحاذ سجائر
-
على خطى يسوع-8- إنه سبت آخر
-
على خطى يسوع-7- هل يصير الحجر خبزا؟
-
على خطى يسوع-6- نؤمن أن لا إله إلا السبت
-
عذرا أيها الحب
-
على خطى يسوع-5- الابرص
-
على خطى يسوع-4- أبانا الذي في السماوات
-
في التربية والتعليم-1- مقدمة
-
على خطى يسوع-3- من هو يسوع؟
-
وكما كان في الميلاد الأول كذلك يكون في الميلاد الثاني
-
على خطى يسوع 2- موعظة على الجبل
-
على خطى يسوع 1- في البدء كان الكلمة
-
إنها الحياة-12- شكر في عيد الشكر
-
إنها الحياة-11- لا، لا ترحل يا والدي
المزيد.....
-
استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان
...
-
حماس والجهاد الاسلامي تشيدان بالقصف الصاروخي اليمني ضد كيان
...
-
المرجعية الدينية العليا تقوم بمساعدة النازحين السوريين
-
حرس الثورة الاسلامية يفكك خلية تكفيرية بمحافظة كرمانشاه غرب
...
-
ماما جابت بيبي ياولاد تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر
...
-
ماما جابت بيبي..سلي أطفالك استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
سلطات غواتيمالا تقتحم مجمع طائفة يهودية متطرفة وتحرر محتجزين
...
-
قد تعيد كتابة التاريخ المسيحي بأوروبا.. اكتشاف تميمة فضية وم
...
-
مصر.. مفتي الجمهورية يحذر من أزمة أخلاقية عميقة بسبب اختلاط
...
-
وسط التحديات والحرب على غزة.. مسيحيو بيت لحم يضيئون شجرة الم
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|